أصبح مخيم اليرموك غريباً اليوم حتى عن هؤلاء الذين كانو يعرفون كل زاوية وزقاق فيه. المباني التي دمرتها القذائف وحولتها إلى أشباح هياكل، وأهله الذين أرهقتهم الحرب والجوع، هي كل ما تبقى من مجتمع تمزق. هذا المخيم ليس التجمع الفلسطيني الوحيد في سورية بالطبع، ولكنه كان القلب الاجتماعي والثقافي والسياسي وحتى الرمزي للفلسطينيين في البلد. ولهذا السبب أصبح رمزاً لنكبة الفلسطينيين في سورية ومجتمعاتهم التي يمكن أن لا تنجو من هذا المصير أو تلتئم جراحها.
ماتبقى من المخيم هُدم، وما زال يُهدم بعد ظهور"داعش" كمجموعة مسلحة تزيد عدد الجماعات المسلحة الأخرى في المخيم وجواره. وكالة الامم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) توزع المساعدات في المناطق المجاورة للمخيم فقط. والنشطاء في المجال الإغاثي يقدرون أن 18000 من أهالي اليرموك الذين بقوا بعد خروج معظم السكان في كانون الأول 2012 لم يبق منهم في المخيم سوى 4000 تقريباً بعد ظهور داعش. الكثير من أهالي المخيم لجأوا الى قدسيا في ريف دمشق. وكما قالت لي زميلة من أهالي المخيم في بيروت، هناك في قدسيا يوجد سوق يذكر المرء بأسواق شارع لوبيا في اليرموك الذي كان يكتظ بالناس. شارع لوبيا، الذي سميّ باسم قرية فلسطينية في قضاء طبريا، لم يبق منه سوى الخرائب، ولم يترك له القناصة سوى ظلَّ ما كان عليه. لقد دُمِّر شارع لوبيا بعد أربعة وستين عاماً مرّت على تدمير القرية التي سميّ باسمها.
وحتى قدسيا لم تبقى ملاذاً آمناً بعيداً عن الصراع، كما معظم المناطق التي كان من المفترض أن تكون ملاذاتٍ آمنة في دمشق وريفها. لاجديد كما قالت لي صديقة تسكن في قدسيا منذ خروجها من المخيم، "فالمشاكل" وصلت إلى هذا المكان أيضا، والمنطقة محاصرة. ولايستطيع الناس المغادرة بسبب ارتفاع الإيجارات، ومطالب أصحاب العقارات بتقاضي إيجار عام كامل مقدماً. وأضافت، أنهم بعد عام على تهجيرهم لايعرفون كيف هي الأوضاع من حولهم لأنهم لا يتابعون الأخبار التي يتداولها الناس. هم يحاولون أن يستمروا بالعيش فقط. وحين سألتها عن شارع لوبيا في قدسيا، أرسلت إليّ صوراً لا علاقة لها بشارع لوبيا في اليرموك، وقالت إن مشهده محزن؛ أكشاك من "الزنكو" أقامها أهالي المخيم ليبيعوا الخضراوات والملابس المستعملة.
ما معنى النكبة الجديدة ونكبة 1948 في سورية اليوم؟ لأجيب على هذا السؤال يجب أن أتردد بين ذكريات وتواريخ نكبة 1948 في سورية وبين "شارع لوبيا" المتخيل والحقيقي، في قدسيا وفي اليرموك، الذي ترددتُ عليه بشكل يومي قبل عقد من الزمن تقريباً. كما يجب أن أجاور بين هذه الذكريات والتواريخ وبين صور ما تبقى من شارع لوبيا في اليرموك وذكريات لوبيا في فلسطين. والسؤال هو كيف يمكن أن ننظر إلى ذكريات النكبة لمجتمع تمزق في فلسطين في 1948 بعد أربعة أعوام من بداية تمزق تجمعاته من جديد في سورية؟ وما تأثير هذا الواقع لذكريات وتواريخ النكبة في سورية قبل وبعد 2011؟
مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، البلد الذي جعل ذكرياتها وتواريخها ممكنة، لم تعد موجودة كما كانت قبل العام 2011، وتدميرها متواصل. وفي الوقت الذي تبدو فيه واضحة متضمنات هذا بالنسبة لمعانى نكبة 1948 في ضوء النكبة الجديدة، أنا لاأستطيع كتابة خاتمة للأحداث المأساوية المستمرة، ولا كتابة خلاصة للمعاني الجديدة لنكبة ما بعد 2011 في سورية. سأفكر، في ما سيلي من سطور، بنكبة اليوم ونكبة 1948 من خلال التنقل بين الماضي والحاضر. فلدينا الماضي الذي جعل ذكريات 1948 ممكنة، ولدينا هذا الحاضر المعلّم بنكبة تصبح دلالاتها واضحة من خلال إصرارأجيال ما بعد فلسطين التي اقتلعت ونزحت إلى مناطق داخل سورية وخارجها، على أن نكبة اليوم تجاوزت آثارها نكبة 1948.
* * *
صادفتُ زميلا من مخيم اليرموك في بيروت بعد أسبوعين من ظهور داعش كلاعب جديد في المخيم، فأطلعني على صور لشارع فلسطين في المخيم الذي لم يعد شارعاً على الاطلاق، وذكر أسماء عدد لايحصى من زعماء مسلحين وجماعات مسلحة داخل المخيم وبجواره. ووصف أيضاً وقائع الحياة في دمشق، حياته وحياة أمثاله الذين ظلوا يقيمون في مناطق، بعضها تحت سيطرة الجماعات المسلحة وبعضها تحت سيطرة النظام. وقاطعته لكي أذكّره بمشروع البحث في الذاكرة الفلسطينية الذي قمتُ به قبل سنوات. ولاحظتُ النقلة البعيدة في الحديث عن تواريخ وذكريات 1948 مقارنة بتلك الأيام الذي كنا نمضي فيها سهرات عديدة في دار الشجرة في المخيم والحديث عن فلسطين و الذاكرة والعودة. و ذكرته بالعديد من الأصدقاء والزملاء الذين شاركونا في تلك السهرات، والذين لم يعودوا معنا. وأصر على أن الناشطين في إغاثة التجمعات الفلسطينية مثله لم يتخلوا عن العمل التربوي الوطني ولكن الأولويات تغيرت الآن. هموم الناس اليومية تدور حول تأمين لقمة العيش والحصول على الاغاثة، والأهم من كل هذا الخروج من سورية. وتساءل، ما معنى النكبة الآن بعد أن تحولت الى العودة الى بقعة جغرافية محدودة مثل مخيم اليرموك؟
دلالات النكبة كانت دائما مرتبطة بالتحولات التاريخية و السياسية في المنطقة. هذا الواقع كان مجسّداً بمعانيها المختلفة في الخطاب القومي العربي ولاحقا في الخطاب الوطني الفلسطيني. كما كان مجسداً في ذكريات و تواريخ وروايات أجيال اللاجئين الفلسطينيين المختلفة، وإمكانيات وجود مجتمعاتهم في الشتات بعد 1948. ولذلك ليس مفاجئاً أن النكبة اكتسبت اليوم دلالات و معاني جديدة في ظل الحرب في سورية.
أهمية النكبة قبل 2011 كانت في السبل التي أتاحتها مرجعياتُ ذاكرة النكبة الزمانية والمكانية لرسم الخطوط الكفافية الرمزية التي حولها تمكنت التجمعات الفلسطينية من بلورة نفسها رغم خرائب ودمار العام 1948. وتشير طريقة استدعاء أجيال ما بعد فلسطين في سورية للنكبة إلى تورط معانيها في عملية معاكسة. لقد أصبحت النكبة تدل على تدمير التجمعات الفلسطينية في سورية بعد 65 عاماً مرت على قيام هذه التجمعات. والإجماع التقريبي من قبل الأجيال الجديدة على أن هذه النكبة الجديدة تفوق بمراحل تلك التي في العام 1948 ، يجد جذوره في الخوف، وربما في واقع أن هذا الدمار، على خلاف دمار العام 1948، قد يكون الآن دماراً نهائياً في ظل استمرار الحرب في سورية.
معنى آخر ومهم للنكبة قبل 2011 في سورية كان متضمناً في الطرق التي ربط بها نشطاء حركة العودة ذكرى النكبة وضرورة التذكر بالمطالب السياسية. هذه المطالب رفضت مأسسة الفصل بين العودة والتحرير التي قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية بوساطة مشروع اوسلو المحتضر. ما يعنيه هذا هو إصرارٌ على أن تحرير الفلسطينيين من الإحتلال العسكري في العام 1967، احتلال الضفة وغزة، غير ممكن من دون تطبيق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم المحتلة في العام 1948. وبما أن اوسلو حولت فلسطين الى ضفة و قطاع غزة، وحولت العودة إلى عودة إلى هذه الأراضي، وهي عودة ترفضها اسرائيل بالإتجاهين؛ عودة إلى أراضي العام 1948 وعودة إلى أراضي الضفة والقطاع، كان نظر النشطاء إلى هذه العودة ومازال على أنها لا تلبي حقوق اللاجئين السياسية وطموحاتهم.
كان ربط النشطاء بين ذكريات النكبة وفلسطين ما قبل 1948، وواجب التذكر بهدف العودة عن طريق استخدام الذاكرة، مشروعاً سياسياً في المطاف النهائي صيغ في ميدان كفاح ونزاع وطني بين رؤى سياسية. هذا المشروع السياسي وقف ضد تقسيم دولة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية لفلسطين التاريخية إلى مناطق مختلفة جغرافياً وسياسياً وحقوقياً، كما وقف أولا ضد تواطؤ منظمة التحرير الفلسطينية مع هذا الواقع الإسرائيلي ثم لاحقاً ضد تواطؤالسلطة الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن الحرب في سورية علقت جوهرياً حركة العودة، فإن ما أنجزه نشطاؤها خلال حراكهم في مجتمعهم مازال يوفر إمكانية تفكير أبعد من حل الدولتين الفاشل الذي هو اليوم غطاء للاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي كأمر واقع. وسبب هذا أن رؤيتهم السياسية تسمح بالنظر في واقع الفلسطينيين المجزأ نظرة تزامنية؛ بين واقع تحت الاستعمار الاستيطاني، وواقع مشرد بلا دولة، سواء بوصفهم لاجئين يُنكر عليهم حق العودة إلى أراضيهم التي أصبحت جزءاً من الدولة اليهودية في العام 1948 لأنهم غير يهود، أو بوصفهم مواطنين فلسطينيين غير يهود من درجة ثانية في دولة إسرائيل التي تعرف نفسها على أنها دولة يهودية، أو بوصفهم مواطنين بلا مواطنة يعيشون طيلة ما يقارب خمسة عقود تحت نظام احتلال عسكري وحشي مع حكم ذاتي محدود في مساحة أرض ضئيلة تحت سلطة زعامة متواطئة فاسدة لاتمثل إلا نفسها.
لكل هذا، يمكن أن يُقرأ هذا النسيج المكون من ذاكرة/عودة في قلب تحريك نشطاء حركة العودة لذكريات النكبة على أنه مشروع سياسي راديكالي يدعو إلى تصفية استعمار الدولة الإسرائيلية التي هي اليوم دولة واحدة تحكم كل الفلسطينيين الذي ظلوا في أراضيهم ضمن حدود فلسطين التي استعمرتها بريطانيا بعد النكبة. إنه مشروع راديكالي لأنه يجرؤ على التفكير خارج إطار ما تستطيع المنظمة والسلطة تقديمه، التفكير بمشروع تحرير وطني متماسك معاد للاستعمار. وهو مشروع راديكالي أيضاً، لأنه يرفض سياسة فرق تسد التي فرضتها إسرائيل على كل الفلسطينيين منذ النكبة. رؤية هذا المشروع تتيح المجال لتخيل مستقبل بديل يتمحور حول إمكانية أن يُتاح للمجتمع الفلسطيني المجزأ تحت الحكم الاسرائيلي أو في المنفى، أن يعيش على قدم المساواة جنباً إلى جنب مع اليهود الإسرائيليين في إطار دولة ديموقراطية غير طائفية لا يهيمن عليها الاسرائيليون أو الايديولوجيا الصهيونية.
* * *
ماهي متضمنات هذا المستقبل البديل في وقت تتم فيه إعادة ترتيب أولويات العودة كما تحدث عنها الزميل من اليرموك الذي صادفته في بيروت؟ حين يكون على العودة الى فلسطين أن توضع في المقعد الخلفي في ظل الحرب، والحاجة الملحة إلى العودة إلى مخيمات الفلسطينيين وتجمعاتهم في مواجهة تدمير المخيم والمجتمع المتواصل على حد سواء؟
هدف هذه الأسئلة ليس إعفاء إسرائيل من مسؤوليتها عن الجرائم التي ارتكبتها في 1948، أو تجاهل حقيقة أن للاجئين الحق في العودة إلى وطنهم إذا رغبوا في ذلك، ذلك الحق الذي ضمنه القانون الدولي. وهذه الأسئلة لاتستهدف أيضاً إعفاء إسرائيل من مسؤوليتها الرئيسية عن الوقوف بوجه حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وسد الطريق أمامهم، أو التقليل من قدرة الفلسطينيين على العيش كمواطنين على قدم المساواة. هذه الأسئلة، على العكس من هذا، تجعل الحاجة إلى اعتراف إسرائيل بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أقوى وأعلى صوتاً، في وقت تم فيه إغلاق جميع طرق الخروج من سورية أمامهم.
و بعد كل هذا، من المفترض أن تتيح هذه الاسئلة فرصة للتفكير خارج سياق منطق الاعتراف، لأن هذا المنطق لم ينجح في تحقيق العودة وترجمته إلى واقع. هذا لايعني إنكار الأهمية الدائمة لطلب الاعتراف والعدالة والتعويض عن جرائم النكبة التي ارتكبتها الدولة الإسرائيلية، وبخاصة في السياق الدولي. الهدف هنا هو التأكيد على أن الدولة الإسرائيلية بوصفها الطرف الأقوى في المعادلة مع شعب أعزل رفضت بكل بساطة هذا الاعتراف منذ النكبة، وفي الوقت نفسه تم في واقع الأمر تدميرتجمعات اللاجئين الفلسطينيين في مختلف البلدان العربية؛ في لبنان والكويت وليبيا والعراق والآن في سورية. بالإضافة الى تعرض الفلسطينيين للعدوان العسكري المطلق من دون رادع وللوحشية الاستعمارية كما حدث في صيف 2014 في غزة، وكما يحدث الآن في الضفة وفي الداخل. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والدول العربية ومنظمة التحرير، متواطئون جميعا مع موقف اسرائيل الرافض للاعتراف بمظالمها التاريخية والمعاصرة ضد الفلسطينيين وتنفيذ حق العودة وإنهاء الاحتلال. ونظراً لهذه العوامل المختلفة، كيف يمكن للمرء أن يبدأ التفكير في ممكنات تمضي إلى ما هو أبعد من منطق إعتراف سمحت وقائعه البنيوية لإسرائيل بإدامة الوضع الراهن، واقع الإنكار وعنف الإستيطان الاستعماري، بحكم الأمر الواقع، مع تكرار تدمير المجتمعات الفلسطينية المختلفة في الوقت نفسه، سواء داخل فلسطين أو خارجها؟
اود أن أفكر بهذه الممكنات المختلفة بالعودة الى وقائع المجتمعات التي ولدتها سورية، ذكريات و تواريخ هذه المجتمعات قبل الحرب في سورية، والواقع المأساوي الذي أدى إلى تمزيق هذه المجتمعات مجدداً.
في ربيع العام الماضي، زرت مخيم الرشيدية في جنوبي لبنان، وهو الأبعد جنوباً بين مخيمات "الأونروا" في هذا البلد. وفي غرفة، هي منزل عائلة صديقة جاءت إلى لبنان من أحد مخيمات دمشق المدمرة بسبب الحرب، جلستُ مع العائلة والبحر إلى الغرب منا والمزارع إلى الجنوب. وطبعا، بعد المزارع كنا على مقربة أيضاً من مصدر ذكريات و تواريخ النكبة، ومصدر المطالبات و التطلعات السياسية الفلسطينية؛ هذه هي فلسطين التاريخية، فلسطين أهالي الرشيدية والقادمين الجدد من سورية، الذين تواصل إسرائيل اليوم التنكر لحقهم في العودة.
و تطرق حديثنا الى النكبة في سورية، والصعوبات التي تواجه أولئك الذين جاؤا طلباً لملاذ آمن في لبنان، حيث هم الآن، بالإضافة إلى 50000 فلسطيني من سورية تقريباً، يعيشون في فراغ قانوني بعد منع دخول الفلسطينيين القادمين من سورية إلى البلاد. وسردت لي عائلة الصديقة قصصاً عن تعاسة الأقارب الذي وصلوا الى أوروبا و دفعوا ثمن الانقطاع عن أهلهم ومجتمعاتهم.
في ذلك اليوم كانت فلسطين قريبة جداً وبعيدة جداً عن مخيم الرشيدية في وقت واحد معاً. لقد تم استحضارها من أجل التأكيد على حجم الكارثة في سورية. نكبة اليوم لامثيل لها، بل هي تقزّم نكبة 1948 فعلا كما قيل لي. ومن حيث الخيارات المتاحة، تم التعبير عن أمل العودة، بالدعاء من أجل عودة سورية بلداً كما كانت، والعودة الى المنازل التي تركوها وراءهم بغض النظر عما إذا كانت تعرضت للقصف أم لا، أو عما إذا كانت لا تزال قائمة أم لا. وعدُ شمال أوروبا بالاستقرار والحياة العادية التي انتهت فجأة في سورية ليس بديلا عن حلم عودة سورية والعودة إليها. التعليم والخدمات الصحية والسكن و شبكة الأمان الاجتماعية، كل هذا كان متوفراً للجميع في سورية.
هذه هي آمال وطموحات العودة التي ترتبط اليوم بمعان جديدة للنكبة، بتعابير نكبة الماضي/الحاضر في ضوءالحرب في سورية. وترتبط هذه الآمال بشكل جذري بتجربة اللاجئين الفلسطينيين، التاريخية والاجتماعية والسياسية، في سورية. وبشكل أكثر تحديدا، هي ترتبط بالإمكانيات والوقائع التي ولدتها هذه التجارب المختلفة في هذا البلد بالذات. فقد سمحت التجربة الفلسطينية في سورية بتعددية الانتماء: انتماء الى فلسطين التي هي مصدر رواية ونقل ذكريات الحسرة والحنين والذكريات المشتركة من جهة، ومن جهة أخرى انتماء إلى تجمعات تكونت نتيجة للنكبة ولكنها كانت نتاج الواقع السوري. صحيح أن تعددية الانتماء كانت في بعض الأحيان متأرجحة وتدور حول الشعور بالانتماء وعدم الانتماء لسورية في الوقت ذاته، كما عند أجيال ما بعد اوسلو بالذات. ومع ذلك، فتعددية الانتماء هذه هي التي جعلت الذكريات والتواريخ والمجتمعات المشتركة ممكنة. بالإضافة إلى هذا، تعددية الانتماء هذه لا التأرجح هي التي كانت لها الأسبقية نتيجة الحرب. أي أن إحدى نتائج تدمير التجمعات الفلسطينية هو الحنين إلى العالم الذي ضاع؛ حلم عودة البلد إلى ما كان عليه يطغى على أي تأرجح بين الانتماءات كان موجوداً قبل 2011.
لهذا السبب، تُستحضر الإشارات إلى نكبة اليوم التي تتجاوز مأساويتها مأساوية نكبة 1948 من ضمن هذه المواقع القائمة على تعددية الانتماء. وهذه هي الانتماءات المختلفة والمتعددة إلى فلسطين وسورية كما تم استكشافها خلال ذكريات النكبة وتواريخها. وهي انتماءات متعددة ومختلفة أيضاً إلى فلسطين ضمن سورية تلك التي يُعبّر عنها بقوة أكبر في ضوء الحرب. وإن من قصر النظر وضيق الأفق أن تترجم هذه الانتماءات إلى مفهوم سطحي للفلسطينيين القادمين من سورية باعتبارهم سوريين، وهو فهم يستخدم كأساس للتمييزالفردي أو المؤسساتي ضدهم من قبل الفلسطينيين في لبنان. كما هو ضيق ومحدود فهم مطالب العودة الى فلسطين والآن إلى سورية كمطلبين متنافسين. وكأن هذا الطلب الأخير يقلل من الطلب الوطني الأهم بالعودة إلى فلسطين، أو يعفي إسرائيل من جريمة تشريد الفلسطينيين ومنعهم من العودة.
واقع المجتمعات الفلسطينية في سورية، الذي هو مصدر الانتماء إلى كل من فلسطين وسورية ومطلب العودة إليهما، يحثنا على التفكير خارج وأبعد من إطار الدول الوطنية التي نُحتت في عهد الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، والتي فشلت في المشرق العربي. كما فشلت هذه البقايا الاستعمارية، والتي تعززت عن طريق الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي أو الأنظمة العربية، ملكية كانت أو جمهورية، التي أخفقت في السماح للفلسطينيين بتقرير المصير.
الانتماءات الفلسطينية المختلفة، والتعبير عن هذه الانتماءات عن طريق الدلالات المتغيرة لنكبة 1948 في ضوء الحرب في سورية، تدل على تجاوزالمجتمعات الفلسطينية في سورية للبقايا الاستعمارية التي هي على شكل دول حديثة في المشرق. إنها انتماءات إلى فلسطين تاريخية تتجاوز جغرافيتها إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية الراهنة بوساطة تجسيد هذه التجمعات لنكبة 1948. وهي أيضاً انتماءات الى سورية تتجاوز حدودها الحديثة التي نحتتها فرنسا، وهذا يعبر عنه بوضوح باستدعاء نكبات اليوم ونكبات الأمس في ظل التدمير والتمزق الجديدين. هما إذاً، تعبيران أيضا عن الانتماء الى فكرة فلسطين وسورية الماضي، حينما لم يكن للحدود بينهما وجود، وعن مستقبلهما المحتمل. اذن واقع مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، المعبر عنه من خلال ذكريات النكبة وتاريخها، يجسد الإمكانيات السياسية التي قد تكون نتاج الدولة الحديثة التي خلفها البريطانيون والفرنسيون في المشرق العربي، ولكنها تتجاوزها بشكل واضح.
هذه المقالة تلخيص لخاتمة كتاب أناهيد الحردان "الفلسطينيون في سورية: ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة" الذي صدر عن جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية في 2016.