قصائد للشَّاعر الإيطالي ﭬينتْشِنزو كارْدارِلِّي
Vincenzo Cardarelli (1887-1959)
ﭬينتْشِنزو كارْدارِلِّي في سطور:
اسمُه الحقيقيُّ ناتزارِنو كالْدارِلِّي، وُلِدَ في 1 أيَّار/ مايو 1887 في بلدة تاركوينيا الإيطاليَّة. كان ابناً لا شرعيَّاً، عاش طفولته محروماً منذ البدءِ من حنان الأمِّ (هجرتْ أمُّه جيوفانَّا كالْدارِلِّي المنزل حين كان طفلاً رضيعاً)، فطُبعتْ تلك الطُّفولة بالعزلة وبألَمٍ مأتاهُ تلك الإعاقة في ذراعه اليسرى. في سنِّ السابعة عشرة هرب من المنزل وانتهى به المطاف في روما حيث امتهن عدَّةَ مِهَنٍ من بينها مدقِّقٌ لغويٌّ في صحيفة أفانتي! (إلى الأمام!) الشُّيوعيَّة، والتي أصبح فيما بعد محرِّراً فيها مبتدئاً بذلك مسيرته الصحفيَّة سنة 1909. بعد سِنِيِّ الحرب العالميَّة الأولى التي قضاها بين توسكانا وفِنِتو ولومبارديا عادَ إلى روما حيث أسَّس، مع مجموعةٍ من المثقَّفين، مجلَّة لاروندا (وتعني دوريَّة الجُنْد) التي من خلالها نشأت الحركة الأدبيَّة المعروفة بالرُّونديَّة Rondismo والتي دعت إلى إعادة الارتباط بالأدب التَّقليدي، أدب جياكومو ليوباردي وألِسَّاندرو مانتزوني، رافضةً في المقام الأوَّل النَّزعة المستقبليَّة Futurismo ومعارضةً كذلك للنَّزعة الهرمسيَّة (الإبهاميَّة). في سنة 1916 صدرت مجموعته الأولى "الاستهلالات"؛ تلتها سنة 1920 "رحلاتٌ في الزَّمن"؛ وفي سنة 1925 بدأ تعاونه مع يوميَّة "تِفِرِه" الفاشيَّة التي أرسلته بين سنتَي 1928 و1930 إلى روسيا كمراسلٍ صحفيٍّ. في سنة 1929 صدرت مجموعته "الشَّمس في الذُّروة" التي نال عنها جائزة باغوتَّا؛ وفي 1934 "نهاراتٌ طافحة"؛ وفي 1939 صدر كتابه النَّثري "السَّماء فوق المدينة"، وله كذلك نثراً "رسائل غير مُرسَلة" 1946، و"بيت العنكبوت" 1948 الذي نال عنه جائزة ستريغا، وله غير ذلك شعراً ونثراً.
* * *
تتموضع تجربة كارْدارلِّي الشِّعريَّة ما بين الطَّلائعيَّة والحركة الإصلاحيَّة من بعدِها، وفي جميع الأحوال فإنَّ التَّجربة الطَّلائعيَّة تنعكسُ حتَّى في أعماله اللاحقة التي نزعتْ إلى الانفصال عنها ونبذتْ أيَّ خروجٍ عن الأساليب التَّعبيريَّة التَّقليديَّة. تقدِّم أعمالُه المنشورة في مجلَّة لافوتْشِه "الصَّوت" الثَّقافيَّةِ السِّياسيَّة، على وجه الخصوص، أوضحَ مثالٍ على تأثُّره الكبير بمُناخ الحركة الطَّلائعيَّة ويبدو ذلك جليَّاً من خلال: اللغة التَّعبيريَّة، والنُّزوع إلى التَّقطيعيَّة (ألَّا تكون القصيدة وحدةً واحدة، وإنَّما موزاييكاً من المقاطع)، والتَّركيز على موضوعاتٍ مِن قبيل الانفصال عن الجذور، التَّرحُّل، الغلومة، وضياع الهويَّة. من جهةٍ أخرى، يلمس القارئ في كتابات كاردارلِّي رصانة اللغة والأسلوب متساوقاً مع نبرةٍ محكيَّةٍ دارجة وميلٍ إلى المنطق. كما يمكن في قصيدة كارْدارِلِّي التَّمييز بين نزعتين متعارضتين: نزعة إلى الانتهاك والمخالفة، ونزعة إلى الرقابة الذَّاتيَّة؛ ولكنَّ ما يسود منهما بشكلٍ عامٍّ هي الثَّانية، والتي تنطوي على تلك الرَّصانة في شكل القصيدة، دون الإقلال من شأن الأسلوبيَّة الطَّلائعيَّة. إنَّ عودة كارْدارِلِّي، مِن ثَمَّ، إلى الكلاسيكيَّة لم تكنْ إلَّا نتيجةً منطقيَّة لغياب الأمن النَّفسي الذي كان ثمرةً للأزمة التي عصفتْ بالوظيفة الاجتماعيَّة للمثقَّف. بهذا المعنى يمكن أن نفهمَ عبور كارْدارِلِّي من الطَّلائعيَّة، التي تجلَّت في مرحلة لافوتْشِه، إلى المناخ الإصلاحي، الذي تجلَّى في مرحلة لاروندا، المجلَّة الموجَّهة إلى تقديس الماضي والكلاسيكيَّة، وإلى استرداد الوظيفة التَّقليديَّة للمثقَّف. ولقد لاقى كارْدارِلِّي هذا التَّحوُّل بحماسٍ كبيرٍ، حيث قرأ فيه فرصةً لإحياء هويَّته، هويَّة الأديب والمثقَّف.
* * *
لقد كان كارْدارِلِّي متحدِّثاً لامعاً وأديباً صارماً ومثيراً للجدل، عاش حياةَ تسكُّعٍ وعزلة أقرب ما تكون إلى الزُّهد. معلِّموه كانوا بودلير، ونيتشه، وليوباردي، وباسكال؛ منهم تعلَّم كيف يعبِّر عن عواطفه بالاحتكام إلى المنطق، دونما إفراطٍ في الإهاجاتِ الرُّوحيَّة. قصيدته هي قصيدةٌ وصفيَّةٌ واضحة الخطوط والملامح، وثيقةُ الصِّلة بذكريات الماضي، أيَّاً يكن نمطُها، أكانت متعلِّقةً بالمناظر الطَّبيعيَّة، أم بالحيوان، أم بالأشخاص، أم بحالةٍ وجدانيَّة، يعبِّر عن ذلك بلغةٍ بليغةٍ، وفي نفسِ الوقتِ هادرة وعميقة. لقد عاشَ كارْدارلِّي حياتَه كلَّها منزوياً، غائصاً في عزلته الوجوديَّة؛ ولطالما قيل وكُتِبَ عن ذلك التَّماثل، على مستوى الشِّعر والطِّباع والبنية الجسديَّة (كان كارْدارِلِّي يعاني مِن سلِّ العظام أو التهاب الفقار السِّلِّي المعروف بداء بوت)، بينه وبين ليوباردي. توفِّي في إحدى مستشفيات روما في 18 حزيران/ يونيو من سنة 1959، وحيداً ومُعدماً.
النُّصوص:
[من مجموعة "قصائد" 1936، طبعة مَزيدة ومنقَّحة 1942]
مُغتلِمة
عليكِ، أيَّتها العذراء المغتلِمة،
يقيمُ ما يشبه ظلَّاً إلهيَّاً.
لا شيء أكثر إبهاماً وتَجلَّةً
وجدارةً بالحبِّ والعبادة
مِن جسدِكِ المعرَّى.
ولكنَّكِ موصَدَةٌ في تكوينِك المتيقِّظ
وتسكنين بعيداً
مع عذوبتِك
جاهلةً بمَن سيهتدي إليكِ.
يقيناً ليس أنا. كلَّما أبصرتُكِ تعبُرين
على مسافةٍ ملوكيَّةٍ فادحة،
وشَعرُكِ محلولةٌ عِقاصُه
والحياةُ واقفةٌ لكِ مثلَ رُمحٍ،
حملَني الدُّوارُ بعيداً.
أنتِ الكائنُ المجلوُّ الفاقدُ المسامِّ
الذي تنحشرُ في أنفاسِه
اللذَّةُ المبهَمة لجسدٍ بالكادِ
يحتملُ فيضَ نفْسِه.
في الدَّمِ، دمِكِ المُفشَى
لهيباً على وجهِك،
يصنعُ الكونُ ضَحكاتِه
كما لو في المقلةِ السَّوداء لِلسُّنونو.
بؤبؤاكِ مُكتويان
بشمسِك الباطنيَّة. فمُكِ مُطبِقٌ.
يداكِ البيضاوان تجهلان
عَرَقَ المُلامساتِ المُهين.
وأتأمَّلُ كيف أنَّ جسدَكِ
العصيَّ والمستغلِق
يُقنِطُ الحبَّ
في قلبِ الرَّجُل!
مع ذلك سيفترعُ أحدٌ زهرتَكِ،
يا فمَ النَّبع.
ولن يُحسِنَ هو نفسُه ذلك،
صائدُ إسفنجٍ،
سيحوز هذه اللؤلؤةَ الفريدة.
سيكون له حظَّاً ونُعمى
أنَّه لم يبحث عنكِ
ويجهلُ من أنتِ
ولا يستطيع الالتذاذَ بكِ
بالوعي اللطيفِ
الذي يجرحُ إلهاً غيورَاً.
أوه بلى، جاهلاً بما يكفي
سيكون الحيوان
إذا هو لم يمُتْ قبلَ لمسِك.
وهكذا يكون.
أنتِ أيضاً تجهلين من أنتِ.
تمنحين نفسَكِ،
لكن فقط لِتَرَي كيف هي اللعبة،
لِتضحكا قليلاً معاً.
ومثلما ينفضُّ اللهبُ في النُّور،
تنحلُّ وعودُكِ المبهمة إلى عَدَمٍ
ما إنْ تمسُّها يدُ الواقع.
يا لِلنَّشوةِ العارمة
تمضي ولا تَنفَد!
ولَسَوفَ تَكْتَنِتين، لَسَوفَ تمَّحين
في الشَّهوة التي لا تصيبُ
أبداً، مع أوَّلِ عابرٍ يروقك.
تحبُّ الحياةُ اللهوَ
الذي يؤازرُها،
ولا تحبُّ تَوَقِّي الرَّغبةِ التي تتلكَّأ.
هكذا تدوِّرُ الغلومةُ الأرضَ
وما العارفُ إلَّا مغتلمٌ
يؤلمه أنْ بلغَ أقصى الكِبَر.
*
ماضٍ
الذِّكريات، هذه الظِّلالُ المديدةُ
لجسدِنا القَزِم،
الذي هو فَضْلَةُ الموتِ التي
تركناها تتنفَّسُ
كمدَ ذكرياتٍ لا خُتْمَةَ لها،
ها هي ذي تنجلي:
أخيِلَةً كئيبةً وخُرْساً تهزهزُها
ريحٌ جنائزيَّة.
وأنتِ الآن، لا أكثر مِن ذكرى.
مسجوَّةٌ أنتِ في ذاكرتي.
بلى، في مُكنتي الآنَ أن أقول
إنَّكِ مُلكي
وإنَّ شيئاً لا يمكن إلغاؤه أو نسخه
قد وقعَ بيننا.
كلُّ شيءٍ امَّحى، هكذا خطفاً!
عَجِلاً وخفيفاً
أدركَنا الزَّمن.
مِن هُنَيهاتٍ عابرة حاكَ قصَّةً
مُحْكَمَةَ الإطباقِ وحزينة.
كان علينا أن ندرِكَ أنَّ الحبَّ
يحرقُ العمرَ ويجعلُ للوقتِ أجنحة.
*
أكتوبر
ذاتَ زمنٍ، وكان صيفاً،
على تلك النَّار، تلك الجذوات،
استفاق حُلُمي.
والآن، أجنَحُ نحوَ الخريفِ
الذي يبثُّ النَّشوة،
أحبُّ هذا الفصلَ الكليل
وقد اجتُنيَتْ أعنابُه.
لا شيء يشابهني،
لا شيء يعزِّيني،
أكثرَ مِن هذا الهواء إذْ يأرَجُ
بعُصَارِ العنبِ وبالنَّبيذ،
مِن هذه الشَّمس الأكتوبريَّة العجوز
إذْ تسطعُ على الكرومِ المنهوبة.
يا شمسَ خريفٍ لامُنتظَر،
تشعِّين كما لو مِن غرفةٍ أخرى،
بانهيارٍ رقيقٍ،
وغبطةٍ مشرَّدة،
وتَلْقَيْننا ههنا خامِلِين،
وجوهنا كالحة والموتُ في أرواحنا.
لهذا نهيمُ بكِ
أيَّتها الشَّمسُ المعافاةُ المبهَمة
التي لا تعرفُ أن تقول لنا وداعاً،
آيبةً كلَّ صباحٍ
مثلَ مُعجزةٍ جديدة،
وأبهى حتَّى من نفسِكِ وأنتِ تتقدَّمين
وتبلُغين هناكَ حيث موتك.
مِن هذه النَّهاراتِ الباهرة
تمضين مؤلِّفةً فصلَكِ
الذي ليس إلَّا احتضاراً فائق العذوبة.
* * *
[من مجموعة "قصائد؛ الأعمال الكاملة" 1962]
خريف
إنَّه الخريف. نحسُّ مَقْدَمَه
في ريحِ آبَ،
في مطرِ أيلول
المدرارِ والبكَّاء
في رِعشَةٍ تطوي الأرضَ
التي تحتفي الآنَ، عُريانةً ووالِهة،
بشمسٍ كامدة.
الآنَ ينحطُّ ويضمحلُّ
في هذا الخريف الذي يختالُ
بتبطُّؤٍ يفوق الوصفَ،
أجملُ فصولِ حياتنا
وطويلاً يلوِّحُ لنا مودِّعاً.
*
نوارس
لا أعرفُ أين تضعُ النَّوارسُ أعشاشَها،
أين تَلقى السَّكينة.
إنَّني مثلُها،
في تحليقٍ لا خُتْمَةَ له.
الحياةُ أمَسُّها مسَّاً خفيفاً
مثلما تمسُّ هي الماءَ تتلقَّطُ قُوْتَها.
ولعلِّي مِثلُها أحبُّ الصَّمتَ،
الصَّمتَ البحريَّ المهيب،
ولكنَّ قدري أن أحيا
كالبرقِ في زوبعة.
*
إلى الموت
لنمتْ نَعَمْ،
ولْنَأبَ أن يغدرَ بنا الموت.
لنمتْ موقنين
أنَّ هكذا سَفَرٍ هو الأمثل.
ولنكنْ في تلك الهُنيهةِ الأخيرةِ محبورين
مثلما عندما نحصي الدَّقائق
في ساعةِ المحطَّة
وكلُّ دقيقةٍ منها تضارعُ قرناً.
ذلك أنَّ الموتَ هو العروسُ صادقةُ العهدِ
التي تحلُّ محلَّ الحبيبةِ الخائنة،
لا نودُّ أخذَها مثلَ الدَّخيلةِ
ولا نريدُ الهروبَ معها.
ما أكثر ما رحلنا
من غيرِ وداعٍ!
عند نقطةِ العبور، النُّقطة التي نعبرُ فيها
الزَّمنَ بهنيهةٍ واحدة،
عندما تُنْشَلُ مِنَّا
ذاكرتُنا نشلاً،
دعْنا، أيُّها الموت، نقُلْ للعالَم وداعاً،
ائذَنْ لنا، بعدُ، بتسويفٍ آخَر؛
عسى ألَّا يكون عبورُنا
طائشاً.
إنَّ دمي لَيتجمَّدُ
مِن فكرةِ الموتِ الفجائيِّ.
فيا أيُّها الموت لا تنشب مخالبكَ فيَّ،
بل كاشفني بنفسِكَ مِن بعيد
وكمثلِ خليلةٍ خذني
أو كما لو كنتَ أقصى عاداتي.
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]