حين شارفت فترة رئاسة بيل كلينتون الثانية على الانتهاء، أواخر العام 2000، تصاعد منسوب المديح له في صفوف الليبراليين في الولايات المتحدة، وحتى خارجها. وعبّر الكثيرون منهم عن شيء من الحزن لانتهاء ولايته. فالرجل كان، بالنسبة لهم، محارباً وإنسانيّاً «حاول» إصلاح الأمور (سيُقال هذا عن أوباما) لكنه تعرّض لحملات شرسة ومؤامرات من «الجمهوريين». وخرج منها كلّها سالماً باستثناء جراح رمزيّة بسيطة (اتّهامه من قبل الكونغرس بشهادة الزور وبتعطيل العدالة في ما يتعلّق بعلاقته الجنسيّة مع المتدرّبة في البيت الأبيض، مونيكا لونسكي). ونسي أو تناسى أولئك الليبراليون (وهم يُحسَدون على نعمة النسيان المتكرّر هذه) سجله الكارثيّ على الصعيديْن الخارجي والداخلي. وغضّوا النظر عن نكثه بوعوده الانتخابية وعمّا أوقعته سياساته بشرائح اجتماعية كانت قد ساعدت بشكل حاسم في إيصاله إلى البيت الأبيض (السود والطبقة المتوسطة). وغضّ الليبراليّون النظر كذلك عن خنوعه لضغوط «الجمهوريين» بعد سيطرتهم على الكونغرس وتمريره مشاريعهم على أنّها «إصلاحات».
لم تكن حقبة كلينتون في محصّلتها النهائيّة نقطة تحوّل إلى اليسار بعد حكم «جمهوري» استمر لاثنتي عشرة سنة (ريغان وبوش الأب) كما تأمّل البعض. بل كانت استمراراً للنهج «الجمهوري» في «منجزاتها» وتكريساً لعهد الليبرالية الجديدة (الذي بدأ في حقبة ريغان/تاتشر) وما سميّ بـ «الطريق الثالثة». وكان نظير كلينتون على الجانب الشرقي من الأطلسي هو طوني بلير وحزب العمل «الجديد» في بريطانيا.
كان الخاسرون في حقبة كلينتون هم السود والفقراء بشكل رئيسي (بالإضافة إلى الطبقة المتوسطة). إذ تم تقليص برامج المعونات الاجتماعية للفقراء بشكل قاسٍ أمعن في تمزيق شبكة الأمان الاجتماعي. وتم تصوير ذلك على أنّه نجاح يحثّ المواطنين على العمل بدلاً من «الاتّكالية». أمّا «قانون الجريمة» وحزمة الإجراءات والتغييرات التي تضمّنها والذي مرّره كلينتون العام 1994، فقد أضرّ بالشباب السود بشكل وحشيّ وزجّ بمئات الآلاف منهم في نظام السجون الذي أصبح الأضخم في العالم بقياس نسبة المسجونين إلى مجموع السكان. وكانت هيلاري كلينتون تدعم برامج زوجها وشبّهت، في أحد خطاباتها العام 1996 الشباب السود بـ «الـحيوانات المفترسة» . وانتقدتها حركة «حياة السود تهمّ» بشدّة بهذا الخصوص قبل أشهر عندما كانت المنافسة بينها وبين ساندرز حامية. أما «وول ستريت» فكانت أكبر الرابحين من سياسات كلينتون. فقد سن عددٌ من القوانين التي رفعت القيود التنظيمية على عمل المصارف، وأطلق عنان شركات المضاربات الكبرى، وغُيّرت أصول قروض العقارات. وقد ساهم كل هذا في خلق مناخ أدى إلى الأزمة الاقتصادية الكبرى وانهيار الأسواق العام 2008. أمّا على صعيد السياسة الخارجية، فاتّفاقيات أوسلو وأخواتها ومآلاتها معروفة، وكذلك الحصار الاقتصادي الفتّاك على العراق الذي ابتلع مليون مدنيّ.
ساهم ظهور بوش في توفير المقياس والنقيض، وأخفى بشاعة حقبة كلينتون وسياساتها. وجاء انتخاب أوباما كفسحة أمل وفرصة لليبراليي أميركا وغيرهم لطيّ الماضي. ولكن ظلّ بوش المقياس والنقيض. يذرف الليبراليون هذه الأيّام دموع الوداع من جديد متناسين سجلّ أوباما. ويوفّر ترامب نقيضاً ومقياساً جديداً. لا يتّسع المجال هنا لجردة حساب. لكن لا أناقة أوباما ولا فصاحته أو لون بشرته تغيّر حقيقة سجلّه وسياساته.
دموع الليبراليّين في وداع الإمبراطور طقس يتكرّر بشكل مملّ. فهل سنراهم يبكون بعد أن تنتهي ولاية الامبراطورة كلينتون بعد أربع أو ثماني سنوات؟ هذا إذا حالفها الحظ اليوم ولم تدخل الولايات المتحدة عهد الفاشية؟
[نشر هذا المقال في جريدة «السفير» في 8 تشرين الثاني]