["كتب” هي سلسلة تستضيف فيها "جدلية" المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب. ضيف هذه الحلقة الباحث المصري سيد عبدالله السيسي وكتابه "ما بعد قصيدة النثر"]
"ما بعد قصيدة النثر: نحو خطاب جديد للشعرية العربية”
المؤلف: سيد عبدالله السيسي
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – عمان
تاريخ النشر: أكتوبر 2016
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
كان العمل على مشروع دراسة قصيدة النثر العربية مغويا لي منذ كنت طالبا في الليسانس بجامعة القاهرة. وشرعت في البحث منذ كنت أعد لدراسة الماجستير. لكنني بعد القراءة بعمق في الموضوع والعمل على بعض النصوص الشعرية أدركت حينها أن هذا الموضوع يحتاج إلى رؤية موسعة ومعمقة حول الشعرية العربية، كما يحتاج إلى امتلاك الباحث لمهارات ولمنظومة إجرائية لتحليل النص الشعري لم أكن أمتلكها في تلك المرحلة من بداية عملي البحثي. لذلك فقد فكرت بشكل عملي أن أعمل في دراستي للماجستير على تنمية استراتيجية قراءة النص الشعري لدي من خلال التركيز على قراءة نصية لأحد الشعراء الذين تمتاز تجربتهم الشهرية بغنى فني في تشكيل القصيدة. فكان اختياري للشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، الذي وللمفارقة رشحه لي الأستاذ المشرف على رسالة الماجستير وقتها لكونه شيوعيا بما يتفق مع مذهب المشرف الأيديولوجي، بينما كان شغفي بشعر سعدي يوسف مرجعه افتتاني بفنية قصيدته بالدرجة الأولى. وهو ما جعلني أرجح دراسته حتى على شاعري المفضل حينها أمل دنقل.
وقد أفادتني كثيرا دراستي لشعر سعدي يوسف من نواح عدة. فمن ناحية تمثل تجربة سعدي يوسف نموذجا رائعا لتطور شكل القصيدة العربية الحديثة من الشكل العمودي التقليدي إلى شكل التفعيلة وصولا إلى قصيدة الشعر الحر بالمعنى الدقيق أو ما تم الاصطلاح عليه خطأ في الخطاب النقدي العربي بوصفه "قصيدة النثر العربية". ومن ناحية أخرى كان الغنى والكثافة الفنية لشعر سعدي يوسف بكل مستويات تشكيل القصيدة على المستوى اللغوي أو التصويري أو الإيقاعي أو البنائي حافزا غنيا لإثراء أدوات تحليل النص الشعري لدي. لكن بالطبع كان عليّ للأسف أن أدفع ثمن إصراري على التركيز في دراستي لشعر سعدي يوسف على الجانب الفني في تشكيله للقصيدة، بالمخالفة لما أراده المشرف من التركيز على الجانب السياسي. فكان تهديد واضح من المشرف بأنني إذا أصريت على مناقشة الرسالة فسيكون هو الذي يهاجم الباحث بدلا من أن يكون مدافعا عن عملي. وبالفعل خلال المناقشة كان الجميع مندهشا من أن الأستاذة التي تناقش الرسالة من خارج جامعة القاهرة – الدكتورة فريال غزول – كانت تثني على الدراسة أيما ثناء في حين يهاجمها الأستاذ المشرف على الرسالة ويهاجم الباحث هجوما عنيفا.
المهم أنني صرت بعدها أكثر استعدادا للعودة إلى مشروعي القديم لدراسة قصيدة النثر العربية. لكنني حينها كنت قد كونت وعيا أنضج بالإشكالات التي سأباشرها وبأسئلة أكثر نضجا وعمقا من الأسئلة السطحية الشكلية التي كنت أحملها في الماضي حول قصيدة النثر العربية. وكان إدراكي حينها لحجم الصعوبات التي سأواجهها في عملي على هذا المشروع أكثر تحديدا، سواء على المستوى النظري في سياق الخطابين النقديين الغربي والعربي أو على المستوى التطبيقي في امتلاك آليات لقراءة القصيدة تنبثق من جماليات القصيدة نفسها بدلا من أن تفرض عليها فرضا وتلوي عنقها لتتوافق مع هذا المنهج أو ذاك. وكان الهاجس الذي يتنامى لدي كلما أوغلت في الدراسة وفي جمع وقراءة كل ما تستطيع أن تقع عليه يدي من كتابات شعرية أن دراسة قصيدة النثر العربية بعمق يمكن أن تؤدي إلى فهم للشعرية العربية يتجاوز التصنيفات والمسلمات النقدية التي كان على كل باحث في الشعر أن يستبك معها إما بالتسليم أو بالتصارع معها أو مهادنتها. وكذلك صار لدي تصور أن مراجعة ومساءلة الخطاب النقدي الذي أنتج حول قصيدة النثر سواء بالهجوم العنيف عليها أو بالتجاهل والإقصاء أو حتى بمداهنتها والاعتراف بها من دون جهد نقدي حقيقي لمكمن الشعرية فيها، كل هذا قد يكشف في نهاية الأمر عن إشكاليات خطابنا النقدي ذاته، وعن المزالق التي ظلت مسكوتا عنها عبر مراحل تطور الشعر العربي ومراحل تطور الخطاب النقدي المصاحب له منذ بداية النقد القديم وحتى اليوم.
- ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
يحاول الكتاب أن يتخذ من دراسته لقصيدة النثر العربية منطلقا لتحقيق عدة أهداف في الوقت ذاته. فالهدف الأساسي هو البحث إجرائيا عن آليات جديدة لقراءة وتحليل شعرية القصيدة العربية من خلال استراتيجيات قراءة تتحرر إلى أقصى حد ممكن من القيود الإجرائية المحصورة في نطاق الخطاب النقدي العربي التقليدي الذي كان متناسبا إلى درجة كبيرة مع شعرية القصيدة العربية التقليدية، والمتمثل فيما قدمته المنظومة البلاغية في تصنيفاتها وتحليلاتها للمجاز من ناحية وفي المنظومة العروضية التي هيمنت، كما هيمنت المنظومة البلاغية، على الخطابين الشعري والنقدي لقرون طويلة. الهدف الثاني هو محاولة لتأسيس نقدي نظريا وتحليليا لشعرية قصيدة النثر في سياقها العربي كما في سياقها الغربي، خاصة وأن معظم الدراسات التي طرحت حول قصيدة النثر العربية تستند بشكل أساسي على كتاب سوزان برنار الذي تم إنجازه في الستينيات أي منذ نصف قرن ولم تحاول الدراسات تجاوز أو مساءلة طرح سوزان برنار أو ما اعتبروه خصائص وضعتها برنار لقصيدة النثر - الإيجاز والكثافة والمجانية - والتي استمر ترديدها دون فحص حقيقي لمدى ملاءمتها للمنجز الشعري العربي.
يحاول الكتاب كذلك التعاطي مع الكثير من المغالطات التي تكدست حول قصيدة النثر في الخطاب النقدي العربي، بداية من ضبط المصطلح في أصوله الغربية ومدى مطابقته لما كتب تحت مسمى قصيدة النثر في شعرنا العربي. وإضافة إلى هذا كله فالهدف الأكبر للكتاب كان الانطلاق من الإشكاليات التي فرضتها قصيدة النثر على الخطابين النقدي والشعري من أجل مساءلة أكبر لما تكرس في الخطاب النقدي الحديث بوصفه الشعرية العربية، ولمدى مصداقية وتماسك هذا الخطاب في مواجهته لإشكالية قصيدة النثر، وبشكل أعم للمأزق الذي يواجهه كل من الخطاب الحداثي الشعري والنقدي على السواء مؤخرا.
- ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
كان التحدي الأكبر هو غياب منظومة إجرائية نقدية حديثة لتحليل النص الشعري على نحو يوازن بين الانضباط المنهجي من ناحية والقراءة الابداعية الحرة التي تتفاعل مع إبداعية التشكيل في القصيدة من ناحية أخرى. فكما أسلفت، بالرغم من افادة القراءات التطبيقية من النظريات الحديثة في تحليل النص الروائي أو القصصي أو المسرحي مثلا، فحين نأتي لتحليل القصيدة لا تزال المنظومتان التقليديتان للمجاز وللعروض تفرضان هيمنتهما حتى على الدراسات التي تسعى للإفادة من النظريات النقدية الحديثة لكنها تصطدم بعدم توافر آليات تحليلية حديثة تسعفها في قراءة تتناسب مع الغنى التشكيلي لنص القصيدة الحديثة. فتجد مثلا دراسات تطبيقية تنطلق من نظرية بنيوية أو غيرها لكنها لا تزال أسيرة حصر تحليل الصورة في الحدود الضيقة للاستعارة والتشبيه والكناية إلخ، ولا تمتلك أدوات تحليلية لتجاوز ضيق المجاز إلى الآفاق الأرحب للصورة بكل غناها وتقنياتها التي تمتح من الفنون الحديثة. إذ لم تعد الصورة الشعرية تتراسل مع فن الرسم التقليدي وتستند فحسب إلى مبدأ المحاكاة بل تأثر تشكيل الصورة الشعرية الحديثة بالفنون البصرية الحديثة من اتجاهات فنية في الرسم وفي السينما وفنون الجرافيك كذلك. هذه الديناميكية البصرية لعمل الخيال لدى المبدع ولدى المتلقي على السواء لم تعد المنظومة البلاغية قادرة بتصنيفاتها المجازية المحصورة في حدود الجملة الواحدة أو حتى في جزء من الجملة على إدراك الصورة الشعرية في كليتها وفي صيرورتها عبر النص الشعري. خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن هناك عددا كبيرا من القصائد تخلو أو تكاد من أي من صنوف المجاز بالرغم من كونها غنية بصريا بدرجة لا تخفى على قارئ. فمن وجهة النظر البلاغية لا نستطيع أن نعتبر مثل تلك الصور مادة للتحليل البلاغي. حتى عند عبد القاهر الجرجاني نفسه نجد بعض المحاولات للإفلات من حدود تصنيفات المجاز لإدراك الصورة الكلية في القصيدة. وأتذكر كيف كان يشرح لنا أستاذي الدكتور نصر حامد أبو زيد وهو يدرس لنا كتاب "أسرار البلاغة" تحليل الجرجاني للصورة في الأبيات "ولما قضينا من منى كل حاجة … ومسح بالأركان من هو ماسح" إلى آخر الأبيات كيف تستهوي الصورة الكلية الجرجاني فيتجاوز التحليل المجازي ليبدي استحسانه للصورة الكلية وديناميكية حركة سيلان أعناق المطي خلال سيرها الحثيث في الأباطح.
العقبة الأخرى كانت الحصول على مادة البحث ذاتها. فكما تعلم أن أغلب الدواوين لشعراء قصيدة النثر، وبخاصة الدواوين الأولى لهؤلاء الشعراء، صدرت في طبعات محدودة جدا، ومعظمها طبعت على نفقة الشعراء أنفسهم أو الجماعة الشعرية التي كونوها. وبالتالي كان الحصول على هذه الدواوين صعبا للغاية لأنها غير متاحة في المكتبات. وكان الحل الوحيد أن يتطوع الشعراء أنفسهم بتصوير نسخة من دواوينهم، وقد فعل ذلك العديد من الشعراء الذين ساعدوني مشكورين بتوفير نسخ من دواوينهم. وكان هذا ضروريا للبحث في كيفية تطور تجربة كل شاعر على حدة منذ بدايتها وما وصلت إليه مع دواوينه الأخيرة.
أما العقبة الأصعب فكانت في مدى الحرية التي أتناول بها موضوع بحثي وإلى أي مدى أستطيع اختيار النصوص الشعرية بحرية، بغض النظر عن المحاذير التي قد تفرض على دراسة تخضع في النهاية لسلطة المؤسسة الأكاديمية وما تقبله أو لا تقبله في اللغة والأفكار التي تشتمل عليها دراسة تسعى للقبول والإجازة من تلك المؤسسة. خاصة وقد واجهت بالفعل بعض الاتهامات خلال إجراءات التسجيل لدرجة الدكتوراه في جامعة القاهرة حين طرحت خطة البحث على قسم اللغة العربية للموافقة عليه. حيث هوجمت من قبل بعض الأساتذة بأنني أروج لمقولات إلحادية، فقط لأنني أوردت اقتباسا من كتاب سوزان برنار لفيكتور هيجو يقول فيه "إن الله قد خلق العالم نظما، وعلى الشاعر أن يعيد خلقه نثرا". وكان الهجوم لأنني لم أرد على تلك المقولة وأفند كفرها. وطبعا كانت الطامة الكبرى حين صرحت بوضوح أني متفق مع ما في الاقتباس، حيث تم تهديدي برفض الخطة وعدم السماح لي بالتسجيل للدكتوراه. ولكن في ظل تهديد عقليات من هذا النوع كان يشجعني أنني أعمل مع مشرف يحمل لواء التنوير والحرية الأكاديمية وسيسعدني أن أشاغبه إذا حاول تقليص حريتي أو أدفعه دفعا للدفاع عن الحرية الأكاديمية وحرية الرأي بما يفرض عليه منصبه الدفاع عنهما، وهو الدكتور جابر عصفور.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
- أعتقد أن هذا الكتاب يمكن أن يقدم مرجعا مهما في التأسيس النظري والتطبيقي لقصيدة النثر كانت تحتاج له بشدة المكتبة العربية. كما آمل أن يكون بداية لإعادة التفكير في القضايا الحقيقية التي تعوق إنتاج خطاب نقدي عربي متكامل قادر على طرح تصورات أكثر عمقا وأكثر شمولا لما نسميه "الشعرية العربية". خطاب يستطيع أن يتجاوز النخبوية التي سادت الخطاب النقدي الرسمي منذ العصر العباسي من ناحية، كما يستطيع أن يطور منظومة إجرائية لتحليل النص الشعري القديم والحديث دون أن يظل سجينا للمنظومة التقليدية أو يظل يدور في فلك النظريات والمناهج الغربية التي تعاني من مأزق هي الأخرى مؤخرا.
هناك العديد من الكتب حول قصيدة النثر في المكتبة العربية. حتى أن عدد الكتب التي صدرت في المكتبة العربية عن قصيدة النثر يكاد يفوق الكتب التي صدرت عنها في اللغات الأخرى. وقد تعلمت من هذه الكتب جميعا، لكنني أرجو أن يكون هذا الكتاب قد نجح في تقديم دراسة أكثر شمولا واستقصا، وكذلك أكثر إحكاما وانضباطا في التأسيس النظري من ناحية وفي تقديم نموذج مفيد في آليات قراءة النص الشعري، وبخاصة القصيدة العربية الحديثة.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والأكاديمية؟
منذ انتقلت للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث درست في جامعة هارفارد لثلاث سنوات كمحاضر ثم انتقلت إلى جامعة ميرلاند، تغيرت بشكل كبير تصوراتي عن مسيرتي البحثية والأكاديمية. فما يتيحه المناخ الأكاديمي هنا من آفاق غير محدودة لعملك البحثي قد حررني كثيرا من كوني باحثا في تخصص دقيق هو الشعر العربي الحديث الذي قد تسمح التقاليد الأكاديمية في جامعة القاهرة مثلا بأن يتسع ليشمل الأدب الحديث والنقد الحديث. لكني مع تدريسي لفصول تتنوع بين السينما والفلكلور وخطاب النهضة العربية بين العلمانية والدينية، وكذلك فصول عن تطور الغناء العربي، كل هذا قد جعل مشاريعي تنفتح على إمكانات في البحث لم أكن أفكر فيها من قبل.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
كل محب للشعر هو قارئ مفترض للكتاب. لأن الكتاب لا ينتصر إلا للشعر ولجماليات الشعر، دون أن يتحيز لقصيدة النثر أو ضدها، ودون أن يحاول أن يفرض على القارئ للشعر أن يستسيغ ذلك النوع من الكتابة الشعرية وإلا يتم اتهامه بأنه جاهل أو قاصر عن استيعاب جماليات القصيدة. كما أنني تعلمت من تجربتي في كتابة رسالة الماجستير عن شعر سعدي يوسف ألا تكون كتابتي أكاديمية جافة، وإنما تحاول بقدر الإمكان أن تحاكي وتتراسل مع إبداعية وجمال لغة الشعر لا أن تصير لغة النقد عبئا ثقيلا وأسلوبا ينفر القارئ من قراءة النقد والشعر معا. وقد فرض عليّ هذا التحدي قراءتي للكتاب البديع "الغائب" لعبد الفتاح كيليطو الذي يقدم فيه قراءة بديعة لا تقل جمالا ومتعة عن نص المقامة التي يحللها. وكنت حينها قاربت على الانتهاء من كتابة رسالة الماجستير فقارنت أسلوبي بالأسلوب البديع والرائق والمسكون بلذة القراءة والتحليل في كتاب كيليطو، فقررت أن أعيد كتابة الدراسة كلها من جديد بأسلوب مختلف يراقص النص الشعري ولا يكفنه في جفاف اللغة الأكاديمية. وقد استمر معي هذا الطموح في تخليص لغتي من جفاف الأسلوب الأكاديمي التنظيري والإغراق في تراكيب ومصطلحات معقدة تنفر القارئ بدلا من أن تزيد متعته بالشعر بمتعة مضافة بقراءة مضيئة لجماليات القصيدة.
يطرح الكتاب كذلك من الأسئلة التي تخص حاضر الشعر ومستقبله أكثر مما يفرض إجابات. لأن حاضر الشعر ومستقبله بخاصة شأن لا يستطيع طرف واحد أيا كانت سلطته أن يقرره لأن الشعر لا يخص النقاد والأكاديميين بقدر ما يخص محبي الشعر من الجمهور بالدرجة الأولى. ومستقبل الخطاب النقدي نفسه أصبح على المحك حيث صار هناك عالمان من الشعر، عالم يغرد فيه الشعراء والنقاد لبعضهم البعض فقط، حيث يرضي بعضهم بعضا أو قل ينافق بعضهم بعضا إذا شئت، وعالم آخر كشفت عنه أو لنقل فرضت علينا وسائل التواصل الاجتماعي الاعتراف به وإدراك أن جمهور الشعر لا تزال له الكلمة العليا فيما يقرر أن يعتبره شعرا أو يخرجه من حساباته للشعر، بغض النظر عما يكد الخطاب النقدي في محاولة فرضه عليه بوصفه "الشعرية العربية الحديثة" كما يجب أن تكون.
- ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
أعمل حاليا على كتاب عن ألف ليلة وليلة سينشر باللغة الإنجليزية و يقدم قراءة مغايرة لألف ليلة وليلة من عدة نواح. حيث يقدم إعادة قراءة للقصص التي طالما اعتبرت ايروتيكية في ألف ليلة وليلة من منظور صوفي ليكشف كيف أن المستوى الايروتيكي في تلك القصص معبر لتأويل صوفي أعمق في تلك القصص. وكذلك قراءة لصورة البطولة في ألف ليلة من زاوية مقارنة بصور البطولة عبر تطور الأدب العالمي وارتباط البطل والرحلة بمراحل مختلفة من الفكر الإنساني في مقارنة بين أوديسيوس والسندباد وجاليفر. وكذلك تثوير مفهوم البطولة بتأنيثه. فإذا استخدمنا جميع معايير ومواصفات صورة البطل كما قدمها جوزيف كيمبل مثلا في كتابة البطل بألف وجه فسنجدها تنطبق ببراعة وبدقة على الشخصيات النسائية في ألف ليلة وليلة أكثر مما تنطبق على الشخصيات الذكورية. وفي فصل آخر أدرس ما أسميه "التصميم الذكي" في البناء القصصي لألف ليلة الذي يسمح للمبدعين من الفنون المختلفة (الأدب والموسيقى والسينما والمسرح والجرافيك) بحرية كبيرة في إعادة تخليق نصوص وأبنية عديدة شديدة التنوع لكنها في النهاية تتحرك داخل الإمكانات التي يتيحها هذا البناء الذكي لألف ليلة.
كما أنني أفكر في دراسة عن تكريس صورة الفتوة في السينما المصرية وتزامنها مع بداية الحكم العسكري، وكذلك نقض تلك الصورة بين نجيب محفوظ ويوسف شاهين، حيث ساهم محفوظ كروائي وككاتب سيناريو في صعود صورة الفتوة حتى من قبل تقديم رواياته عن الفتوة، بينما عمل شاهين منذ بداية أفلامه على هدم صورة الفتوة، وكيف تعامل كل منهما مع "وحش الشاشة" فريد شوقي، حيث كرس الأول صورته كفتوة في السيناريوهات التي شارك في كتابتها بينما نقض الثاني تلك الصورة في أفلام عديدة وبطرائق عديدة.
هذا بالإضافة لمشروعات أخرى مستقبلية أحدها عن "أنبياء الحداثة المهزومون في الرواية والسينما". وبعضها عن الشعر الشعبي والغنائي(الأغنية) ودورهما في إعادة الشعرية العربية لطزاجتها التي تكلست كثيرا بداء النخبوية أو بداء التنظير المفرط.
- هل تعرض الكتاب للمنع من الرقابة في عمان – الأردن؟
كانت مفاجأة غريبة وغير مفهومة بالنسبة لي عندما أخبرني الناشر وصاحب المؤسسة العربية للدراسات والنشر الأستاذ ماهر الكيالي أن الكتاب قد تحفظت عليه الرقابة في الأردن. كنت حينها أتواصل معه لنرتب لاستلامي نسخ الكتاب عندما يحضر لمؤتمر ميسا في بوسطن. وكانت المفاجأة مضاعفة لعدة أسباب، أولا لأن سبب المنع كما أخبرني الناشر هو احتواء الكتاب على "مقاطع جنسية". هذا كتاب في نقد الشعر، فكيف يمكن أن توجه له تهمة من هذا النوع؟! وفجأة وجدت نفسي أراجع في ذاكرتي كل ما كتبته في الكتاب ويمكن أن يؤخذ على أنه "مقاطع جنسية" لأخمن أنهم اعتبروا بعض القصائد التي وردت في الكتاب لشعراء كبار مثل الماغوط ووديع سعادة وأمجد ناصر وعماد أبو صالح وأسامة الدناصوري وحلمي سالم وسنية صالح وغيرهم "كتابة جنسية". وكان هذا في حد ذاته كفيلا بإحساس بالدهشة والإحباط معا. فأية عقلية تلك التي لا تزال تدير مؤسساتنا الثقافية وتمارس الرقابة المنحطة والغبية التي تفتقد لأبسط متطلبات الحس الجمالي والذكاء في الوقت ذاته. فمن أستاذ جامعي يتهمني بالترويج للإلحاد بسبب اقتباس في خطة دكتوراه إلى رقيب يمنع كتاب في نقد الشعر بسبب احتوائه على "مقاطع جنسية" وكأنها شائنة يجب أن أدافع بسببها عن نفسي أمام أولادي وأهلي بأنني لست شخصا منحلا أو فاسدا أخلاقيا أستحق منع كتابي لمثل هذا السبب.
الأغرب أن المنع لسبب كهذا ينال من كتاب في نقد الشعر وليس رواية أو كتاب في التجربة الإيروتيكية او ما شابه. لماذا يثير نقد الشعر كل تلك الحساسية والخطورة منذ كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين؟ ربما عند الرقابة إجابة لا نعرفها عن مدى خطورة الشعر. وهذا يجعلني أشعر بالقلق وأسألك عن إمكانية نشر كتابك القيم عن شعر ابن الحجاج باللغة العربية وكيف سيكون موقف الرقابة منه إذا كانت الحال هكذا؟
وطبعا لك أن تتخيل ماذا يمكن أن يحدث إذا ما قررت نشر كتابي الذي أعمل عليه حاليا عن القراءة الصوفية لإيروتيكية ألف ليلة وليلة باللغة العربية. فإذا كان كتاب في نقد الشعر يتم منعه من الرقابة فكيف عن كتاب عن ألف ليلة وليلة التي ظلت نفسها ممنوعة لعقود طويلة وغير مسموح حتى الآن تدريسها في الجامعات العربية، بل وأضف إلى ذلك أنها دراسة عن الإيروتيكية من منظور صوفي.
***
فصل من الكتاب
لا تكاد دراسة تبحث في شعرية قصيدة النثر العربية إلا ويكون همها الشاغل – بشكل معلن أو غير معلن – البحث عن مقومات شعرية "بديلة" في قصيدة النثر يمكن أن تنهض بوصفها "تعويضا" عن "غياب" المقوم الشعري الذي ظل لقرون مهيمنا على تعريف الشعر العربي، وهو الوزن أو الإيقاع الصوتي. فما بين من حملوا على قصيدة النثر أو رفضوها أو حتى أشفقوا على "عاهتها" التي تمثلت لهم في "غياب" الوزن أو الإيقاع الصوتي فرأوا أنها قصيدة "ناقصة" أو "مبتورة" أو جدعاء" أو "شوهاء" أو "هجين" أو حتى "خنثى" من جهة، ومن جهدوا لتبرير أو تعويض ما اعتبره الفريق الاخر "علة" في قصيدة النثر أو "عاهة" فراحوا يطرحون مقومات شعرية "تعويضية" تسوغ قصيدة النثر لدى الفريق الأول ولدى القارئ من جهة أخرى، وما بين هؤلاء وهؤلاء ظل الوزن أو الإيقاع الصوتي كما طرحته المنظومة العروضية هو المعيار المهيمن والذي لم تستطع جل الدراسات أن تنفلت من مداره، سواء منها التي جهدت في تكريسه، بل وربما زايدت على معياريته، أو التي حاولت أن تنفلت من مداره، ولكنها محكومة في نهاية الأمر بمنطلقاته النظرية والتطبيقية في جوهرها.
وحتى بالرغم من كل الجهود التي طرحها الفريق الثاني لإيجاد أو طرح بدائل "تعويضية" تسوّغ شرعية وشعرية قصيدة النثر معا، فإن كل هذه الجهود لم تفلح في جعل قصيدة النثر تنهض لتحظى بقبول الفريق الأول سوى بأن تراجعوا - وبمزيد من التسامح – عن "وأدها" فاضطروا لتركها تحيا بـ"عاهتها" موصومة بنقصها أو "علتها"، فصارت "خرساء" أو "عرجاء"1 كما أسماها أحمد عبد المعطي حجازي لافتقادها لـ "لسان" أو "ساق" الموسيقى من وجهة نظره، أو "خنثى" كما رآها عز الدين المناصرة2 على اعتبار أن الوزن يمثل عضو الفحولة الشعرية المبتور.
وإذا تجاوزنا عما تشي به تلك التسميات لقصيدة النثر من هلع وعنف ذكوري معا، فإن أهم ما تعكسه من ناحية أخرى هو عجزها عن مواجهة قصيدة النثر فتحصنت داخل أشد تعريفات الشعر معيارية في التراث النقدي العربي بوصفه "كلام مقفى موزون له معنى". وهو التعريف الذي حاول به قدامة بن جعفر أن يضع حدا شديد الأولية يجمع المنجز الشعري المتحقق في عصره، ويمنع النثر المسجوع والقرآن من الدخول فيه. ولم يكلف ذلك الفريق نفسه تجاوز هذا الإطار المعياري إلى مفاهيم أخرى للشعر في التراث النقدي العربي، أو في تراث الحداثة الذي ينسبون أنفسهم إليه. بل إنهم لم يأخذوا في الاعتبار أن واضع ذلك التعريف نفسه لم ينشغل في كتابه "نقد الشعر" بقضية الوزن والقافية بربع ما انشغلوا به هم أنفسهم. فالشاغل الأعظم في كتاب قدامة بن جعفر ارتكز على دراسة المعاني في الشعر وأغراضه ومكامن المحاسن والمفاسد فيها، وليس على الوزن والقافية. ولم يضع الوزن والقافية نصب عينيه في كل خطابه كما فعلوا هم، بل إنه كرر في غير مرة أن القافية والوزن ليسا المقوم الأساسي للشعر لأن بموجبهما سيدخل في نطاق الشعر كثير مما ليس منه، سواء من الأراجيز التعليمية، أو النظم الغث الذي ليس فيه من رونق الشعر شيء، و "يرفض قبول النظم معيارا وحيدا للتمييز بين الشعر والنثر فيقول: (إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره، وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر بما ذكرنا، فكل من كان خارجا عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون مقفى ..).3
وفي الجانب المقابل ممن تحصنوا بالتعريف المعياري الذي استلوه من التراث النقدي للشعر العربي على طريقتهم، نجد جهودا حثيثة وجادة وثرية جهدت للانفلات من محدودية تلك الرؤية المعيارية، ساعية إلى طرح ما يمكن أن يشكل مدخلا مغايرا لمقاربة الجانب الإيقاعي في الشعر الحديث على وجه العموم وفي قصيدة النثر على نحو خاص. ولكنها ظلت بدورها تدور في فلك منطلقات المنظومة العروضية التي أسسها الخليل بن أحمد بدرجات وطرق متفاوتة، لكنها تجتمع – كما نتصور – عند غاية تقديم بديل مغاير لمقاربة الإيقاع الصوتي، أو لتعويض غيابه (الإيقاع الصوتي).
من الوزن إلى الإيقاع
مع التحول الإيقاعي الذي طرأ على موسيقى الشعر العربي الحديث صار لزاما البحث عن إطار نظري وتحليلي بديل للمنظومة العروضية يستطيع أن يستوعب التحولات الموسيقية التي استحدثتها الاتجاهات المختلفة في الشعر العربي الحديث. ومع تفاوت تلك الجهود في تحقيق تجاوز حقيقي للمنظومة العروضية، فقد ظلت جهودها جميعا تنطلق من مركزية الصوت بشكل أساسي في بدائلها التي طرحتها كمحاولة لتطوير العروض الخليلي، سواء في ذلك المحاولات التي سعت لتطوير طفيف للعروض الخليلي من داخله مستندة على منطلقاته الكمية، كما فعلت نازك الملائكة مثلا، أو التي حاولت التأسيس لأساس نبري لدراسة الإيقاع اللغوي والإيقاعي للشعر، كما فعل إبراهيم أنيس أو شكري عياد أو النويهي أو كمال أبو ديب الذي بلغ طموحه تقديم بنية إيقاعية بديلة للعروض الخليلي.
ولأن الخطاب النقدي قد وقع من البداية – كما يقول رشيد يحياوي – في شرك تعريف الشعر بالموسيقى والإيقاع، "وبما أن قصيدة النثر تخلت عن الأوزان الخليلية، فإن الخطاب سيجد نفسه أمام "فراغ" إيقاعي كان عليه أن يسده ويعوضه ليحتفظ بانسجام رأيه في شرط الإيقاع. لذلك سيصبح التحدي الأساسي الذي يواجهه هو كيف يعوض الإيقاع الغائب بغياب الأوزان. وهكذا ذهبت مجلة شعر إلى أن شاعر قصيدة النثر استطاع التوصل إلى التعويض عن غياب الوزن والقافية بالتركيز على عناصر جمالية أخرى تميز فن الشعر. وستكون هذه العناصر الجمالية الأخرى محل اجتهاد من طرف الباحثين لاعتمادها بدائل تعويضية".4
وقد تنوعت مظاهر تلك البدائل التعويضية بتنوع اتجاهات التجديد الشعري وبتنوع المنظورات النقدية التي اجتهدت لصياغة الإطار النظري والتطبيقي لتلك البدائل. فبالرغم من اختلاف التوجهات الإبداعية والنقدية على كيفية ودرجة المغايرة للمنظومة العروضية في شكلها التقليدي، ما بين طرح نازك الملائكة مثلا وطرح النويهي أو عز الدين إسماعيل أو كمال خير بك وكمال أبو ديب مثلا من بعدهم، وما بين تشكل تلك المغايرة إبداعيا عند جيل الرواد (جبران والريحاني مثلا) ثم شعراء التفعيلة (نازك الملائكة والسياب وصلاح عبد الصبور) أو شعراء قصيدة النثر الأوائل (أنسي الحاج وأدونيس والماغوط وتوفيق صايغ)، فقد اجتمع الجميع على ضرورة الخروج على عروض الخليل بدرجة أو بأخرى، أو باطراحه كليا، على مستوى الطموح على الأقل، حتى ولو لم يتحقق ذلك الطموح في تلك المرحلة.
**
في الإطار المفاهيمي والتطبيقي للمنظومة العروضية نستطيع إدراك الوزن كإطار خارجي متحقق من قبل تحقق القصيدة ذاتها، ولا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن الإيقاع الدال الخاص خصوصية كل تجربة شعرية، فمعيارية العروض وقولبته جعلت الوزن مظهرا صوتيا خارجيا (قالبا) يمثل استجابة لمتطلبات الثقافة الشفاهية التي تعد صوتية الرسالة مقومها الأساسي إبداعا وتلقيا. ويكون التزام الرسالة، أية رسالة، بنمذجة القالب الصوتي شرطا من شروط التلقي في هذه الثقافة، بغض النظر عن ارتباط دلالي حقيقي بين ذلك القالب الصوتي ودلالة الرسالة. لذلك ليس من الغريب أن الانطباعات التي نصادفها عند النقاد القدامى عن البحور العروضية انطباعات حسية في المقام الأول، من قبيل أن أحد البحور "مطرب" ، أو "فيه خفة" ، أو "جزل" ، أو "رصين" ...الخ. في حين لا نكاد نجد انطباعات دلالية عن تشكل وزني ما؛ لتعسفية اقتران دلالة ما بنمط وزني بعينه. وهو ما يرسخ القولبة في النظم الوزني في الشعر القديم ويسلبه – الوزن - إمكانية ممارسة دالة حقيقية في القصيدة. وتساهم في ذلك المعيارية المفروضة على الشعراء بالالتزام بالقوانين العروضية والتصور العروضي المهيمن على الشعر العربي القديم.
هذه العوامل كلها كانت تحد من إمكانات الانتهاك الحقيقي للعروض من قِبل الشعراء القدامى. في ظل ثقافة شفاهية تضع القولية في صوتية الرسالة شرطا أوليا من شروط التواصل، إبداعا وتلقيا. فتظل محاولات الشعراء القدامى للخروج على العروض تدور في فلكه بشكل من الأشكال وفي حدود قانون النظم ذاته، بما في ذلك التضمين. وكل مظاهر الهيمنة لقولبة العروض العربي، في الوزن قديما وفي الإيقاع حديثا، لا تجعل أمام الشاعر سبيلا لفرض إيقاعه هو (الذي يحاول أن يجعله دالا) سوى المحاولات الدائبة لانتهاك نظام قولبة الوزن، أو الإيقاع، كمعطى ثابت، والانحراف عنه وتجاوزه نحو إيقاع مغاير.
فقد رأى الشعراء والنقاد أن العروض بصيغته المطروحة منذ الخليل قد حصر موسيقى الشعر في قوالب خارجية لا تسعف الشاعر الحديث في سعيه لتجديد موسيقاه بما يتلاءم مع حداثة وجماليات عصره، كما يوضح فاضل العزاوي في فصل مهم من كتابه بعنوان "الحداثة الشعرية – من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر" : "وبسبب هذه الخارجية الموسيقية التي وضعت كل القصائد الموضوعة باللغة العربية في عدد جاهز من القوالب (البحور)، وأوصت ببحور معينة للحرب والغزل والمديح والهجاء، تعكس مستوى نفسيا وروحيا وفكريا وجماليا لبنية اجتماعية – تاريخية محددة، انغلقت القصيدة على نفسها في مواجهة حاضر لم يعد قادرا على الاستماع إلى صوتها أو الاقتناع بمنطقها ورؤيتها إلى الحياة الجديدة. فإذا كان الشاعر العربي القديم قد استوحى بعض إيقاعاته من حركة خف الجمل أو النقر في سوق الصناعين فإننا مرغمون الآن على الاستماع إلى ما يسميه الشاعر الأمريكي لورانس فيرلغنيتي "التنافر الصوتي المطلق للآلات" ففي مقابل الإيقاع الأحادي الذي يظل تكرر داخل القصيدة العمودية فإن الإيقاع الذي تقدمه القصيدة الحرة هو اقرب إلى القصيدة السيمفونية التي تمتلك إيقاعات متعددة وانتقالات صوتية من مستوى إلى آخر (الهبوط – الارتفاع) ضمن العلاقات التأليفية للعمل كله" 9.
ولكن تلك الرغبة العارمة التي نلمحها في كلام فاضل العزاوي للانفلات من ربقة العروض لا تلبث أن تسجن نفسها في النسق الصوتي وحده للإيقاع عندما يتحدث عن ضرورة تجديد البنية الإيقاعية. فنجده يتحدث تارة في نبرة تواقة للتجديد فيشكو من أن التحرر من أسر العروض التقليدي لم يتحقق بعد "فهذه الانتقالة من تصور إلى تصور آخر للشعر لم تتم بصورة آلية وبدون إشكالات. وفي واقع الحال أننا لا نزال نعيش حتى الآن في المرحلة الانتقالية الطويلة التي تفصل الشعر عن النثر. ولذلك فإن التحليل المفرد الدقيق وحده قادر على أن يدلنا إلى ما هو شعري في نص ما. قد بلغنا الآن المرحلة التي تعجز فيها النظريات الشعرية القديمة عن شمول القصائد التي تكتب نثرا داخل دائرتها، رغم معرفتنا الجديدة بان الشعر يمكن أن ينبثق من النثر وبان القصيدة التي تكتب نثرا، رغم استغنائها عن الشكل العروضي التقليدي، تمتلك تبريرها الجمالي الخاص بها. هذه المعرفة هي التي تفرض علينا ضرورة صياغة نظرية جديدة للشعر، ذات أفق مفتوح، تتجاوز نظريات الشعر التقليدية التي تعتبر العروض جوهر الشعر".10 ولكنه ما أن يشرع في طرح تصوره لما يراه توصيفا لمأزق المنظومة العروضية التقليدية، ومن ثم لمقومات مجاوزتها، نجده يدور في فلكها مرة أخرى، وإن استخدم مصطلحات مختلفة أو حديثة، فيقول مثلا:
"فقد أظهر تحليل أوزان الشعر العربي أن جميع التفعيلات الثماني الأساسية التي تقوم عليها بحور الشعر العربي (فعولن – مفاعيلن– مفاعلتن– فاعلن –فاعلاتن– متفاعلن – مستفعلن – مفعولات) تفرض موسيقية تقودك إلى القصيدة بدل أن تقودها أنت إليها، سواء التزمت النسق الصارم للبحور العربية أو التفعيلية المنفردة. فإذا استخدمت تفعيلة "فعولن" كأساس للقصيدة فسوف تقول مثلا "هو البحر آتٍ" ولكنك لا يمكن أن تقول "البحر آتٍ" أو "آتٍ هو البحر" وإذا ما أردت أن تتخذ تفعيلة "مفاعيلن" كأساس للقصيدة فينبغي أن تقول مثلا "سلاما أيها الضوء الذي يأتي من الماضي" وليس "أيها الضوء آتيا من الماضي سلاما". إن الفارق هنا لا يتعلق بالغنائية الصوتية وحدها وإنما بالمعنى أيضا. وهذا ما يجعلني أقول إن المعنى في القصيدة الموزونة غالبا ما يتحقق ضمن الآلية الموسيقية للتفعيلة وطريقة تأثيرها على التأليف اللغوي".5
وهو يقوم هنا بتحليل واضح ودقيق يعرض من خلاله كيف يمثل التقيد بالبحر العروضي، أو حتى بانتظام تفعيلة بعينها في القصيدة، معوقا إبداعيا أمام حرية الممارسة الدلالية لدى الشاعر. ولكنه مع ذلك لا يتردد في الفقرة التالية مباشرة أن يرى أن رفض القصيدة الجديدة لتلك الغنائية المفرطة للتفعيلات التقليدية "مقتربةً من إيقاع قريب من إيقاع النثر، يقوم على الضربة والتخفيف (نظام المقطع الصوتي) أساسا، وهو ما يتفق مع لغة الحياة اليومية الأكثر طبيعية" يرى في ذلك تحررا من معوقات الإيقاع التي شرح بالتمثيل كيف يمكن أن تعوق الممارسة الدلالية الحرة في سريان المعنى كما يريده الشاعر وليس كما يفرضه انتظام الإيقاع المحدد، ويبرر ذلك بمرونة أوزان مثل (المتدارك المخبون أو الخبب) في الصياغة اللغوية وقدرته على عكس إيقاع الحياة اليومية.
وحين يصل فاضل العزاوي للحديث عن ما يسميه "إيقاع النثر" لا نجده هنا يتحدث عن الممارسة الدلالية أو فعالية بنية المعنى، بل يركز فحسب على ما "يعوض" العنصر الصوتي كمقوم لإيقاع النثر "فإن زمن القصيدة النثرية النسبي (وهو نفسي) يتجلى في تقطيع الجمل وعلاقاتها الإيقاعية. ولعل أفضل مثال على الإيقاع العالي الذي يمكن أن يتحقق في النثر هو الصياغة القرآنية للآيات التي هي في الأغلب ليست جملا كاملة ومع ذلك تنفصل عن غيرها من السور ثم تتصل بها، بطريقة تعطي القارئ الفرصة لكي يقرأها أو يرتلها بطريقة إيقاعية مختلفة (القراءات السبع المعروفة)، حيث يتحقق الزمن في كل مرة بشكل جديد".6 وكأنه مرة أخرى يتحسس "العضو المبتور" في قصيدة النثر، فلا يفارق بدوره الفهم السائد للإيقاع والذي يحصره في التجلي الصوتي وحده من تجليات الإيقاع في القصيدة.
وقد توقفنا عند طرح فاضل العزاوي هنا لأنه يمثل تيارا من الباحثين الذين انطلقوا من الهم البحثي نفسه في البحث عن بديل نقدي لمقاربة إيقاع قصيدة النثر يتجاوزون به المنظومة العروضية التي يتفقون على أنها لم تعد ناجعة في دراسة إيقاع القصيدة الحديثة، وبخاصة قصيدة النثر. وفي بحثهم عن منظومة بديلة يعرجون تارة على دور إيقاع التركيب النحوي، أو ما يسمونه "إيقاع الدلالة" كما في دراسة يوسف حامد جابر "قضايا الإبداع في قصيدة النثر، وتارة أخرى على النظام المقطعي لتحليل نسق التركيب الصوتي في موسيقى القصيدة، كما فعل محمد الصالحي في كتابه "شيخوخة الخليل" الذي اعتبر الإيقاع (الصوتي) القيمة المهيمنة – حسب مفهوم الشكلانيين الروس ورومان ياكوبسون - في بناء النص الشعري.7
ومن جانب آخر، نجد هناك طرحا آخر لدراسة بنية الإيقاع ودلالته من خلال التوتر بين النظام اللغوي والنظام الإيقاعي أيضا، ولكنه هذه المرة من خلال عامل النبر، إذ يدرس التوتر بين النبر اللغوي والنبر الشعري (الإيقاعي) على أساس أن هذا التوتر بين النظامين النبريين خاصية إيقاعية تحمل دلالة تضاف للدلالة اللغوية للقصيدة. وقد اخذ بهذا التصور شكري عياد في كتابه "موسيقى الشعر العربي"، ومن بعده كمال أبو ديب، وكمال خير بك في كتابه "حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر". ويرى هذا التصور أن الوحدة المشتركة بين النظامين اللغوي والإيقاعي واحدة، وهي الكلمة، تحمل نبرها الخاص كوحدة لغوية، ولكنها بدخولها في نظام نبري مغاير (الإيقاع) تقع في توتر وتجاذب بين نظامين نبريين ليزيد هذ التوتر النبري الدلالة تكثيفا وجدلا مع الدلالة الناتجة عن التركيب اللغوي.8
التكوين الداخلي للإيقاع:
نحو تفسير لغوي إيقاعي للتحولات الحديثة
قبل أن نتوقف عند طرح كمال خير بك الذي نرى فيه أنضج المقاربات التي تعرضت لتحليل التحولات الإيقاعية في الشعر الحديث، وربما أكثرها قابلية للتطور بما يسمح لها بمقاربة بنيوية حقيقية للإيقاع في قصيدة النثر، سنتوقف أولا عند طرح كمال أبو ديب الذي أسسه على فرضيته التي قدمها في كتابه المشار إليه سابقا "في البنية الإيقاعية للشعر العربي" حيث قدم ما اعتبره البنية النبرية للشعر العربي بديلا للبنية الكمية التي ينبني عليها العروض الخليلي. ولن نتوقف كثيرا هنا عند هذا الكتاب الذي صدر عام 1974؛ حيث أفاض سعد مصلوح في تفنيد فرضيات كمال أبو ديب في مقال له بالغ الأهمية.” 16 ولكننا سنتوقف عند دراسة حديثة لكمال أبو ديب صدرت عام 1999 يستخدم فيها فرضيته لتحليل الإيقاع في قصيدة النثر تحديدا بعنوان "في البنية الإيقاعية للشعر العربي وفي اللابنية أيضا - قصيدة النثر وجماليات الخروج والانقطاع"17 ويقرر أبو ديب في مقاله بشكل جازم "أن قصيدة النثر لا إيقاع لها سوى الإيقاع النابع من النبر والتركيب الصوتي للغة النص والأبعاد الدلالية للنظم". ويجزم كذلك بأن "الانتظام في الإيقاع النثري قابل للتحقق دون موازين الخليل, وأكبر دليل على ذلك النص القرآني".
وفي سبيل بحثه عن مكمن إيقاع النثر المتحقق في قصيدة النثر يضيف كمال أبو ديب إلى عامل النبر أهمية "استخدام المفاهيم المثيرة التي طورها النحاة العرب, وبشكل خاص عبدا لقاهر الجرجاني، في تحليل أساليب الفصل والوصل, لدراسة إيقاعات النثر، وخاصة كما تتبدى في قصيدة النثر المعاصرة, ففي غياب مقومات للإيقاع ذات تكوين منتظم ونابعة من التركيب الوزني للغة, لا يبدو أن ثمة وسيلة أفضل لتحليل الإيقاع النثري الذي غدا واضحا تماما أنه لا ينبع من عناصر توليد الإيقاع في البنية الإيقاعية للشعر العربي". ولأنه يعتبر الأسلوب القرآني النموذج الأعلى لموسيقى النثر فإنه يؤكد على الحاجة الملحة للإفادة من الدراسات التي تناولت أسلوب القرآن الكريم وطرق تلاوته، وأقامت تمييزات مرهفة بين الآيات المكية والآيات المدنية.
ولكن فرضيته القائمة على عامل النبر، الذي يبدأ من النبر اللغوي ثم يتجلى في نبر التلاوة، تصل على طريق مسدود لأنه يظل يدور في النهاية في إطار البحث عن المقومات الإيقاعية "التعويضية" – الصوتية بالدرجة الأولى. وكلما حاول ربط المستوى الصوتي بمستويات أخرى يمكن أن تساهم في تشكيل بنية إيقاعية، كالتركيب اللغوي والدلالي فيما اسماه "حركة المعنى، نجده يعود مرة أخرى – وفي التحليل النهائي – ليعطي للعنصر الصوتي الهيمنة الكبرى في أية بنية إيقاعية. فيقول في نهاية مقاله: "إن إيقاع النثر المتصل أقل الإيقاعات استثمارا للطاقات الإيقاعية للغة, وكلما استخدمنا أساليب التقطيع والتفقير وتغير اللهجة والالتفات والوقف والابتداء والاستئناف والفصل ازدادت المكونات الإيقاعية بروزا، واقترب إيقاع النثر من إيقاع الشعر المنتظم (دون أن يبلغ بالضرورة درجة الانتظام), لأن جميع هذه الأساليب تقتضي ورود فواصل من الصمت بين المكونات اللغوية, والعلاقة بين النطق والصمت. أو الحركة والسكون هي جوهر التشكيل الإيقاعي ومولدته الأساسية".
وبعد أن أبرز أهمية الإيقاع الدلالي، أو ما أسماه "حركة المعنى"، معتبرا أن لها "الفاعلية الأولى في تشكيل إيقاع النص, وهي العامل الذي يحدد توزيع الكلمات في وحدات إيقاعية كبيرة وهي أسطر إيقاعية والعامل الذي يحدد مكان وقوع الفاصل النغمي"، يعود ليختزل كل تلك الفعالية التي أعطاها للبعد الدلالي في مجرد التأدية الصوتية، قائلا " أما إيقاع النثر فيقوم على فصل ووصل من نمط مختلف ينشئه البعد الدلالي المتعلق بامتداد النفس والضغط النابع من تموجات التجربة والقراءة والحركة الداخلية للهجة الشعرية". فلا نفهم على وجه الدقة إن كان يقصد هنا طريقة القراءة الجهرية التي تماثل التأدية الصوتية في التلاوة القرآنية، أم قراءة تقوم على المقومات الكتابية لقصيدة النثر.
وتزداد حدة الالتباس والغموض في فرضية كمال أبو ديب مع المحصلة التي يتوصل لها في النهاية هادما بها كل ما زعم بناءه. ففي ختام دراسته يقول: "يمكن الآن وصف الفواعل الإيقاعية بطريقتين: وصف التفعيلات التي يشكلها كل سطر، ووصف النبر الذي يقع على الكلمات والأنساق النبرية التي تتشكل نتيجة لذلك"، ولا ندري أية "تفعيلات" تلك التي يشكلها السطر في قصيدة النثر، ولا الأنساق النبرية التي تتشكل بناء عليها. فلا يقدم كمال أبو ديب في نهاية الأمر سوى أخلاط من تصنيفات متعسفة واصطلاحات وفرضيات نظرية لا تنهض على تحليل حقيقي لما يمكن اعتباره بالفعل "بنية إيقاعية" لقصيدة النثر أو حتى للنص الشعري بشكل عام.
**
في المقابل أتصور أن كتاب كمال خير بك الذي أشرنا إليه آنفا يعد من أنضج التجارب التي استقصت تقريبا كل البدائل الممكنة في بحثه عن منظومة إجرائية لمقاربة التحولات الإيقاعية في القصيدة العربية الحديثة. فقد كانت مقارباته للقصيدة الحديثة، حتى الفترة التي تناولها كتابه، من اقرب المقاربات وعيا بتحولات الحس الموسيقي متمثلا في النص الإبداعي وفي وعي المبدعين في سعيهم لتحرير الإيقاع من قيوده التقليدية، ربما لكونه احد من ساهموا في ذلك الطموح إبداعا ونقدا. ولكنه من جانب آخر، وربما بسبب كونه واحدا ممن راقبوا عن كثب وساهموا في التحولات الإيقاعية مع جماعة مجلة شعر بخاصة، فإنه إلى حد كبير مقتنع بأن ما تحقق من تحول إيقاعي حينها، على مستوى التفعيلة قد أعطى الشاعر الحرية الكاملة التي كان يصبو إليها حين بدأ رحلة تمرده على العروض. فيقول كمال خير بك مثلا: "إن الشاعر بات يتمتع، في شكله الشعري الجديد، بالحرية الكاملة في استخدام تفاعيل الوزن كما يشاء، أي أن ينشئ بيته على أساس الوحدة الإيقاعية التي تؤسس الوزن، دون أن يتحدد بقواعد الطول والعدد”. 11
ولكن كمال خير بك ما يلبث أن يستدرك ما قاله، لوعيه بأن إيقاع التفعيلة لا يمكن أن يعطي الشاعر الحرية التي سماها كاملة، كما رأينا في تحليل فاضل العزاوي سابقا، فيقول: "مع هذا فإن بعض المشكلات قد طرحت نفسها في هذا المضمار، فقد عرفنا في العروض الكلاسيكية نمطين اثنين من البحور: أحدهما بسيط والآخر مختلط. ويتألف النمط الأول (كالخبب والرجز) من تكرار تفعيلة واحدة عددا من المرات، أي أنه يمثل تتابعا متصلا من مجموعة صوتية محددة. ولم يقابل الشاعر الجديد، في هذا النوع من الأوزان، المصاعب التي سيقابلها في النوع الثاني، المختلط، الذي يتألف من نوعين من التفاعيل (كما هي الحال في البسيط والخفيف) أي من تتابع وحدتين صوتيتين اثنتين. ويصطدم الشاعر هنا بمشكلة اختيار التفعيلة أو تعاقبها المنتظم، أو غير المنتظم، مع التفعيلة الثانية، وكذلك مشكلة التفعيلة التي تشكل نهاية البيت". 12
ويحاول من ثم أن يجد بدائل أخرى في الأنساق اللغوية والنبرية فيما يسميه "تفسيرات لغوية إيقاعية للتحولات الموسيقية الحديثة" في الشعر العربي المعاصر، مستلهما مرة أخرى نظريات فقهاء اللغة وعلماء العروض والأصوات العربية من الغربيين أو العرب، في مجال البنية الإيقاعية اللغوية، للشعر العربي القديم، والتحول "النطقي" الذي تم رصده في مختلف اللهجات العربية المحكية 13. ويستفيد كذلك من نظرية "النظم" عند عبد القاهر الجرجاني في تحليله للتناسب التركيبي للجملة من ناحية، ومن الطرح الذي قدمه إبراهيم أنيس ومحمد النويهي في دراستهما للنبر كمقوم بديل للإيقاع في موسيقى الشعر العربي من ناحية أخرى. بيد أنه، بعد نقاش مفصل لطرح النويهي وأنيس عن النبر، يخلص إلى أنه لا يستطيع أن يعول على النبر كمقوم بديل لتحليل موسيقى الشعر العربي؛ فيقول "ومهما كانت طبيعة النبر، فإننا نعتقد أن دوره محدد غالبا، إما كعامل إضافي لتحديد المجاميع الكمية وإيضاحها وإما لإثراء التنويعات الإيقاعية الداخلية، أو، في النهاية، كفعل إضافي موجه لإعادة التوازن أو النظام الإيقاعي "المختل" في المواضيع الإيقاعية المداهمة بـ "الشذوذ" (..) وسيكون من الصعب الاستناد إلى النبر كما هو معرف ومحدد لدى إبراهيم أنيس، من اجل إيجاد تفسير مقنع لتكرر الشذوذات الإيقاعية في الإنتاج الشعري الحديث بشكل ملفت، حتى في أعمال شعراء لا غبار على معرفتهم الوزنية والعروضية". 14
وينتهي كمال خير بك إلى التخلي عن التفعيلة كوحدة إيقاعية، مستبدلا بها "المفردة" بوصفها وحدة (دلالية، صوتية، بصرية) يتكون منها ما يسميه "كتلة لغوية إيقاعية" قد تتمثل في المفردة كأصغر وحدة لغوية إيقاعية، أو في النص الشعري ككل بوصفه "وحدة لغوية إيقاعية" كبرى. فيقول في صياغة ينقصها التحديد والوضوح: "هناك انقسام الجملة الشعرية إلى كتل لغوية، وفي النهاية إلى مقاطع إيقاعية، وظهور (المفردة) المتحررة باعتبارها وحدة دلالية، صوتية غالبا، منعزلة أو مستقلة، وكذلك ذوبان العبارة في النص الشعري مما يجعل من الأخير كتلة لغوية إيقاعية تتحدى مقاييس التوزيع التقليدي للنص، والتي يعود فيها الشاعر – أي في هذه الكتلة اللغوية – الإيقاعية، إلى "ألعاب" كتابية و "إخراج" خاص على الصفحة، وإشارات طباعية، ترسم، كلها، الحدود البنائية الوزنية". 15
ولعله بمصطلح "الكتلة اللغوية الإيقاعية" حاول إيجاد الوحدة التي يلتقي فيها النسق اللغوي والدلالي بالنسق الإيقاعي الصوتي في النص الشعري، والتي يلتقي فيها كذلك إيقاع الشعر بإيقاع النثر. فقد ظل كمال خير بك على مدار بحثه في الإيقاع في كتابه مشغولا بما أسماه "تنثير الشعر" أو تبسيط لغة الشعر وإيقاعه وتخفيف النبرة الغنائية العالية "ليتحرر الشعر أخيرا من جميع أشكال العروض والإلزامات الشكلية التقليدية" وقد تحقق ذلك للغة الشعر الحديث وإيقاعه – كما يرى خير بك – من خلال "التأثيرات اللفظية والبنائية والصوتية، التي مارستها، على الشعر الحديث، كل من اللغة المحكية، وشعرها بلا شك – والنثر والقراءات الأجنبية والترجمة، وهذا ما يغطي ما دعوناه بظاهرة "تبسيط الشعر ونثره أو تنثيره". مضيفا إلى ذلك إشارته المبتسرة إلى ما أسماه "الألعاب الكتابية" أو "إخراج الصفحة".
وهذا العنصر الأخير سيكون من الأهمية بمكان عندما نتناول بتحليل أكثر ما أضافته خاصية التحول إلى الكتابية في القصيدة الحديثة من إيقاع بصري دال كأحد البنى التي تتشكل من تفاعلها البنيات الإيقاعية في قصيدة النثر.
وقد أشارت سوزان برنار إلى ذلك التحول في إدراك الشعر بصريا، وربطت بينه وبين تأثير فن الرسم على الشعر الحديث، حيث تقول: "إن الشعر، فن الزمن – ما دام مرتبطا، مثلما ساد الاعتقاد حتى هذا اللحظة، بقراءة متتالية بالضرورة – سيسعى إلى أن يستعير من التصوير الزيتي طابعه المكاني والتزامني. ولن أشدد على المظهر الميتافيزيقي لمثل هذه الطموحات، التي يمكن القول أنها تهدف إلى خلق القوانين الظاهرة للواقعي لضبطه بشكل أفضل في كليته؛ لكن المثير أن نرى مدى ما وصلت إليه ومدى تحويلها للبنى الأدبية. ولأن الشعر يكتب – طباعيا – على الورق، فإنه يمتلك بالفعل شيئا ما مكانيا، سيتم السعي للتأكيد عليه إلى حد الرغبة في صدم العين شأنها شأن الذهن، بتنظيم عناصر القصيدة على الصفحة مثلما قد يفعل الرسام عندما يملأ قماش لوحته" ولكنها مع ذلك لم تصل إلى حد إدراك تأثير ذلك على التحول في مفهوم مغاير لإيقاع الشعر، واكتفت في تحليلها للإيقاع بالتركيز على تسميه العناصر الإيقاعية التي يمنحها النثر للشعر:
"ينفر النثر – بطبيعته، وخلافا للنظم – من القوالب الجاهزة، والإيقاعات المفروضة من الخارج: وستذهب قصيدة النثر إلى حد الهرب ليس فقط من "النظم في النثر"، بل من الأبنية الخطابية، والأنساق المنطقية الكبرى، والأسلوب الدوري. ويتيح النثر - بمرونته – أكبر تنوع في الأشكال، وستتمكن قصيدة النثر، شأنها شأن الشعر الحر، من ادعاء منح الفكرة الشعرية "حق أن تخلق لنفسها شكلها وهي تتطور، مثلما يخلق النهر مجراه"، كي نستعيد تعبير فيرهارين. يستطيع "النثر الموقع" – إذن – أن يتخذ مظاهر متنوعة للغاية، غير أنه كثيرا ما ينحو إلى تأكيد صفته كنثر بالبحث عن الحيوية والتفرد، بمؤثرات اللاتماثل أو القطع، وبالتفكيك التعبيري للجملة. ويتغير تركيب الجملة في نفس لحظة تغير الإيقاع".
وهذا الفهم للإيقاع عند سوزان برنار يعيدنا مرة أخرى إلى مفهوم الإيقاع الصوتي الذي يقوم على المفهوم الوزني والتركيبي لـ"النظم" كما عرضنا له من قبل عند كمال أبو ديب أو عند كمال خير بك.
من إيقاع "النظم" إلى إيقاع "النص"
لقد استخدم لفظ "النظم" في نقد الشعر القديم للدلالة على تراصف الكلمات نحويا وعلى التراصف الوزني كذلك، لما بينهما من تماثل في عملية التأليف بين الوحدات بما يدعم استخدام اللفظ نفسه لكلا النظمين. إلا أن هناك تماثلات أخرى بين النظم اللغوي والنظم الوزني تهمنا في هذا السياق، أهمها أن كلا المفهومين للنظم محددان بحدود وحدة الجملة في النحو ووحدة البيت الشعري في العروض. إضافة إلى أن النظم، سواء في أصوله البلاغية أو العروضية، صار قرين المعيارية إلى حد بعيد في تطبيقاته اللاحقة. وقد زاد من تضييق أفق "النظم" أن معظم تطبيقاته العروضية القديمة أو الحديثة راحت تحصره في حدوده الحسية الصوتية فحسب، متجاهلة في أحيان كثيرة ما دأبت في التأكيد عليه حتى بعض التعريفات القديمة للشعر – وبخاصة التعريفات التي كانت تستند لرؤية فلسفية - من أن "الهزة" أو اللذة التي يحدثها الشعر إنما تكمن في التناسب بين المستوى الحسي والمستوى العقلي، وأنه "ما دام الإيقاع المطرب للشعر ينطوي على معنى، ولا يصل إلى الأذن مجردا كأنغام الموسيقار، فإن اللذة الحسية لهذا الإيقاع لا يمكن فصلها عن اللذة العقلية" كما يؤكد جابر عصفور بعد أن يعرض ويحلل مفهوم التناسب وأسسه الفلسفية والنفسية في تعريفات الفلاسفة والنقاد العرب، "وبذلك نظل غير بعيدين عن لذة الفهم من حيث تقبلها لطرب الإيقاع وما يرتبط به من حسن تركيب واعتدال الأجزاء الدالة على معنى". 23
لقد كانت لمفهوم "النظم" إيقاعيا ولغويا أهميته وحتميته التي تبررها الثقافة الشفاهية التي مارس "النظم" في ظلها وبموجبها كل تلك الفعالية. وهذا ما جعل أدونيس وغيره مثلا يستهل تحليله للشعرية العربية القديمة بالتأكيد على ما لازم الطبيعة الشفاهية أو الشفوية من سمات إبداعية يغلب عليها العنصر الصوتي للإيقاع منذ بدايات الشعر العربي في العصر الجاهلي وحتى بدايات العصر الحديث: "الأصل الشعري العربي في الجاهلية نشأ شفويا ضمن ثقافة صوتية-سماعية. ويؤكد أدونيس مرارا في كتابه على الطبيعة الشفوية للشعر العربي لما سيؤسس عليه لاحقا في كتابه من سمات شعرية شعرنا العربي بسبب نشأته تلك في ظل الثقافة الشفاهية: "ولد الشعر الجاهلي نشيدا، أعني أنه نشا مسموعا لا مقروءا، غناء لا كتابة. كان الصوت في هذا الشعر بمثابة النسم الحي، وكان موسيقى جسدية. (...) بدئيا، تفترض الشفوية السماع. فالصوت يستدعي الأذن أولا. ولهذا كان للشفوية فن خاص في القول الشعري، لا يقوم في المعبّر عنه، بل في طريقة التعبير.”24
ويؤكد أهمية مفهوم النظم بوصفه القاسم المشترك الذي يلتقي عنده الشعر والموسيقى - أو النظم بمعناه البياني كما نجده عند عبد القاهر الجرجاني والنظم بالمفهوم العروضي – ما يقوله الفارابي من "أن الشعر والموسيقى يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن، والمناسبة بين الحركة والسكون، لكن بينهما فرقا هو أن الشعر يختص بترتيب الكلمات في معانيها على نظم موزون، مع مراعاة قواعد النحو في اللغة، وأن الموسيقى تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصوات على نسب مؤتلفة، بالكمية والكيفية في طرائق تتحكم بأسلوب التلحين. ويتابع الفارابي قائلا: ولما كانت صناعة الشعر والكلام المسجوع والموزون، بعامة، أقدم في الوجود من صناعة الألحان، ولما كان قول الشعر غناء سابقا للأوزان، وكان استنباط الآلات الموسيقية لاحقا للغناء، فإن علاقة الموسيقى بالشعر، ليست مجرد علاقةٍ بالكلام، وإنما هي علاقة مخصوصة. فالنطق بدافع التفاهم وحده يعني أن تأثير الكلام لا يتعدى تنبيه الشعور في المخاطب لفهم الغرض المقصود منه. وفي هذه الحالة تكون المناسبة بين أزمنة حركاتها في الحنجرة وأعضاء الفم اعتيادية كما هي الحال في لغة الكلام على مجرى العادة. لكن حين يتناسب الكلام تناسبا آخر بأن يطول زمن إرسال الحروف المصوتة في الكلمة، وتختلف مقاطعها على تمديداتها من الحدة والثقل، فتسمع مرسلة على نحو يلذ في الأسماع، فإنها بذلك تكون أشد تنبيها للمخاطب وأكثر تأثيرا عليه"24 وهكذا يفسر أدونيس استنادا لتحليل الفارابي هيمنة البعد الصوتي للإيقاع على شعرية الشعر العربي القديم والتي لم يتحلل منها شعرنا العربي حتى العصر الحديث.
وقد ظل لتلك الطبيعة الشفاهية التي تشكل في سياقها الشعر العربي منذ بدايته وحتى بداية القرن العشرين أثرها على مفهوم الشعر وعلى عملية إنتاجه وتلقيه، بما جعل للعامل الصوتي في إيقاع الشعر قوة مهيمنة أزاحت كل إمكانات إدراك الإيقاع كعنصر بنائي خارج المفهوم الصوتي للإيقاع.
وأتصور أنه لم يعد ممكنا في دراستنا للشعر العربي الحديث، وبخاصة في سياق حضور الفنون الأخرى، بخلاف فن الموسيقى، وتأثيراتها الواضحة على تشكيل بنيات القصيدة، أن نظل نحصر تصورنا للشعر في إطار اقترانه بفن الموسيقى فحسب. وبالتالي فإنه لم يعد من الممكن كذلك أن يظل مفهومنا للإيقاع نفسه مقتصرا على البعد الصوتي الموسيقى للإيقاع فحسب، وإنما ينبغي أن يتسع مفهومنا للإيقاع في دراستنا للشعر الحديث بما يستوعب ويتناسب مع اتساع المتحقق من ذلك الإيقاع في المنجز الشعري نفسه، الذي اغتنى إيقاع القصيدة فيه بغنى إيقاعات الفنون المختلفة، التي وسمت البنى التشكيلية للقصيدة الحديثة بسمات لم تكن متحققة لها في سياق الثقافة الشفاهية التقليدية. ففي تصورنا أن الدراسات التي ظلت تدرس إيقاع قصيدة النثر انطلاقا من اتساقه أو اختلافه أو جدله مع منظومة الخليل ابن احمد كانت كمن يبحث عن مركز بنية ما في بنية أخرى تماما.
ومن المهم هنا إدراك التحولات الجوهرية التي طرأت على الشعر إبداعا وتليقا في سياق الثقافة الكتابية الحديثة، والتي تستلزم إدراكا مغايرا لمفهومنا لتشكلات الإيقاع فيها وإعادة موقعة البعد الصوتي في منظومة جديدة للإيقاع بمفهوم أكثر شمولا واتساعا في الشعر الحديث.
أولا: تراجع الصوت بوصفه الوسيط الأساسي أو الوحيد في عملية إنتاج وتلقي الشعر. فلم يعد الشاعر الحديث في عصر الثقافة الكتابية يرتجل شعره ويحفظه، أو يحفظه راويته، مرددا إياه ترديدا صوتيا في محافله المختلفة، بل أصبحت الكتابة هي الوسيط الأساسي في عملية الإبداع.
ثانيا: لم تعد أذن المتلقي هي وسيط التلقي المباشر في أغلب الأحوال، إلا في حال الاستماع لإلقاء صوتي للقصيدة من الشاعر أو من غيره. وإنما صارت قراءة الشعر منشورا مطبوعا هي الوسيلة الغالبة على تلقي الشعر. بما يجعل العين – وليس الأذن - في هذه الحال حاسة الإدراك الأساسية في تلقي "النص" الشعري مطبوعا على الصفحة.
هذا التحول المبدئي في إنتاج وتلقي الشعر على مستوى الوسيط (من الصوت إلى الكتابة)، وعلى مستوى حاسة التلقي (من الأذن إلى العين) يستتبع تحولات مهمة يتبدل بموجبها تشكيل الإيقاع ومفهومه:
1 – التحول من هيمنة الزماني إلى هيمنة المكاني على إيقاعية الشعر. فإذا كان اعتماد الصوت وسيطا أساسيا في الشعر – سابقا - يكرّس البعد الزمني في إنتاج وتلقي الشعر، حيث الإيقاع هنا هو التناسب الزمني للأصوات كما تخرج من الحنجرة وتتلقاها الأذن، فإن العين حين تقع على الصفحة لا تدركها زمانيا وإنما تدركها مكانيا بالدرجة الأولى.
2 – التحول من الإدراك الجزئي إلى الإدراك الكلي. حين يكون الصوت وسيطا، فإن الأذن تتلقى ما يلقى عليها تباعا في توالٍ زمني محدود بحدود التتابع الزمني الجزئي لصدور الصوت من الشاعر – أو من يلقي الشعر – إلى أذن السامع؛ صوتا صوتا ، أو كلمة بكلمة، أو جملة بجملة. في حين أن العين، وإن كانت تُقرأ في شكل خطي، فإنها تدرك كلية الصفحة - أو الصفحات - بنظرة واحدة، وتتنقل بحركة خاطفة مكانيا في حرية على فضاء الصفحة – أو الصفحات - التي يقع عليها النص.
3 – التحول من الاستهلاك الحسي والمعنوي إلى القراءة المنتجة. إن الصوت لا يمكن استعادته حسيا أو زمنيا، وفي عملية التتابع الزمني للإلقاء الصوتي يكون التركيز الأساسي لعمل الذهن في إدراكه للصوت هو التلذذ باستهلاكه آنيا – حسيا ومعنويا - أو حفظه في الذاكرة للتأمل فيه وربما القيام بقراءة منتجة لاحقا. بينما في إدراك النص عبر حاسة العين تكون الإمكانية أكبر لاستثمار معاودة القراءة والتمهل في القراءة للقيام بعملية قراءة منتجة للدلالة. وكذلك الحال أيضا في عملية الإبداع ذاتها؛ فالمبدع لديه هنا من إمكانات المراجعة والتنقيح والتبديل وإعادة تشكيل اختياراته الإبداعية ما لم يكن متاحا بالقدر نفسه في الثقافة الشفاهية.
4 – التحول من البساطة إلى التكثيف. حيث يتيح التحرر من التلاحق والتتابع الزمني في إبداع الشعر وتلقيه مجالا للتكثيف الدلالي الذي كان يعد – في السابق - مخاطرة بالتعقيد الذي لا تستطيع الأذن ومن ثم الذهن مجاراته أو استيعابه بعمق وتروٍ في التلقي الشفاهي.
***
هذه التحولات التي غيرت تشكلات الإيقاع في القصيدة الحديثة من شأنها أن تفرض علينا إعادة النظر في المفهوم التقليدي للإيقاع برؤية أكثر اتساعا وأفق أرحب في فهم الإيقاع، كما تفرض علينا كذلك ممارسة مغايرة في تحليل البنية أو البنيات الإيقاعية في القصيدة. فلم يعد مجديا الاكتفاء في تحليلنا لبنية الإيقاع في القصيدة الحديثة الاكتفاء بحصر النسق أو الأنساق الإيقاعية في الرؤية الجزئية المحدودة لنسق التشكيل الصوتي الحسي في القصيدة بوصفه المجلى الوحيد للبنية الإيقاعية. بل ينبغي بالأحرى تحليل ذلك النسق الصوتي بوصفه أحد الأنساق التي تتضافر مع الأنساق الأخرى (اللغوية والبصرية والتصويرية والدلالية والتناصية) في تشكيل النسق الكلي للنص الشعري.
وسنحاول من خلال قراءتنا لبعض القصائد أن نحلل الكيفية التي تسهم بها تلك الأنساق الأخرى في خلق إيقاع القصيدة والكيفية التي تتضافر بها مع بقية الأنساق مشكلة البنية الكبرى المركبة لإيقاع القصيدة.
الإيقاع البصري:
حين تحل العين محل الأذن بوصفها الحاسة المدركة أولا لإيقاع القصيدة المطبوعة على الصفحة في الممارسة الكتابية لإبداع القصيدة، فإن آليات إنتاج الإيقاع من قبل الشاعر ثم تلقي ذلك الإيقاع وإعادة إنتاجه من قبل المتلقي تختلف بالضرورة عن آليات إنتاج وتلقي الإيقاع في عملية الإلقاء والتلقي في الممارسة الشفاهية. فقد أصبح من الضروري أن يوظف الشاعر تقنيات بصرية وطباعية بعينها يصوغ بها إيقاع قصيدته ويقود عين القارئ في عملية إعادة إنتاج إيقاع القصيدة كما يود الشاعر للقارئ أن يتلقاه. فإذا كان التناسب الزمني هو العنصر المميز والفاعل في الإيقاع الصوتي، وكذلك التنظيم المخصوص في الحركات والسكنات، والمد والقصر ، وعلو الصوت أو خفوته، والتباعد الصوتي بين مساحات الصمت والكلام، كلها تمثل آليات تشكيل الإيقاع في الإلقاء الصوتي، فإن الشاعر يستعين بعناصر أخرى طباعية وبصرية تتناسب مع حاسة إدراك الإيقاع الأساسية في الممارية الكتابية، وهي العين.
ولعل أبرز تقنيات تشكيل الإيقاع بصريا في القصيدة المكتوبة أنساق توزيع الكلمات والحروف في فضاء الصفحة. ومن ذلك:
1- التباين في طول كل سطر من سطور القصيدة على الصفحة.
2- اختيار القالب الطباعي للنص على الصفحة (القالب الطباعي المصمت المألوف لطباعة نص نثري، أو قالب الأسطر متباينة الطول المألوف في كتابة قصيدة التفعيلة).
3- التباين في توزيع الكلمات في كل سطر، وتوزيع المسافات البيضاء بين كلمات بعينها.
4- اختيار أنواع الخطوط التي تطبع بها القصيدة على الصفحة وأحجامها.
5- استخدام وسائل طباعية لأغراض إيقاعية وليس لمجرد أغراض لغوية نحوية.
ونستشهد هنا على سبيل التمثيل بقصيدة للشاعر علي منصور من ديوانه "ثمة موسيقى تنزل السلالم" يبرز فيها تأثير التشكيل البصري للإيقاع دلاليا:
آه .. أيها الوحيد
كيف وصل بك الأمر إلى هذا الحد
من التعاسة
تماما ..
كأنك تقضي عقوبة الحياة ّ!!
ربما كنت جديرا
بكل
هذا
البؤس
لو لم تكن أباً ...
لهذه البنت الجميلة التي تضحك !!
(علي منصور – ثمة موسيقى تنزل السلالم)
إن النسق الطباعي الذي وضعت فيه القصيدة لم يكن لضرورات لغوية أو نحوية، وإنما بالأحرى لضرورات إيقاعية ودلالية لم يكن لها أن تتشكل من دون تشكيلها بصريا على الصفحة على هذا النحو. فإذا حاولنا مثلا إعادة كتابة القصيدة حسب مقتضيات التركيب النحوي، أو حتى حسب ما كان مألوفا من توزيع الأسطر في قصائد التفعيلة، فيمكن أن نكتبها كالتالي:
آه أيها الوحيد
كيف وصل بك الأمر هذا إلى الحد من التعاسة
تماما كأنك تقضي عقوبة الحياة ّ!!
ربما كنت جديرا بكل هذا البؤس
لو لم تكن أباً لهذه البنت الجميلة التي تضحك !!
على الرغم من أننا لدينا الكلمات ذاتها التي تتكون منها القصيدة والتركيب النحوي ذاته، لكننا قطعا لسنا أمام القصيدة ذاتها، بل لا أظنني مزايدا إن قلت إننا هنا أمام قصيدة أخرى تماما. قد تستقيم قراءة القصيدة على هذا النحو من الناحية اللغوية، لكنها بالتأكيد تفقد كل ما من تأثيرها الإيقاعي وبالتالي الدلالي. إن الأساليب الطباعية التي استخدمها الشاعر في تشكيله البصري للقصيدة على فضاء الصفحة لا تقتصر أهميته على ضبط إيقاع قراءة القصيدة بصريا فحسب؛ بل إنه يشكل بصريا أداء صوتيا بعينه من ناحية، ويؤدي من خلال ذلك التشكيل البصري ممارسة دلالية لا يمكن أن تؤديها كتابة القصيدة استنادا لضرورات التنظيم النحوي.
إن لاستخدام الفراغ والنقاط التي تمثل بصريا امتدادات الصوت أو مساحات الصمت في مواقع بعينها من القصيدة وظيفة إيقاعية وكذلك وظيفة دلالية. وهو ما يتضح – على سبيل المثال - في السطر الأول من القصيدة "آه .. أيها الوحيد" إذ لا يستطيع القارئ بصريا إغفال المد الصوتي للكلمة الأولى "آه" في تنغيم أقرب للتنهيد، متبوعا بمساحة صمت تمثل نبرا دلاليا على معنى التأوه لذلك الوحيد.
إضافة إلى النبر البصري-الإيقاعي لدلالات بعينها في القصيدة يبرزها الشاعر بصريا بجعلها منفردة بارزة وحدها في فراغ السطر:
- التعاسة
- بكل
هذا
البؤس
ثم يطرح التشكيل البصري الصراع الدلالي في القصيدة بين دلالتي السطرين اللذين ينتهيان بعلامتي التعجب:
- كأنك تقضي عقوبة الحياة !!
- لو لم تكن أبا لهذه البنت الجميلة التي تضحك !!
وكأن السطر الأخير من القصيدة ينقض ويتصارع مع كل ما سبق في القصيدة من دوال تشي بيقين دلالات الوحدة والتعاسة والبؤس ("إلى هذا الحد من التعاسة" – "تماما" – "بكل هذا البؤس").
وربما نتبين مجلى آخر لفعالية تشكيل الإيقاع بصريا في النص الشعري من خلال قصيدة أخرى للشاعر علاء عبد الهادي، من ديوانه "شَجِنٌ" الذي يولي فيه الشاعر اهتماما خاصا بالتشكيل البصري من خلال أساليب عدة تتفاوت بين التراسل الدلالي بين النصوص واللوحات والصور المصاحبة لها، وبين ألاعيب التشكيل البصري الطباعي لنص القصيدة. ومن الأسلوب الأخير ما نراه في القصيدة التالية:
- بغتةً..
تْ
طَـ
قَـ
سـَ
فراشةٌ..
فطارت دعواتٌ بيضٌ،
ملأ رئتيَّ.. حفيفُها.
(علاء عبد الهادي – شجن)
يفرض التشكيل البصري للقصيدة هنا إيقاعا بصريا-صوتيا دالاً، لا ينتج دلالته من المدلول المباشر للكلمات، وإنما من تشكيل الإيقاع البصري-الصوتي ذاته. فالتكوين البصري للفعل "سقطت"، والذي يشغل وحده نصف المساحة تقريبا من الفضاء البصري للقصيدة ككل، يخلق نبرا بصريا وإيقاعيا ودلاليا على هذا دلالة الفعل ذاته من ناحية، ويخلق دلالة عكسية لدلالة الفعل المباشرة من ناحية أخرى. فدلالة السقوط، كدلالة حرفية مباشرة للفعل تنحرف دلاليا لعكس المعنى من خلال التشكيل البصري له بترتيب حروفه صعودا وليس هبوطا أو سقوطا.
ومع الجملة التالية من القصيدة:
فطارت دعواتٌ بيضٌ،
ملأ رئتيَّ .. حفيفها.
يتماهى بصريا في مخيلة القارئ طيران الدعوات البيض مع طيران الفراشة، التي وإن كانت دلالة الفعل المباشرة توحي بسقوطها، فإن تشكيله بصريا ينتج دلالة عكسية وهي التحليق للفراشة، ومن ثم يتماهى معها في فعل التحليق طيران الدعوات البيض في مخيلة القارئ في إنتاجها للصورة الكلية للقصيدة.
وهنا يمارس الفعل "ملأ" في السطر الأخير دوره دلاليا وبصريا في حركة ارتدادية في عكس اتجاه حركة السقوط في الفراغ على فضاء الصفحة. وكأن الدعوات البيض، متماهية بصريا في تحليقها مع الفراشات، تعود لتملأ الفراغ الذي خلقه الفعل "سقطت".
تابوهات الإيقاع في قصيدة النثر:
استنادا إلى الفهم الذي ساد في تمييز قصيدة النثر عن شعر التفعيلة، صار هناك ما يشبه اليقين التام من أن قصيدة النثر تخلو من، أو على الأقل ينبغي أن تطرح تماما، كل ما قد يوحي بانتظام إيقاعي يشي بوجود موسيقى صوتية واضحة قد تردها إلى سياق قصيدة التفعيلة. فصار أي حضور لموسيقى صوتية ملموسة في قصيدة النثر يعد نقيصة أو شبهة لا تقل تحريما لدى معظم شعراء النثر عن شبهة اختلاط القرآن الكريم بالشعر.
وبالإضافة إلى التصور النظري السائد عن حتمية غياب أي إيقاع موسيقي واضح عن قصيدة النثر، فإن هناك عاملا آخر ساهم في تكريس ذلك التصور إبداعيا؛ وهو ما يتعلق بضرورات الانتقال المرحلي من كتابة قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر. فمعظم إن لم يكن كل الشعراء الذين كتبوا قصيدة النثر بدأوا كتابة الشعر مع قصيدة التفعيلة أولا، وكثير منهم قد بدأوا مع الشعر العمودي بالأساس. وبالتالي فإن الشاعر، مع ضرورات وآليات الانتقال والتخلص من شكل إلى آخر، تنتابه حالة من التوجس والتحفز تجاه ما يراه أثرا من تقنيات الكتابة التي يهجرها لينتقل إلى الشكل الجديد الذي يصبو إليه. وهو ما يذكرنا بالقصة الشهيرة في تراثنا عن الذي أراد أن يتعلم قرض الشعر فطلب النصيحة من شاعر كبير، فنصحه أولا أن يذهب ويحفظ ألف بيت من الشعر، فلما ذهب وحفظها وعاد إليه طلب منه أن يذهب وينساها كلها قبل أن يبدأ في قرض الشعر.
لكن تخلص الشاعر من ميراث تقنياته الإيقاعية التي درج على الإبداع فيها إلى اطراح الإيقاع الصوتي كلية لا يتم بيسر ولا بسهولة على الإطلاق. وربما لا يتم على نحو كامل حتى لو رغب الشاعر في ذلك؛ لأن إرث الإيقاع الصوتي قد تكرس كأحد مكونات الوعي الإبداعي والممارسة الإبداعية لدى الشاعر. ويظل ذلك الإرث يمارس فعاليته في إبداع الشاعر لقصيدته، سواء كان واعيا بذلك أو غير واع. ولعل ذلك يبرز أكثر ما يبرز عند شعراء الستينيات الذين كتبوا معظم إنتاجهم الشعري في قصيدة التفعيلة ثم انتقلوا إلى التجريب في قصيدة النثر. وتعبر قصيدة سعدي يوسف "كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة" ببراعة عن تلك اللحظة الإبداعية تحديدا:
"لقد استخدم وزنا جديدا، أو اللاوزن. الأمر لا يهم كثيرا. عندما يبتعد الأخضر بن يوسف عن الأرض يفقد قواه. هكذا يظل جناحه مشدودا بخيط سائب، خيط يمسح وجه الأرض."
فالشاعر في علاقته بالإيقاع لحظة الإبداع يحلّق نحو حرية الإيقاع لتتحول خيوط الإيقاع إلى خيط سائب يمسح به ارض الإيقاع بقوانينها المسبقة دون أن توقف تحليقه.
كما تنعكس تلك العلاقة بإرث الإيقاع الصوتي كذلك، وإن على نحو مختلف، في قصائد شعراء السبعينيات والثمانينيات. بيد أننا نلحظ في تجارب شعر السبعينيات – وبخاصة في مرحلة نضجها- وعيا مميزا بحضور ذلك الإرث الإيقاعي دون أي إحساس بالتوجس أو التشوش في حضوره في القصيدة. بل ربما العكس هو الصحيح تماما؛ حيث نرى في بعض تجارب شعراء السبعينيات توظيفا مميزا للتنويع الإيقاعي في القصيدة بين أكثر من تشكيل إيقاعي صوتي في القصيدة الواحدة، بما يغني القصيدة إيقاعيا وبنائيا ودلاليا، دون شبهة ارتياب من "شبهة" أن هذا قد ينفي عن القصيدة انتماءها لقصائد النثر. ففي مرحلة معينة من تفاعل شعراء السبعينيات مع قصيدة النثر يجد الشاعر أريحية في التعامل مع الإيقاع الصوتي في القصيدة بحرية مطلقة لا ينتقصها الارتياب من حضور الإيقاع الصوتي المنتظم، بل وربما الزاعق أحيانا، في قصيدته.
ومن الأمثلة على توظيف التنويع الإيقاعي بين إيقاعات متعددة، أو لنقل متحررة، وإيقاع النثر في القصيدة الواحدة، قصيدة "تنحدر صخور الوقت إلى الهاوية" للشاعر رفعت سلام، من ديوانه "وردة الفوضى الجميلة" 1987، ومنها:
لا .. لا شيء
ما الوقت الآن
كان الأفق ينام على خاصرة الأرض،
فيوصد في وجه طيور البحر شبابيك
الترحال.
أكان الصيف إذا انتصف الزمن الواعدُ في
جسدينا .. فاشتعلا، أم أن غيوم النومِ
انفلتت في الطرقات.
أتذكر
حقا .. ؟
لكن قليلا من ثرثرة الليل تزيل عن القلب هموم اليوم
هل يمكن حقا لقليل من ثرثرة الليل
أن يصلح ما أفسده اليوم؟
(رفعت سلام – وردة الفوضى الجميلة)
فالتنويع الإيقاعي هنا تتراسل فيه تشكلات مختلفة من وحدات إيقاعية قد ساد اعتبارها على سبيل التعسف تشكيلات وتنويعات مختلفة من تفعيلات وزن المتدارك (فاعلن – فعْلن – فعِلن). وأتصور أنه من التعسف هنا محاولة قولبة التشكلات الموسيقية للوحدات الإيقاعية في القصيدة، التي تنبني على التناسب الموسيقي بين المقاطع الصوتية بوصفها الوحدات البنيوية الصغرى في نسق الإيقاع الصوتي. فالقول، على سبيل المثال إن القصيدة تنتمي لإيقاع المتدارك لمجرد أننا استطعنا أن نحشر الوحدات الإيقاعية حشرا في ما يعتبر تنويعات تُفرض بدورها قسرا لنقول إننا أمام بحر المتدارك، ومن خلال تبرير عدم التماثل الواضح بين الوحدات الإيقاعية بأنه من فعل الزحافات والعلل، لهو قول يشوه البنية الإيقاعية في القصيدة ويقضى على ديناميكية إبداعها الكامنة في اختلافها الحر عن بنى إيقاعية أخرى.
فإذا استسلمنا مثلا للتصور الذي يرى أن تكرار تفعيلات (فاعلن – فعْلن – فعِلن) في القصيدة تجعلنا أمام إيقاع بحر المتدارك، فكيف سيفسر لنا هذا التصور الاختلاف الإيقاعي بين أجزاء القصيدة في التباين الإيقاعي الذي يخلق حوارية بين صوتين في القصيدة. تلك الدلالة الحوارية بين صوتين في القصيدة التي لا يدل عليها التوزيع الطباعي على الصفحة وحده، بل يدل عليها كذلك اختلاف الأداء الإيقاعي بين الصوتين المتحاورين في القصيدة، حتى وإن كانا ينتميان تقليديا لتفعيلات بحر المتدارك. وإذا تأملنا هذا الجزء من القصيدة مثلا لنتبين الاختلاف الإيقاعي:
لا .. لا شيء
/o /o /o o
ما الوقت الآن
/ o / o /o/o o
كان الأفق ينام على خاصرة الأرض،
/o /o/o / / /o ///o /o / //o / o /
فيوصد في وجه طيور البحر شبابيك
//o // /o /o / //o / o/o / //o /o/
الترحال.
o /o/o o
ويكشف نسق الوحدات الإيقاعية في هذا الجزء من القصيدة أن الإصرار على قولبة النسق الإيقاعي هنا ليندرج عنوة تحت إيقاع بحر المتدارك قد يستلزم مزيدا من التعسف ولي عنق الإيقاع بوحداته التركيبية الصغرى القائمة على المقاطع. فحتى مع الاستعانة بكل الحيل التي تقدمها الزحافات والعلل التي يمكن بواسطتها تبرير التمايز الواضح بين الوحدات التفعيلية المفترضة، يظل النسق الإيقاعي للقصيدة متمردا على التبسيط المخل الذي يتصور أنه من الممكن إلصاقه ببحر المتدارك وكفى، دون إدراك لتمايز النسق الإيقاعي المتحقق بالفعل، والذي قد ينقض بذاته – في هذه القصيدة – كما في قصائد أخرى كثيرة التصور السائد عن صلاحية تطبيق النسق الخليلي للبحور على قصائد الشعر الحر.
وبالنظر في التقسيم المقطعي للجزء السابق من للقصيدة نجد أن المحاولة المتعسفة لفرض تفعيلات المتدارك لا تستقيم مع المتحقق الإيقاعي في القصيدة. فناهيك عن أن تفعيلة المتدارك الأصلية (فاعلن) لم تتحقق مرة واحدة في القصيدة، وإنما نجد فقط تنويعاتها التي تحتاج في تبريرها للزحافات والعلل التي تحتاج بدورها لتبرير يمكن معه أن يستقيم التصور المتعسف لإدراج القصيدة في بحر المتدارك.
ولا يمكن لإدراج القصيدة في بحر المتدارك كذلك أن يشرح أو يبرر التمايز الإيقاعي بين صوتين يتحاوران إيقاعيا في القصيدة؛ فالإيقاع المتباطئ السكوني للغاية بتزايد واضح للسكنات وأصوات المد في:
لا .. لا شيء
/ o /o /o o
ما الوقت الآن
/ o / o /o/o o
يتمايز بوضوح عن الإيقاع المتسارع في الصوت الآخر الذي تخفت فيه السكنات وتتزايد الحركات لتزيد الإيقاع تسارعا وتوترا:
كان الأفق ينام على خاصرة الأرض،
/o /o/o / / /o ///o /o / //o / o /
فيوصد في وجه طيور البحر شبابيك
//o // /o /o / //o / o/o / //o /o/
الترحال.
o /o/o o
وهذا ما يمكن أن يجعلنا الآن نضع التصور الإيقاعي المبني على وحدة التفعيلات موضع المساءلة؛ مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن التفعيلات ما هي إلا تشكيلات تجريدية حاول من خلالها الخليل بن أحمد والعروضيون من بعده وضع تصور نظري تجريدي يجمع الوحدات الصوتية الأصغر وهي المقاطع (الأسباب والأوتاد) في أنساق بنيوية صغرى (التفعيلات) التي تشكل مجتمعة بدورها أنساقا بنيوية أكبر (البحور)، وهي كلها – ومهما كانت عبقريتها - أنساق تجريدية بالأساس تحاول اكتشاف، أو بالأحرى وضع، نظام نظري تجريدي رياضي على المتحقق الإيقاعي الصوتي متمثلا في مقاطع الأصوات والتناسب بينها.
ونقدم هنا التعريف الذي صاغه سعد مصلوح للإيقاع، والذي يجمع فيه القاسم المشترك بين عدة تعريفات للإيقاع أوردها كل من Seymoyr Chatman في كتابه "نظرية الوزن" و D.W. Harding في كتابه "من الكلمة إلى الإيقاع" إذ تنظر هذه التعريفات للإيقاع بوصفه "سلسلة" من الأحداث تتكرر في زمان، ويفصل بينها فاصل زمني معين أو مجموعة من الفواصل الزمنية، تنتج في عقل المتلقي إحساسا بالتناسب بين الأحداث، أو مجموعات الأحداث التي تتشكل منها السلسلة. أما معالم الأحداث فتتمثل في الأصوات أو تجمعات الأصوات". 25
فالأساس في الإيقاع الشعري هنا هو التناسب بين الوحدات الإيقاعية وليست التفعيلات التي هي مجرد إطار تجريدي لم يستقم قبوله ولم يسوغ مقومات وجوده إلا بمنظومة كاملة من الزحافات والعلل. ولعل فكرة الدوائر العروضية ذاتها، بقيامها على نظرية التباديل والتوافيق الرياضية لطرح تصور تجريدي للتناسب الذي يجمع الوحدات الصوتية، لهي في ذاتها دليل على أن الإطار النظري التفعيلي هو تصور تجريدي يمكن إبداله أو استبداله بتصور مختلف. بل ويمكن أيضا اطراحه كلية، وبخاصة بعد انتفاء مسوغات وجوده في الثقافة الشفاهية التي سوغت قبوله لسببين:
الأول: انتظام وحدة البيت الشعري كوحدة بنيوية إيقاعية في قصيدة الشعر العمودي. فتلك الوحدة المكتملة والمنغلقة في تكرار ينتظم على مدار القصيدة سوغت وضع تصور تجريدي لوحدات أصغر (التفعيلات) كمحاولة- حينها لتقعيد رياضي يفسر التناسب بين الوحدات الصوتية في البيت الشعري.
الثاني: الحاجة لوضع قواعد وأصول نظرية للعلم بموسيقى الشعر لغير الشعراء ولمن لم يترسخ لديهم الحس بموسيقي الشعر العربي، وبخاصة مع دخول شعوب أخرى للثقافة العربية والحاجة للتقعيد للحس الموسيقى مثلما كانت الحاجة للتقعيد للغة وتدوينها خشية اللحن فيها.
ومع ذلك فلم يكن لعلم العروض ضرورة في اكتساب الحس الموسيقي لأي شاعر يرغب في تعلم قرض الشعر، وإنما كان اكتساب ذلك الحس الموسيقى من منبع الشعر ذاته وليس من علم العروض. ولأن "الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاءوا جائز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم" كما يقول الخليل بن أحمد نفسه، فإنهم أيضا أمراء الإيقاع يقاس بهم ولا يقاس عليهم، يتصرفون فيه كيف شاءوا. وهنا ينبغي على الناقد أن يحلل النسق الإيقاعي الذي يبدعه الشاعر في كل قصيدة بدلا من أن يكون شغله الشاغل مطابقة الإيقاع المتحقق بالفعل في القصيدة على تصور نظري تجريدي مسبق.
ومن هذا الوعي الإبداعي لدى شعراء قصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر بضرورة التحرر من تابوهات الإيقاع التي قد يفرضها كل شكل من الأشكال التي تطور فيها الشعر العربي، صار الشعراء يعالجون الإيقاع في قصائدهم بحرية تعكس في كثير من الأحيان إعلانا واضحا بضرورة التمرد على كل تابو إيقاعي يجهض إمكانات الشاعر الإبداعية. وكما رأينا في قصيدة الشاعر رفعت سلام تنويعه الإيقاعي الذي يخلق بنية إيقاعية حوارية، نجده يفعل ذلك مكررا في دواوين أخرى لا نجد فيها الانتظام المقطعي نفسه الذي وجدناه في هذه القصيدة، وإنما تنبني الحوارية والتعددية الإيقاعية في القصيدة من خلال التشكيل البصري لفضاء الصفحة. ففي ديوانيه "إشراقات" و "إلى النهار الماضي" - على سبيل المثال – يتجاور ويتوازى ويتفاعل على فضاء الصفحة ذاتها نصان شعريان يتفاعلان بصريا ودلاليا. 26 كما يتحاور في الديوان الثاني "إلى النهار الماضي" إيقاع الشكل الطباعي التقليدي المصمت لكتابة قصيدة النثر كما في تعريفها الغربي الأصلي الذي أشرنا إليه في التقديمات النظرية، وهو الشكل الطباعي للنثر، مع الشكل الطباعي لقصيدة الشعر الحر.
القافية والوزن لتحرير إيقاع قصيدة النثر!
بعد نصف قرن تقريبا من تكريس قصيدة النثر شكلا شعريا يتمايز عن أشكال الإبداع الشعري الأخرى – كما ساد التصور النقدي والإبداعي – باطراحه لكل شكل من أشكال الموسيقى الصوتية المتعارف عليها من قافية وانتظام وزني في القصيدة، برزت محاولات إبداعية وتنظيرية في العقد الأخير داعية لعودة التجريب الموسيقي في قصيدة النثر مرة أخرى. ومن تلك الدعاوى ما سبقه طرح نظري بالطموح لـ "قصيدة نثر مقفاة" كما نادى شاكر لعيبي على سبيل المثال، زاعما أن استخدام القافية في قصيدة لنثر لا ينتقص من كونها قصيدة نثر، بل إنه يغني موسيقية قصيدة النثر. وقد كتب مجموعة من القصائد في ديوان "الحجر الصقيلي" محاولا فيها تطبيق طرح النظري إبداعيا.
في حوار مع شاعر قصيدة النثر الأمريكي روبرت بلي Robert Bly عن نزوعه مؤخرا لكتابة قصيدة نثر ذات إيقاع موسيقي، يقول: "لقد بذلت الكثير من الوقت منذ سنوات طويلة محاولا تحرير الصورة من نسيجها الذي أسميه الآن عالمها التراتبي الارستقراطي. ولكنني الآن عندما استخلصت الصورة ووظفتها في عملي بدأت أقول لنفسي إن هذه الصورة ترنّ في الجسد، ولكن ليس في الأذن. وبدأت أفكر مليا في تلك السونيتات القديمة حيث يرن الصوت ويرجّع صداه على نحو مذهل. ومع تكرار تلك السونيتات تبقى عالقة فينا. فكانت الخطوة التالية بالنسبة لي كيف أستخلص الصوت من المبنى (القصيدة) المحترق". 27 وهو ما يعبر عن نزعة برزت مؤخرا لدى بعض كتاب قصيدة النثر الأمريكيين لاستعادة الطاقة الصوتية في إغناء إبداعية قصيدة النثر إلى جانب الطاقة التصويرية.
وكما اشرنا سابقا في تعريفات قصيدة النثر في أصولها الغربية من أن غياب الوزن القافية ليس المحدد الأساسي لقصيدة النثر، بل إنه من الممكن أن تشتمل قصيدة النثر على تشكيلات وزنية وربما قافية كذلك. ومع ذلك فإن المحك في مدى تمايز الممارسة الإبداعية بتوظيفها للطاقة الموسيقية في القصيدة بين الأصالة الإبداعية والافتعال. ولكي يتضح الفارق هنا سنقارن بين تجربتين لتوظيف عنصر الموسيقي في قصيدة النثر في هذا السياق، بين تجربة شاكر لعيبي من جهة وتجربة حلمي سالم من جهة أخرى.
وسنعرض هنا جزأين من قصيدتين لشاكر لعيبي من ديوانه الذي كرسه للتجريب فيما أسماه "قصيدة النثر المقفاة". يقول الشاعر في قصيدة "الحجر الصقيلي":
حجرٌ يحدِّث حجراً عن ماضيه
الصياد والصقر يسهران على الحجر الكريم
الصياد يغرق في زرقة السماء
وعين الصقر تسيلْ
الكثير والقليلْ
يتقلبان على سريرها
الألم القوي يبكي أمام شاهدة الهواء العليلْ
الرجس والطهارهْ
ينقشان في قلبها ذات العبارهْ
الحذاقة والغرارهْ
ينبثقان في دمعتها الشمسية الفوّارهْ
ويقول في قصيدة أخرى بعنوان "رباعيتان على هاجر":
لكم فيروزة هجعتْ على خَدَرٍ - في الترابِ
لكم مَسَحَت ْرياحُ الشرق خديها بإكرة - هذا البابِ
لكم من حُرة حَيرى تــَبـَعْـثـــَر عطرُها - والعذاب
لـَكَمْ ضَيـَّعْتُ شمساً في منافي - الغرابِ
لكم فتشتُ عن يدٍ - قمريةٍ تشعشع وسط الضبابِ
لكم من ليلة ٍدارتْ وحارتْ في لياليَّ - العجاب
لكم نـَـقـَّلــْتُ خطوي بين ليلى - والربابِ
كأني يا غريبة أهتدي بخطى غريبة في سواد - الكتابِ
(مفاعلتن – مفاعلتن – مفاعلتن – مفاعلتن – مفاعلتان)
وبعيدا عن الهاجس الانطباعي لدي بلهاث الشاعر الواضح وراء التقفية المصنوع صنعا والمفتعل افتعالا، فإن انتماء النصين لقصيدة النثر يعتبر لدينا موضع مساءلة. ليس لوجود النزعة الوزنية أو التقفية فيهما، وإنما بسبب افتعال تلك النزعة ذاتها التي تقوض واحدا من أهم مقومات قصيدة النثر في التحرر في تعاطيها للإيقاع، وليس اللهاث نحو افتعاله بما يجعل الإيقاع عنصر تقييد بدلا من أن يكون عنصر تحرر.
وربما يدلل على وجهة نظرنا أن الشاعر لم يستطع أن يحقق إبداعيا ما زعمه من خلق "قصيدة نثر مقفاة" دون أن يسقطه ذلك مرة أخرى في بنية شديدة الوزنية على النحو التقليدي. ففي القصيدة الثانية لا يقيد الشاعر نفسه بالتزام متعسف مفتعل للقافية فحسب، بل إن تقيده المفتعل هذا رده مرة أخرى لإيقاع تفعيلي صارم الانتظام تقريبا. ومرة أخرى اكرر أن المحك هنا ليس في استخدام الانتظام الإيقاعي والقافية في حد ذاتهما، بل في افتعالهما الذي يقيد بنية الإيقاع في القصيدة بدلا من أن يحررها.
ولربما يتضح ما أزعم من أن وجود الإيقاع الصوتي المنتظم والقافية معا في قصيدة نثر لا يمثل دائما عنصر ردة إيقاعية، بل قد يكون عنصر تحرير لإبداعية القصيدة إيقاعيا من جمودها الذي فرضته عليها تابوهات نظرية تحرم عليها استخدام الإيقاع الصوتي في أي شكل من أشكاله. حتى ساد تصور بان شبهة وجود انتظام إيقاعي أو تنغيم موسيقي في قصيدة نثر يعتبر نقيصة لا تغتفر لدى كثير من شعراء قصيدة النثر في العقدين الأخيرين. وهنا تأتي الأهمية القصوى للقصيدة التي نستشهد بها هنا للشاعر حلمي سالم، ليس لكونها من أروع النماذج الشعرية التي تعالج الإيقاع الموسيقي إبداعيا في قصيدة النثر ببراعة نادرة، بل لكون القصيدة تتغيا بالأساس مساءلة المفهوم السائد نظريا وإبداعيا حول شعرية قصيدة النثر، بل وتقوضه لتفرض حسا مغايرا بشعرية القصيدة يحررها من التابوهات التي فرضت عليها.
يقول الشاعر في قصيدته التي تحمل عنوان "الشعرية":
هاتان الساقان شهيقان: شهيق يهمس خذني، وشهيق يصرخ إنا مفترقان. عمودان من الدم المطلوق: الأول ورديٌّ شأن بكارات الأغشية البكر، الآخر فيه من الجرح القاني. كيف سأشرب من سمّانة ساق السيدة إذا لم أنعتها بالأيطل والظبي وأهتف إنهما الملعوقان. الساقان سؤالان عميقان انتصبا ساريتين، الساريتان بجمرهما المتأجج تحترقان. الأم تقول: هما الفتنة تختبئان كسفاحين، السفاحان بفن القنص عريقان، إذا كمِنا برهةِ ليلٍ، برهة ليلٍ أخرى ينطلقان. هنا الساقان مثنى ربٍّ وهما المناحان الخلاّقان. الساقان مؤرجحتان بمشنقةٍ، وعلى الحبل يضيء المشنوقانِ. فماذا يخسر أهل الكوكب إن جُرِّحتا ومشت بقعٌ حتى الكاحل تشتجران وتعتنقان. وما قَدَري إن أنهيتا بالشفتين الواقف في بابهما راعٍ أرقٌ في عينيه الحراس الأرقون وبينهما جنديان بصابون الركبة أرقان. فويحك من هيمنة الساق على النص ومن هيمنة الوزن على الخفقان. اكسر: فالساقان حوافٌ في هوّات مفتوحات أو جيشان بعملاء الشهوة مخترقان. اكسر فوراء الساقين عظام تنخرها الرغبة ويرويها في الطلّ نشاز فوق نشازٍ يصطفقان. اكسر: فالساقان النثر المتوتر وهما في العائلة الولدان العاقان. شهيقان احترقا فاحترق شهيقان. اكسر: فالساقان إذا أشربتا كل ثلاثين نهارا طفْحَ الدم تصيران الشعرية إذ عجنت بالطمث وإذ كسر الحقان.
الأصدق قل:
ساقا حبيبي تصطكان إذا قبّلتهما خلسةً بجوار بائعة الشاي. ساقا حبيبتي مضمومتان تحت المائدة وإحدى السمانتين أغلظ، وهي تشخبط بالرابيدو على أصول البحث.
(ديوان "يوجد هنا عميان")
إن المفارقة الكبرى التي تصنعها القصيدة هنا أنها تحرر شعرية قصيدة النثر من نمطيتها بفتح قصيدة النثر مرة أخرى، وبطريقة شديدة التميز والإبداع على كل طاقاتها الإبداعية الموسيقية واللغوية والبنائية والتصويرية التي هجرتها لعقود مخافة شبهة أن تلتبس بقصيدة التفعيلة أو القصيدة التقليدية أو شبهة الارتداد إلى أيهما. فبعد أن كان الهم الأساسي في تحرير القصيدة من ربقة الانتظام الوزني ونمطية الإيقاع التي تقيد إبداعية القصيدة فتكرست جهود الشعراء لتخليص قصيدة النثر من كل بقايا الوزن والقافية، هيمنت على كتابة قصيدة النثر نمطية من نوع آخر تفرض حرمانها من كل تشكيل للطاقة الموسيقية داخل القصيدة، مما خلق تنميطا لا يقل قسوة وتقييدا على قصيدة النثر من جهة، إفقارا لطاقات القصيدة من جهة أخرى بحرمانها من إمكانات توظيف كل الطاقات الإبداعية الشعرية بدعوى ضرورة التمايز عن قصيدة التفعيلة أو مخافة الارتداد لنمطيتها.
ويكشف الجزء الأخير من القصيدة، الذي يبدأ بـ "الأصدق قل"، عن نزوع الشاعر الواضح لتعرية النمطية التي اصابت كتابة قصيدة النثر في العقود الأخيرة. فالجزء الأخير من القصيدة يضع الشكل النمطي الذي كان يمكن أن تكتب به القصيدة بوصفها "قصيدة نثر" وفقا للنمط الذي هيمن على أسلوب كتابة قصيدة النثر موضع مساءلة. وكأن الشاعر يسائل إبداعيا النمط السائد لشعرية قصيدة النثر، بل ويقوضه من خلال المقارنة بين التنميط والإفقار اللذين فرضا على قصيدة النثر، والغنى الإبداعي الذي يمكن أن تغتني فيه القصيدة مرة أخرى باستعادة طاقاتها التي سلبت منها (لغويا وإيقاعيا وتصويريا وبنيويا) دون أن ينتقص ذلك هنا من تحرر الإيقاع وديناميكيته ولذته.
وكأن قصيدة النثر التي تحدثنا عنها من قبل بوصفها "العنقاء التي أحرقت ريشها لتظل الحقيقة أبهى" في اطراحها للإيقاع الوزني حين كان زخرفا مستعارا ترتديه كل قصيدة فيطمس خصوصية كل تجربة شعرية، تعود هنا لتكتسي وتزدهي بريشها وزينتها النابعة من خصوصية تجربتها الذاتية التي تتشكل من داخل التجربة الشعرية ذاتها "كما يشق النهر مجراه خلال سريانه"28 حسب تعبير فيرهارين الذي استخدمته برنار في توصيفها للحرية التي يتسم بها تشكل قصيدة النثر في الفعل الإبداعي.
المشي والرقص .. والرقص التعبيري
كثيرا ما استخدمت المقارنة بين المشي والرقص لتوضيح أهمية الفارق النوعي الذي يضفيه عنصر الإيقاع على الكلام العادي في الشعر. وهو تشبيه جيد جدا، بشرط ألا يحيلنا لنمط من الرقص شديد الآلية والرتابة، فلا يزيد التشبيه المقارنة إلا إفقارا لمفهوم الإيقاع في الفنين معا من حيث أراد إثبات الصفة النقيضة، وهي غنى الإيقاع. صحيح أن كل رقص يستلزم نوعا من الإيقاع ليتحقق شرط فنيته كرقص، لكنه من المعروف كذلك أن أردأ أنواع الرقص وأكثرها رتابة وأفقرها فنية نوع يقوم على تكرار نمطي رتيب لإيقاع الحركات نفسها. وأكثر أنواع الرقص تعبيرا ودلالة ما تنوعت إيقاعاته وشكلت حركاته المتنوعة والمتباينة أنساقا حركية تعبيرية تغني تعبيرية الدلالة الحركية وفنيتها، كما نرى في فنون الرقص التعبيري أو في فن الباليه مثلا. وأتصور أن بهذا المفهوم للإيقاع في الرقص التعبيري تصبح مقارنته بالإيقاع في الشعر أكثر دلالة وكشفا عن المفهوم الذي نعنيه في قصيدة النثر، وليس الفهم النمطي الأحادي للإيقاع الذي درجت على تداوله جل الدراسات التي تبحث عن نسق إيقاعي موحد (مونوفوني) في القصيدة.
وإذا ما تبنينا هذا الفهم لإيقاع تعددي متنوع ومتحرر في القصيدة، نستطيع أن نزعم أن قصيدة النثر لم تطرح الإيقاع أبدا. ولكنها اطرحت الفهم المحدود والنمط الأحادي للإيقاع اللذين هيمنا على القصيدة وقيدا حرية إيقاعها لقرون، في حين تسعى قصيدة النثر لفتح التجربة الشعرية على آفاق أرحب للإيقاع من شأنها في نهاية الأمر أن تغني الأداء الإيقاعي للنص الشعري بدلا من أن تختزله في مجلى واحد ووحيد من مجالي الإيقاع، وهو المجلى الصوتي التكراري النمطي. إن عدم تطابق قصيدة النثر مع واحد أو مع كل الأنماط الوزنية التي تعارفنا على أنها تمثل "إيقاع الشعر العربي" لا يعني أن القصيدة تخلو من الإيقاع. بل ربما الأحرى أن نقول إن ما لدينا من تصورات وأنماط للإيقاع لم تعد قادرة على استيعاب أو توصيف آفاق إيقاعية أرحب شارفتها القصيدة وأبدعت فيها، بينما لا نزال نحتاج إلى تغيير تصوراتنا عن الإيقاع وإغناء آليات إدراكنا له لنستطيع مجاراة القصيدة في استشرافاتها وإبداعاتها الإيقاعية.
فإذا ما أردنا بحق أن نفهم وأن نشعر بإيقاع القصيدة فلا ينبغي أن نبدأ من مساءلتها، سواء المساءلة حول مدى تحقيقها للأنماط الإيقاعية الجاهزة التي نتوقعها، أو المساءلة التصنيفية عن النوع الأدبي الذي ينبغي أن ندرجها تحته. وإنما نبدأ من الرغبة الحرة والمتحررة في مشاركتها إيقاعها الخاص، أو لنقل هنا في "مراقصتها". فإذا ما رغبت في المشاركة في رقصة جديدة لم تألفها من قبل فإن هذا لا يمكن أن يتحقق إذا ما ظللت مصرا على تطبيق الحركات التي ألفتها من رقصات أخرى سابقة، بل ينبغي أن تكون أكثر انفتاحا وتحررا لتقبّل واستيعاب حركات الرقصة الجديدة.
وقد اخترت هنا قصيدة أخرى للشاعر حلمي سالم أتصور أنها من أبرز النماذج على الغنى الإيقاعي في قصيدة النثر، وأعنى هنا مرة أخرى ذلك الإيقاع الذي لا ينبني على مبدأ التكرار الصوتي، وإنما على تضافر مجموعة من الأنساق البنائية (الصوتية واللغوية والتصويرية والتناصية والثقافية) التي لا تتشكل العلاقة بينها على مبدأ تناغم العزف المنفرد وإنما على مبدأ التعدد والتحاور السيمفوني. القصيدة بعنوان "الليلكي" وهي من ديوان "فقه اللذة" (1995):
الليلكي
يحمل الطمي حلم المتعبين / قرب الصوامع قالت / ريقه الصباحي لي / عثرات العمر غلاّبة / هذا قميص أختي الصغيرة وذاك الذي تحت حاجبيك ضنى المغادر / كيف أجبت على سؤال النوبي؟ / خل الوردة سرية / أنا أنا أنا / ليس على لحمي ملابس داخلية / مصر التي في خاطري / صديقاتي يقلن لي: اشتري الليلكي بالفضائح المقدسات / سوف ترقصين في استقبال الرفاق الخارجين من طرة / أنت أنت أنت / علماء وعمال / أناديك وهذا يكفي لأن أموت / غرغرينة تأكل البلاد / فضّ / ليس على القتلى حرج / هل الشهوة تعني المبايعة؟ / أنا المسوقة إلى الليلكي / أنتركهم يغصبون العروبة؟ / أغدو بحريتي على عتباته / مجد الأبوة والسؤددا / له جنائزي والإرادات والزورق / فليسوا بغير صليل السيوف / سلطانه سلطاني / وتمساحه على البوابات / يجيبون صوتا لنا أو صدى / اقرأ المحفور على نصب الصداقة ستجد الحرفين من البائية والحائي شاهقين / مملوءة أنا بصبوة الققنس امتلاء الأثرياء / انظر إلى الجميلات واطلبني / أهلا بالمعارك / صرت تدخلني كأنك تموت بعد فحة / أسطورتان / وصرت أنفرد على بطني كأني فكرة مقوسة / أنا المثنى والموتى وحيدون / الغرغرينة التي تفشو في عروقي تجهز القربان / فلنخبئ الوثيقة عن عيون العاطلين / بالأحضان يا مزارع / هذه هي البحيرة التي تمنتها الطفولات / يأتيني الهوى الذي ارتقبته ثلاثين عاما وثمانية / عدى النهار / قابلت سيدة تقول لسيد: لماذا أبلغت عن ثلاثين شهيدا ثم صببت في جوفك الكونياك باكيا؟ / يريدكِ الليلكي / لنا عند محمد شايان / راح فجر يؤذن في الناس عندما كنت أؤذن في فذة / جيل واحد وأحلام عديدة / سوف أقرأ لك "طائر الرذاذ" ونحن مخلوطان في علقة / تماثيل رخامية وأوبرا عل ترعات النجعي / أيقظي الليلكي بإصبع القدم واستريحي ساعة من خيانات الأحبة / بيرق / نداكِ ما زال في حلقي ولسنا أصحاب مشأمةٍ.
في هذه القصيدة التي اختار لها الشاعر شكل الكتلة طباعيا تتحاور وتتصارع وتتجاوب مجموعة من الأصوات بمحمولاتها الصوتية والدلالية والتصويرية، مشكّلةً بنية إيقاعية سيمفونية بوليفونية. يتحاور فيها الخطاب الذاتي مع الخطاب الجمعي، الصوفي مع الإيروتيكي، الإيديولوجي مع الفرداني اليومي، على أكثر من مستوى: على المستوى اللغوي والمستوى الصوتي والتصويري والإيديولوجي، وكذلك على المستوى التناصي بأبعاده الصوفية والشعرية والإيروتيكية والميثولوجية والسياسية.
تصور لغة القصيدة بمحمولاتها الموسيقية والتصويرية والدلالية المتعددة "الليلكي" في تجليات ذاته المتشابكة بين تراثات متباينة تتحاور وتتصارع. تراثات تتجلى في التناص مع خطابات بعينها يتراسل معها النص ويشتبك بأكثر من طريقة وعلى أكثر من مستوى. فمن أبرز الخطابات التي تتناص معها القصيدة هنا الخطاب السياسي لحقبة الستينيات في مصر وملحقاته الإيديولوجية التي تشكل من خلالها وعي جيل السبعينيات وترسمت حدود حلمه الوطنية والقومية متمثلة في أشهر أغنيات وقصائد الخطاب السياسي للستينيات، وترويجها لصورة الوطن الحلم على المستوى الداخلي، ولحلم القومية العربية وخطاب القوة والوحدة لآمال ووعد بوطن قوي لا يعرف الهزيمة أو الانهزام.
وربما من اللافت استدعاء أكثر تجليات هذا الخطاب موسيقية متمثلة في الأغاني أو القصائد المغناة. وهو
ما يخلق تحاورا صوتيا مع الخطابات الأخرى أو الأصوات الأخرى في القصيدة، وبخاصة صوت الخطاب الفردي الرومانسي أو الإيروتيكي أو اليومي في نبراته المتباينة بين النشوة الشبقية المنتصرة أحيانا والمنهزمة أحيانا أخرى. ونبرة الانهزامات الذاتية اليومية التي تعكس أثر هزيمة الخطاب الإيديولوجي الزاعق. ويتراسل مع تلك النبرة (بالمعنى الدلالي وبالمعنى الإيقاعي ) الخطاب الصوفي الذي لا يقتصر فقط على تجليه الإسلامي وإنما يمتد إلى أصول صوفية فرعونية، أو لنقل تأويلات نص حلمي سالم للمتون الفرعونية صوفيا لتتراسل مع الخطاب الصوفي الإسلامي والمسيحي معا.
ومن خلال الجدل الدلالي اللغوي يضاف بعد جديد للتحاور الإيقاعي في القصيدة. فعلى مستوى الالتفات في استخدام الضمائر يتجلى تداخل الأنا والأنتَ أو الأنتِ، فمعظم الجمل التي تتحدث بضمير المخاطب لا تعطينا – عمدا - تحديدا واضحا لصوت المتكلم وهل هو صوته أو صوتها، ليشتبك الصوتان ويتحدان حينا، بينما يتجادلان ويتمايزان حينا آخر عندما يعمد النص لوضع علامات التشكيل التي تحدد هوية صوت المتكلم مثلما نجد في: "يريدكِ الليلكي" أو " نداكِ ما زال في حلقي ولسنا أصحاب مشأمةٍ". ذلك التحديد الذي تعمد القصيدة في معظمها لمواراته بتعمد إغفال علامات التشكيل التي تحدد هوية صوت المتكلم، كما نجد مثلا في: "أنت أنت أنت"، أو "أنا أنا أنا" أو " أناديك وهذا يكفي لأن أموت" أو " يأتيني الهوى الذي ارتقبته ثلاثين عاما وثمانية" فيشتبك الصوتان ويتحدان ويندغمان في صيغة المثنى التي تصير الإيقونة اللغوية والشعرية التي تقاوم الموت عند حلمي سالم "أنا المثنى والموتى وحيدون". 29
لقد صارت الأصوات متداخلة ومندغمة ومشتبكة في تضفير أو تعشيق لا يسهل معه فصل أحد الأصوات من المنظومة الإيقاعية بمستوياتها العديدة (التصويرية والموسيقية والدلالية والتناصية) إلا بكثير من المجازفة بتنسيل التشكيل السيمفوني ككل، أو بتفكيك عناصر اللوحة المتشابكة إلى أجزاء لا تعود بعدها تنتمي للوحة ذاتها في نهاية الأمر، بل ولا يعود للوحة ذاتها حضورها الإبداعي كذلك.
ومع ذلك فلربما نحاول إجرائيا – بقدر من التعسف الذي لابد منه لضرورات التحليل - أن نفصل الصوت الأنثوي مثلا في تحاوره واشتباكه مع صوت المذكر على المستويين الذاتي والإيروتيكي فحسب لنتبين كيف يتم التحويل اللغوي لخلق جدل دلالي تشتبك فيه أبعاد القصيدة دلاليا وتناصيا. فنستخرج من القصيدة مثلا التركيب التالي:
خل الوردة سرية / أنا أنا أنا / صديقاتي يقلن لي: اشتري الليلكي بالفضائح المقدسات / أنت أنت أنت / أناديك وهذا يكفي لأن أموت / فضّ / هل الشهوة تعني المبايعة؟ / أنا المسوقة إلى الليلكي / أغدو بحريتي على عتباته / له جنائزي والإرادات والزورق / سلطانه سلطاني / وتمساحه على البوابات /اقرأ المحفور على نصب الصداقة ستجد الحرفين من البائية والحائي شاهقين / مملوءة أنا بصبوة الققنس امتلاء الأثرياء / انظر إلى الجميلات واطلبني / وصرت أنفرد على بطني كأني فكرة مقوسة / أنا المثنى والموتى وحيدون / يريدكِ الليلكي / راح فجر يؤذن في الناس عندما كنت أؤذن في فذة / سوف أقرأ لك "طائر الرذاذ" ونحن مخلوطان في علقة / نداكِ ما زال في حلقي ولسنا أصحاب مشأمةٍ.
ونلاحظ هنا كيف يشتبك الإيروتيكي بالمقدس من خلال استدعاء دلالات بعينها من التراث المصري القديم، ومن التراث الصوفي الذي لا يتماهى بالضرورة مع التراث الإسلامي الديني أو السياسي بقدر ما يتجادل معهما من خلال عملية تحويل دلالي يبرز بوضوح في "راح فجر يؤذن في الناس عندما كنت أؤذن في فذة" في لعب لفظي بارع على الفعل "أذّن"30 الذي يجتمع فيه المعنيين الديني والإيروتيكي معا.
ومن الناحية التصويرية فإن تقاطع الصور وتراكبها في تكوين أقرب لطريقة الكولاج في تقطيع الصور وتركيبها، يتراسل مع الطبيعة التي سميناها سيمفونية للإيقاع في القصيدة. فإذا ما تركنا الحرية لمخيلتنا بكل مخزونها التصويري في الذاكرة القريبة المدى والبعيدة المدى لتتفاعل مع القصيدة على نحو ديناميكي لتولد في مخيلتنا – خلال قراءتنا للقصيدة – شريطا من الصور على طريقة "الفيديو كليب" تتقاطع فيه الصور وتتنوع بين صور من الذاكرة الشخصية أو من الميديا مقترنة بالأغاني التي تستدعيها القصيدة وبالفترة التاريخية التي تمثلها، وكذلك صورا تخيلية للفعل الإيروتيكي في القصيدة سواء في اللحظة الراهنة ( بين الذات الأنثوية والذات الذكورية في القصيدة) أو في تناص تصويري مع التراث الفرعوني أو التراث الصوفي.
ويدخل البعد الإيديولوجي في قصيدة حلمي سالم من خلال البنية الحوارية للإيقاع تحديدا. فالتحاور والجدل الإيقاعي بين التناص مع الخطاب الإيديولوجي للستينيات من ناحية، والمحاورة بين صوت المتكلم/المخاطب و المتكلمة/ المخاطبة بتنوعاته الإيروتيكية والصوفية والثقافية والسياسية يتم على المستوى الإيقاعي بالدرجة الأولى.
1 - أحمد عبد المعطي حجازي، قصيدة النثر – أو القصيدة الخرساء، كتاب دبي الثقافي، نوفمبر 2008.
2 - عز الدين المناصرة، قصيدة النثر – جنس كتابي خنثى، منشورات بيت الشعر، فلسطين1998 - وراجع له أيضا: إشكاليات قصيدة النثر – نص مفتوح عابر للأنواع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2002، ص 6.
3 - نقلا عن: فائز العراقي، القصيدة الحرة (قصيدة النثر) محمد الماغوط نموذجا، مركز الإنماء الحضاري، سوريا 2008، ص 15.
4- رشيد يحياوي، قصيدة النثر العربية – أو خطاب الأرض المحروقة، ص 57
5 - فاضل العزاوي، بعيدا داخل الغابة – البيان النقدي للحداثة العربية، دار المدى، سوريا 1994، ص 101 – 102.
6 - المرجع السابق ، ص 103 – 104.
7 - السابق ، ص 119.
8 - السابق، ص 122.
9 - محمد الصالحي، شيخوخة الخليل – بحثا عن شكل لقصيدة النثر العربية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ص 66 – 67 و ص 84 - 87.
10 - راجع شكري محمد عياد، موسيقى الشعر العربي، ص 95 – 97.
وراجع لكمال أبو ديب: في البنية الإيقاعية للشعر العربي، ص 316-317.
11 - راجع: سعد مصلوح، المصطلح اللساني وتحديث العروض العربي، فصول ، سبتمبر 1986.
12 - راجع المقال في "نزوى" العدد السابع عشرون يناير 1999.
13 - كمال خير بك، مرجع سابق، ص 280.
14 - المرجع السابق، ص 281.
15 - نفسه ، ص 305.
16 - المرجع نفسه، ص 331 – 332.
17 - المرجع نفسه، ص 313.
18 - نفسه، ص 312.
19 - برنار، مج2 ص 390 – 391.
20 - نفسه، ص 150.
21 - راجع: جابر عصفور، مفهوم الشعر في التراث البلاغي والنقدي، ص 95.
وراجع أيضا في مفهوم التناسب بين اللذة الحسية للإيقاع واللذة العقلية في المعنى، الصفحات: 73 – 75 ، 92 – 96 ، 240 – 242.
22 - أدونيس، الشعرية العربية، ط1 1985، ص 5.
23 - نفسه.
24 - السابق ص 18 – 19.
25 - سعد مصلوح، المصطلح اللساني وتحديث العروض العربي، فصول ، سبتمبر 1986، ص 199.
26 - راجع على سبيل المثال قصيدة "1977" من ديوان "إلى النهار الماضي" (1998)، و كل قصائد ديوانه "إشراقات" (1992).
27 - Peter Johnson and Robert Bly, Interview: The Art of The Prose Poem, The prose poem – An international Journal, Volume 7 1998. The Berkeley Electronic Press.
28 - سوزان برنار، قصيدة النثر، مج2 ص 150.
29 - راجع قصيدة حلمي سالم السابقة "الشعرية" التي تناولناها بالتحليل لتبين الحضور اللغوي والشعري لصيغة المثنى فيها.
30 - بالإضافة للمعنى المعروف للفعل "أذّن" ، وهو رفع الأذان للصلاة، فإن الفعل ذاته يعني أيضا العرك والرهز، فيقال أذّن فلانا بمعنى عركه. وكلمة فذّة تعني "شاذة". (راجع المعجم الوسيط)