علاقة علماء الدين بالسلطة في التاريخ الإسلامي علاقة معقدة، وإن كانت تميل في أغلب الأحيان، خاصة بعد القرن الخامس هجري/الحادي عشر ميلادي، إلى التواطؤ والاستزلام. فالعلماء السنة بشكل خاص فقدوا القليل الذي تبقى لهم من الاستقلالية التشريعية والوظيفية والمالية مع مجيء السلاجقة الترك من سهوب آسيا الوسطى وانتشارهم في خراسان والعراق والأناضول والشام ومصر واستيلائهم على السلطة كسلالات عسكرية حاكمة في كافة أرجاء الشرق الأوسط وإدخالهم لنظام سياسي وثقافي جديد. وجد العلماء أنفسهم في ظل هذا النظام الجديد تابعين للسلطة السياسية/العسكرية ومستفيدين منها في الآن نفسه. فمعظمهم تمكن بحكم علمه من تبوء كبرى المناصب الإدارية والكتابية والقضائية في الدولة بحكم عدم دراية العسكر بها، مما درّ عليهم دخلاً وفيراً مقابل تمريرهم لسياسة السلطان ومصالحه، وغضهم النظر عن تجاوزاته، وأحياناً مقابل توفير الغطاء الشرعي والتبريري لها.
بعضهم الآخر قد وجد في مؤسسة المدرسة الناشئة التي رعاها أمراء الدولة مصدراً آخر من مصادر الدخل حيث عينهم الأمراء مدرسين للفقه على واحد من المذاهب الأربعة والقرآن والحديث واللغة والتاريخ في المدارس العديدة التي أنشأوها بهدف نشر الدين الحنيف ومقاومة البدع، بعدما كان العلماء في السابق يدّرسون بحرية لوجه الله تعالى في الجوامع والبيوت الخاصة. ولم يسلم من إغراء المادة أوترهيب السيف سوى القليل القليل منهم الذين حافظوا على نقاء مهنتهم الأصلي في وجه ضغوط شديدة، بلغت أحياناً حد الاعتقال وربما القتل.
وكلنا يعرف قصة الإمام أحمد ابن تيمية الحنبلي (١٢٦٣-١٣٢٦) إمام أهل السنة في دمشق المملوكية على عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي انغمس في النشاط السياسي والعقائدي في عصره حتى كثر أتباعه ومناوئيه وحتى وصل الأمر إلى صراعه مع السلطان بعد أن كان داعماً له في جهاده ضد المغول مما أدى إلى سجنه مرات عدة، ومات في سجن قلعة دمشق. وقليل منا الذي يعرف قصة الشيخ أحمد بن البرهان الظاهري (١٣٥٣-١٤٠٥) قائد الثورة الظاهرية في سورية ضد السلطان المملوكي برقوق الذي رفض أن يتنازل عن رأيه بإسقاط نظام برقوق لمخالفته الشرع على الرغم من التهديد والتعذيب، وقضى بقية حياته في سجن رهيب ولم يتراجع عن قضيته. مقابل ابن تيمية وابن البرهان والقليل من العلماء على وزنهما مثل العز بن عبد السلام من العهد الأيوبي وابن دقيق العيد من العصر المملوكي، هناك العديد من الأمثلة عن علماء لم يستحوا عن التمسح بالدين من أجل الحصول على حظوة عند السلطان أو من أجل الاستئثار بمناصب عدة، كل منها يدفع معاشاً منفصلاً من وقفه، حتى أن بعض العلماء الكبار كان يدرس في أكثر من عشر مدارس بالإضافة إلى عمله كخطيب في جامع مهم وككاتب في بعض دوائر الدولة في الوقت نفسه. ولم يعرف عن هؤلاء العلماء اتخاذهم أي موقف تجاه عسف السلطان أو لهوه، بل إنهم كانوا يطبلون له ويزمرون. وكانوا يتغاضون عن مثالب السلطان وأفراد الطبقة الحاكمة من أرباب السيف في أغلب الأحيان، اللهم ماعدا وصفهم لبعض الأمراء بالجهل أو القسوة أو الطمع بعد مماتهم وفي تذكرة وفاتهم فقط. وكان العلماء أيضاً لايكترثون كثير الاكتراث بمصائب الناس ومحنهم التي يتسبب بها السلطان والأمراء من قمع وترهيب وتعذيب وإخماد عنيف لكل احتجاج وثورة. بل إنهم في تواريخهم وغالبية التواريخ الإسلامية كتبها علماء وفقهاء_ يمرون مرور الكرام على العقوبات الوحشية التي كانت الدول عسكرية الطابع والهيكل كدول الأيوبيين والمماليك والإلخانيين تفرضها على الناس لأقل هفوة وأحياناً كعقاب جماعي لايفرق بين مذنب وبريء. ولا عجب في ذلك، فتشكيلة الطبقة الحاكمة في الدول الإسلامية بعامتها قد تبلورت بحيث أصبح العلماء أتباع الأمراء، ينفذون سياستهم ويتملقونهم ويبررون تصرفاتهم ولكنهم لايملكون حق النقد أو التقويم أو حتى النصح والمشاورة إلا فيما قل من الحالات وبشكل رمزي فقط.
لم يختلف الحال كثيراً بعد مجيء العثمانيين، فقد بقي معظم العلماء أتباعاً للسلطة وديكوراً لادعائها التقوى والالتزام بالشرع. وكبرت عمائمهم وألقابهم وإن صغرت منزلتهم ووهنت قوتهم الدعوية والسياسية في ظل الإدارة التراتبية للدولة العثمانية. ومع أن نسائم الحرية التي هبت مع نهاية القرن التاسع عشر قد غيرت بعضاً من موازين القوى، ومع أن بعض دعاة الإصلاح الذين ظهروا كاستجابة لتحديات التحديث كانوا من العلماء كجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، إلا أن طبقة العلماء بأكثريتها الساحقة بقيت متمسكة بالتقليد الراسخ بدعم السلطان أياً كان عسفه خوف الفتنة وبمقاومة التغيير والتحديث والتنوير خوف الزيغ، حتى عندما قاد ذلك التحديث أفراد منها كما في نموذج الإمام محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥)، مفتي الديار المصرية وواحد من أهم مجددي الفقه الإسلامي ودعاة التحديث.
ولم تتغير الأحوال كثيراً مع ظهور الدولة الوطنية الحديثة بمؤسساتها وقوانينها وعلمائها العلمانيين الجدد الذين نهلوا علمهم من النموذج الغربي لا التقليدي، بل لعلها ازدادت سوءاً عندما قضت هذه الدولة الحديثة على بعض الاستقلال المادي الذي كان قد بقي للعلماء عندما ألغيت الأوقاف وضمت كلها لوزارة الأوقاف التي تولت تسيير أمور الجوامع والمساجد والمدارس الدينية وحتى التكايا والربط. أصبح العلماء موظفي دولة بالكامل، شأنهم شأن غيرهم من أفراد الطبقة البيروقراطية التي انحصر عملها في تنفيذ سياسات الدولة من دون أي نقد أو تساؤل أو تغيير. وبقي العلماء جزءاً من جهاز الدولة الرسمي حتى بعد الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكم المدني في مصر وسوريا والعراق وصعود طبقة جديدة من العسكريين "الثوريين" والنهمين للسلطة الذين اقتصرت ثقافتهم على قراءات متواضعة في الفكر اليساري المترجم وتطبيقات متهورة ومتعسفة لما فهموه منه هدفت لتأمين سلطتهم أكثر من إعادة توزيع الثروة الوطنية أو تطوير الثقافة الشعبية. ومع أن مجموعة لابأس بها من العلماء المحافظين قاومت بعض الآراء التي روج لها منظرو السلطة الجديدة والتي اعتبرتها تجديفاً وانفلاتاً وانحلالاً دينياً وأخلاقياً، كما حدث عام ١٩٦٧ عندما أدان الشيخ عبد الرحمن حبنكة وغيره من العلماء في سوريا مقالاً ملحداً نشره ابراهيم خلّاص في مجلة الجندي وثارت البلاد وماجت ولم تستطع السلطة تهدئة الأمور إلا بشق الأنفس، إلا أن معظم العلماء الرسميين تسايروا مع طبقة العسكريين العقائديين وإن شابت العلاقات بين الطرفين علائم الحذر.
وبقي معظم العلماء الموظفين خارج لعبة السلطة حتى عندما حاولت مجموعة الإخوان المسلمين، التي كان لها علماؤها الثوريون، زعزعة نظام الرئيس حافظ الأسد بالقوة عبر الاغتيالات والعمليات العسكرية. بل إن معظم العلماء الموظفين اتخذ مواقف مهادنة للسلطة حتى بعد قيامها بمذبحة حماة المريعة عام ١٩٨٢ والتي راح ضحيتها عدد كبير من المواطنين العزل بالإضافة إلى معظم محازبي الإخوان المسلمين في المدينة تراوح عددهم بين ٢٠ و٤٠ ألفاً، وحتى بعد ثبوت استخدام فرق الجيش العقائدية التي شاركت في المذبحة لشعارات أقل مايقال عنها أنها تجديفية محضة وطائفية مقيتة.
اليوم، ومع دخول الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد شهرها السادس، مازالت طبقة العلماء السوريين بعيدة كل البعد عن نبض الشارع الذي يمور والذي يقدم القرابين واحداً بعد الآخر على مذبح الحرية. يحاول غالبية أعضاءها أن يوحوا كما لو أنهم مازالوا على الحياد بين المتظاهرين والسلطة القامعة، أي بين القاتل والمقتول، ماعدا قلة قليلة من شرفائها الذين وقفوا مع الشعب المنتفض وقبلوا بتحمل التضحيات نفسها التي يتحملها الشعب. وهناك قلة أقل، على رأسها مفتي الجمهورية وفقية السلطة البوطي، قبلت باستعادة الدور المزري الذي لعبه بعض من أصحاب العمائم الكبيرة في عصور السلاطين ووقفت مع السلطة ضد المحتجين ناعتة إياهم بأشنع الألفاظ وساحبة منهم السند الديني الذي يستحقونه ومغدقة إياه على قاتليهم ومعذبيهم بحجة الاستقرار والممانعة. ومع أن معظم المظاهرات في سورية تخرج من الجوامع بعد صلاة الجمعة، إلا أننا لانجد لغالبية أئمة هذه الجوامع دوراً يذكر في تنظيم هذه المظاهرات (إلا في بعض الحالات المضيئة كالشيخ الرفاعي في دمشق والصياصنة في درعا). فالانتفاضة، وإن استخدمت الجوامع كمراكز انطلاق وبعض الشعارات الدينية العامة كمحفزات على السعي لتغيير النظام، إلا أنها بمجملها شعبية وعفوية من دون أجندة دينية واضحة أو دور يذكر للعلماء. بل إن تقاعس غالبية العلماء عن دعمها، ولو باللسان، دليل على أن طبقتهم بمجملها مازالت خادمة للسلطة كما كانت في الألف سنة الماضية على الرغم من ظهور بعض العلماء المقاومين للعسف والظلم في كل عصر. وهذه مسألة يجب على العلماء أنفسهم معالجتها قبل أن تكتسحهم الثورة كما ستكتسح غيرهم من الطبقات الاجتماعية كالتجار الكبار والبرجوازية الوطنية التي فشلت في الوقوف ضد الظلم والتضامن مع المضطهدين والمقموعين من أبناء وطنهم الذين يطالبون بالحرية.