[قصة للكاتب الأميركي ريموند كارفر. ترجمة عبد الكريم بدرخان لـ "جدلية"]
الرجل الأعمى، وهو صديق قديم لزوجتي، كان قادماً لقضاء الليلة عندنا. تُوفيتْ زوجتُه منذ فترة، ولذا كان في زيارةٍ عند أقرباء زوجته في "كونيتيكيت". اتصلَ بزوجتي من بيت حميه، واتفقا معاً، بأنْ يسافر بالقطار في رحلةٍ تستغرق خمس ساعات، بينما تنتظره زوجتي في المحطة. لم ترهُ زوجتي منذ أنْ كانت تعمل عنده في "سياتل" قبل عشرة أعوام، لكنها بقيتْ على تواصلٍ معه، إذ كانا يسجّلانِ أشرطةً صوتيةً ويتبادلانها عبر البريد. لم أكنْ متحمّساً لزيارته، فهو رجلٌ لا أعرفه أبداً، ولكونه أعمى فقد أزعجني أكثر. كلُّ ما أعرفه عن العميان اكتسبتُه من خلال مشاهدة الأفلام، وفي الأفلام يتحرّك العميانُ ببطءٍ ولا يضحكون أبداً، وأحياناً يهتدون في سيرهم بمساعدة كلابٍ غير عمياء. رجلٌ أعمى في منزلي! لم يكن شيئاً أرغب به.
ذات صيفٍ في "سياتل"، كانت زوجتي بحاجةٍ إلى عملٍ لكونها مفلسةً، ولأنّ الرجل الذي كانتْ تنوي الزواج به عند نهاية الصيف؛ ما زال طالباً في مدرسة الضباط، أي مفلساً أيضاً. لكنها كانت تحبّه، وهو يحبّها...إلخ. لمحتْ إعلاناً في الجريدة: "نرجو المساعدة – القراءة لرجل أعمى" مع رقم الهاتف، فاتصلتْ وذهبتْ لزيارته، وحصلتْ على الوظيفة فوراً، وعملتْ عند الأعمى طوال الصيف. لقد قرأتْ له كتباً ودراساتٍ اجتماعية وتقارير صحفية وغيرها، وساعدتْهُ في تنظيم مكتبه الصغير في دائرة الخدمات الاجتماعية، ثم أصبحا صديقين مقرّبين، نعم.. زوجتي والرجل الأعمى. كيف عرفتُ هذه الأشياء؟ هي من أخبرني بذلك، بل أخبرتْني أكثرَ من ذلك، ففي آخر يومٍ من عملها عنده، طلبَ الأعمى أنْ يلمس وجهها، فوافقتْ! وأخبرتْني أنه مرّر أصابعه على كامل أجزاء وجهها، حتى أنفها ورقبتها!، كما أنها حاولتْ أن تكتبَ قصيدةً عن ذلك، فهي دائماً تحاول أن تكتب قصيدة، وكانتْ تكتب قصيدة أو قصيدتين كل عام، غالباً بعد حدوثٍ أمرٍ مهمّ في حياتها.
عندما بدأنا نخرج معاً – أنا زوجتي، أرتْني القصيدة، في القصيدة كانت تسترجعُ أصابعَهُ والطريقةَ التي مرّرها بها على كامل وجهها، وفي القصيدة أيضاً تصفُ مشاعرها في تلك اللحظات، وما جالَ في ذهنها عندما كان الأعمى يلمسُ أنفها وشفتيها. أذكرُ أنني لم أُعِـرْ اهتماماً للقصيدة، بالطبع لم أخبرْها بذلك، ربما لأنني لا أفهمُ الشعر، وعادةً لا أمدُّ يدي إلى كتبِ الشعر عندما أنوي القراءة.
المهمّ؛ ذلك الرجل الذي استمتعَ بجمالها قبلي، والذي سيصبحُ ضابطاً، كان حبيبها منذ أيام الطفولة. أقولُ ذلك لأشير أنه في نهاية الصيف الذي سمحتْ به للأعمى أنْ يلمسَ وجهها، ودّعتِ الأعمى وتزوّجتْ حبيبَ الطفولة... إلخ، والذي غدا ضابطاً رفيعاً وانتقلت معه من "سياتل"، لكنها بقيتْ على اتصالٍ بالأعمى، فأجرتْ أول اتصالٍ به بعد سنة، ذات ليلةٍ من قاعدة القوى الجوية في "آلاباما"، يومها كانتْ بحاجةٍ لشخصٍ تُـسِـرُّ له، فتحدّثا وطلبَ منها أنْ ترسلَ شريطاً مسجّلاً تروي فيه تفاصيل حياتها الجديدة، وفعلاً أرسلتْ شريطاً تتحدثُ فيه عن زوجها وتفاصيل حياتهما في الجيش، وأخبرت الأعمى إنها تحبّ زوجها، لكنها لا تحبّ مكان إقامتهما، ولم ترتحْ لعمله في الصناعات الحربية، وأخبرت الأعمى أنها كتبتْ قصيدةً، وكانت القصيدة عنه، وأنها ستكتب قصيدةً عن معاناة زوجة ضابط في القوى الجوية.
سجّل الأعمى شريطاً صوتياً أيضاً، وأرسله لها، فردّتْ عليه بشريطٍ آخر، واستمرّ هذه الحالة لسنوات. كان ضابطُ زوجتي ينتقل من قاعدة عسكرية إلى أخرى، وكانت زوجتي ترسل الأشرطة المسجّلة من عدّة قواعد للقوى الجوية، منها: "مودي- ماك غواير- ماك كونيل" وآخرها قاعدة "ترافيس" قرب سكرامنتو، حيث كانت تشعر بالوحدة الشديدة والعزلة عن الناس، وبالضيَاع وسطَ حياةٍ دائمة التنقل، لدرجةٍ لم تعدْ تحتملُ فيها انتقالاً آخر، يومها ابتلعتْ كلَّ حبوب الأدوية الموجودة في خزانة الأدوية المنزلية، وشربتْ زجاجةً من الجِـنّ، ثم أخذتْ حمّاماً ساخناً، فأُغميَ عليها.
وبدلاً من أنْ تموت، مرضتْ فقط. ضابطُها (وما حاجتُه إلى الاسم؟ لقد كان حبيبها منذ أيام الطفولة، فماذا يريد أكثر؟) عاد إلى البيت من مكانٍ ما، فوجدها على حالتها تلك واتصل بالإسعاف. وعلى الفور سجّلتْ كلَّ ما حدث معها على شريط، وأرسلتْه إلى الأعمى، كعادتها خلال السنوات الماضية، تسجّلُ كل شيءٍ على أشرطةٍ وترسلها إليه. وبالإضافة إلى كتابتها لقصيدةٍ كل سنة، كانت الأشرطة وسيلتَها الأساسية للتسلية. في أحد الأشرطة أخبرتِ الأعمى أنها قرّرتِ العيش بعيداً عن ضابطها لفترةٍ من الزمن، في شريطٍ آخر أخبرته بطلاقها. بعد ذلك بدأنا نخرج معاً، ومن المؤكّد أنها أخبرت الأعمى بذلك، فهي تخبرهُ بكل شيء أو هكذا يبدو لي. مرةً طلبتْ مني أنْ أسمعَ آخر شريطٍ أرسله الأعمى، كان ذلك منذ عامٍ تقريباً، وأضافتْ أنني مذكورٌ في التسجيل. أحضرتُ مشروباً وجلسنا في غرفة المعيشة جاهزين للاستماع، في البداية وضعتِ الشريط في المسجّلة وعدّلتْ مفاتيحَ الصوت، ثم بدأ شخصٌ ما بالحديث بصوتٍ عالٍ، فأخفضَتْ صوتَ المسجّل. وبعد دقائق من الثرثرة البريئة سمعتُ اسمي على شفتيّ الغريب، حين قال: "لم أكنْ أعلم، ومن خلال كلّ ما قلتِه عنه، يمكنني فقط أنْ أسنتنتج..."، وعندها ثمة من قاطَعنا، ربما قُرعَ جرسُ الباب أو حدث أمرٌ آخر، ومن بعدها لم نعُدْ لمتابعة الشريط. ربما كان ذلك أفضلَ بالنسبة لي، فقد سمعتُ كل ما أريد سماعه.
والآن، الرجلُ الأعمى نفسه، قادمٌ لينام في منزلي!.
قلتُ لزوجتي: "ربما آخذهُ معي لنلعبَ البولينغ"، كانت تطهو البطاطا بالصلصة في المطبخ، فوضعت السكينَ من يدها، والتفتتْ إليّ وقالت: "إذا كنتَ تحبّني.. فـقُـمْ بواجبه من أجلي، وإذا كنتَ لا تحبّني.. فحسناً، لكنْ لو كان عندكَ صديق، أيُّ صديق، وجاءَ لزيارتنا، كنتُ سأقوم بواجبه على أكمل وجه".
قلتُ: "لكنْ ليسَ عندي أصدقاءٌ عميان"، فجفّفتْ يديها بمنشفة الأطباق وصاحتْ: "أنتَ لا تملكُ أيَّ أصدقاءٍ أصلاً"، وأضافت: "اللعنة! لقد تُوفيتْ زوجته منذ فترة، ألا تفهم؟ الرجل فقدَ زوجته!".
لم أجبْها، وراحتْ تحدّثني عن زوجة الأعمى، اسمها بيولا، بيولا! إنه اسمٌ لامرأةٍ سوداء، فسألتُ: "هل كانت زوجته زنجية؟"
- "أنتَ مجنون؟ هل فقدتَ عقلك فجأةً؟!"
التقطتْ زوجتي حبّة من البطاطا، ضربتْ بها الأرض ثم تدحرجتْ تحت الفرن، وقالت: "ما مشكلتك؟ هل أنتَ سكران؟!"
- "إنه مجرّد سؤال".
بعد ذلك أخبرتني زوجتي عن تفاصيل أكثرَ بكثيرٍ مما كنتُ أودُّ سماعه، فسكبتُ كأساً وجلستُ على طاولة المطبخ مُستمعاً، وبدأتْ شظايا القصّة تتساقطُ في أرجاء المكان.
ذهبتْ بيولا للعمل عند الرجل الأعمى بعد أنْ تركتْ زوجتي العملَ عنده، وبعد فترةٍ قصيرةٍ تزوّجتْ بيولا والأعمى زواجاً كنسياً، كان حفلُ زفافهما صغيراً (من سيذهبُ إلى زفافٍ كهذا أصلاً؟)، حيث اقتصر حضورُ الحفل على الزوجين، بالإضافة إلى القسّ وزوجته. لكنه كان حفل زفافٍ كنسيّ كالعادة، وكما كانت بيولا تريدُه حسبَ قول الأعمى. وبالرغم من أنّ بيولا كانت مصابةً بسرطان الغُدد، إلا أنه وبعد ثماني سنواتٍ من ارتباطها مع الأعمى (سـمّـتْـهُ زوجتي "ارتباطاً")، تدهورتْ صحّتُها سريعاً، وتوفيتْ في إحدى غرف مشفى "سياتل"، حيثُ كان الأعمى جالساً قربَ سريرها ممسكاً بيدها. لقد تزوّجا، عاشا وعملا معاً، ناما معاً (وبالتأكيد مارسَا الجنس)، وبعدها صار على الرجل الأعمى أنْ يدفن زوجته. حدثَ كلُّ ذلك دون أن يستطيع يوماً رؤية وجهِ زوجته المسكينة، كان هذا فوق قدرتي على الاستيعاب، وبسماعي لهُ أحسستُ ببعض الأسى على الأعمى. ثم بدأتُ أفكّر بالحياة التعيسة التي عاشتها تلك المرأة، تصوّرْ امرأةً لم تستطعْ أنْ ترى نفسها في عيون الرجل الذي يحبُّها، امرأةً تعيشُ يوماً بعد يومٍ دون أنْ تسمعَ كلمة غزلٍ واحدةٍ من حبيبها، امرأةً لا يستطيع زوجها قراءةَ تعابير وجهها، يا لها من مأساة!. امرأةً يمكنها أنْ تتبرّج أو لا تتبرّج دون أن يختلف شيءٌ بالنسبة لزوجها، يمكنها أنْ تضع ظِـلّاً حول عينٍ واحدةٍ فقط، ودبوساً غريباً في فتحة أنفها، قد ترتدي بنطالاً أصفرَ وحذاءً أحمرَ، لا فرق!. ثم خطفها الموتُ ويدُ الأعمى فوق يدها، وعيناهُ العمياوان تسكبان الدموع - أتخيّلُ المشهد الآن-، ربما كان آخرَ ما فكّرتْ به وهي على عربة الموتى، أنه لم يعرفْ يوماً كيف يبدو شكلُها. وتركتْ زوجَها وحيداً، لا يملكُ سوى عقد تأمينٍ محدود، ونصفَ قطعةٍ نقديةٍ من فئة العشرين بيسو المكسيكية، أما النصفُ الثاني من القطعة نفسها، فقد بقيَ معها في التابوت، يا للبؤس!.
عندما حان الموعد، ذهبتْ زوجتي إلى محطة القطار لتجلبه معها، فجلستُ وحدي منتظراً، فلا شيء عندي في هذه الحالة سوى الانتظار الذي ألومُ الأعمى عليه بالتأكيد. كنتُ أشربُ كأساً وأشاهد التلفاز عندما سمعتُ سيارةً تقف أمام المنزل، نهضتُ من الأريكة حاملاً كأسي بيدي، واتجهتُ إلى النافذة لألقي نظرة.
شاهدتُ زوجتي تضحكُ وهي تركنُ السيارة، ثم رأيتُها تخرج من السيارة وتغلق الباب، وما زالت الابتسامةُ مرسومةً على وجهها، مذهل!. ثم استدارتْ حول السيارة باتجاه الجانب الآخر، حيثُ كان الأعمى يتهيّأ للنزول. كان الرجلُ الأعمى - تخيّلْ ذلك- يرتدي لحيةً عملاقة!، لحيةٌ فوق رجلٍ أعمى! هذا كثير. اتجه الأعمى إلى المقعد الخلفي وسحب حقيبته من عليه، أمسكتْ زوجتي بذراعه وأغلقتْ باب السيارة، مشيَا من مصفِّ السيارات إلى الرواق الأمامي للبيت، وهما يتحدثان طوال الطريق. أنهيتُ شرابي وغسلتُ الكأس وجففتُ يدي، ثم اتجهتُ إلى باب البيت.
قالتْ لي زوجتي: "أريدكَ أنْ تتعرّف على روبرت"، وقالتْ له: "هذا زوجي يا روبرت، حدثتكَ عنه"، كانت تبتسمُ وهي تمسكُ بذراع الأعمى.
وضع الأعمى حقيبته أرضاً، مدّ يده إليّ، أخذتُها.. فعصرَها بقوّة، وبقي ممسكاً بيدي لبرهةٍ ثم أفلتها. وزمجرَ قائلاً: "أحسُّ وكأننا التقينا من قبل". قلتُ: "وأنا أيضاً" فلم يكنْ عندي شيءٌ آخر لأقوله، ثم قلتُ: "أهلاً وسهلاً، سمعتُ كثيراً عنك". وشرعنا المسيرَ إلى غرفة الجلوس، زوجتي تقودهُ من ذراعه بينما يحمل حقيبته بيده الأخرى، كانت زوجتي تقول أشياء من قبيل "إلى اليسار روبرت، أحسنت، الآن انتبهْ فهنالك كرسيّ، نعم هنا، اجلسْ هنا على الأريكة، لقد اشترينا هذه الأريكة منذ أسبوعين".
كنتُ أودُّ الحديث عن الأريكة القديمة، فقد كانت غاليةً عليّ، لكنني لم أقل شيئاً. ثم أردتُ الحديث عن المناظر الطبيعية التي يشاهدُها المسافرُ بالقطار على طول نهر "هودسون"، فعندما تسافر إلى نيويورك يجب أنْ تجلس في الجانب الأيمن من القطار، وعندما تعود يجب أن تجلس في الجانب الأيسر. سألتُ: "هل كانتْ رحلتُكَ بالقطار موفقةً؟ وبالمناسبة، في أي جانبٍ من القطار كنتَ جالساً؟".
ردّتْ زوجتي: "يا لهُ من سؤالٍ يُسأل! وما الفرق في أي جانبٍ كان؟"
- "مجرّد سؤال".
قال الأعمى: "في الجانب الأيمن، لم أركب القطار منذ قرابة أربعين عاماً، يومها كنتُ طفلاً يسافر مع أهله، كان ذلك منذ زمن بعيد، حتى أني نسيتُ ذاك الشعور، فالشتاءُ يغزو لحيتي في هذا العمر، هكذا يقولون لي. على كلّ حال هل أبدو مميزاً يا عزيزتي؟"
أجابت زوجتي: "أنتَ حقاً مميّز يا روبرت، روبرت.. ما أسعدني برؤيتك يا روبرت!". وأخيراً رفعتْ زوجتي عينيها عن الأعمى ونظرتْ إليّ، أحسستُ أنها لم تكنْ راضيةً عمّا بدرَ مني، فهززتُ لها كتفيّ بلا مبالاة.
لم ألتقِ، ولم أعرف بشكلٍ شخصيّ، رجلاً أعمى من قبل. هذا الأعمى كان في أواخر العقد الرابع من عمره، بديناً.. أصلعَ.. بأكتافٍ منحنيةٍ وكأنه يحمل وزناً ثقيلاً فوقها، لابساً بنطالاً بنيّاً وحذاءً بنيّاً، وقميصاً بنيّاً فاتحاً مع ربطة عنق، كان أنيقاً حقاً، وأيضاً كان يرتدي تلك اللحية العملاقة. لكنه لا يحمل عكازاً ولا يضع نظّارةً سوداء، لطالما ظننتُ أن النظاراتِ السوداء فَرضٌ على العميان. في الحقيقة، تمنّيتُ لو يضعُ نظارةً سوداء، حين نظرتُ في عينيه لأوّل مرةٍ؛ بدتْ لي مثل عيون جميع الناس، لكن إذا أمعنتَ النظرَ تلحظ الاختلاف في عينيه، فهما شديدتا البياض، وتلحظُ البؤبؤ وهو يدورُ في محجر العين دون معرفة صاحبه بذلك، ودون أنْ يقدر على إيقافه، وكأنه لا يحسُّ به. عندما حدّقتُ في وجهه رأيتُ بؤبؤ العين اليسرى يتّجه نحو الأنف، بينما يحاول بؤبؤ العين اليمنى البقاءَ في مكانه جاهداً، لكنها مجرّدُ محاولة، إذ سرعانَ ما تابع تجواله في العين دون معرفة الأعمى أو إرادته.
سألته: "سأحضّرُ الشراب، أيّ نوعٍ تفضّل؟ عندي تشكيلةٌ من كافة الأنواع، وهذه إحدى هواياتي"، فأجاب بسرعةً وبنبرةٍ عالية: "صديقي، ويسكي استكتلندية"، قلتُ: "حسناً يا صاح، لقد عرفتُ ذلك".
مدّ يده إلى حقيبته المتكئة جانب الأريكة، وكأنه يحاول تحديد الاتجاهات لينهضَ ويسير، لم ألُـمْه على ذلك. قالت زوجتي: "سوف أحملُ حقيبتك إلى غرفتك في الأعلى"، فأجاب: "لا عليكِ، سآخذها معي حين أصعد إلى الأعلى". سألتُ: "هل تريد بعض الماء مع الويسكي؟".
- "القليل القليل".
- "فهمت".
وأردف قائلاً: "القليل من الماء فقط، لأن الممثل الإيرلندي باري فيتزجيرالد، وهو صديقي العزيز، يقول عندما يراني أمزجُ الويسكي بالماء: يومياً نشرب الماء، لكن عند الويسكي، أريدها ويسكي فقط". ضحكتْ زوجتي وحدَها من هذه النكتة السَمِجة، رفع الأعمى لحيته بيده، ثم تركها تنزلُ ببطء.
حضّرتُ المشروب، ثلاث كؤوس كبيرة من الويسكي مع رشّةٍ ماءٍ في كلٍّ منها، جلسنا باسترخاءٍ وتحدثنا عن أسفار روبرت، أوّلها الرحلة الجوية الطويلة من الساحل الغربي إلى "كونيتيكيت"، ثم من "كونيتيكيت" إلى هنا بالقطار، وسكبنا كؤوساً جديدة.
تذكّرتُ أنني قرأتُ ذات يوم، أنّ الأعمى لا يدخّن، وقد فسّرتُ ذلك بكونه لا يستطيع رؤية الدخان الذي ينفثه، أعتقد أنه الشيء الوحيد الذي أعرفه عن العميان. لكنّ هذا الأعمى دخّن سيجارته حتى عقبها، ثم أشعل واحدةً أخرى، إلى أنْ ملأ منفضة السجائر، فقامت زوجتي لإفراغها.
جلسنا على طاولة العشاء مع كؤوس جديدة، ملأتْ زوجتي طبقَ روبرت بشرائح اللحم، والبطاطا المطهية بالصلصة، والفاصولياء الخضراء، وقد أعطيتُه أنا رغيفين من الخبز المدهون بالزبدة. رشفتُ من كأسي وقلت: "الآن.. دعونا نصلّي"، أخفضَ الرجلُ الأعمى رأسه، نظرتْ إليه زوجتي فاغرةً فمها. فقلتُ: "دعونا نصلّي ألّا يرنّ الهاتف، وألّا يبرد الطعام".
انغمسنا في الطعام، أكلنا كلَّ شيءٍ قابلٍ للأكل على الطاولة، أكلنا وكأنه آخرُ يومٍ لنا في الحياة. لم نتحدث، كنا نأكل فقط، كنا منهمكين بالطعام بشكلٍ جدّي. وكان الأعمى يأكل من طبقه الموضوع أمامه، ويعرف تماماً مكانَ كلِّ صنفٍ في الطبق، شاهدته بإعجابٍ وهو يتناول اللحمَ بالشوكة والسكين، يقطع قطعةً من اللحم، يأكلها بالشوكة، يُتبعها بالبطاطا ثم الفاصولياء، وبعدها يأكل قطعةً من الخبز المدهون بالزبدة، ويختمُ هذه السلسلة بجرعةٍ كبيرة من الحليب.
أنهينا كل شيء، بالإضافة إلى نصف فطيرة الفراولة، وجلسنا منهكين لعدة دقائق، والعرقُ يتصبّب من وجوهنا، ثم نهضنا عن الطاولة تاركينَ بقايا المائدة المتسخة وراءنا، ودون أيّ التفاتٍ إلى الخلف، اتجهنا إلى غرفة الجلوس عائدين إلى أماكننا. جلسَ روبرت وزوجتي على الأريكة، بينما جلستُ على الكرسيّ الكبير، وشرعا يتحدثان عن الأمور المهمّة التي لم يتحدثا عنها بشكلٍ كافٍ خلال السنوات العشر الماضية، كنتُ مستمعاً معظم الوقت، ثم قررتُ المشاركة بالحديث لكي لا يظنّ الأعمى بأني غادرتُ الغرفة، أو تشعر زوجتي بأنني أصبحتُ شخصاً هامشياً. كانا يتحدثان عن الأشياء التي حدثت معهما –فقط هما- خلال عشر سنوات، انتظرتُ أنْ أسمع اسمي على شفتيّ زوجتي العذبتين، كأن تقول: "ثـمّ دخل زوجي العزيز إلى حياتي"، لكنني لم أسمع شيئاً من هذا القبيل، واستمرّ الحديث عن روبرت. يبدو أنّ روبرت هذا اشتغل في مختلف المجالات، ويبدو بارعاً في كل الأعمال، وكان آخرُها عندما عمل مع زوجته في شركة دولية للتسويق، ومنها –كما فهمتُ- كانا يؤمّنان مصاريفَ حياتهما (إذا اعتبرناها حياةً). الرجل الأعمى أيضاً، كان يعمل مذيعاً في إذاعة للهواة، وحدّثنا بصوتهِ الجهور عن الحوارات التي دارتْ بينه وبين زملائه في الإذاعة، بعضُهم من الفيليبين، وآخرون من آلاسكا، وأيضاً من تاهيتي، وقال إنه يملك العديد من الأصدقاء في حال رغبَ بزيارة تلك المناطق. بين الفينة والأخرى كان يدير وجهه إليّ، يضع يده على لحيته ويسألني شيئاً مثل: منذ متى وأنت على رأس عملك؟ (ثلاث سنوات)، وهل تحبّ عملك؟ (لا)، هل ستبقى فيه؟ (وهل لديّ خياراتٌ أخرى؟)، وأخيراً عندما شعرتُ أنه ذاهبٌ إلى النوم، أشعلتُ التلفاز.
نظرتْ زوجتي إليّ بحنق، كادتْ أنْ تنفجر من الغضب، ثم نظرتْ إلى الأعمى وقالت: "روبرت، هل عندك تلفاز؟"، فأجاب: "عزيزتي، عندي اثنان، تلفازٌ ملوّن وتلفازٌ قديمٌ بالأبيض والأسود. ومن المضحك أنني عندما أشعل التلفاز، وهو دائماً مشعلٌ عندي، فإنني أشعلُ التلفاز الملوّن. مضحكٌ! أليسَ كذلك؟"
لم أعرف ما أقول، لم يكن عندي شيءٌ لأقوله، ولا أيُّ رأي. ولذا تابعتُ نشرة الأخبار، وحاولتُ الإصغاء لما يقوله المذيع.
"هذا تلفازٌ ملوّن" قالها الأعمى وأضاف: "لا تسألني كيف عرفتُ ذلك".
قلتُ: "اشتريناه منذ فترةٍ قريبة".
شرب الأعمى كأساً أخرى، أمسكَ لحيته ورفعها، اشتنشقها ثم أفلتها، انحنى على الأريكة، وضع منفضة السجائر على طاولة القهوة، أشعلَ سيجارةً، أرجع ظهره إلى الخلف واضعاً رجلاً على رجل.
وضعتْ زوجتي يدها على فمها وتثاءبت، تمطّتْ قليلاً وقالت: "أعتقد أنني سأصعد إلى الأعلى وأرتدي ثوب النوم. روبرت.. تصرّفْ وكأنك في منزلك"، فقال الأعمى: "أنا مرتاحٌ هكذا"، ردّت: "أريدكَ أن تشعر بالراحة حقاً"، فأجاب: "إني مرتاحٌ حقاً".
بعد أن غادرتِ الغرفة، استمعتُ مع الأعمى إلى النشرة الجوية ثم الأخبار الرياضية. لقد أطالتْ زوجتي غيابها، ولم أكنْ أعلم إنْ كانت ستعود أم لا، حسبتُ أنها قد نامت، وتمنّيتُ لو تعود بسرعة، لأني لا أريد البقاء وحيداً مع رجلٍ أعمى. سألتُه إذا كان يرغب بكأسٍ أخرى، فأجاب: "بالتأكيد"، ودعوته لتدخين سيجارة ماريوانا معي، فقال: "سأجرّب بعضها معك"، قلت: "عظيم! هذا ما أريد".
أحضرتُ كأسين وجلستُ بجانبه على الأريكة، ثم لففتُ لكلينا سيجارتي ماريوانا عريضتين، أشعلتُ واحداً ووضعتُه بين أصابعه، فأخذه وعبَّ منه. قلتُ: "استنشقْ بأكثرَ مما تستطيع"، أحسستُ أنه لا يجيد تدخين الماريوانا.
عادت زوجتي إلى غرفة الجلوس، لابسةً ثوب النوم الوردي، وخفَّ النوم الوردي. قالت: "ما هذه الرائحة؟!"، فقلتُ: "قررنا تجريب بعضٍ من الماريوانا". ألقتْ زوجتي نظرتها المتوحشة عليّ، وقالت للأعمى: "روبرت، لم أكنْ أعلم أنك تدخّن الماريوانا"، فأجاب: "إني أدخّنها الآن، إنها المرة الأولى، لكني لم أشعر بتأثيرها بعد". وهنا تدخّلتُ: "هذا النوع ممتعٌ جداً، ومعتدلٌ أيضاً، إنه من النوع الذي يبقيكَ صاحياً، ولا يشوّش الذهن"، فقال: "لا يبدو كما تقول"، وضحك.
جلستْ زوجتي على الأريكة بيني وبين الأعمى، أعطيتُها سيجارة الماريوانا فسحبتْ منها وأعادتها إلي، وقالت: "إلى أين نحن ماضون؟ لا ينبغي أنْ أدخّن من هذا، فأنا بالكاد أستطيعُ إبقاء عينيّ مفتوحتين، هذا العشاء قضى عليّ، كان من الأجدر ألّا آكل كثيراً".
"هذا بسبب فطيرة الفراولة"، قالها الأعمى وتابع: "الفطيرةُ قضتْ عليكِ"، وضحكَ ضحكته المزمجرة التي تنتهي باهتزازاتٍ من رأسه. قلتُ: "بقيَ القليلُ من فطيرة الفراولة"، وأضافتْ زوجتي: "هل تريد المزيد يا روبرت؟"، فأجاب: "ربما بعد قليل".
عدنا لمشاهدة التلفاز، تثاءبتْ زوجتي مرةً أخرى وقالتْ: "السرير جاهز إذا أردتَ النوم يا روبرت، أعرف أنكَ أمضيتَ يوماً طويلاً، وعندما تودّ النوم أخبرنا"، هزّتْـهُ من ذراعه وصاحتْ: "روبرت!".
صحا من غفوته وقال: "لقد أمضيتُ وقتاً رائعاً، يفوق كل الأشرطة المسجّلة، أليس كذلك؟"، فقلتُ: "هذا عائدٌ إليك"، وضعتُ السيجارة بين أصابعه، استنشقها بعمقٍ ثم أطلق غمامةً، بدا لي وكأنه يدخّن الماريوانا منذ أن كان في التاسعة من عمره.
قالتْ زوجتي: "سأبقى جالسةً بينكما، وعيناي مغمضتان، إذا كان هذا لا يزعجكما، وعندما تنزعجانِ أخبراني، وإذا لم يحدثْ ذلك سأبقى جالسةً بعينين مغمضتين إلى أنْ تقرّرا الذهاب إلى النوم". ثم قالتْ لروبرت: "سريرك جاهزٌ في الغرفة المجاورة لغرفتنا في الطابق العلوي"، وأغلقتْ عينيها ونامت.
انتهى البرنامج الإخباري فغيّرتُ القناة، تمنّيتُ لو لم تكنْ زوجتي متعبةً بهذا الشكل، رأسُها متّكئٌ على كتف الأريكة، فمُها مفتوح، ثوبُـها منحسرٌ عن ساقيها كاشفاً فخذاً شهيّاً، مددتُ يدي وغطّيتُ ساقيها، بعد أنْ تأكّدتُ أنّ الأعمى لا يراني، ماذا بحقّ الجحيم! لقد انكشفَ فخذُها مجدّداً.
قلتُ: "هل أنتَ متعبٌ؟ هل تريدني أنْ آخذكَ إلى السرير؟ هل أنتَ جاهزٌ للنوم؟"
"ليس بعد، سأبقى معك يا صاح، سأبقى معكَ حتى تقرّر أنتَ الذهاب إلى النوم. لم تسنحْ لنا الفرصةُ للكلام، تعرفُ ما أعنيه، أحسُّ أننا - أنا وهي- احتكرنا كامل الأمسية". رفعَ لحيته بيده ثم تركها تهوي، وتناول علبة السجائر والولاعة.
قلت: "رائع! إني سعيدٌ برفقتك"، وربما كنتُ فعلاً كذلك، فكلَّ ليلةٍ أدخّن الماريوانا وحدي، وأبقى صاحياً لأطول فترةٍ أقدر عليها ثم أخلدُ إلى النوم. من النادر أنْ أذهبَ مع زوجتي إلى النوم بنفس الوقت، وحين أنامُ تزورني تلك الأحلام الشريرة، فأستيقظُ بسببها كالمجنون.
كان التلفاز يعرضُ شيئاً ما عن الكنيسة والعصور الوسطى، لم يكن برنامجاً تافهاً كما أحبّ، أردتُ مشاهدة شيءٍ آخر، قلّبتُ بين القنواتِ فلم أجدْ شيئاً يصلُح للمشاهدة، ولذا عدتُ إلى القناة الأولى واعتذرت. قال الأعمى: "لا عليكَ يا عزيزي، أنا سعيدٌ بكل الأحوال، أيّ شيءٍ تريد مشاهدته سيكون جيّداً بالنسبة لي، فأنا أتعلّم من كل شيء، التعلُّم لا ينتهي، لنْ يضرّني أنْ أتعلّم شيئاً جديداً هذه الليلة، لا تنسَ.. لديّ أذنان".
لم نقلْ شيئاً لبرهةٍ من الزمن، كان الأعمى منحنياً إلى الأمام، وأذنه اليمنى تتجه إلى مصدر الصوت. بين الفينة والأخرى كانتْ أجفانُـه تتدلّى فوق عينيه، ثم يرفعها بحركةٍ سريعة، يمسكُ لحيته ويشدّها، وكأنه يفكّر بما يسمعه من التلفاز.
على شاشة التلفاز، كان بضعةُ رجالٍ يرتدون القلانس، يتعرّضون للتعذيب من قبل رجالٍ يرتدون هياكل عظمية، ورجالٌ يلبسون ما يوحي بأنهم شياطين، الرجالُ الشياطين كانوا يلبسون أقنعةَ الشيطان ذات القرون، والأذيال الطويلة. هذا العرضُ كان جزءاً من كرنفال، وقال المذيع الإنكليزي الذي يعلّق على المشهد؛ إنّ ذلك يحدث في إسبانيا مرةً كل عام. حاولتُ أنْ أشرح للأعمى ما يحدث، فقال: "هياكل عظمية، أعرف الهياكل العظمية"، ثم أومأ ونام.
كان التلفاز يعرض كاتدرائيةً واحدة، ثم ثلاث كاتدرائيات طوال، وبعدها انتقل المشهدُ إلى تلك الكاتدرائية الشهيرة في فرنسا، بعوارضها الطائرة وأبراجها الممتدة حتى السحاب، انسحبتْ الكاميرا لتُظهر الكاتدرائيةً كاملةً وهي تغفو على خطّ الأفق.
في بعض الفترات، كان المذيع الذي يعلّق على المشاهد؛ يصمت تاركاً الكاميرا تتجول بين الكاتدرائيات، وأحياناً في الأرياف المجاورة، مُظهرةً رجالاً يسيرون خلف الثيران في الحقول. انتظرتُ لأطول مدة ممكنة، ثم شعرتُ بضرورة أنْ أقول شيئاً، فقلتُ: "إنهم يعرضون الكاتدرائيات من الخارج الآن، نوافير المياه، تماثيل صغيرة منحوتة على شكل وحوش. أعتقد أنهم في إيطاليا الآن، نعم إنها إيطاليا، فهنالك لوحات على جدران الكنيسة". سألني: "هل هي لوحات جصّية؟"، ثم رشفَ من كأسه. مددتُ يدي إلى كأسي فوجدتُها فارغة، حاولتُ أن أتذكّر ما عليّ تذكُّره: "تسألُني إنْ كانتْ هذه اللوحات جصّية؟ إنه سؤال وجيه، لكني لا أعرف".
انتقلت الكاميرا إلى كاتدرائية قرب لشبونة، لا توجد فروقٌ كبيرة بين الكاتدرائيات البرتغالية والكاتدرائيات الفرنسية والإيطالية، لكنها موجودة، ومعظمُ الفروق في التصميم الداخلي. ثم خطرَ شيءٌ في بالي فقلتُ: "يخطرُ لي شيء، هل تملكُ أدنى فكرةٍ عمّا تكون الكاتدرائيات عليه؟ هل تعرف كيف تبدو؟ هل تفهمُ عليّ؟ إذا ذكرَ أحدُهم كلمة "كاتدرائية" أمامك، فهل لديكَ أيُّ تصوّر عمّا يتحدث؟ هل تعرف الفرق بين الكاتدرائية والكنسية؟ قُـلْ!".
نفثَ الدخان من فمه بشكلٍ متقطّعٍ وقال: "أعرف أنها تحتاج مئات الرجال، وخمسين أو مائة سنة حتى يتمّ بناؤها"، لقد سمعتُ هذا للتوّ، أعرف أنّ أجيالاً من نفس العائلة عملوا على بناءِ كاتدرائيةٍ واحدة، سمعتُ هذا من المذيع أيضاً، الرجالُ الذين بدأوا حياتهم في بنائها؛ لم يعيشوا إلى زمنٍ يرونَ فيه اكتمال ما بنوه. وفي هذه النقطة، هم لا يختلفون عنا بشيء، صحيح؟"، ضحكَ الأعمى وتدلّى جفناه على عينيه، وبدا وكأنه يأخذ قيلولة، وربما يتخيّل نفسه في البرتغال.
كان التلفاز يعرض كاتدرائيةً في ألمانيا، والمذيع يتابع السرد بصوته الرتيب. "كاتدرائيات!" قالها الأعمى وهو يستيقظ ويحرّك رأسه إلى الأمام والخلف: "في الحقيقة يا عزيزي، كلُّ ما أعرفه عن الكاتدرائيات هو ما قلتُه قبلَ قليل، وقد عرفتُه من المذيع. لكنْ هل تصف لي إحداها؟ أتمنّى أنْ تفعل ذلك، سأحبّ ذلك، فأنا لا أملكُ فكرةً جيدةً عنها". حدّقتُ طويلاً في الكاتدرائية المعروضة على الشاشة، كيف أبدأ بالشرح؟ لكنْ فلْأقُـلْ إنّ حياتي متوقفةٌ على ذلك، فلْأقُـلْ إنّ حياتي مهدّدةٌ من قِبل شخصٍ مجنون، أمرَني بأنْ أصفَ لهُ الكاتدرائية أو أموت.
"إنها تمتدُّ إلى الأعلى، عالياً جداً حتى السماء، إنها كبيرةٌ جداً، لبعضِ الكنائس دعائم كبيرة تحفظ لها تماسكها، يمكن قول الكثير من الأشياء، الدعائم تسمّى عوارض، إنها تذكّرني بالجسور لسببٍ ما، لكنكَ ربما لا تعرفُ ما هي الجسور أيضاً؟ أحياناً يكون في الكاتدرائية شياطينُ منحوتةٌ أمامها، أحياناً تماثيل لملوكٍ وسيّدات، لكنْ لا تسألني لماذا". كان الأعمى يهزّ برأسه، بل إن الجانب العلوي من جسده كان يتحرّك للأمام والخلف. قلتُ: "إني لا أجيدُ الشرح، أليس كذلك؟"، توقّفَ عن الاهتزاز، وحنى جذعه إلى الأمام ليصغي إليّ، مرّر أصابعه داخل لحيته. لم أستطعْ إيصال الفكرة له، بدا ذلك واضحاً، لكنه انتظرني لكي أتابع الشرح على نفس المنوال، أومأ ليْ وكأنه يشجعني، فكّرتُ بشيءٍ آخر يمكن قوله: "الكاتدرائيات كبيرة جداً، إنها عملاقة، مبنيةٌ من الحجارة، ومن الرخام أحياناً. في ذلك الزمن الذي بُنيتْ فيه الكاتدرائيات؛ أرادَ الناسُ أن يكونوا على مقربةٍ من الله، في تلك الأيام البعيدة؛ كان الدين جزءاً أساسياً من حياة كل إنسان، يمكنكَ معرفةُ ذلك من الكاتدرائيات التي بنوها. أعتذر؛ فهذا كل ما أستطيع فعله لك، فأنا لا أجيد الشرح".
قال الأعمى: "هذا جيّد يا عزيزي، اسمعني، آملُ ألا تمانع أنْ أطلب منكَ شيئاً، هل لي أنْ أطلب منك؟ دعني أسألكَ سؤالاً بسيطاً، نعم أم لا؟ إني رجلٌ فضوليّ فحسب، ولا أقصد الإساءة، دعني أسألكَ هل أنت - بطريقةٍ ما- رجلٌ مؤمن؟ لنْ تغضب إذا سألت؟!". أومأتُ له برأسي لكنه لم يرَ ذلك، فالغمزُ بالعين هو نفسُ الإيماءة بالنسبة للأعمى: "أظنُّ أني لستُ مؤمناً بأي شيء، أعتذرُ إذا كان كلامي قاسياً، أتفهمني؟"
- "بالتأكيد".
تابع المذيع سرده للمشاهد، بينما تنهّدتْ زوجتي أثناء نومها، ثم أخذتْ نفساً عميقاً وواصلت النوم. قلتُ: "سامحني لأني لا أستطيعُ إخباركَ كيف تبدو الكاتدرائية، ربما لا أملكُ هذه الموهبة، ولا أستطيع فعلَ أكثر مما فعلت". بقيَ الأعمى صامتاً لدقائق ورأسه منحنٍ إلى الأمام مصغياً إليّ، فقلتُ: "في الحقيقة، الكاتدرائيات لا تعني شيئاً مهمّاً بالنسبة لي، إنها أشياء تشاهدها في نهاية السهرة التلفزيونية، هذا كلّ شيء عنها، هذا جوهرُها". ابتلعَ الأعمى ريقه، أخرجَ منديلاً من حقيبته، ثم قال: "فهمتُ عليكَ يا صديقي، لا عليك، يحدثُ هذا عادةً، لا تقلقْ"، وأضاف: "هل تخدمني بشيء؟ خطرتْ في بالي فكرة، لماذا لا تجلبُ ورقةً كبيرة وقلماً؟ سوف نصنعُ شيئاً، سوف نرسمُ كاتدرائيةً معاً، أحضرْ قلماً وورقةً كبيرة، هيّا بسرعة، أحضر الأشياء".
صعدتُ إلى الطابق العلوي، أحسستُ بساقيَّ وقد خارتْ قواهما، أحسستُ بتعبٍ وكأنني كنتُ أركضُ لمسافةٍ طويلة. أجلتُ نظري في غرفة زوجتي، وجدتُ بضعة أقلامٍ في سلّةٍ صغيرةٍ على الطاولة، ثم تساءلتُ أين سأجدُ الورقة الكبيرة التي طلبها الأعمى؟. في المطبخ الواقع في الطابق السفلي، وجدتُ كيساً ورقياً فيه بقايا من قشور البصل، أفرغتُ الكيس ونفضتُه، أخذتُ الكيس معي إلى غرفة الجلوس، وجلستُ على الأرض قرب ساقيّ الأعمى. نظّفتُ الطاولة، فردتُ الثنياتِ التي كانت في الكيس، ومددته على طاولة القهوة.
نهض الأعمى من الأريكة وجلس بجواري على السجادة، مرّر أصابعه على الورقة من الأعلى إلى الأسفل، ثم على الجوانب، وعلى الزوايا الأربع أيضاً، وقال: "حسناً، لنبدأ العمل". تلمَّسَ يدي التي تمسكُ بالقلم، أغلقَ قبضته على يدي، وقال: "ابدأ يا صديقي، ارسُمْ، سوف ترى كيف سألحق بيدك، سيكون عملاً جيداً، فقط ابدأ كما أقول لك، ارسُمْ".
وهكذا بدأتُ، في البداية رسمتُ مربّعاً يشبه البيت، قد يكون بيتاً عشتُ فيه سابقاً، ثم وضعتُ للبيت سقفاً، وعلى طرفيّ السقف رسمتُ بُرجين عاليين، يا للجنون!. خلال ذلك كان الأعمى يقول: "ممتاز، رائع، أنت تقوم بعمل عظيم. لم تحلُمْ أنّ شيئاً كهذا قد يحدثُ معكَ طوال حياتك، أليس كذلك؟ في الحقيقة الحياةُ غريبة، جميعنا يعرف هذا. تابعْ، أبدعْ". أضفتُ نوافذَ مقنطرة، رسمتُ العوارضَ الطائرة، وعلّقتُ أبواباً ضخمة، لم أكنْ أستطيع التوقف عن الرسم. انتهى بثُّ القناة التلفزيونية، وضعتُ القلم جانباً، أغلقتُ أصابعي وفتحتُها. وضع الأعمى يده على الورقة، مرّر رؤوسَ أصابعه على الخطوط التي تركها القلم، ثم هزّ برأسه: "عملٌ رائع!".
التقطتُ القلم ثانيةً، أمسك الأعمى بيدي، وتابعنا الرسم، لستُ رسّاماً جيداً، لكني تابعتُ بنفس الطريقة. فتحتْ زوجتي عينيها وحدّقتْ بنا، كانت على الأريكة وما زالتْ ساقاها مكشوفتان، وقالت: "ماذا تفعلان؟ أخبراني، أريد أنْ أعرف". لم أجبْها، فقال الأعمى: "إننا نرسمُ كاتدرائية، نعمل كلانا عليها"، ثم قال لي: "اضغطْ بقوة، هذا جيّد، نعم رائع. طننتَ أنكَ لا تستطيعُ فعلَ ذلك، لكنكَ استطعت، أليس كذلك؟ أنتَ الآن تطهو على نارٍ هادئة، أتفهمُ ما أقول؟ سوف ننجزُ عملاً هاماً بعد دقيقة، انسَ ذراعكَ القديمة، ضعْ قليلاً من الناس في الداخل، فما قيمةُ الكاتدرائية من دون الناس؟!".
قالت زوجتي: "ما الذي يحدثُ يا روبرت؟ ماذا تفعلان؟ ما الذي يجري هنا؟!". فأجابها: "كلُّ شيء على ما يرام"، ثم قال لي: "أغـلِـقْ عينيكَ الآن"، ففعلتُ وأغلقتُهما كما طلب. وأضاف: "هل هما مغمضتانِ حقاً؟ لا تغشّ!".
- "إنهما فعلاً مغمضتان".
- "أبقيهما كذلك، ولا تتوقفْ، تابع الرسم".
تابعنا الرسم معاً، أصابعُه تركبُ فوق أصابعي، بينما تسيرُ يدي على الورقة. كان ذلك شيئاً لم يحدث معي طوال حياتي. ثم قال: "أعتقدُ أننا نجحنا، لقد فعلتها!، انظرْ إليها الآن، ما رأيك؟".
لكنّ عينيّ ما زالتا مُغلقتين، اعتقدتُ أنه يجب عليّ إبقاؤهما مغمضتين لفترةٍ أطول، أحسستُ أنه أمرٌ واجبٌ عليّ. قال الأعمى: "حسناً، هل أنتَ تنظر الآن؟".
أبقيتُ عينيّ مغمضتين، كنتُ في بيتي، أعرفُ ذلك، لكنني لم أشعرْ أنني في أيّ مكان، وقلتُ: "إنها حقاً جميلة!".
هوامش
* مصدر القصة:
• Carver, Raymond. Cathedral, New York: Knopf (1983).
* ريموند كارفر (Raymond Carver): أبرز كاتب قصة قصيرة أمريكي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولد في الولايات المتحدة عام 1938 وتوفي فيها عام 1988، ومن المجموعات القصصيّة التي أصدرها: "رجاءً هل تصمت؟" 1976، "ما نتحدّث عنه عندما نتحدّث عن الحبّ" 1981، "الكاتدرائية" 1983، "الفيل" 1988. بالإضافة لكونه شاعراً أصدر ثماني مجموعاتٍ شعرية، وكاتب سيناريو للأفلام السينمائية. يُلقبّه بعض النقاد بـ "تشيخوف واشنطن".