الشاعر يحيى لبابيدي Yahia Lababidi
في فضاء التواصل الاجتماعي تعرّفتُ على الشاعر الأميركي من أصل عربي يحيى لبابيدي، وتعقبت أخباره. ونشأت بيني وبينه بداية صداقة دفعتني إلى قراءته والتعرف عليه أكثر، فهو شاعر عابر للحدود واللغات، ما تزال تصرخ في دمه لغة الأجداد بأصوات شعرائها ومتصوفيها ومشاهدها التي تنجبل مع مؤثرات أخرى وحساسيات مختلفة في أفق لغة شعرية يفتتحه باللغة الإنكليزية.
يحيى لبابيدي ليس مجرد شاعر ينشد رؤيته للعالم منطلقاً من رؤى ذاتية ونبرة غنائية، أو يعقّد تفاصيله بمطولات سردية تخلو من السحر والإيحاء وتنوء بالإحالات المرجعية، ليس شاعر مقاطع قصيرة تخلو من التكثيف، أو أكوام لغوية تخلو من روح الشعر، بل إنه شاعر الدلالات العميقة، يجمع بين الشعر والفكر، “بين الوردة وعطرها”، كما عبّر الشاعر أدونيس حين تحدث عن العلاقة بين الشعر والفكر.
يصدر يحيى لبابيدي عن خلفية شعرية مطعّمة بالفلسفة والتصوف، ساعدته على استكناه الأبعاد الغامضة للأشياء. وكما ينظر إلى الأشياء بعين جديدة، ينظر أيضاً إلى اللغة، فاللغة في النهاية هي كل شيء، وطريقة استخدامها، شعرياً، هي المهمة، وهكذا علينا أن نصارع كي نحصل على الكلمات، علينا أن نهيئها في مصهر الشعر الداخلي، قبل أن نطلقها على الورق، كي تتوهج هناك وتضيء للقارئ، أو تولّد لديه المتعة، أو تحدث كشفاً.
يرى لبابيدي أن هناك قاسماً مشتركاً بين الفيلسوف والشاعر، فكلاهما يصارع كي يبني جسراً بين عالمين، عالم المرئي وعالم اللامرئي، وهنا تصبح الكتابة، بحسب كافكا، ضرب من الصلاة، كي يتكشف المجهول ويتخبط في شباك اللغة، لكن هذا النوع من التصوف، لا يغرق في العوالم الماورائية، بل هل هو في قلب الواقع، حيث تنبض إيقاعات العالم في النص.
ألّف لبابيدي ستة كتب في أربعة أجناس. كتابه الأخير هو “أفعال موازِنة: قصائد جديدة ومختارة (١٩٩٣-٢٠١٥)، وقد تُرجمت أعماله إلى العربية والسلوفاكية والأسبانية والفرنسية والإيطالية والهولندية والألمانية والسويدية وغيرها.
وُلد يحيى لبابيدي سنة ١٩٧٣”، وهو من أصل لبناني ومصري. وقد اختارت جريدة الاندبندت البريطانية ديوانه “علائم لاتجاه آخر” (٢٠٠٦) كأفضل كتاب لعام ٢٠٠٨، كما حقق كتابه الجديد “أفعال موازنة: قصائدة جديدة ومختارة” المرتبة الأولى في المبيعات في “أمازون” لهذا العام.
ينشر لبابيدي المقالات والقصائد في أهم المجلات الأميركية والعالمية، وصدر له: “علائم نحو مكان آخر”، “محاكمة بالحبر: من نيتشه إلى الرقص الشرقي” (مقالات)، “أحلام الحمّى” (قصائد) و “الفنان متصوفاً” (أحاديث). كما رُشِّح لجوائز أدبية مرموقة كجائزة بوشكارت.
****
القاهرة
دفنتُ وجهكِ في مكانٍ ما،
إلى جانب الطريق الجديد
كي لا أدعسَ عليه
كلَّ صباح، أو أثناء نزهاتي المسائية.
لكنني ما أزال مشدوداً بشكل لا يُقاوم
إلى مشهد هذه الجريمة
خشية نسيان
الأشياء التي تصنع روعتك
هناك أيضاً المطر
الذي يُخْصبُ التربة
كي يكشف سمةً ساحرة
تجيش بالعاطفة
ربما عيناً، ربما خداً هادئاً
شاحباً أو رقيقاً، فماً
ملتوياً من التقريع أو
شفتين مزمومتين في ابتسامة خالدة.
في أوقاتٍ أخرى يكتنفكِ الغموض
ويسوء الأمر حين أبدو كأنني أفقدك
حاكّاً الأرض كما أحكّ جرباً،
مسعوراً ووفيّاً ككلب.
*****
القلوب
ينبغي ألا نتلاعب بالقلوب،
لا أحد يمكنه معرفة
ما تستطيع فعله
أو ما يمكن أن يصيرَ عليه حالُها.
كيف تنزلقُ،
تُمارسُ النسيان والتطهير،
مقدمةً المتعة ممتزجةً بالألم،
كأعباء متبدلة للذاكرة.
أو كيف تُصبح متقلّبةً ومتوحشةً،
مجروحةً تتحول إلى جارح،
من أجل أن تواصلَ الحياةَ
ممارِسةً الخيانة في الخنادق
حتى أن أصحابها
ومالكيها، ووسطاءها أو محطميها
يصبحون جاهلين لها،
وما بدأ كخداع
يبرهن أنه خداع ذاتي
للقلب خياناته
التي يجهلها العقلُ:
لماذا يجب أن يخدع ويكذب ويموت
كي يكون له حظُّ أوفر في الانبعاث فحسب؟
*****
الكلمات
الكلمات كالأيام:
كتبُ تلوينٍ أو نشّالون،
علامات إرشادٍ، أو أعمدةُ خَدْشٍ
فقراء يتحلقون حول جمار متقدة.
ثمة كلماتٌ معيّنة يجب أن تُكتسب
تماماً كما تُعانَى العواطف
قبل أن يصبح من الممكن نطقها،
نظيفة كوعدٍ محفوظ.
الكلمات شهودٌ
يدلون بشهاداتهم
الحقيرة أو السامية
التي لا مفرَّ منها، وغير القابلة للدحض.
لكن الكلمات ينبغي ألا تُحمَّل
أكثر من طاقتها
هذا ليس جيداً لمظهرها
أو سمعتها.
لأنه سواء رقصتْ وحيدة
أو مع شريكٍ لامرئيٍّ
كل كلمة كون
يذيب كلَّ ما هو أخرسٌ.
*****
فنّ ركوب العاصفة
لم أستطع فكَّ شفرة اللغز الحيّ لجسدي،
أن أنوّمه حين يجوع وأتخمه
حين يحلم.
كدت أختنق من اللسان المتشعّب لروحي
بين الواقعي والمثالي أرفض واحداً ويرفضني الآخر.
لم أتقن بعد فنّ ركوب العاصفة ذاك،
دون آذان كي أتنبّه للرياح الزائرة
أو أعينٍ كي أنتبه للأمواج المتدحرجة
دوماً يباغتني الطقس، وتربكني
الخرائط والبوصلة والنجوم، الجهاز الكامل
للاتجاهات أو إشارات التحذير،
متمسكاً بقطع الخشب الطافية، بعينين مطبقتين، أرتجف
آملاً أن الليلة المخلّعة المفاصل ستمرُّ وأتذكر
كيف مرةً وقيتُ لسان لهبي.
*****
بماذا تحلم الحيوانات؟
هل تحلم بحيواتٍ ماضية، وأحلام لم تُعَش،
إنسانيةٍ بشكل لا يمكن التعبير عنه، أو وحشيةٍ بشكل لا يمكن تخيله؟
هل تُصارعُ كي تُمسك في سباتها
ما هو زلقٌ جداً لأصابع النهار؟
هل هناك علاماتٌ ليليّةٌ حاذقة
لإضاءة ساعاتها غير الحلمية؟
أهي مسكونةٌ بأطياف الندم؟
هل تزور موتاها في امتنانٍ خَدِرٍ؟
أم تعاود جرائمُها زيارتَها
منسوخة في لغة غامضة محيّرة؟
هل تتعقّب من جديد مخطّطَ جراحها
أم تحلم بالتحوّل؟
هل تشدُّ على العقد العنيدة
لحالات شوق مبهمةٍ، ومساعٍ معرقلة؟
هل ثمة هيجانات وجيشانات أو عصيانات
ضدّ ذواتها المدركة أو مصيرها؟
هل هي متحرّرة من نقاط قوةٍ وضعفٍ خاصة
بالحصان، الأيل، الطائر، العنزة، الثعبان، الحمل، أو الأسد؟
هل يمكن ألا تكون حيواناً أو بشراً
بل مجرد مخلوقات وكائنات؟
هل لديها لحظات مقدسة من الفهم
في جوهر كينونتها نفسه؟
هل تجرّب وجودها بشكل أكثر امتلاء
مرتاحة من عبء اليقظة؟
هل تشتبه، مع الشعراء، بأن كلّ ما نراه أو يبدو
هو مجرّد حلم داخل حلم؟
أو هو مجرّد موت صغير
طعم خفيف من العدم يتجمّع في أفواهها؟
*****
مفكرة
الأفكار تتردّد
في مغادرة الكهف
شاعرةً بوجود كمين.
*****
منذ
منذ أن فقدتُ صمتي
فقدتُ صوتي....
أبيع عملة أبدية
في سوق الحياة الصاخب
تقفز أنشودة غير قابلة للكبح
وتُخْنق غير مغناة.
*****
ألوان
الأخضرُ لونُ الأمل العنيد
الأبيض لون ما يؤمل نسيانه
الأصفر لونُ الإلهام
الرماديُّ لون المصالحة
الأزرقُ لون معاناة مقموعة
البنيُّ لون كل ما حولنا.
*****
صور فوتوغرافية
باقةُ توقعات:
أشكالٌ متجمّعةٌ ومعلقةٌ مع بعضها
كحزمةٍ من الأزهار الجميلة
موضوعة في أصيص خيالي
ترغب بإمساك ما ليس لها،
أن توقف قلب الزمن الخافق أو تسرق
إطاراً من فيلم ما يزال يُحَمَّض
صانعةً الوجوه في مرآة ذات وجهين
تحدق بتعجب إلى المستقبل
إلى ذكرياتها المتحجرة
تتدفق محتشدة من خارج قلب الألبوم
وتتبخّر كأحلام حية
دون دعوةٍ، كفواقات الذهن، تصعد
تلك الذكريات العاطفية المتجمدة
سواء كانت مخبأة بحذر في خزانة أدراج
أو عُثر عليها ي لحظات غير محروسة
تحافظ على ما لم يعد موجوداً:
على قصص حب ضاعت، على أوهام أو ذوات
تملأنا بدهشة خرساء أو ألم بليد
هل كان هذا حقاً أنا وما صار إليه حالي؟
*****
بزوغ
تمرُّ ساعاتٌ يصرُّ فيها كلُّ شيء
تمدُّ الكراسي أذرعها، والطاولات سيقانها
تُطقطق الخزانات ظهرها، دون حذر
ضجرةً من اضطرارها
للبقاء في مكان واحد
والتمسك بمحطاتها
وهكذا هم البشر، في العمل، أو الحب
يعرفون أوجاعاً كهذه، وآلاماً متنامية
حين يتبدل الأثاث الداخليّ بتحدٍّ
بحسمٍ، بصورة مبهمة، كقارة،
كشيءٍ ما سيُمنح أو يموت أو يفشل
كي يُعاد النظر بكل شيء آخر.
في فجرٍ مضطربٍ، غير قادرٍ على كبح
شهوة السفر والتجوال، ثمة باب ثقيل مفتوح جزئياً
بشكل شبه متعمد، وضوء جديد يتسلل
وفي الداخل قطعةٌ جامدة ستغادر في النهاية
وتدبّ فجأة برشاقة على أعضاء خشبية
سريعة كحصانٍ هارب من الاصطبل.
[ترجمها إلى العربية: أسامة إسبر]