- ١ -
يدُكِ الصغيرة ما تبقّى من بلادي.
حجّتي كي لا أغادرَ،
نِيَّتي ألّا أخونَ،
وصبرُ أضلاعي على رُكَبِ الظلامْ.
لا. لن أُشَبِّهها بنهرٍ بعدما صارت ينابيعُ الطفولة مقبرهْ.
هي آخر الرايات في حرب البصيرةِ،
أوَّلُ التسبيحِ في شجر المنامْ.
مسّدتُها، وغفوتُ ..
لا مستبشراً بغدٍ،
ولا فزِعاً من اللهب المسوِّر بيتَنا.
مالي وأشباحِ الخريف الحائماتِ على طلول الذاكرهْ؟
وطنُ الغريبِ جبينُهُ،
وسلامُ روحي أنْ تُبادِلَكِ الطيورُ- إذا أزحتِ ستائرَ الليلِ- السلامْ.
- ٢ -
أكاد ألثم، إذا صلّيتُ،
دمعةً تركتِها على السجّادهْ.
كيف نجتْ من الحريقْ
رسائلُ الصباح بين مقلتيكِ وجبيني؟
تبعثرت أسرارنا بين ممزَّقٍ وممحوٍّ ومسروقْ،
ونَحُلَتْ أعضاؤنا كالقصب المنذورِ للأنينِ.
مازلتِ تكتمين كم شَمَمْتِ قمصانيَ سِرّاً،
وأنا أُخفي جنى الغربةِ من خصلاتكِ الشقراءِ
طَيَّ هذه الوسادهْ.
- ٣ -
حلمتُ بلغةٍ حروفُها كأغصان الرمّان.
كتبتُ شيئاً عن ظمأي، فاهتزَّ السطر والتوى.
غمغمتُ بها سهواً أثناء السجود،
فتورّدتْ جراحُ ركبتَيّ.
مساءَ لم تسعف الغيوم حريقَ الغابة
إِلَّا برشقةٍ من دموع الله،
وكان للبحر هديرُ قطارٍ يتقلّب بين الأودية.
ومن شرفتي إلى القلعة المسبيّة:
خندقٌ تحفره قهقهاتُ بناتِ آوى.
خاصمتُ صوت الناي، منذ ضرّجت دماء أخي قصبَ الضفّة.
كلُّ خطوةٍ لهبٌ يراقص العدم.
سأسكتُ كي لا يُنهَبَ بيتي الأخير: صوتي.
- ٤ -
تمنّيتُ، قبل أن أغفوَ، ألّا أقهر أحداً في منامي.
فأيقظتني لصلاة الفجر دموعُ السقف.
نفضتُ عن مخدّات الأولاد قشورَ الرطوبة،
لففتُ سِنَّ الصغير الذي سقط ليلاً بورقةِ ليمون،
صبَّحتُ يماماتِ الشرفة متمتماً سُوْرَةَ قاف،
وانحدرتُ أواكبُ المطر.
بعضُ الأشجار كسرت أطواقَ الإسمنت.
الصناديقُ التي افترَشَها أمسِ يتيمانِ، صارت موقداً.
وعلى شبابيك القطار المهشَّم تُحاكُ أعشاشٌ جديدة.
تلقّاني البحرُ بقصيدةٍ كالّتي تنثرها الشمس
على الطفل الخارجِ مرتعشاً من الينبوع.
كان صوتكِ شجرةً وحيدة.
فيئُها وعدٌ، وحفيفُها سَفَر.
- ٥ -
لم يَجِد المنامُ من يؤنسه غيرَ حمامةٍ أفاقت لتؤدّي
على عجَلٍ صلاةَ الفجر، قبل أنْ تعلن الغربانُ شروقَ الحقيقة.
صارت ضباباً تلك المائدة التي تهيّأنا للحوار حولها،
مُسْلِمين جباهَنا لحفيفِ غطائها الأبيض.
الفناجينُ التي لم نرتشف منها إلّا غموضَ الرغوة،
تلاشت فجأةً فلم أُكمل جملتي:
" اكتفِ بالنصف يا صديقي، لأنّ القهوة حين تَبرد تؤذي..."
لو رأيتَ كيف وصلتُ إلى هناك محلِّقاً، لصدّقتَ أنّ اليقظة سقوط.
- ٦ -
كان مؤذّنو البلدة يمهّدون لنداء الفجر بإنشاد القصائد.
هل غَيْرُ الشِّعرِ أجنحةٌ للّذين اختاروا اليقظةَ
هجرةً من أكفِّ العتمة إلى شفاه الضوء؟
مَن ذا يجاور الفراتَ ويَسْلَمُ مِن عادات القصَب؟
نهارُه لحاءٌ يتشقّق، وسَهَرُه بحَّةٌ تسافر.
قوافيهم دامعةٌ، لأنّ الألم- منذ بِلال- هو مُوقِدُ المنارة ورافعُ أدراجِها.
والمَقاماتُ نارٌ تهيّئُ زجاجَ الفِطرة كي يُشاكِلَ خمرةَ المعنى.
فإذا المآذنُ كؤوسٌ على شرفات السَّحَر،
وكلُّ نسيمٍ ساقٍ.