يعرف عن الشهيد محمد محسن أنه كان شاباً مفعما بقيم العدالة والكرامة، يناضل مع رفاقه من أجل تحقيق حياة كريمة في بلده ويتطلع إلى حرية لم يعهدها أبناء جيله. لذلك شارك محمد في ثورة يناير منذ بدايتها، فأتت مثابرته وإخلاصه، هو ورفاقه، لتنجح هذه الثورة المجيدة، التي سرعان ما ألهمت العالم كله بعد أن مكنت المصريين من أن يقولوا بفخر، <<ارفع رأسك فوق، أنت مصري>>.
لا أظن أن هناك من سيختلف معي على أننا ندين لهؤلاء الشهداء بما حققناه من إنجازات، فلهم في رقبتنا دين لا يختلف عليه إثنان -- لا من باب الواجب فقط، ولكن من أجل بناء مستقبل يضمن لنا حقوقنا وكرامتنا. لهذا تواتر تبجيل شهداء ثورتنا حتى في منابر الإعلام كله، حتى المضلل منه، وتأججت رغبتنا في محاسبة قاتليهم، ليس لإحقاق حق إنساني أصيل وحسب، وإنما أيضا لتوكيد ضمانه ضد الإستبداد. فمن البديهي أن الإستبداد لن يرتدع طالما أفلت القاتلون من العقاب، وهنا تتجلى أهم مفارقات حادثة الشهيد محمد محسن، إذ أن محاسبة قاتلي الشهداء كانت المطلب الرئيسي الذي من أجله أستشهد، وكأن لسان حاله يقول <<إني مستعد للموت من أجل أن يحاسب القاتلين>>، فكيف نرد عليه؟
كثيرا ما تفرض مثل هذه الظروف أسئلة ملحة حول الجناة والاهداف التي من أجلها ضحى الشهداء بأرواحهم. لكن للأسف تتعقد هذه الأسئلة في حالة محمد محسن أكثر من أية حالة أخرى على الرغم من وضوح ملابستها، وذلك لتضافر عدد من العوامل، بعضها مستتر، في تمهيد الطريق إلى قتله. بادئ ذي بدء، ما كان محمد محسن ليأتي للاعتصام في القاهرة أصلا إذا ما كانت الثورة نجحت في تحقيق اهدافها. فالاعتصام كان الوسيلة السلمية الوحيدة المتاحة أمامه هو وسائر المعتصمين لإكمال خطى الثورة وتحقيق مطالبها. والأهم، لم يكن هناك سبيل آخر لمحاسبة قاتلي الشهداء بعد أن ضاقت كل السبل أمام من يريدون رد الدين لهم. لذلك انتفض محمد مع من إعتصموا في التحرير، فإذا بالثورة المضادة تقتله لتمنعه من محاسبة قاتلي الشهداء (كان حبس الضباط المتهمين بقتل الشهداء هو مطلب مسيرة العباسية الأول).
ومن البديهي أيضا أنه ما كان لمحمد ورفاقه ليخرجوا في مسيرة في اتجاه المجلس العسكري للمطالبة بإعتقال قتلة الشهداء لو كان النظام استجاب لمطالب الاعتصام المشروعة، وأعلى صوت الحرية وأذكى النداء بعدم الالتفاف على مطالب الثورة – تلك المسيرة التي استشهد فيها في النهاية. كذلك ما كان محمد ليستشهد لو كانت لدينا حرية تظاهر حقيقية، فلو كان حق التظاهر مكفولا لما تم إيقاف المسيرة في العباسية ومحاصرتها بقوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية وتركها تضرب من قبل البلطجية تحت سمع وبصر قوات الأمن من كل جانب.
تمتد إذن سلسلة العوامل التي أدت لإستشهاد محمد محسن من مشروع الإلتفاف على مطالب الثورة، إلى التعامل مع محاسبة قتلة الشهداء بشكل غير فعال، إلى تجاهل مطالب الاعتصام المشروعة، وأخيرا إلى التضييق على حق التظاهر، ذاك الحق الذي يمثل جوهر الفعل الديموقراطي – لكنها لا تتوقف عند هذا الحد على الرغم من امتدادها. فالتضييق على حق التظاهر في حد ذاته لم يكن ليؤدي لاستشهاد محمد محسن، وإنما تطلب ذلك تحريض مباشر وعلني ضد المسيرة، وتخوين الحركة السياسية، والدفع بأن المشاركين في المسيرة بلطجية ومخربين مسلحين بالمولوتوف، وهو ما ورد في أشكال مختلفة في تصريحات مسؤولي المجلس العسكري (وعلى رأسهم اللواء حسن الرويني)، في متن بيانات المجلس ذات الصلة، وفي وسائل الاعلام. وتبنته بعض التيارات السياسية المتجذرة في المجتمع، وعلى رأسها تلك التيارات التي دعت لمليونية لتطهير الميدان من المعتصمين.
هذا ما أدى إلى استنفار بعض أهالي العباسية ضد المسيرة واستقبالهم لها بالعنف والأسلحة البيضاء والطوب، كما لو كانوا يستقبلون عصابة من المجرمين المسلحين. وكانت إصابة محمد محسن بالفعل نتيجة القاء طوبة عليه من أعلى أسطح أحد العمارات، القاها عليه مجموعة ممن يسمون <<بأهالي العباسية الشرفاء>>. وبرر هؤلاء <<الشرفاء>> تحالفهم مع البلطجية (حيث نقلت وكالات الأنباء عن أهالي العباسية شهادات تفيد بقدوم بلطجية من خارج المنطقة لضرب المسيرة في المنطقة) والفلول بأنهم يدافعون عن منازلهم ضد المخربين. وهكذا خرج أحد أهم إستعراضات البلطجة تحت مرأى ومسمع وكالات الأنباء ليشهد على قدرة الفلول على إدارة الثورة المضادة والبلطجة على النشطاء.
هكذا تضافرت عوامل أخري في إصابة محمد محسن وتخطت الجاني المباشر الذي ألقى الطوبة على رأسه بالفعل، لكن على الرغم من كل ذلك كان هناك أمل في إسعافه لو وقفت الأمور عند هذا الحد، إلا أن الكردون الأمني من جانب، وحصار المسيرة من قبل <<مواطني العباسية الشرفاء>> من جانب آخر، منعا مرافقي محمد محسن من نقلة للمستشفى لمدة ساعتين كاملتين على الرغم من أصابته بنزيف في المخ، وهو ما أدى إلى تدهور حالته ودخوله في غيبوبة لم يفق منها أبدا.
ثم تعرضت رحلة إسعافه إلى ما هو أفدح من ذلك. فعلى الرغم من أن محمد محسن كان بحالة سيئة عندما نجح رفاقه في إخراجه من حصار المسيرة (بعد ساعتين من أصابته كما قلت) إلا أن حالته لم تكن ميؤوسة منها. وكانت هناك فرصة ضعيفة لإنقاذه لو تلقى الاسعافات بشكل فوري بعد فك الحصار عن المسيرة، وربما لاستطاع أن يحيا حتى وإن أصيب بشلل ناتج عن عدم إسعافه بعد الإصابة مباشرة، إلا إن رحلة نقلة للمستشفى لتلقي العلاج كانت كارثية وضيعت الأمل الضئيل الذي تبقى.
فبعد فك الحصار اضطر رفاقه إلى تفادي نقله إلى مستشفى الدمرداش (أقرب مستشفى لموقع الحادث) بعد أن انتشرت أنباء عن اعتقال المصابين الذين يتلقون العلاج بها، وهو ما كان سيعني موته في صمت إن حدث، وأخذهم هذا لنقله إلى مستشفى آخر سرعان ما رفض قبوله، فما كان منهم إلا أن نقلوه لمستشفى آخر رفض قبوله هو الآخر، وتكرر هذا الأمر مع ستة مستشفيات رفضت كلها قبوله. وفي النهاية قبل مستشفى معهد ناصر إدخاله للعناية المركزة بعد رحلة بحث عن مستشفي يحترم آدمية المواطن دامت ثلاث ساعات، لكن للأسف لم تتم عملية ايقاف النزيف إلا بعد مرور ١١ ساعة على اصابته لعدم جهوزية المستشفى لذلك، إذ دخلها بعد منتصف الليل. وما أن إنتهت العملية حتى بدأ مشواره مع الإهمال الطبي وتوفي بعد ١٢ يوم أمضاها كلها في غيبوبة تامة وتبين خلالها إصابته بشلل في جانبه الأيسر.
تعددت الأسباب التي أدت إلى قتل شهيدنا محمد محسن والعوامل التي مهدت إلى قتله، منها ما هو سياسي، وما هو جنائي، وما ينبع عن إهمال وعدم الإكتراث بأرواح المصابين. لذلك فأنا أعتبره شهيد غير عادي تآلفت على قتله كل قوى الثورة المضادة والفساد، ولذلك أعتبر شهادته آية لمن يتدبرون، لأنها تعكس المرحلة الحرجة التي نعيشها عن حق. وأقول لكل من يظن أنه محصن ضد ما حدث لمحمد، ما حدث لمحمد أتى نتيجة عوامل سياسية وإجتماعية تحكمنا جميعا، ومن الممكن ان تتعرض أنت أو من تحبهم لنفس ما تعرض له الشهيد. لازلنا كلنا فى مكانه ومعرضين لما تعرض له من ظلم وتحريض وضرب وتكالب أهالي حي وبلطجية مسلحين عليه وتعريضه لفساد قاتل. ولذلك أقول أنه لا يمكن لهذا الوطن أن يعيش في عزة وكرامة إلا إذا تم تحقيق جاد في مقتل محمد محسن وإتخاذ ما يلزم من إجراءات لمعاقبة كل قاتليه.