الكاتب الأرغواني ماريو بينيديتي Mario Benedetti
ولد ماريو بينيديتي في باسو دي توروس (PASO DE TOROS) في الأرغواي عام 1920. لديه أكثر من ثمانين عملاً بعضها مترجم إلى أكثر من عشرين لغة. اضطر إلى ترك بلده لأسباب سياسية عام 1973، فتجول في العديد من دول أميركا الجنوبية ليعود أخيراً إلى بلده عام 1983. حصل على العديد من الجوائز الأدبية من أهمها: جائزة الملكة صوفيا للشعر. توفي في السابع عشر من أيار (مايو) من عام 2009 تاركاً خلفه الكثير من الأعمال الأدبية التي كان لها تأثيرها المهم في الأدب الأميركي اللاتيني نذكر منها:
«قصص باريس، صندوق الوقت، الحبّ النساء والحياة، الهدنة. القصص مأخوذة من "الأعمال الكاملة” للمؤلف. ترجمها عن الإسبانية لـ "جدلية" جعفر العلواني.
****
من علمك هذا؟
درجت العادة أن يستجوبوا السجين ثلاث مراتٍ يومياً لكي يتأكدوا من أمر وهو:" من علمه هذا". كان السجين يجيب على أسئلتهم بصمتٍ محترم، فيقوم الملازم المناوب على استجوابه بتقريب شعلة الكهرباء المريعة والمرعبة من خصيتيه.
في أحد الأيام نزل الإلهام على السجين بالإجابة: " ماركس، الآن تذكرت، ماركس هو من علمني هذا".
اندهش الملازم من جوابه، لكن دهشته لم تمنعه من أن يسأل: آه، وهذا المدعو ماركس من علّمه هذا؟ أجاب السجين الذي كان مستعداً لتقديم تنازلات: "لست متأكداً، ولكن أعتقد أنه هيجل".
ضحك الملازم، أما السجين فقد راح يفكر- ربما كان تفكيره هذا ناجماً عن التباس مهني-: أتمنى ألا يكون هذا العجوز قد غادر ألمانيا".
سررت بلقائك
كانا قد التقيا في أحد البارات وأمام كل واحدٍ منهما كأس من البيرة. وكما هي العادة في أول لقاءٍ بين اثنين يبدأ الحديث عن الطقس ومن ثم عن الأزمة، وبعد ذلك ينتقلان من موضوع إلى آخر دون وجود أي رابط منطقي بين المواضيع. وعلى ما يبدو كان الرجل النحيل كاتباً، في حين أنَّ الآخر كان رجلاً عادياً مثله مثل أي شخص عادي. غير أن الرجل النحيل لم يظهر عليه إن كان كاتباً أدبياً أم لا، في حين أن الرجل الآخر راح يثني على الفنانين بشكلٍ عام وعلى ملكتهم العظيمة ألا وهي: ملكة الكتابة.
- لا تظن أنه أمر عظيم- قال الرجل النحيل-، فهناك لحظات مريرة تمر على المرء وتنتهي به إلى نتيجة أن كلَّ ما كتبه يجب أن يرميه في النفايات، ولربما كانت كتاباته مهمة، ولكن قد يصل المرء إلى مثل هذه النتيجة. ولكي لا نذهب بعيداً في الموضوع أنا شخصياً، ومنذ وقتٍ ليس بالبعيد، جمعت كل أعمالي التي لم تنشر بعد، واتصلت بأحد أصدقائي وقلت له: " انظر، هذا كله لا ينفع شيئاً. أنا شخصياً سيصعب عليّ
ذلك كثيراً، لذلك أرجوك خذ الأوراق كلها وأحرقها،وأقسمْ لي أنك ستحرقها، وبالفعل أقسم".
اندهش الرجل العادي لما سمعه من هذا النقد الذاتي للنفس، ولكنّه لم يجرؤ على أن يتكلم أو يتفوه بأي تعليق. وبعد فترة لا بأس بها من الصمت، حك رأسه وشرب كأس البيرة إلى أن انتهى.
- حسناً- قال الرحل العادي- منذ ساعة ونحن نتحدث ولم نتعرف على بعضنا. أنا اسمي إيرنستو تشافيز وكيل مشتريات. ومدَّ يده ليصافحه.
- سررت بلقائك- قال الرجل النحيل- بعد أن صافحه وشد على يده. وأنا أدعى فرانس كافكا في خدمتك.
جنس الملائكة
من نواقص المعلومات المؤسفة التي عانى منها الرجال والنساء على مرِّ العصور تتعلق بجنس الملائكة. المعلومة، والتي لم تتأكد أبداً، أنَّ الملائكة لا تمارس الحبَّ، ربما كان ذلك معناه أنها لا تمارس الحب بالطريقة نفسها التي يمارسه بها البشر الفانون.
وهناك وجهة نظر أخرى مرجّحة أكثر، ولكنها كذلك غير مُؤكدة، تقول صحيحٌ أنَّ الملائكة لا تمارس الحبَّ بأجسادها (لسبب محض أنها تفتقر إلى الجسد)، إلا أنّها تحتفي بالحبِّ عبر الكلمات، الكلمات المناسبة.
وهكذا في كلِّ مرة يلتقي فيها ملاكان عند مفترق طريق السحاب، يتبادلان الحب والإغواء عبر نظرات، هي بكل تأكيد، ملائكية.
وهكذا يبدأ الملاك بتفجير نار الحب الأولى فيقول: " البذور"، فترد عليه بهدف أن تشعل النار بداخله: "المنحدرات"، فيقول هو: "الانجرافات"، فتجيبه بكل حنانٍ "الهاوية".
وبينما تتطاير الكلمات بينهما مثل النيازك، يرفرف من هنا، بصمتٍ، ملاك الحرس كاره النساء، ومن هناك يظهر ملاك الموت القاتم والأرمل، إلا أنَّ هذا لا يقطع على الملاكين تبادل كلمات الحبّ. يقول الملاك: "الينابيع"، فتجيبه هي: "الجفون".
وبين كلمة من هنا وأخرى من هناك، تتبلل الكلمات بالندى في منازل الغيوم، تتطاير في الهواء وتحمل معها معانيها.
يقول الملاك: "السيف"، فتجيبه بتوقدٍ " الجرح". يقول: "الصوت"، فتجيبه " الصدى".
وفي لحظة النشوة السماوية الغامرة ترتجف وترتعد وتهتز الغيوم والسحب، وأخيراً تنفجر. ويسقط حبُّ الملائكة مطراً غزيراً على العالم.
الأنا الآخر
كان الأمر يتعلق برجلٍ مبتذل. يلبس بنطالاً تشقق عند ركبتيه من كثرة استعماله. كان يقرأ القصص، يصدر صوتاً شبيهاً بالتصفيق أثناء الأكل، وكثيراً ما كان يضع إصبعه في أنفه، يشخر عند النوم، وكان هذا الرجل يدعى أرماندو كورينتي "المُبتَذل" في كل شيء إلا في شيء واحدٍ وهو: الأنا الآخر.
بالنسبة للأنا الآخر فقد كانت نظرته شعرية للأمور، كان يحبّ الممثلات، يكذب بحذرٍ، ويعشق لحظات الغروب. غير أنّ هذا الأنا الآخر كان يشعر بقلقٍ وعدم ارتياح أمام أصدقائه بسبب آرماندو، الذي كان بدوره هو كذلك يستاء من الأنا الآخر الذي كان حزيناً وبذلك لا يستطيع آرماندو أن يكون مبتذلاً كما أراد دائماً.
وفي أحد الأيام وصل آرماندو إلى بيته متعباً من عمله، خلع حذاءه وحرك ببطءٍ أصابع قدميه وأشعل الراديو. كان موزارت في الراديو غير أنَّ الرجل نام. استيقظ الأنا الآخر ببكاءٍ لا عزاء له. عندما استيقظ آرماندو استاء جداً من بكاء الأنا الآخر، لم يعرف ما يفعل، غير أنه راح يشتمه ويسبه. لم ينبس الأنا الآخر بأي حرف، غير أنه في الصباح الباكر لليوم التالي انتحر.
في بداية الأمر كان انتحار الأنا الآخر للمسكين آرماندو ضربة قاسية، لكنه سرعان ما فكر أنّه الآن يستطيع أن يكون مبتذلاً بشكلٍ كامل. لقد جعله هذا يشعر بالارتياح.
بعد مرور خمسة أيام على الحداد، خرج آرماندو من المنزل بغية إبراز ابتذاله الجديد والكامل هذه المرة. وعن بعد، رأى مجموعة من أصدقائه تقترب منه، سُرَّ كثيراً للأمر وعلى الفور انفجر ضحكاً. ولكن عندما مرَّ أصدقاؤه بالقرب منه، لم ينتبهوا لوجوده، بل أسوأ من ذلك، استطاع أن يسمعهم وهم يقولون: " مسكينٌ آرماندو، لطالما بدا قوياً وبصحةٍ جيدة".
لم يكن من المسكين آرماندو إلا أن يتوقف عن الضحك، وفي الوقت نفسه، شعر بين أضلاعه باختناق مرير شبيه بشعور الحنان. غير أنه لم يستطع أبداً أن يشعر بالحزن الحقيقي، ذلك أنَّ الأنا الآخر كان قد أخذ معه كل الحزن.
لم يكن حبّه بسيطاً
وهكذا تم إلقاء القبض عليهما بتهمة الأعمال الفاحشة. لم يصدقهما أحدٌ عندما حاول كلٌّ من الرجل والمرأة أن يشرحا الأمر. في الحقيقة، لم يكن حبّهُ بسيطاً. فقد كان يعاني من فوبيا الأماكن المغلقة، أما هي كانت تعاني فوبيا الأماكن المكشوفة. لهذا السبب فقط كانا يمارسان الجنس على العتبات.
[ترجمها عن الإسبانية: جعفر العلوني]