مقابلة مع إبراهيم الدقّاق
شيعت القدس من المسجد الأقصى في 3 حزيران / يونيو 2016، المناضل إبراهيم الدقّاق، أحد كبار أعلامها ومناضليها، والذي أدى دوراً محورياً في العمل النضالي في القدس، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
جسّد الدقّاق في عمله ـ مع رفاق له واجهوا الاحتلال ومخططاته ـ مدرسة فكرية نضالية تنويرية ترسخ دورها عبر تأسيس وتطوير منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وأساليب التنمية المقاومة، وكلتاهما قامت بدور حاسم في صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه على الرغم من قمع الاحتلال.
والدقّاق من قادة العمل الوطني الفلسطيني منذ أول أيام احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية في سنة 1967، وشارك في تأسيس الجبهة الوطنية الفلسطينية، وانتُخب سكرتيراً للجنة التوجيه الوطني الفلسطيني في الأرض المحتلة التي كانت تضم رؤساء البلديات وأطياف الحركة الوطنية، والتي نشأت في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، وشارك في تأسيس اللجان الشعبية في الانتفاضة الأولى في سنة 1987، وكان له دور بارز في الدفاع عن القدس ومؤسساتها. وفي سنة 2002 شارك في تأسيس وإطلاق حركة المبادرة الوطنية، وكان الراحل على رأس اللجنة التي أُوكلت إليها عملية ترميم المسجد الأقصى بعد عملية إحراقه في سنة 1969.
وشغل الراحل منصب نقيب المهندسين في الضفة الغربية من سنة 1978 حتى سنة 1986، وساهم في تأسيس مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، وترأس مجلس أمناء جامعة بير زيت في سنة 1973، وكان المدير المؤسس لمستشفى جمعية المقاصد الخيرية في مدينة القدس.
"مجلة الدراسات الفلسطينية" تنشر مقابلة أُجريت مع المناضل الراحل إبراهيم الدقّاق في 27 آب / أغسطس 2014، وتعذّر نشرها لأسباب تقنية.
البدايات
■ بداية، ماذا عن النشأة والعائلة والدراسة؟
□ نحن خمسة أبناء في الأسرة: شقيقان وشقيقتان وأناـ ولدت في سنة 1929، وكانت مسيرتي التعليمية حافلة بالانتقال من مدرسة إلى أُخرى. بدأت تعليمي في "الكُتّاب"، ثم المدرسة الإسلامية التي تقع في باب الحرم، وصارت تسمى "المدرسة البكرية"، ثم كلية روضة المعارف الوطنية التي كان مديرها محمد الصالح، وأنا أذكر عندما أقدمت سلطات الاستعمار البريطاني على إغلاقها وأنا في الصف الثالث، وقد انتقلنا بعدها من منطقة إلى أُخرى كان آخرها في شارع الزهراء إلى أن تخرجت من المدرسة في سنة 1947، وعملت في البريد البريطاني تسعة أشهر قبل النكبة.
كنت في سنة 1948 في ريعان الشباب، وقد انتقلت مع أسرتي إلى القاهرة حيث كان يعمل أخي، والتحقت بالجامعة الأميركية في القاهرة، ودرست العلوم والرياضيات وتخرجت منها في سنة 1952. كانت العاصمة المصرية آنذاك مركزاً للنشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم العربي. وفي القاهرة حدث تغير نوعي في حياتي، إذ شاركت ضمن مجموعات فلسطينية في نشاطات تنظيمية وسياسية أفضت إلى تأسيس اتحاد طلبة فلسطين الذي كنت عضواً فيه ممثلاً للجامعة الأميركية، وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك في بداية نشأتها.
انتقلت بعد تخرجي من الجامعة الأميركية إلى الكويت حيث عملت في تدريس الرياضيات، وتنقلت خلال سبعة أعوام من مدرسة إلى أُخرى. عشت في الكويت نوعاً من الاستقرار الذي تكلل بزواج وبإنجاب ابنيّ عزّام وأمل. في سنة 1959 شهدت الحركة السياسية في الكويت تنافساً بين التيار القومي بزعامة جمال عبد الناصر، والتيار الشيوعي الذي كان يدعمه آنذاك الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، وفي هذا التنافس بين مجموعات مؤيدة لمصر وأُخرى مؤيدة لبغداد كنّا أقرب إلى الأخيرة، الأمر الذي دفع الحكومة الكويتية إلى إبعادنا من الكويت.
وكان لديّ رغبة في دراسة الهندسة، فالتحقت بكلية "روبرت" في إستانبول في سنة 1959، كطالب غير نظامي. قضيت عامين في الكلية من دون أي نشاط سياسي، وقد شهدت تلك الفترة انقلاباً في تركيا ضد الرئيس عدنان منداريس في سنة 1960، أحدث تحولات إقليمية كبيرة.
في سنة 1961 تخرجت مهندساً مدنياً، وعدت إلى القدس حيث زاولت المهنة مع شركة تعهدات الاتحاد، ومقرها في عمّان. وكان مشروع طيرة رام الله (كلية الطيرة للبنات) باكورة عملي الذي أُنجز في سنة 1962. ومن المشاريع المهمة التي أُنجزت بإشرافي مدرسة زراعية في الشوبك شرق الأردن، وقد عشت ما يقارب عامَين في تلك المنطقة.
أتذكر ما حدث معي في أثناء تعرّض الشوبك لعاصفة ثلجية، فالخروج آنذاك من المكان كان خطراً، لكنني غامرت بالذهاب سيراً على الأقدام من المشروع إلى البلد، وتحدثت مع الشخص المسؤول الذي فاجأني بالبكاء، لأن الثلج ذكّره بموت ابنه في عاصفة ثلجية سابقة.
أنهيت عملي مع شركة الاتحاد، وبدأت عملي الحر، فأسست في سنة 1964 شركة صغيرة في القدس مع شريك آخر، وخلال تلك الفترة أنجزنا عدة مشاريع في أريحا وفي رام الله، فضلاً عن مدينة القدس، وآخر مشروع استلمناه كان دار الأيتام الإسلامية في العيزرية التي لم نستطع إكمالها بسبب الاضطرابات.
صدمة الهزيمة والنضالات النقابية والسياسية في القدس
■ حرب 1967 كانت صادمة بالمقاييس كافة؛ ما هي ذكرياتك عن تلك الحرب؟
□ كانت حرب 1967 مخالفة لتقديرنا المستمد من مقالات الصحافي محمد حسنين هيكل في جريدة "الأهرام" المصرية. اعتقدنا أن الجيوش العربية ستنتصر، فجاءت النتيجة عكسية، وقد وضعتنا نتائج الحرب أمام خيارين: إمّا أن نهاجر، وإمّا أن نبقى في البلد، فاخترت البقاء في البلد وكان ذلك من القرارات المهمة في حياتي. لقد تراجع عملي الهندسي في تلك الفترة بشكل حاد، لكنني مع زملاء آخرين، أذكر منهم يوسف خوري، قررنا تفعيل نقابة المهندسين، وكانت فرعاً لنقابة المهندسين الأردنية ومركزها عمّان. أعدنا فتح المكتب، ودعونا بقية النقابات المهنية إلى أن تحذو حذونا. وكان افتتاح مجمع النقابات، مع بداية الاحتلال وضمّ مدينة القدس إلى إسرائيل، عملية كبيرة وتحدياً كبيراً عنوانه إنشاء أو إعادة فتح وصمود المؤسسات داخل القدس. وفي تلك الفترة أصبحت رئيس نقابة المهندسين.
■ كيف كان مشهد القدس بعد الاحتلال الإسرائيلي وما ترتب عليه من انسحاب الجيش الأردني من
الضفة الغربية؟
□ القضية الكبرى التي كانت تستحوذ على تفكير جميع الناس هي أن الاحتلال يجب أن يزول، وكنّا نعتقد أن ذلك ممكن، وعملنا من أجل توحيد المواطنين للخلاص من الاحتلال، لكن تبيّن أن هذه العملية طويلة وليست بهذه البساطة فحدثت خيبة أمل. وعلى الرغم من ذلك، فإن المشاورات بين النخب استمرت، إذ دعا الشيخ عبد الحميد السايح الذي تمكن من العودة إلى القدس "تهريباً"، مجموعة من الشخصيات إلى اجتماع أفضى إلى إعادة تشكيل "الهيئة الإسلامية". كان كثير من المؤسسات موجوداً، غير أن "الهيئة الإسلامية" طرحت أهدافاً محددة لها كالحفاظ على المقدسات الإسلامية والمحاكم الشرعية والأوقاف بشكل مستقل عن الحكومة الأردنية، مع أن الشيخ عبد الحميد والعاملين في الهيئة كانوا موظفين لدى هذه الحكومة، وقد تمكنت الهيئة من الاضطلاع بالمهمات الثلاث التي حددتها. أصبحت أنا، فيما بعد، عضواً بالهيئة، علاوة على الشيخ سعد الدين العلمي، والشيخ حلمي المحتسب، والشيخ حسن طهبوب، وكذلك أمين القدس. ولم يقتصر عمل الهيئة الإسلامية على المهمات الدينية، بل كان لها حضور في المجال السياسي أيضاً.
■ ازدهر العمل النقابي في تلك الفترة، واستخدمتموه واجهةً للعمل السياسي. كيف تم ذلك؟
□ شهدت السبعينيات تزاوجاً بين العمل النقابي والعمل السياسي، وبادرت نقابة المهندسين التي ضمت سبعين مهندساً آنذاك إلى القيام بنشاطات سياسية، في الوقت الذي حرصت على تشجيع إنشاء نقابات أُخرى من ضمنها نقابة الصيادلة ونقابة المحامين ونقابة الفنانين والصحافيين. إن وجود النقابات المتعددة داخل مجمع النقابات كان أمراً مهماً جداً، لأن النقابات شكلت عنواناً علنياً للحركة الوطنية الفلسطينية. النقابة كانت سياسية وكانت مهنية في الوقت ذاته، وكان الهم الأساسي أن تكون مؤسسة فلسطينية، وقد استمر العمل بهذا الخط حتى مؤتمر القدس الذي عُقد في نقابة المهندسين، وفي تلك الفترة كانت الهيئة الإسلامية قد ضعفت.
ترميم الأقصى بعد إحرقه
■ كان لك تجربة في ترميم المسجد الأقصى وسط تحديات وصعوبات كبيرة، هل لك أن تحدثنا عن تلك التجربة؟
□ في آب / أغسطس 1969، كنت في مهمة عمل في منطقة الخليل، وفي أثناء عودتي التقيت في بيت لحم بسامر خوري الذي أخبرني عن عملية إحراق المسجد الأقصى، فتوجهت إلى القدس فوراً، وتمكنت من الدخول إلى البلدة القديمة على الرغم من أن جميع أبوابها كانت مغلقة. كان أعيان المدينة مجتمعين في "المجلس الإسلامي الأعلى"، وعندما دخلت، قالوا ها قد جاء، كأنهم ينتظرونني. اجتمعنا مع بعض المهندسين، ومن ضمنهم كان المهندس رزق خوري، وبحثنا في تشكيل هيئة لإدارة عملية الإعمار، وفي ألاّ يقتصر عملنا على إصدار البيانات والمواقف، وشكلنا الهيئة فعلاً، وجرى اختياري كأول مهندس لإعمار الأقصى.
كانت وجهة نظري أن يكون لمصر دور في إعمار الأقصى، ولا سيما أنها لا تسعى للسيطرة، لكننا اكتشفنا أنها لا تملك الاختصاص والخبرة الملائمين لإعادة الإعمار.
استمرت فترة إعمار الأقصى سبعة أعوام، ولم تكن فترة سهلة، وإنما كانت حافلة بالتحديات، وفي مقدّمها تحدي سلطات الاحتلال التي حاولت إصلاح صورتها بعد عملية الإحراق، فالمجرم كان إسرائيلياً، وهي السلطة المعنية بتأمين الحماية للمكان، وسهام الاتهام كلها كانت تتجه نحوها.
التحدي الثاني تمثل في عدم وجود خبرات محلية، فخبرتي في هذا المجال كانت صفراً، لكننا تغلبنا على هذا النقص بجهود عصام عوّاد الذي أصبح مساعداً لي، ونجحنا في إقامة هيكل البناء بأكمله تحت الأرض وفوقها، وأنشأنا شبكة إطفاء في المسجد الأقصى وقبّة الصخرة، وفتحنا ساحات المسجد بعضها على بعض، ووضعنا البلاط وأزلنا الزوائد منها، وأدخلنا تغيرات عديدة داخل الحرم، وهذا كان أهم شيء حدث في تلك الفترة.
كان تكليفي بمهمة الإعمار تحدياً سياسياً ومهنياً كبيرين، وشعرت بحمل كبير لا مناص من قبوله، لكنني خرجت من هذا التحدي بسلام والحمد لله، ثم جاء عصام عوّاد ليكمل تنفيذ الخطة التي كانت قد وُضعت.
الجبهة الوطنية ولجنة التوجيه
■ ماذا عن تجربتك ودورك في الجبهة الوطنية ولجنة التوجيه الوطني؟
□ بينما كنت أعمل في لجنة الإعمار، أُعلن تأسيس الجبهة الوطنية. اتصل بي عبد الجواد صالح (رئيس بلدية البيرة)، وكريم خلف (رئيس بلدية رام الله)، وتحدثا عن قيام الجبهة، ودعياني إلى الانضمام إليها. في تلك الفترة كان الشيوعيون معنيين بأن يثبتوا أنفسهم أكثر من غيرهم في الجبهة الوطنية، وبرز بينهم بشير البرغوثي كمبادر ومتابع. مبادرة إنشاء الجبهة جاءت من طرف شخصيات وطنية، والحزب الشيوعي كان خلف هذه الجبهة، ثم شارك فيها بعض فصائل منظمة التحرير، علاوة على شخصية فتحاوية، لكن حركة "فتح" لم تكن مهتمة بأمر الجبهة.
جاء تأسيس الجبهة الوطنية بعد تراجع دور الهيئة الإسلامية التي لم تعد تهتم بالبعد السياسي الوطني، إذ كان هناك حاجة إلى هيئة سياسية معنية بالتحرر الوطني وبربط الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس بعضها ببعض، وتمثل القطاع في قيادة الجبهة الوطنية من خلال حيدر عبد الشافي.
عُقد الاجتماع الأول للجبهة الوطنية في بيت عبد الشافي الذي كتب البيان الأول، وقد ساهمت في صوغه، وصدر في بيروت.
كان للجبهة الوطنية دور وطني مؤثر، وكان عملها سرياً، لكن سلطات الاحتلال اعتقلت مجموعة من قادة الجبهة في سنة 1974 وأبعدتهم إلى الخارج، ثم فرضت الإقامة الجبرية على آخرين وأنا منهم، وقد استمرت هذه الإقامة أربعة أعوام.
كان الوضع في تلك الأثناء غير واضح: الحكومة الأردنية تحاول التوصل إلى صيغة ما تسمح بوجودها في القدس، لكن إسرائيل كانت تريد وجوداً أردنياً شكلياً وليس فعلياً، ثم أُجريت انتخابات البلديات في سنة 1976، والتي بدأت بمبادرات فردية ومن بقايا الجبهة الوطنية.
عندما تحولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، انعكس هذا الموقف على الداخل الفلسطيني الذي تجاوب نسبياً، ثم تحولت الاستجابة من خلال "لجنة التوجيه الوطني" المرتبطة بمنظمة التحرير، إلى تأييد فعلي لدور المنظمة. وحسمت الحركة الوطنية موقفها باعتبار لجنة التوجيه الوطني هي ذراع المنظمة داخل الأرض المحتلة.
العلاقة بين تجربتَي الجبهة الوطنية ولجنة التوجيه الوطني جاءت عبر أعضاء في الجبهة الوطنية انضموا إلى لجنة التوجيه الوطني بعد خفوت نجم الجبهة وتراجعها. وكانت لجنة التوجيه انبثقت من مؤتمر القدس الذي عُقد في مجمع النقابات المهنية في سنة 1976، وكنت رئيساً للمؤتمر، وقد جرى انتخاب لجنة متابعة قرارات المؤتمر، التي أصبح أعضاؤها فيما بعد أعضاء في لجنة التوجيه الوطني، والتي ضمت رؤساء بلديات وشخصيات عامة (مثل كريم خلف، وعبد الجواد صالح، وسميحة خليل، وغسان الشكعة) وطلاب جامعات.
إن لجنة التوجيه الوطني التي ترأستها عبر التوافق وليس من خلال الانتخابات، تميزت بأنها أوسع من الجبهة الوطنية، وتمثلت فيها حركة "فتح" رسمياً. وكانت تلك اللجنة تعمل وتجتمع في العلن بعكس الجبهة الوطنية التي كانت سريّة، واتخذت مقرها في مجمع النقابات المهنية في مدينة القدس، شأنها شأن العمل الوطني الذي اتخذ من القدس مقراً له. ويمكن القول إن لجنة التوجيه الوطني عملت كقيادة وطنية في مختلف المناطق، وكنت بصفتي رئيساً أتوجه إلى جميع المدن والمناطق بالتنسيق مع رؤساء البلديات.
■ حدثنا عن علاقة لجنة التوجيه الوطني والجبهة الوطنية مع منظمة التحرير، وما هو دور الشهيد خليل الوزير في التواصل بين الداخل والخارج؟
□ قبل أي شيء، يجب الإضاءة على قضية أساسية ومهمة هي أن لجنة التوجيه الوطني فرضت نفسها ولم يكن ذلك بطلب من أحد، وأن اجتماعها الأول عُقد في القدس حين كان السادات يستعد لزيارة "الكنيست"، وقد تحضّرنا للاحتجاج على زيارته، وبالتالي انبثقت لجنة التوجيه الوطني، في الوقت الذي فشلت محاولات إحياء الجبهة الوطنية.
أمّا فيما يتعلق بمسألة التنسيق مع المنظمة، فإن ذلك يعود إلى وجود أعضاء في اللجنة منتسبين إلى منظمة التحرير التي كانت تعمل على الإمساك بالداخل الفلسطيني.
قابلت أبو عمار في لبنان، وقابلت أبو جهاد في عمّان. وكان من الصعب التعامل مع شخصية أبو عمار لأنه يتحدث بلغتك، لكنه يعمل ما يريده هو. أمّا أبو جهاد فكان شخصية مختلفة، أقرب إلى القائد العسكري ويتحدث بلغة واضحة.
الخلاف مع منظمة التحرير
■ العلاقة بين الداخل والخارج شهدت مستويَين: الأول، من الانسجام، والثاني، من التوتر لم تكن أسبابه واضحة. ماذا عن علاقة منظمة التحرير وقياداتها مع الداخل؟
□ بداية الخلافات كانت بشأن مجلس التعليم العالي، فالقيادة في الخارج لم تقبل بهذا المجلس لأنها تريد السيطرة عليه. وفي تلك fالفترة دُعينا إلى عمّان وجاء أبو جهاد، ولم أكن أعلم ما هو سبب الاجتماع الذي تبيّن أنه بشأن المجلس. كانت القيادة تنظم لقاءات ـ بمبادرة منها أو العكس ـ وتُجري اتصالات مع شخصيات من خارج لجنة التوجيه الوطني وبمعزل عنها.
على أن التوتر مع المنظمة يعود إلى فترة الجبهة الوطنية، وذلك بسبب محاولة الخارج فرض وجهة نظره بشكل غير مباشر، غير أن التدخل والفرض برزا بشكل أوضح في لجنة التوجيه الوطني. فقد اغتنمت القيادة فترة فراغ بين تراجع الجبهة الوطنية وتأسيس لجنة التوجيه الوطني للاجتماع ببعض الشخصيات الوطنية من الداخل في جنيف، وتفاجأت هذه القيادة بتشكيل لجنة التوجيه الوطني. الخلاف مع قيادة المنظمة من وجهة نظري، يكمن في أن الأخيرة لا تريد شركاء لها، وإنما أتباع. فالقيادة في الخارج لم تكن مرتاحة لنشوء قيادة داخل الوطن، توجساً من أن تكون بديلاً منها، ولذا كان هناك إصرار على اعتراف لجنة التوجيه الوطني بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من تأكيد ذلك، فإن صدامات عديدة وقعت، وحاولت حركة "فتح" أن تفرض رأيها على الجميع.
وإذا كان من الطبيعي وجود خلافات واجتهادات بين الأفراد، فإن هذا لا يعني أن العلاقة بين القيادة والداخل كانت سهلة، بل إننا شهدنا في لجنة التوجيه الوطني نوعاً من المنافسة بين كريم خلف وزهير الريس اللذين اختلفا على الرغم من أنهما كانا يكتبان في جريدة "الطليعة" الناطقة باسم الحزب الشيوعي.
عشنا عدة خلافات بين اتجاه يلتزم بالمنظمة ويرغب في أن يكون شريكاً، واتجاه مع المنظمة في صيغة تبعية. وشهدنا خلافاً بين المؤيدين للأردن، والمؤيدين لمنظمة التحرير، وكانت إسرائيل تغضّ النظر عن المؤيدين للأردن وتضيّق على العناصر الملتزمة بمنظمة التحرير.
مؤتمر التنمية
■ ما هو دور الملتقى الفكري في عقد مؤتمر التنمية في سنة 1982، وكيف جرى النقاش بشأن مسائل الصمود والمقاومة وتجربة اللجنة المشتركة؟
□ المبادرة إلى مؤتمر التنمية طُرحت من البعض، ووصلت بالتداول إلى صيغتها الأخيرة، ووجدنا أن الطريقة الأفضل لعقد هذا المؤتمر، في ظل إجراءات المنع المتبعة من جانب سلطات الاحتلال، هو أن يكون على مراحل وبصيغة ندوات في الجامعات، ونجحنا في ذلك.
وكانت الفكرة من المؤتمر هي دعم الصمود وتشجيع الفاعليات الاقتصادية على إيلاء التنمية الاهتمام الكافي. وتضمّن المؤتمر مداخلات ركزت على اعتماد التنمية الذاتية وتطوير الموارد من داخل المجتمع.
■ ماذا عن تجربة الداخل في مجال التنمية؟
□ عندما نتكلم عن مقاومة الاحتلال في الأرض المحتلة، فإن المقاومة يجب أن تأخذ أشكالاً عديدة، من ضمنها التنمية الوطنية في مواجهة علاقات التبعية التي حرصت إسرائيل على فرضها. والتنمية الوطنية تعني تحفيز أصحاب رأس المال على الدخول في مشاريع داخل البلد، أي القيام بمبادرات محلية لا تعتمد على الخارج بقدر الإمكان، في مقاومة مشروع الإلحاق الإسرائيلي. لقد أردنا تعبئة الإمكانات المحلية وتنشيطها ضمن سياسة مستقلة.
■ ثمة ثلاثة مفاهيم هي التنمية والمقاومة والصمود، والباحثون يختلفون في تحديد العلاقة بينها: هل الصمود مع التنمية يساوي المقاومة، أم إن الصمود مع المقاومة يساوي التنمية؟ كيف ترتبط هذه المفاهيم بحسب رأيك؟
□ الفلسطينيون في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948 صمدوا لكنهم لم يغيروا الواقع السياسي. الصمود يمكن أن يكون مقاومة، فأنت تستطيع أن تصمد، وصمودك هو في حد ذاته مقاومة، لكن الأمر يتطلب وجود أشكال أُخرى من المقاومة تعزز الصمود.
احتلت إسرائيل الضفة الغربية وغزة في سنة 1967 كي تبقى وتضم الأرض وتضعنا في قبضتها، وهذه سياسة استعمارية تأتي امتداداً للسياسة الأميركية التي هدفها الهيمنة على المنطقة، وإسرائيل إحدى أدواتها. التنمية شكل من أشكال المقاومة التي تعزز الصمود من خلال تطوير القدرات، وهي أكثر من مجرد هدف نريد أن نحققه، ولذا فإنها عملية مستمرة يشكل الصمود فيها سر المقاومة.
في رأيي الخاص، كل مرحلة تؤدي إلى مرحلة ثانية، ولا يمكن أن نتحدث عن مرحلة كأنها منفصلة عن المراحل السابقة. فعندما عُقد مؤتمر الصمود، كان الناس يرغبون في البقاء والصمود في وطنهم، لكن الذي حدث هنا في الأرض المحتلة هو محاولة تكيف أكثر منها تنمية؛ التنمية لم تحدث حتى اللحظة، وإنما جرت محاولة في غزة لا أدري ما هو مستوى نجاحها. عندما طرحنا فكرة التنمية من أجل الصمود، فإن الهدف من ذلك كان أن نبقى داخل الأرض المحتلة في مواجهة تهديد حقيقي لإخراجنا من البلد، والتحدي تمثل في كيف يمكن أن نصمد أكثر. المطلوب هو تنمية من أجل إنهاء الاحتلال، وهذا أهم شيء، لكن التنمية المنشودة لم تحدث. باختصار، ما تم في ذلك الوقت كان محاولة الوصول إلى تنمية هدفها الخلاص من الاحتلال.
■ مع إنشاء السلطة الفلسطينية تغيرت القاعدة الاجتماعية والسياسية التي انطلقت منها هذه الرؤى الاستراتيجية للتنمية، فقد أصبح هنالك سلطة وطنية، كما أن التعبئة الجماهيرية التي كانت في الانتفاضة الأولى تراجعت، وبات هنالك أجندة اقتصادية تختلف كلياً. ومع الإحباطات كلها التي حدثت، كيف ترى دورك في مرحلة السلطة؟
□ بداية دوري أنا انتهى. ففي تقديري، إن الذي حدث في أوسلو هو تراجع عن المبادىء الأساسية الموجودة في الميثاق الوطني، وتحويل المنظمة إلى شبه حكومة. هناك محاولة للعودة إلى البدايات، إلى حالة المقاومة التي تمثلها إلى حد ما حركة "حماس"، لكن إلى أي مدى ستذهب "حماس"؟ هذا موضوع آخر.
الذي حدث في أوسلو هو استكمال لكامب ديفيد، الاتفاقية المصرية ـ الإسرائيلية، وهو بكل بساطة تنازل باسم الشعب الفلسطيني عن حقوقه. الحل الوحيد الذي لدى إسرائيل هو السيطرة على فلسطين كلها، والتخلص من الفلسطينيين.
أجرى المقابلة: نظمي الجعبة؛ رجا الخالدي؛ سليم تماري
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"مجلة الدراسات الفلسطينية".]