قصائد للشَّاعر الإيطالي كورَّادو جوﭬـوني Corrado Govoni (1884-1965)
كورَّادو جوﭬـوني في سطور:
وُلِدَ في 29 تشرين الأوَّل/ أكتوبر 1884 في بلدة كوبَّارو، من عائلة موسِرة الحال تعمل في الزِّراعة، وقد عمل هو معها فلم يُتم تعليمه النِّظامي. استهلَّ نشاطه الشِّعريَّ مُبكراً جدَّاً، وذلك سنة 1903، عندما طبع على نفقته الشَّخصيَّة مجموعتيه الشِّعريَّتين "الحواجل" و"إيقاعٌ رماديٌّ وصامت" لدى دار لوماكي للنَّشر في فلورنسا؛ وغلبت على المجموعتين نبرة الحركة "الغروبيَّة". أمَّا مجموعتاه الشِّعريَّتان "ألعاب ناريَّة" 1905، و"الإخفاقات" 1907، فكانتا علامةً على بداية ميله إلى الحركة "المستقبليَّة" التي انتسب إليها لاحقاً بعد انتقاله إلى ميلانو. لكن، بالرَّغم من ظهور ملامح "المستقبليَّة" في مجموعتيه اللاحقتين، "قصائد كُهرُبيَّة" 1911، و"خلخلات" 1915، إلَّا أنَّه هو نفسُه يصف ذلك بأنَّه ليس أكثر من "تسلية". في مجموعته "افتتاح الرَّبيع" 1915، تتَّضح بجلاءٍ أكبر العلاقة بين الحواسِّ والأشياء، كما أنَّ الشَّاعر يتجاوز "الغروبيَّة" التَّقليديَّة إلى غروبيَّةٍ باطنيَّةٍ وشخصيَّة. في سنة 1919 انتقل إلى روما ليستلم، بعد الثَّورة الفاشيَّة، منصباً في وزارة الثَّقافة الشَّعبيَّة، فعمل في البداية نائباً لمدير قسم الكِتاب في الهيئة الإيطاليَّة للكتَّاب والنَّاشرين، وبعد بضع سنوات عُيِّن أميناً عامَّاً للنقابة الوطنيَّة للكتَّاب والمؤلِّفين، وعرفاناً منه بتلك المناصب التي منحتها له الفاشيَّة كتب قصيدةً في مديح "موسوليني" رغم أنَّ ابنه ألادينو (تعريباً: علاء الدِّين)، الذي كان عضواً في حركة "الرَّاية الحمراء" الشُّيوعيَّة، قُتل رمياً بالرَّصاص على يد الألمان في 24 آذار/ مارس 1944. ومن تلك المأساة وُلِدتْ مجموعته الشِّعريَّة "ألادينو" التي يصف فيها الشَّاعر ألمه وحزنه بلغةٍ قاسيةٍ وعنيفة. في السَّنوات الأخيرة من عمره أصيب بمرضٍ في عينيه انتهى به إلى ما يشبه العمى. توفِّي سنة 1965.
* * *
أخذ جوﭬـوني من دانُّونتسو برناسيَّته، كما اقتطف منه سكونيَّة الصُّورة الشِّعريَّة والأسلوب الغنائي المنمَّق، بينما أخذ من باسكولي (في مجموعة "إيقاع رمادي وصامت") حرِّيَّة الشَّكل المفتوح للسُّوناتة، مصحوبةً بنبرةٍ حزينة وبكثافةِ الصُّور المرئيَّة وحدَّة ألوانها.
لقد كان تأثُّر جوﭬـوني في بداياته بالحركة "الغروبيَّة" تأثُّراً فطريَّاً، وكما يقول الشَّاعر والنَّاقد الإيطالي سرجيو سولمي، فإنَّ النَّهج "الغروبيَّ" لديه يبقى "بسيطاً على نحوٍ فائق" وسابقاً لأوانه. يسجِّل جوﭬـوني عِبرَ قصائده ذلك التَّنوُّع اللامتناهي في ألوان العالَم بفرحٍ طفوليٍّ، وكما كتب مونتالِه مرَّةً، فإنَّ شعرَه يعبِّر عن ضرورة تحويل ظواهر الواقع إلى "ميراثٍ خياليٍّ خاص". من هنا فإنَّ قصيدة جوﭬـوني تقف، بحيويَّة ألوانها، نقيضاً لرماديَّةِ "الغروبيِّين" النَّموذجيِّين، مثل سرجيو كوراتسيني ومارينو مورِتِّي، وتشكِّل قاسماً مشتركاً بين (جوﭬـوني ما قبل "المستقبليَّة") و(جوﭬـوني "المستقبليَّة").
من ناحيةٍ أخرى، لم تُبعد التَّجربة "المستقبليَّة" جوﭬـوني عن "انطباعيَّته التَّصويريَّة"، بل إنَّها لحمتْ قوَّة الصُّورة الموهمة بالتَّناقض لديه بقوَّة العبارة الموهمة بالصحَّة. ولقد بقيت في شعره فُضالةٌ واضحة من سمات "الدَّانونتسانيَّة" و"الزُّخرفيَّة" و"الغروبيَّة"، فهو إذ يحتفي في شعره بديناميكيَّةِ الحياة العصريَّة يبقى في الواقع خارج أحداث التَّاريخ بفضل قدرته على تطعيم تلك الحداثة العفويَّة لديه بما يمتلكه من حساسيَّةٍ شعريَّة ريفيَّةِ الطَّابع.
بعد المرحلة "المستقبليَّة" بقي جوﭬـوني وفيَّاً لقصيدته الثَّريَّة بالصُّور النَّضِرة والوجدانيَّة، حتَّى في أثناء بحثه عن المعاني الجوهريَّة الكبرى، كما في "ألادينو" 1946، و"ابتهالٌ إلى زهرة النَّفَل" 1953، و"دليلٌ أبجديٌّ للرَّبيع" 1958، و"حرَّاسُ الليل" التي صدرت سنة 1966 بعد رحيله.
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "الحواجل" 1903]
مَديحٌ (إلى جولي)
لَأمجِّدنَّ يدكِ النَّاعمة
كتويجِ زهرةِ ماغنوليا أبيض،
كزهرةِ غردينيا واهنةٍ
تفقدُ عطرَ فتنتِها العليلة؛
لَأمجِّدنَّ فمَكِ الفاقدَ دمَه
كزهرةٍ حاسمة، كورقةِ خريفٍ
كامدة، كنبعٍ هادئٍ يهيجُ
في صمتٍ ملائكيٍّ فاتر؛
لَأمجِّدنَّ شعرَكِ، إبرَه الدَّقيقة
التي من عمبرٍ شرقي: شعرَكِ الطَّويلَ
النَّقيَّ كشعرِ قدِّيسةٍ بيزنطيَّة؛
ولَأمجِّدنَّ عينيكِ، الذَّاويتين كأخبيةِ
أرطاسيا سماويَّة: عينيكِ
الصَّابرتين كعينَي ساروفيمٍ مَيْتٍ.
*
ذهبٌ وبنفسج
هذي الدَّارة كانت مِن قبلُ
ملتقى النَّبيلاتِ والفرسان المغازلين،
نبيلاتٍ شقراواتٍ، بشاماتٍ شُقرٍ،
وشعراءَ ملوكٍ بلا مملكة.
لم تعدْ كذلك. لم يبق للأماكن
أيُّ أثرٍ من الماضي، كأنَّها
جواهرُ بُعثِرتْ، أو حِقاقُ قربانٍ ذهبيَّةٌ
جفَّت: لا أثر يستحقُّ الذِّكر.
في جرارِ الخزفِ يلفظ
الوردُ المهجورُ أنفاسَه، ونرجسٌ
وحشيٌّ يطلع في الأصْوِنة.
الشَّفق يبسط خيوطَه
فوق القصر وحديقته الموصَدة،
والماءُ في أغواره يستكين.
* * *
[من مجموعة "إيقاعٌ رماديٌّ وصامت" 1903]
الشَّمسُ تموت عندَ الأفق
الشَّمس تموت عندَ الأفق
كزهرة أضاليا صفراء؛
وبين البصماتِ الهامدة على بلَّور
نافذتي، تتصلَّب فراشة.
أجراسُ الأديرة الكرمليَّة
تتلهَّى بتوشياتها؛
ومن أحواض الخزف تتساقط
زهورٌ ذاوية.
تنميشات الأسقف
تتماهى مع تنميش الواجهات.
الطُّيور تنسحبُ إلى أعشاشها.
المساء يسدل ستائره.
البيوت المستغرقة الفِكر
تسدُّ آذانها؛
تطلق الميموسا أزهارَها
داخلَ بيوت المرايا.
*
في ردهةِ ديرٍ
يا لِهذي السَّكينة، داخل الرَّدهة!
يا لِبساطة الأثاث!
معلَّقٌ على الحائط صليبٌ من العاج.
وفي إناء خزفٍ تفتَّحتْ زنبقة.
ثلاث كَرَاسٍ، في القاعةِ الشَّاحبة
تسند ظهورَها إلى الحائط.
الشَّمس، والجةً عِبرَ السِّتارة،
ترسم على الخشب قطعاً نقديَّة.
رسمٌ طباشيريٌّ لِراهبةٍ،
ماتت فتيَّةً، يُشيع الحزنَ.
ذهبُ الإطار يتقشَّر.
الفم الورديُّ يذوي.
الغبارُ على البلاط
يتكوَّم، يوماً بعدَ يوم.
الكراسي تنتظرُ
سُدىً. المزلاجُ يصدأ.
ذلك أنَّ البابَ
لم يعُد يُفتَح؛ فالرَّاهباتُ
كلُّهنَّ جاوزن الثَّمانين،
وليس في الدَّير زهرة؛
خلا زنبقةِ الطُّهْرِ هذه،
إذ هي مكبَّلةٌ الآنَ
داخل دوَّامةِ القدَرِ الوحشيِّ،
دوَّامةِ الذُّبول.
* * *
[من مجموعة "ألعابٌ ناريَّة" 1905]
غروبٌ في فِرَّارا
الهرُّ يتمطَّى عندَ النَّافذة
متثائباً من وراء بلَّورٍ دَمعيٍّ(1).
في إناء الصَّلصال المطحلَب
يبرِّدُ الغرنوقيُّ(2) زهرَه الليلكي.
ستارةُ الغرفةِ تنشرُ
ورودَها التي من موسلينٍ ناعم.
الصُّور التي تحضن قصصاً كثيرة
تؤلِّف مروحةَ ذكريات.
في سكون المرآة المزخرفة
الضِّياءُ كأنَّه سفينةٌ غارقة.
على سقف كنيسةٍ صغيرة،
فوق ساريةٍ، رايةٌ مِن الصَّفيح(3)
تهزُّ جناحيها، كطائرٍ
علقتْ قدماه في شرَك.
عالياً، فوق قلاعِ المدينةِ،
تتواثبُ رياحٌ شماليَّةٌ ساحرة.
السُّنونو يهسهسُ في الأعشاش.
وجندبٌ، في الحقلِ، يرسلُ صريرَه.
السَّماء بحبالِها الذَّهبيَّة
تكبِّلُ الأرضَ، كحشرةٍ مغنِّية.
داخلَ المرآة، وسط زبدٍ أصفر،
يطفو مرجانُ الضِّياء.
الحزن يتَّكئ على سِنادِ مِقعد،
فيما الكنائسُ تهدهدُ بأجراسِها المساء.
*
تطريزُ الهُنيهات
لكلِّ شيءٍ لونه العذب
المصطلَح عليه؛
الجمرة، في الموقد، هي القلبُ
الذي ينشرُ في الغرفة لهبَه.
في بلَّور النَّوافذ، تصنع السَّماء
من ليلكِها الشَّفقيِّ فِصحاً:
قصرٌ هناكَ يأخذ شكلَه المثاليَّ،
كحلمٍ ينطبعُ في الحدقة.
كلابُ الصَّيدِ على الزَّرابيِّ الفارهة
تدركُ الخنازيرَ البرِّيَّة بصمتٍ.
الحريرُ الدِّمشقيُّ النَّاصعُ على الجدران المقعَّرة
مقبرةٌ للوحاتٍ بيضويَّة.
وردةٌ، في إناء، تتصنَّعُ
شمَمَ ملكةٍ إسبانيَّة؛
الجمرةُ، بجذوتِها النَّزقة، تتمتمُ لرقوشِ
أبي هولٍ حجريٍّ مجنَّحٍ بخرافةٍ من خرافاتها.
المائدة المستديرة تنعكس بتموُّجٍ
على الجدار، مضاعفةً، في هيئةِ نافورةٍ بكماء؛
وجرَّة الزَّنبق البضِّ في وسطِها
كأنَّها تفجُّرٌ صامتٌ لماءٍ طويلِ الأمد.
العشيَّة، بأهدابِ ثوبها، تهوِّي
غرفتي بعطورٍ مهيِّجة.
النُّعاسُ، هذا المغوي كامرأة،
يشدُّني إلى بهاءاته الفخمة.
*
مرآةُ السَّبت
كلُّ أملٍ كان مفقوداً، عندما
أطلقَ بحَّارٌ صيحةً مجنونة:
- اليابسة! إنَّها اليابسة - فإذا بالكلِّ
يهتف واثباً: عندَ الأفق
شاطئُ الأحدِ، قرينُ العطلة،
يمدُّ ذراعَي مرساه الوديع.
البحَّارة يغنُّون. على الماء الاحتفاليِّ
تتراقص طيور الرَّفراف، والأشرعة الوسطى
تفتح قلوبها المترعة بالعاصفة.
في أصْوِنةِ الصَّخر تنفض
النَّواقيسُ مع الغبارِ الدَّيريِّ
إزارَها الدُّومنيكانيَّ.
إنَّه السَّبت: أبلُغُ بحراً ذا مضيق.
إنَّه السَّبت: يومُ التَّأهُّبات،
بابٌ إلى المتاهةِ الأسبوعيَّة.
يومٌ معتلٌّ يبدو لا أكثرَ من
بشارة، يومٌ كأنَّه
اليومُ الذي يسبق المناولة الأولى(4)، أو
لكأنَّه سبع لؤلؤاتٍ في محارة.
* * *
[من مجموعة "الإخفاقات" 1907]
في الشَّمس
أوه، اتركوني جالساً هنا عندَ الحائط، في الشَّمس!
أريد أن أتلذَّذ بشمس الرَّبيع
ههنا عندَ الحائط، كمثل متسوِّل،
ههنا في الشَّمس، مثلَ ديوجينيس(5)،
ههنا مثلَ علجوم،
كأنَّه بوذا صغيرٌ مصابٌ بالاستسقاء،
ههنا على الحجارة الرَّماديَّة،
كمثل وزغةٍ خضراء.
أريد أن أتلذَّذ بهذه الشَّمس الفاترة.
ما قيمة آلامي كلِّها؟
ما قيمة كلِّ المرارات؟
ألا ترون أنَّني قابعٌ في الشَّمس
كما لو على عرشٍ مِن ذهب؟
ألا ترون أنَّ الشَّمس
كلَّلتني بتاجٍ من ذهب؟
من ذهبٍ يكون كلُّ خيط عشبٍ مَهين،
ومن ذهبٍ يكون التِّبن،
وأسمال المتسوِّل تكون طيلساناً من ذهب،
وأقنعةً مِن ذهبٍ يضع المرضى،
عندما تشرقين أنتِ، أيَّتها الشَّمس.
أوه أيَّتها الشَّمس، يا متوِّجةَ العالَم!
*
حيث تكون الأزهار على ما يُرام
بخورُ مريم، في أفنية الأديرة المرمريَّة.
الأرطاسيا، في الأديرة القرتوسيَّة(6) الحمراء.
الأقحوان، في المروج.
البنفسج، بين الأوراق اليابسة على طولِ الوِهاد.
الخبَّازى، في أواني الفقراء، على النَّوافذ.
الدِّفلى، في أروقة الأثرياء.
الوردُ، في جُنيناتِ الأرياف.
مسكُ الرُّوم، في حدائق الكلِّيَّات.
الأنقولية، في باحات القصور العتيقة.
اللوطس، تحت الجسور، كفتياتٍ ناصعاتٍ يغسلن.
دعسةُ الأسد، قرب أعشاش النُّسور.
المدَّادُ الختميُّ، عند أسيجةِ المسالك.
الوِستارية، عندَ الأطلال.
اللبلاب، كمثل زخرفةٍ خضراء حول الشَّجر المعمَّر.
الزَّنبق، على المذابح وفي المواكب.
الأوركيد، شبيهُ إخفاقاتي، في الكؤوس.
الأزالية، في الكنائس البروتستانتيَّة.
الكاميليا، في أحواض الخزفِ على الأدراج.
النَّرجس، أمام المرايا.
القرنفل الأحمر، في أفواه العشَّاق.
زهرة الذَّهب، على القبور وعلى الموائد.
البنفسج البريُّ، كعيونٍ فضوليَّةٍ على النَّوافذ.
الخشخاش المنثور، في حقول الحنطة.
الشَّبُّ الوسيم(7)، بأزهارِه الإبطيَّة
التي تشبه مهرِّجاً، في جُنيناتِ العوانس.
المنثور، على طول مسالك النُّزهات.
المخلَّدة، في غرف المرضى أمام أيقونات القدِّيسين.
الياسمين، على نوافذ المصحَّات.
الفطرُ، في الأحراج الرَّطبة
في خشب التَّسقيفاتِ المتعفِّن
وفي روحي أنا.
* * *
[من مجموعة "قصائد كُهرُبيَّة" 1911]
كلُّه يمرُّ في دربٍ واحدة
يمرُّ، متأبِّطاً ضمَّةَ حطبٍ صغيرة،
كنَّاسُ المداخن الفقير، مُسودَّاً بالكامل،
يُلقي بنداءاتِه الثَّاقبة والحزينة،
المترعة بالحنين، نداءاتٍ تذكِّرُ
بليلة ميلادٍ بين التِّلال،
وبأشياء جمَّة بيضاءَ ومهجورة؛
يمرُّ الفيلسوفُ جامعُ الأسمال،
الذي يتوقَّف لينبشَ عنها بعصاه
تلك القمامةَ، المكوَّمةَ
على جوانب المنازل؛
تمرُّ بائعة وقيد الشَّمع الفقيرة، متلفِّعةً
بأسمالها!، راجفةً من البرد ومعها
من النَّار
ما يحرق المدينة برمَّتها؛
يمرُّ المتسوِّلون من أهل القرى،
حاملين السِّلالَ وعِصِيَّ المُضاض(8)
ليقفوا على العتبة بعد العتبة
يستجدون الصَّدقات؛
تمرُّ جموعُ الأورسلينات(9) الرَّماديَّة،
يتنزَّهن عندَ الأسوار
في ظهيرةِ الأحد،
والجموع السَّوداءُ لطلبةِ اللاهوت،
مجنَّدي الفردوس،
وقد انتثروا بين الأشجار اللامتمدِّنة،
مثلَ غربانٍ ترعى؛
تمرُّ أزواجُ عشَّاقٍ ساهمين،
تمرُّ أزواجُ عرسانٍ شاحبين،
يمرُّ الشُّيوخ الواهنون،
يمرُّ الجنودُ المرتابون،
والموتى البائسون
الماضون إلى مثواهم الأخير؛
يمرُّ جوَّابو الآفاق
بحمائلهم من عزيفِ موسيقى
لا تصلح إلَّا للبكاء،
وأراغنُ باربييري(10)
التي تضحك وتبكي لِقاءَ حفنةٍ من المال
كما يفعل المهرِّجون؛
يمرُّ حجَّاجٌ غرباء محنيُّو الظُّهور
يتوقَّفون هنيهةً ليسألوا
عن الطَّريق إلى روما.
*
شيءٌ ما ولَّى
لم تكن هي السُّنونوات الأثيرة
ما ولَّى
دون أن يقول وداعاً؛
لم تكن هي الأوراق البائسة
ما اسَّاقطَ على التُّراب منزوفاً
دونما حسرة.
الخواء، أحسُّه في قلبي:
خواءٌ ناقمٌ، مرٌّ،
كقطعة أثاثٍ بالكاد تلحظُها العين
وكان لها من قبلُ
حضورٌ رقيقٌ ومستعذَب.
أحسُّ في روحي حزناً مبهماً،
كمن يصلُ في نهاية حفل،
أو كمن، مائلاً على الدَّرابزين،
يواكبُ مساءَ الأحدِ
في هبوطه، آنَ ينقلبُ
حبورُ الأجراسِ كرْباً
فيما لون الشَّفق الورديُّ باقٍ ما يزال؛
كمن يصلُ حيث حلمَ
أن يصل، وفي قلبه
حسرةٌ على ما تركَ وراءَه.
شيءٌ ما عذبٌ ولَّى،
ولن يعودَ أبداً.
ما هو؟ ما هو؟
أهو ذلك الصَّوت الفائق الغضارة
الذي، ذات عهدٍ بعيد،
وشوشني بأعذبِ كلماتِ الحب؟
أم ذانك البؤبؤان سماويَّا الزُّرقة،
المكنونان في سرِّهما،
مثلَ بنفسجتين ذاويتين
في كأسِ ماء؟
أهو ذلك الرَّجعُ الرَّعَّاشُ لألحان كمانٍ
كان يعزفها، في بعضِ
مساءاتٍ خريفيَّةٍ، طفلٌ؟
أم ذلك المشهد الرَّائق لجبالٍ كانت،
في بعض مغيباتٍ واهنة،
تبدو كأجراسٍ زُرقٍ تعزفُ
السَّلامَ المريميَّ المقدَّس؟
أهو ذلك الحزن الأثير،
المكروع على جرعاتٍ
كمشروبٍ روحيٍّ نفيس؟
أم هو نهرٌ، تجلَّى فجأةً،
فيروزيَّاً وهادئاً،
كأنَّه يجري إلى الفردوس؟
أم تُراه نسمةٌ تصعد
عالياً، فأعلى، ثمَّ أعلى؟
لا أعرف: لكنَّ شيئاً ما ولَّى
من قلبي: شيئاً ما
لن يعود أبداً مرَّةً أخرى.
* * *
[من مجموعة "افتتاحُ الرَّبيع" 1915]
ربيعُ البحر
للبحر أيضاً ربيعُه:
سنونواتٌ في الفجر، وقطاربُ في المساء.
للبحر مروجُه الرَّائعة
التي من وردٍ ومن بنفسج،
هناك، حيث كائنٌ لامرئيٌّ يحشُّ
ويكوِّمُ ركاماً على ركامٍ
تبنَ غيمٍ غريض.
تيَّاراته تضيع
مثلما تضيع دروبٌ شاحبة
بين مصدَّات الرِّياح،
فكأنَّما يجيء منها، مع المطر،
عبقٌ مرٌّ
كعبق زعرورٍ مزهرٍ.
ويقيناً، في الوادي الأكثر بعداً،
ثمَّة راعٍ صبورٌ يجزُّ
قطيعَ موجه اللامتناهي،
فيهطلُ زبداً على الشَّاطئ
صوفٌ وفير.
أخضرُ كابٍ وأخضرُ زرُّوديٌّ، كقوس قزحٍ
برَّاقٍ خفيفٍ وملطِّف؛
منسجمٌ مع السَّماء
المبهمةِ المهوَّاةِ المجوَّفةِ المتمرئية،
كما ينسجمُ البلَّورُ مع الوردة،
طافحٌ بجفاءاتٍ وبكآباتٍ مُباغتة،
تماماً كالحبِّ الأوَّل.
هكذا هو بضٌّ وأزرق
حتَّى لكأنَّ صفاءَه
يشفُّ عن
غاباته الصَّامتة المغمورة
المكبَّلة بطحالب ثعبانيَّة:
بلبلابٍ معدومِ الورق؛
والمغزوَّة بانزلاقاتٍ باردة
لأسماكِ خزفٍ وأسماكِ فضَّة،
مجنَّحةٍ كطيورٍ خُرْسٍ،
وسط مرجانٍ متحجِّر:
كأنَّه شجر درَّاقٍ دائمُ الإزهار.
سنونواتٌ ثابتةٌ ثاوية، هي المحارات.
وقطاربُ هائلةٌ هامدة، هي الحبَّارات،
وكذا المصابيحُ الصُّمُّ
لغوَّاصين غرقى،
ومشكاواتُ الموشكين على الغرق.
قاربٌ، بشراعٍ مترامٍ،
يبدو مثل متسوِّلٍ
واقفٍ على قارعةِ طريقٍ تحت مظلَّة،
بانتظارِ أن ينقطعَ المطر.
*
عاشقان
قزمٌ خرافيٌّ يقطِّرُ قطرةً قطرة،
داخلَ زهرةٍ شفَّافةٍ على هيئةِ مِحقن،
(معلِّقاً على حزامه مشكاةً
من حديدٍ مُطرَّق-
مشكاةً حُباحباً،
يتحجَّرُ فيها بريقٌ أخضر)- يقطِّرُ
نوراً قمريَّاً قديماً قِدَمَ الأزل:
يتجرَّعه هناك،
فوق مصطبةٍ رخاميَّةٍ عندَ شاطئ البحر،
بالتذاذٍ ونهمٍ، أوَّلُ
عاشقَين،
مِن كأس قبلةٍ طويلةٍ ومضاعَفة.
*
بين الشِّعر والواقع
نفسي كمثلِ ذلك العندليب،
الذي يغنِّي ويغنِّي على شجرة زعرورٍ
مزهرة، منتشياً بغنائه،
كأنَّه مأخوذٌ بدوَّامةِ حلمٍ
كأنَّه فريسة جمالٍ خبيث؛
غيرَ فطنٍ لذلك الذي، من تحت السِّياج،
يحدِّق فيه ويستميلُه، بعينيه الرَّخوتين،
العلجومِ الوسِخِ فاغراً فماً فيهِ
ستندثرُ عمَّا قليلٍ أغنيةٌ ومعها حُلُم.
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]
الحواشي كما وضعها المترجم:
1- أيْ بلَّور محبَّب، مرصَّع بحبوب صغيرة تشبه الدُّموع.
2- نبات مزهر، يُعرَف أيضاً بإبرة الرَّاعي.
3- مؤشِّرٌ يدلُّ على اتِّجاه الرِّياح.
4- أوَّل قربانة أو المناولة الأولى، طقسٌ من طقوس الكنيسة الكاثوليكيَّة يُمنَح بموجبه الأطفال الذين بلغوا الثَّامنة سرَّ التَّناول الذي يقابله سرُّ الإفخارستيا في الكنيسة الأرثوذكسيَّة مترافقاً مع سرِّ العماد.
5- فيلسوف يوناني من أبرز ممثِّلي المدرسة الكلبيَّة، قال عنه الشَّهرستاني صاحب "الملل والنحل": "كان حكيماً فاضلاً متقشِّفاً لا يقتني شيئاً ولا يأوي إلى منزل".
6- إحدى الرَّهبنات الكاثوليكيَّة أسَّسها القدِّيس برونو سنة 1804م.
7- من جنس Calliandra، وهي غير نبتة "الشب الظَّريف"، وغير نبتتي "شب الليل" و"شب النَّهار".
8- المُضاض نبات من الفصيلة الحرابيَّة Celastraceae.
9- نسبةً إلى القدِّيسة أورسولا التي تأسَّست باسمها رهبنةٌ كاثوليكيَّة تهتمُّ بتعليم الفتيات وبالعناية بالمرضى والمحتاجين.
10- نسبةً إلى مبتكر هذه الآلة الموسيقيَّة جوفانِّي باربييري الذي ابتكرها سنة 1702م.