فندق فخم من فئة 5 نجوم، ومركز تجاري ضخم يكلّف عشرات ملايين الدولارات، ومشاريع إسكانية
متعددة تنتظرها مدينة القدس الشرقية الآن. مشاريع انطلقت وأُخرى في طور التمهيد، اتُّخذت جميعاً بعد قرار صندوق الاستثمار الفلسطيني الاستراتيجي للاستثمار في المدينة المحتلة. وفي مدينة تنام وتصحو على أصوات جنازير جرافات إسرائيلية تهدم منازل فلسطينية، وتمهد لإقامة وحدات سكنية استيطانية، فإن مشاريع كهذه تبدو متواضعة، غير أن رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني، محمد مصطفى، يقول في حديث خاص إنها مجرد بداية.
ويضيف مصطفى الذي أمضى أياماً طويلة في زيارات للقدس تضمنت اجتماعات مع مسؤولين فيها: "إن جهات فلسطينية أخذت قراراً استراتيجياً للاستثمار في المدينة، وهذا ما يؤكده حجم الاستثمار المتزايد وتنوعه على الرغم من المخاطر، لكننا نعتقد أنها مخاطر محسوبة، فنحن نعمل من أجل مصلحة أهلنا في القدس، وهدفنا ليس سياسياً بالضرورة، لكننا نعمل من أجل حياة أفضل لمواطني المدينة، ومن أجل عروبة القدس ودعم أهلنا الصامدين فيها."
ويأتي هذا في الوقت الذي تتكثف مساعي الحكومة الإسرائيلية للسيطرة على المدينة، فجمعية "عير عاميم" ("مدينة لشعبين") الإسرائيلية الحقوقية تقول إن السلطات الإسرائيلية هدمت 111 منزلاً في مدينة القدس منذ بداية العام الجاري حتى نهاية تموز / يوليو، لافتة إلى أن هذا العدد يفوق كثيراً عدد المنازل التي جرى هدمها في المدينة طوال سنة 2015، والتي بلغ عددها 74 منزلاً. وبموازاة ذلك، فقد تبنّت الحكومة الإسرائيلية، خلال تموز / يوليو، مخططات لبناء أكثر من 1500 وحدة استيطانية قبل إعلان تسويق 323 وحدة استيطانية جديدة، وتركزت هذه المخططات في مستعمرات بسغات زئيف، والنبي يعقوب، وراموت، ورامات شلومو في شمالي المدينة، وغيلو، وهار حوماه في جنوبي المدينة.
وتقول "عير عاميم": "إذا نظرنا إلى المخططات الاستيطانية على أرض الواقع في جنوبي المدينة، نجد أنها تهدف إلى فصل القدس الشرقية من ناحيتها الجنوبية عن الضفة الغربية."
وفيما لا يقل عن هذا الأمر خطورة، قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان لها: "إن مستوطنة غيلو هي حي سكني في القدس سيكون جزءاً من إسرائيل في أي تسوية سلام محتملة"، وذلك رداً على انتقادات دولية، بما فيها أميركية، لمخططات بناء استيطانية إسرائيلية أشارت إلى غيلو باعتبارها مستوطنة. وأضافت وزارة الخارجية أن "الادعاءات بأن البناء في غيلو يقوّض الحل القائم على أساس دولتين لشعبين، لا أساس له من الصحة."
لكن وسط هذه العتمة الإسرائيلية يقدّم مصطفى بصيص أمل إلى سكان القدس الشرقية من خلال كشفه، ولأول مرة، عن مشاريع في أربعة قطاعات رئيسية في مدينة القدس هي: السياحة والإسكان والخدمات والبنى التحتية.
فعلى مدى أعوام طويلة، جرى النظر إلى الاستثمار في مدينة القدس الشرقية على أنه محفوف بالمخاطر وصعب نظراً إلى التعقيدات الإسرائيلية، ذلك بأن تحويل الأراضي من مناطق خضراء يُمنع البناء عليها، إلى مناطق بناء، يستغرق أعواماً طويلة في مغامرة يكون النجاح فيها غير مضمون، وتمرير المخططات الهيكلية أشبه ما يكون بتحرير أرض من الاحتلال. وحتى في حال كان الحظ حليفاً لمخطط هيكلي، أو لطلب رخصة بناء، فإن التكلفة تكون باهظة الثمن، إذ تصل رسوم تصاريح الشقة السكنية البالغة مساحتها 100 متر مربع قرابة 50,000 دولار أميركي.
وفي هذا الصدد يقول مصطفى: "أغلب هذه المشاريع عملنا عليها منذ أعوام، ونعلم جيداً أن الإجراءات للحصول على التراخيص هي عملية طويلة جداً ومكلفة ومعقدة. وفعلاً، فإن الحصول على التراخيص لهذه المشاريع استغرق وقتاً طويلاً جداً، ثم إن الحصول على أراضٍ لمشاريع في القدس ليس سهلاً، فأغلبية هذه المشاريع عملنا عليها فترة لا تقل عن خمسة أعوام."
ويضيف: "لكن عندما نقترب من بدء التنفيذ، نكون قد وصلنا إلى مرحلة تسمح لنا بالإعلان بشأنها بعد زوال أغلب المعوقات." ولعل أبرز هذه المشاريع هو إقامة فندق فخم من فئة 5 نجوم سيكون الأول من نوعه في المدينة من حيث الضخامة والتكاليف، ويُتوقع له النجاح في مدينة تُعتبر السياحة رأس مالها الأول. يقول مصطفى في هذا الصدد: "معروف أن القطاع السياحي كان ولا يزال مهماً لاقتصاد القدس، لكن من المعروف أيضاً أن التحديات كبيرة. فوصول المواطنين الفلسطينيين والمغتربين الفلسطينيين والحجاج المسلمين إلى المدينة صعب، والذين يصلون هم الحجاج الغربيون الذين يمرون من خلال المطارات والمعابر الإسرائيلية حيث تتحكم إسرائيل في الأماكن المسموح لهم الوصول إليها، وفي عدد أيام الإقامة. ولا شك في أن هذه الصعوبات تشكل عبئاً كبيراً على قطاع السياحة الفلسطيني."
ويضيف: "وفي الوقت نفسه، فإن المنشآت السياحية في مدينة القدس هي في معظمها صغيرة وقديمة، وعليه، فإنها غير قادرة على تلبية الحاجات السياحية الحديثة، لأن قدراتها الاستيعابية في المواسم السياحية محدودة، وخصوصاً الغرف الفندقية الملائمة لاستيعاب السياح. ولذلك فإن أحد محاور عملنا هو تحسين البنية التحتية للقطاع السياحي في مدينة القدس من خلال إمّا تحديث الفنادق القديمة، وإمّا إقامة فنادق حديثة." ويكشف مصطفى أنه جرى حديثاً ترميم فندق ستراند وتحديثه في حي الشيخ جراح، وأنه أصبح يدار الآن من خلال شركة IBIC الفرنسية العالمية، وهو مشروع سياحي مهم يعمل الآن بإدارة حديثة، وبصورة جيدة.
ويجري العمل على إقامة فندق كبير يضم نحو 200 غرفة، ولن يكون له مثيل في القدس الشرقية من ناحية الحجم والحداثة، وقد بلغ الاستثمار فيه 45 مليون دولار أميركي. يقول مصطفى: "الأرض موجودة ورخص البناء موجودة أيضاً، وإن شاء الله سيجري خلال الأسابيع القليلة المقبلة إنجاز باقي التراخيص بما يسمح ببدء العمل."
وتوقعت مصادر محلية أن يكون المشروع في منطقة الشيخ جراح التي تُعتبر المنطقة الأكثر استهدافاً من طرف جماعات المستوطنين الإسرائيليين بعد البلدة القديمة وسلوان.
ازدهار السياحة الدينية
تحتكر إسرائيل السياحة في القدس الغربية، وتنافس الفلسطينيين على السياحة في القدس الشرقية المحتلة من خلال ثلاثة فنادق أُقيمت قبل عدة أعوام في الشارع رقم واحد الفاصل بين شطرَي المدينة الشرقي والغربي. وأوضح مالك الفندق الوطني، أسامة صلاح، أن آلاف الحجاج الأتراك يصلون شهرياً إلى مدينة القدس الشرقية ويقيمون في فنادقها الفلسطينية، فضلاً عن الحجاج المسلمين من بريطانيا وجنوب أفريقيا ودول إسلامية في آسيا. أمّا مالك فندق الأمباسادور، سامي أبو دية، فأكد أن الحجاج الأتراك يأتون
أسبوعياً أيام الخميس لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، ويغادرون أيام الأحد.
وفي هذا الصدد يقول إمام وخطيب المسجد الأقصى، يوسف أبو سنية: "إن عدد المسلمين الأتراك الذي يصلّون في المسجد الأقصى في بعض الأوقات أكثر من المقدسيين والفلسطينيين، فالرجل التركي المسلم يأتي من تركيا إلى القدس ولا يترك فريضة واحدة إلاّ ويؤديها في المسجد الأقصى. ويتراوح عدد المصلين من غير الفلسطينيين أيام الجمعة ما بين 3000 و5000 مُصلٍّ، معظمهم من تركيا."
البنية التحتية السياحية في القدس ضعيفة وتُضعف السياحة، وهي بحاجة إلى الأموال من أجل إنعاشها لتصبح قادرة على استيعاب السياحة الإسلامية المتوقع لها أن تزدهر.
استثمار عربي
يكشف مصطفى النقاب عن قرب التوصل إلى اتفاق بشأن استثمار عربي في أحد القطاعات في مدينة القدس، فيقول: "على الأقل هناك مشروع واحد بدأنا الحديث فيه مع شريك عربي وقد أبدى اهتمامه بالمشروع، ونأمل بأن يجري التوصل إلى اتفاق خلال الأسابيع القليلة المقبلة." ويقول مراقبون إن نجاح أي استثمار عربي في المدينة من شأنه أن يدفع نحو جذب مزيد من الاستثمارات العربية عبر شراكات مع فلسطينيين.
مجمع ضخم للخدمات
ولفت مصطفى الانتباه إلى النقص في عدد المكاتب التجارية في المدينة مع وجود طلب كبير عليها، ولذلك يقوم الصندوق الآن بتطوير مشروع عقاري كبير لإقامة مكاتب ومحال بالشراكة مع بعض أطراف القطاع الخاص الفلسطيني في المدينة، الأمر الذي يتطلب الحصول على التراخيص اللازمة، وسيجري استثمار نحو 80 مليون دولار أميركي. وبحسب مصادر محلية فإن الحديث يدور عن مشروع قرب شارع صلاح الدين الذي يُعتبر المركز التجاري لمدينة القدس الشرقية.
مشاريع إسكان
القطاع الأكثر درّاً للأرباح بعد السياحة في مدينة القدس الشرقية هو قطاع الإسكان، ويعود ذلك إلى النقص الكبير والمتزايد للمساكن في المدينة، والناجم عن السياسات الإسرائيلية كمصادرة الأراضي وتقنين رخص البناء الممنوحة للمقدسيين شرقي المدينة.
ويلفت مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية، خليل التفكجي، الأنظار إلى حاجة مدينة القدس الشرقية إلى 20,000 شقة بشكل فوري، علاوة على 1500 شقة سكنية سنوياً لاستيعاب الزيادة الطبيعية في عدد السكان. ويعزو التفكجي سبب ارتفاع تكلفة المشاريع الإسكانية في القدس إلى شحّ الأراضي، وإلى التكلفة الباهظة لاستصدار رخص البناء من بلدية الاحتلال. غير أن مصادر محلية تعزو الارتفاع الحاد إلى الأرباح الباهظة التي يجنيها أصحاب المشاريع الإسكانية. وتُعتبر القدس الشرقية الأكثر ارتفاعاً في أسعار الشقق مقارنة بجميع المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ يبدأ سعر الشقة السكنية التي تبلغ مساحتها 100 متر مربع من 400,000 دولار، ليصل في بعض الأحيان إلى 800,000 دولار، بينما إيجار الشقة المشابهة يبدأ من 800 دولار شهرياً، ويصل في بعض الأحيان إلى 2500 دولار.
وللمرة الأولى منذ الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس الشرقية في سنة 1967، بدأت ثلاثة بنوك عاملة في الأراضي الفلسطينية حديثاً بتقديم قروض للإسكان في المدينة بعد أن حصلت عليها من البنك الإسلامي للتنمية. ومعلوم أن البنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية تمنح الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قروض الإسكان، وتستثني سكان مدينة القدس.
وفي الوقت الذي تعاني المدن الفلسطينية تخمة كبيرة في المشاريع الإسكانية، فإن القدس الشرقية ما زالت بحاجة إلى مشاريع إسكانية على الرغم من ضخامة التكلفة. وفي هذا الشأن يقول مصطفى: "إن قطاع الإسكان مهم لتطور القدس من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، علماً بأن أنظمة التخطيط والبناء تخضع للسلطات الإسرائيلية، وتتضمن قيوداً كثيرة على البناء، فضلاً عن شحّ القروض الممنوحة للإسكان في المدينة، وهذا يختلف عن المدن الأُخرى في الضفة الغربية، أو في باقي أنحاء العالم. لكن هناك جهود لحل هذه المشكلات من خلال الاستخدام الأفضل للأراضي، والحصول على تراخيص البناء على الرغم من القيود القائمة. فعلى سبيل المثال، هناك عدة مشاريع إسكانية قيد الإنشاء، بينها مشروعان مملوكان لشركة القدس القابضة التي يُعتبر صندوق الاستثمار مستثمراً رئيسياً فيها، فضلاً عن استثمارات تقوم بها شركات فلسطينية أُخرى في بيت حنينا وبيت صفافا." وإلى جانب ذلك، يعكف القطاع الخاص الفلسطيني حالياً على تنفيذ مئات الشقق السكنية في أنحاء متعددة من مدينة القدس الشرقية.
وأعلن مصطفى قيام شراكة استراتيجية بين شركة كهرباء محافظة القدس وصندوق الاستثمار الذي دفع ما نسبته 10% من رأس مال الشركة. وقال: "نعمل على دعم الشركات الوطنية الكبرى العاملة في القدس، وعلى رأسها شركة كهرباء محافظة القدس التي توفر خدمات الكهرباء ليس فقط لمدينة القدس الشرقية، بل لمنطقة وسط الضفة الغربية أيضاً، بما في ذلك رام الله والبيرة وبيت لحم وبيت جالا وأريحا وأماكن أُخرى. وتواجه شركة الكهرباء مجموعة من التحديات، لكن صندوق الاستثمار الآن هو شريك استراتيجي لها، وشارك في رأس مالها بما يضمن له دوراً فاعلاً في تطوير أعمال الشركة من ناحية توسيع أعمالها الحالية وتحديث أدائها وتوليد الكهرباء بالطاقة المتجددة وتوفيرها للمواطنين من خلال الشركة، والعمل على تطوير واستغلال شبكة الألياف الضوئية المرافقة للشبكات الكهربائية التي تملكها الشركة من أجل زيادة خدمات الاتصالات الرئيسية كي تقدم خدمات إنترنت أفضل إلى كل المواطنين، على أن يجري توسيعها لتشمل ترتيبات مع شركات الكهرباء في الشمال والجنوب حتى توفر خدمات الإنترنت لكل مواطن وللشركات والبنوك والجامعات وغيرها من المرافق التي تحتاج إلى سعات كبيرة من الإنترنت."
ويُذكر أن صندوق الاستثمار الفلسطيني هو الصندوق السيادي الوطني لدولة فلسطين، كما يقول مصطفى، وقد أنشئ في سنة 2003 كشركة مساهمة عامة محدودة مستقلة. ويعرّف الصندوق مهمته بأنها "المساهمة في بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل ونابض بالحياة كأحد أركان الدولة الفلسطينية العتيدة. ويعمل الصندوق على تعزيز قدرته في جذب الاستثمارات، ويسعى لتمكين القطاع الخاص الفلسطيني وتعزيز دوره الريادي." ويتطلع صندوق الاستثمار الفلسطيني إلى تحقيق مهماته عبر الاستثمارات الاستراتيجية في مشاريع ذكية ومجدية ومسؤولة اجتماعياً، وقادرة على خلق الوظائف، وتدعيم نمو مستدام في قطاعات وطنية استراتيجية وحيوية.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية".]