["كتب” هي سلسلة تستضيف فيها "جدلية" المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب. ضيف هذه الحلقة الناقد والأكاديمي الفلسطيني إسماعيل ناشف ]
”طفولة حزيران: دار الفتى العربي وأدب المأساة“
د. إسماعيل ناشف
مؤسسة تامر، ٢٠١٦
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
- لقد تبلورت فكرة هذا البحث العيني حول مدونة "دار الفتى العربي" في لقاء جرى بيني وبين السيدة رناد قبج، مديرة مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، منذ ثلاث سنوات، حيث عرضت علي بعض نماذج منشورات الدار. ومن تلك اللحظة بدأت الفكرة تتطور حتى أخذت شكلها الحالي، بحث حول أدب الأطفال العربي الحديث والرسومات في أدب الأطفال والمعرض "في أعقاب الذاكرة: الصورة والنص في مدونة دار الفتى العربي"، والذي جرى افتتاحه في 28 نوفمبر 2016. إن الكتاب "طفولة حزيران" هو الجزء الأول الذي يتناول الجوانب السردية والأدبية في مدونة أدب الأطفال العربي الحديث، متخذا من مدونة دار الفتى العربي مثالاً، وذلك في أعقاب نكسة حزيران عام 1967.
في الحقيقة أن الأطفال وعالمهم/ن هو جزء أساسي من تكويني الفكري والنظري بعدة مستويات مترابطة تراكمت عبر اشتغالي بمهن مختلفة قبل أن أبدأ مرحلة الكتابة والبحث المنظمين. لفترة طويلة درست علم النفس وعملت كمُعالِج نفسي، حيث كنت متخصصا في مرحلة الطفولة المبكرة، معتمدا بالأساس على مداخلات ميلاني كلاين، وما تطور منها من ممارسات علاجية مختلفة. وفي مرحلة لاحقة، بدأت أدرس اللغة والأدب وانشبكاتهما المتعددة، ودراستي لهما كانت من منظور اجتماعي اقتصادي، أي البنية الاجتماعية التي تنتجهما. ولكن هذه الروافد المختلفة، أخذت تتفاعل في محاولاتي المختلفة لنقد بارادايغم التطور في الفكر الحداثي الغربي، وما يتضمنه من حمولة معرفية-أخلاقية، ترتيب الشعوب على سلم تطوريّ، يتوازى ويتفاعل مع السلم التطوري خاصة الإنسان الفرد، ولقد تناولت هذه الشبكة من العلاقات في كتابي "العتبة في فتح الإبستيم" (2010). في حينها كان اهتمامي منصبا على الجوانب المعرفية من الجهاز النظري الذي يقف بأساس "التطور" كتيار في الفكر الحداثي. يأخذ "طفولة حزيران" هذه المعرفة النظرية النقدية كإحدى المرايا الأساسية لسبر غور التاريخ المركب للأطفال في المجتمعات العربية الحديثة.
ما شكل دافعا أساسيا لي في الانطلاق في هذا المشروع البحثيّ، هو أن قضية الطفولة في المجتمعات العربية، هي بالأساس، قضية تحرير رهن المستقبل بالحاضر وماضيه. وبالرغم مما ينضح من رَمْنَسَة لـ"الطفولة"، ومما قد يثقل كاهلها بحمولة ليست منها، إلا أن هذه المقولة لا تفتأ ترد إلى أحد المحاور الأساسية في إمكانية انعتاق المجتمعات العربية من تناقضاتها في الفترة الحديثة التي تعيد تكرار مآسيها في كل جيل جديد. مما لا شك فيه أن عملية تعاقب الأجيال العربية مركبة، وتحتوي العديد من الجوانب التي علينا إعادة قراءتها نقديا؛ إلا أن جانب ترحيل أزمات وتناقضات عالم "الكبار" إلى الأطفال، هو ما أقلقني بحثياً. ووجدت أن اللغة والأدب في السياق العربي، وفي الأفق الإنساني الأعم، قد تشكّل أهم آليات الترحيل هذه، وبعكس المتوقع، هي أحيانا أشدها قسرا وعنفا رمزيا. فالسائد هو أنه في كل أب طفلا، بينما لم نتلفظ بعد، أقله معرفيا، أن في كل طفل أبا. وعدم التلفظ هذا هو جزء بنيوي من آلية ترحيل الأزمات التي تصنع "عدم الوعي" بها وبموقعها في حركة تعاقب الأجيال العربية. وهنا، أردت أن أتلفظ بها، أو إن شئت أن ألفظ آلية الترحيل الجيلية لفتح إمكانية رحلة الاستكشاف لكل طفل/ة قد يأتي يوما، ويمارس النظر في ماضيه، أي حاضرنا.
في جانب مهم منها فإن المأساة الفلسطينية غدت تُرحَّل من جيل إلى آخر، ولكن وبالرغم مما يبدو على أنه تحولات، إلا أن بنية شعورية أساسية من المراوحة البين-جيلية لا تزال تتوالد عبر تكرار المأساة من جيل إلى آخر. ولقد أصبحت هذه البنية الشعورية أكثر تجذرا وسطوة مع المآسي التي تتوالد من الواقع العربي اليوم وتعيد صياغته من جديد. لم نعد نستطيع أن نفهم المأساة الفلسطينية دونما الغوص في المآسي العربية؛ كما لن نستطيع فهم المآسي العربية دونما المنظور الذي توفره المأساة الفلسطينية. ويوفر أدب الأطفال العربي الحديث، تحديدا مدونة دار الفتى العربي، مدخلا إلى فحص هذه العلاقات المتشابكة، حيث أن نكسة حزيران 1967، كانت آخر حراك عربي جماعي فعليّ، يتضمن أسباب نجاحه وفشله في آن. وأردت من خلال هذا البحث استكشاف آليات العمل التي تقوم بين المأساة وفن المأساة، وذلك كما تتجلى في أدب الأطفال العربي؛ أي كيف يجري ترحيل المأساة إلى أدب الأطفال، أو كيف يُرَحِّل "الكبار" عدم قدرتهم على حل التناقضات التي تقف كبنية تحتية للمأساة العربية الحديثة إلى فئة "الأطفال"، آملين أن يحلها هؤلاء، ولكنهم يكررونها بمأسوية لا تقل، أحياناً، فجاعة عن مأسوية ذويهم.
السبب الأخير الذي قادني إلى هذا الموضوع، هو أنني طفل حزيرانيّ.
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
- ينطلق هذا الكتاب من المعضلة الحقيقية حول من هو/هي الطفل/ة، كيف يجري نقله/تحويله من حالته/ا "الطبيعية" إلى حالته/ا "الاجتماعية"، عامة، ومن خلال اللغة والأدب، خاصة؟
ليس من المفهوم ضمنيا أن الأطفال تكبر، بل إن عملية تنشئتهم الاجتماعية هي التي تحتاج إلى فحص نقدي. وينطلق الكتاب من إطار نظري يدعي بأن آليات نقل/تحويل الطفل من الحالة "الطبيعية" إلى تلك "الاجتماعية" وأشكالها، هي المفصل في هذه العملية. فـ"الطفولة" صُنِفت على أنها مرحلة انتقالية ما بين الحالتين، وهي بهذا مجموعة من المؤسسات الوسيطة التي تعيد صياغة "الطفل/ة" بحيث يصبح قابل للحياة اجتماعيا، ليس أية حياة اجتماعية، وإنما "حياة اجتماعية" عينية. ولا يتناول الكتاب التشكيل المادي-الجسدي للطفل/ة في عملية الانتقال/ التحويل هذه، وإنما يركّز على النظام الاجتماعي الرمزي، معتمدا على مداخلات لاكان وبورديو وغيرهما، ويرى في اللغة النظام الرمزي الأم، والأدب كتحوير تعبيريّ على هذا النظام الرمزي. فالأدب يحكي قصة جماعيّة المجتمع، ويُعالج، معرفيا وجماليا، التناقضات المفصلية الفاعلة في صياغة هذه الجماعيّة. وأدب الأطفال الحديث، بما هو جزء من الحقل الأدبي العام، هو مؤسسة وسيطة تعمل على نقل/تحويل الطفل/ة من حالته/ا "الطبيعية" إلى تلك "الاجتماعية" عبر التمييز بين مبدأ الواقع ومبدأ الخيال، كمسار "حتميّ" يؤدي إلى الإدراك الأساسي بأن الحالة "الاجتماعية" هي المعنى الأفضل للوجود البشري، وهي تتجسد بجماعيّة المجتمع العينيّة. من هذا المنظور، يتمحور البحث حول جماعية المجتمع في حال كونها تعيش تناقضات غير قابلة للحل، في سياق تاريخي مُعطى، وكيف يعمل الأدب، عامة، وأدب الأطفال، خاصة، على معالجة هذه التناقضات في جماعية المجتمع. وتوفر المجتمعات العربية الحديثة حالة استثنائية للدراسة من حيث هي "فشلت" باستمرار في تحقيق جماعيتها المبتغاة، ولقد انعكس ذلك في أدب الأطفال العربي الحديث بعدة أشكال، ليس أقلها أهمية النزوح إلى الخطاب التربوي الأخلاقي في أدب الأطفال، وذلك عوضا عن الأفق الأدبي الجماليّ. إن "فشل" جماعة الكبار العرب في تحقيق جماعيتهم، بمعايير دولة-القومية الحديثة، يُرَحّل عبر الوسيط الأدبي إلى فئة "الأطفال" عبر تشكيل أدبي-أخلاقي يهدف إلى حل أزمة العرب الكبار لدى أطفالهم عندما يكبرون. ولقد شكلت نكسة حزيران للعام 1967 مفترقا مفصليا في علاقة الجماعة-الأمة العربية بذاتها، هذا بحيث تكثفت حالة "الفشل" وتكرست بنيويا في جماعية المجتمعات العربية. وكان الحقل الأدبي العربي، من أهم الحقول الاجتماعية التي عالجت هذا الإشكال المفصلي، وأدب الأطفال تناول هذه القضية بطريقة محددة، سعى هذا البحث لاستخلاص مفاصلها الأساسية.
بداية، من المهم التنويه إلى أننا لا نستطيع اختزال تاريخ الحقل الأدبي العربي لذلك السياسي، ولكن يبدو أن أدب الأطفال، بسبب من حمولته التربوية والأخلاقية، على علاقات أكثر كثافة بالحقل السياسي من غيره من الحقول الأدبية الفرعية. فلقد شهدت الفترة التي تلت مرحلة الاستقلال، تحديدا في مصر وسوريا في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، نقاشات ومعالجات مختلفة لما هو "طفل/ة" قوميا، وما أشكال أدب الأطفال التي ستمكن من إعادة صياغته على هذه الهيئة القومية أو تلك. ولم ينحصر ذلك في مستوى كل قطر عربي على حدة فقط، بل كان جزءا من النقاشات والمعالجات المختلفة التي تناولت الجماعة العربية ككل. وبرز ذلك في النقاشات والمداخلات باجتماعات وزراء التربية والتعليم العرب في إطار جامعة الدول العربية، حيث نرى أن موضوعة الأطفال وتعليمهم وأدبهم كانت محورا مركزيا فيها. ولقد تجلى ذلك في ميثاق الوحدة الثقافية العربية، والذي أُعلِن عنه في بغداد عام 1964، وما تضمنه من تأطير للعملية التربوية بمستوى الوطن العربي عامة. أدت نكسة حزيران عام 1967، إلى فتح سؤال الجماعية العربية على مصراعيه، ومن ضمن ذلك موقع "الطفل/ة" داخل تلك الجماعية. ولقد برز في السنوات التي تلت هذه الحرب، عمليتان تبدوان على طرفيّ نقيض؛ فمن جانب، تمأسس الحقل الأدبي الفرعي "أدب الأطفال"، بحيث أصبحت هنالك مجموعة من المؤسسات المتشابكة التي تعني بهذا المجال، ولقد كانت كل من مصر وسوريا رائدتين في هذا المضمار. ومن جانب آخر، نرى أن التأليف الإبداعي، عوضا عن التعريب والترجمة والتبسيط، التي ميزت المراحل السابقة، بدأ يحتل مركز الصدارة في أدب الأطفال العربي. على هذه الخلفية التاريخية والثقافية، بدأت مجموعة من العاملين في الحقل الثقافي الفلسطيني في التفكير مجددا في عملية التربية والتنشئة في السياق الفلسطيني والعربي.
على ضوء عدة دراسات أجراها قسم التخطيط التربوي، التابع لمركز التخطيط الفلسطيني خاصة منظمة التحرير الفلسطينية، تقرر إنشاء دار نشر تخص أدب الأطفال والفتية. ولقد اعتمدت الدراسات على النقاشات والمعالجات الفكرية والأكاديمية الدائرة في الوطن العربي آنذاك، وعلى واقع الأطفال الفلسطينيين والعرب وما يتوفر لهم من أدب أطفال باللغة العربية. ومن الممكن اعتبار وثيقة "فلسفة التربية للشعب العربي الفلسطيني"، الصادرة عن قسم التخطيط التربوي عام 1972، النص الرؤيوي المُؤسِس لمشروع دار النشر والرسالة التي يحملها. وتحمل هذه الوثيقة رؤيا علمانية حداثوية، ترى بالإنسان ووعيه مركز الفعل والحراك الاجتماعي السياسي، وبناء على ذلك فإن تربية الإنسان وتشئته تقوم على القيم التي تعزز لديه/ا المبادرة لاكتساب المعرفة العلمية الحديثة ومن ثم استخدامها كوسيلة في العودة والتحرير. من هذه المنطلقات، قامت مجموعة من العاملين في قسم التخطيط التربوي، وبريادة من نبيل شعث، بتأسيس دار الفتى العربي عام 1974، وبدأت بإصدار منشوراتها الأولى عام 1975.
تحتوي مدونة دار الفتى العربي على ما يربو على مائتي منشور، موزعة على أجناس أدبية وتربوية وتاريخية وتوثيقية مختلفة، كما أن جزء منها تُرجِم عن لغات مختلفة، وأجزاء أخرى أُلّفِت خصيصا للدار. ولقد استحدثت الدار عدة أجناس خاصة بأدب الأطفال لم تكن متداولة في حقل أدب الأطفال العربي، مثل الرواية العلمية للصغار والملصقات والبوسترات وغيرها، كما أنها لم تنتج بعض الأجناس التي كانت سائدة قبلها مثل التعريب والتبسيط. إن التعامل مع هذه المنشورات كمدونة، أي نسق سرديّ، ليس مفهوما ضمنيا ويعتريه العديد من الإشكاليات النظرية والمنهجية، إلا أن مميزات هذه المنشورات تقترح ذاتها كمدونة. ومن هنا، فإن البحث لم يتطرق إلى مؤلف بعينه، و/أو منشور بذاته، وإنما حاول تحديد ملامح المدونة كنسق، والآليات الضابطة لعملها. بهذا المستوى من التحليل، تبين أن هنالك مجموعة من المجالات المضامينية التي تركّز على عالم الطفل/ة ومحيطه/ا المباشر، وذلك وفقا للفئات العمرية المختلفة التي اشتقت من النظريات السائدة في علم النفس التطوري والتربوي الحديث. ومن القراءة المعمقة والتحليلية التي قمنا بها لهذه المجالات تبين لنا أن هنالك مبدأين أساسيين ضابطين لها: الجغرافيّة المتخيلة، والخطاطة الزمنية.
تعمل الجغرافيّة المتخيلة كمنظومة تصنيفية تضبط العلاقة "العضوية" ما بين النوع ومسكنه، فلكل نوع مسكن خاص به. فنرى أن المدونة تحتوي مجموعة من النصوص ترتب الأرض وأقاليمها، عامة، بناء على العلاقة بين كل إقليم وقومه "الطبيعي". ومجموعة أخرى من النصوص حول الوطن العربي ونوعه "الطبيعي" العرب؛ ومجموعة ثالثة حول عالم الكائنات الحية ومساكنها، وهكذا. في هذا المستوى من التحليل نلاحظ أن السرد ينبني من اختلال العلاقة بين النوع ومسكنه،مما يحتم سردياً السعي إلى رد العلاقة بينهما إلى مكانها الأول الطبيعي. ولقد برز في هذه النصوص، تحديدا تلك التي تتناول الوطن العربي وعالم الكائنات الحية، نمط متكرر من عدم القدرة، بما هي عارض، على المعالجة الأدبية للتناقض الأساس بين النوع ومسكنه، والنزوح إلى حلول ذات منطق تربوي أخلاقيّ مباشر. ونرى هنا تحوير على منظومة دولة-القومية الحديثة، التي تنطلق من تأسيس العلاقة "الطبيعية" بين جماعة قومية ما وأرض تعيش عليها. إلا أن هذا يحيل، في سياق الوطن العربي، إلى الفشل البنيوي، أقله في الفترة الحديثة، في ربط الجماعة-الأمة العربية برقعتها الجغرافية المتخيلة. ومعالجة هذا التناقض الأساسي في مدونة دار الفتى العربي امتاز ببناء سرديّ حول الخلل في علاقة النوع بمسكنه، بتحويرات إبداعية متعددة، ولكن جاءت قفلة هذا البناء السردي على شكل تذييل أخلاقي يختزل الشحنة الجمالية إلى بعد واحد حتميّ.
أما الخطاطة الزمنية، بما هي منظومة تصنيف في الأبنية السردية، فانبنت على محورين، الأول حداثيّ تطوري، مثلا ترتيب المدونة بحسب الفئة العمرية، والثاني محور انعكاسي، أي التنقل بين أزمنة سردية مختلفة في ذات النص. وتحتوي المدونة على سلاسل من المنشورات التي تخاطب الفئات العمرية المختلفة من جيل 2 سنة إلى 17 سنة؛ وكما تحتوي على منشورات تربط الزمن العربي الراهن بالماضي، أي أن الزمن العربي هو عبر-تاريخي واحد. أما المحور الانعكاسيّ، وهو حداثيّ بامتياز، فلقد تجلى بتعدد الأصوات وأزمنتها داخل البنى السردية المختلفة، وبعملية الانتقال السلسة، بنيويا، بينها؛ والانتقال بين الأزمنة المختلفة ليس تقنيا، وإنما يبني عمقا سرديا في حاضر النص، كما في حاضر القارئ/ة الذي يعي ذاته بحدة، ومن ثم تنفتح إمكانية إعادة صياغتها من جديد. إن هذا المحور مكّن نصوص المدونة، نسقيا، من المعالجة الأدبية الجمالية لتناقضات زمن الجماعة-الأمة العربية، وذلك دون أن تقوم الشحنة الأخلاقية والتربوية بتكبيلها بطريقة حتمية بمستوى الحلول السردية. إن خطاطة زمن الجماعة-الأمة العربية هي تحوير خاص بالسياق العربي على منظومة دولة-القومية، بحيث يصبح السؤال حول "فشل" جانب الجغرافية المتخيلة، مقارنة مع "نجاح" الخطاطة الزمنية بمعايير حداثية؟
مما لا شك فيه أن التشكيلات السردية تحمل في ذات اللحظة الجغرافية المتخيلة والخطاطة الزمنية كجزئين بانيين لها. وبهذا فإن فهمهما التحليلي لا بد له أن يرتبط بما يمكن/يمنع كل منهما عن الآخر، أي هنالك علاقة تأسيسية بينهما. فالخطاطة الزمنية التي تمكن التنقل بين الأزمنة السردية المختلفة، هي ممكنة لأن الجغرافية المتخيلة تبني علاقة عضوية بين النوع ومسكنه، أي جوهر لا يتغير، وهذا هو الأساس الذي يُمكّن الانطلاق في أزمنة متعددة. إلا أن هذا الانطلاق مشروط بعودة إلى المسكن/الجوهر الذي لا يتغير، ولكن الذات في ترحالها الزمني من المفترض أن تتحول، وذلك نتيجة لبنية الترحال الزمني بما هو كذلك. إن هذه العلاقة التأسيسية للبناء السردي في مدونة دار الفتى العربي، هي طريقة المعالجة للتناقض الأساسي في جماعية الجماعة-الأمة العربية في المرحلة التي تلت 1967 ونكستها. فعدم القدرة البنيوية على تحقيق الذات الجماعية في مسكنها في تلك اللحظة التاريخية، عولج أخلاقياً بحيث أصبحت العلاقة بين الجماعة العربية والوطن العربي في منزلة معطى طبيعي، جوهر ثابت. إن موضعة هذا التناقض بمنزلة الطبيعي، هو ما مكن رحلة الذات بين أزمنة مختلفة، من جانب، ومنع تحولات الذات الكامنة في الرحلة، من جانب آخر. وتنطبق هذه العلاقة التأسيسية على شتى المجتمعات العربية ، إلا أنها تأخذ في مدونة دار الفتى العربي بعدا فلسطينيا مميزا.
أفردت مدونة دار الفتى العربي جزءا مركزيا منها لتناول المأساة الفلسطينية، حيث قامت بمعالجة جوانب مختلفة منها وترجمتها إلى أدب موجه للفئات العمرية المختلفة. ولقد شكّل مشروع غسان كنفاني الأدبي نموذجا لهذه المعالجات، أي نقل المأساة الفلسطينية إلى حيز الأدب كمحاولة في إعادة موضعتها في التاريخ ومن ثم فحص إمكانيات حلها في الواقع المعاش. ونرى، بحسب نقاد مختلفين، أن معالجة كنفاني للمأساة ارتكزت على ثلاثة أضلاع أساسية هي: عقدة بالذنب، الدونية والشعور بالنقص، ومن ثم مسلك العودة والتحرير. ولقد قامت مدونة دار الفتى العربي بتغييب الضلعين الأول والثاني، وتغليب، حد الصنمية، لمسلك العودة والتحرير. إلا أن المفارقة هنا هي بأن المرحلة التي أنتجت فيها المدونة لم تكن ذات المرحلة التي رأى فيها كنفاني الدونية والشعور بالنقص التي كانت سائدة في المخيمات الفلسطينية. لقد تأسس العمل الفدائي الفلسطيني، المبني على مسلك العودة والتحرير، وأصبح هو النمط السائد في محاولة حل التناقضات الأساسية في سياق المأساة الفلسطينية. من هنا، فإن تغييب ضلعي المأساة الآخريين أدى إلى صعود "الواقع" كنموذج للنص، وذلك بعكس ما قام به كنفاني من فتح الواقع نصا على إمكانياته المختلفة. لذلك فإن النصوص الأدبية التي تناولت المأساة الفلسطينية في مدونة دار الفتى العربي، جاءت إرشادية تربوية، أي كيف على الطفل أن يتصرف ليدخل مسلك العودة والتحرير بناء على النموذج الذي مارسته المنظمات الفلسطينية المختلفة. بهذا فإن هذا الجزء من المدونة جاء اختزاليا، أي حصر إمكانيات السرد بمسلك العودة والتحرير، وذلك بالرغم من أن إمكانية العودة والتحرير، في نموذج كنفاني وغيره، هي ممكنة بنيويا فقط عبر معالجة عقدة الذنب والدونية والشعور بالنقص. إن هذه الطريقة من البناء السردي هي في الحقيقة تحوير على ما استخلصناه بخصوص علاقة الجغرافية المتخيلة بالخطاطة الزمنية كالآلية الأساس في عملية بنا السرد في مدونة دار الفتى العربي. إن مسلك العودة والتحرير هو بمثابة رحلة زمنية لاستعادة الأرض بما هي الفردوس المفقود، إلا أن هذا ممكن عبر تغييب العلاقة التاريخية، عقدة الذنب والدونية والشعور بالنقص، وإحلال علاقة "طبيعية" مكانها. إن العلاقة بين المأساة وفن المأساة في مدونة دار الفتى العربي، يرد إلى جانب من تاريخ الأدب العربي الحديث الذي تناول هذه القضية، على الأقل، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هنالك العديد من الخيوط التاريخية والنصية التي تربط مدونة دار الفتى العربي مباشرة، وبطرق أخرى، مع التاريخ الفكري والأدبي العربي الذي حاول فحص الفضاء بين المأساة وفن المأساة في السياق العربي والعالمي. إن الإضافة المهمة التي تقوم بها مدونة دار الفتى العربي هي تأسيس بنية سردية لأدب الأطفال التراجيدي العربي. وهذه البنية تعتمد العلاقة الجدلية بين الترحيل والرحلة، الأول يحيل إلى إعادة إنتاج لذات التناقضات التي يعيشها "الكبار" لدى الفئات العمرية الأخرى، والثانية تحيل إلى إمكانية الانطلاق في رحلة تستكشف الذات فيها جوانبها الختلفة لتعيد موضعة ذاتها اتجاه التناقضات الجماعية وبهذا تفتح إمكانية حلها. ويبدو أن القائمين على مدونة دار الفتى العربي رأوا بأن ترحيل الرحلة هو النسق الأفضل، للانشباك مع جماعية الجماعة-الأمة العربية في تلك اللحظة من تاريخها المأسوي.
إن مشروع دار الفتى العربي، أقله بطريقة قراءتنا له هنا، يطرح تحديا أساسيا للراهن العربي ومآسيه المتوالدة، فمن هو الطفل/ة في الوطن العربي اليوم؟ وما هي الجغرافية المتخيلة الممكنة له/ا ولكبارهم/ن؟ وهل ستفتح الخطاطة الزمنية حلولا أدبية وجمالية قد تعيد للجغرافية المتخيلة تاريخيتها؟ ويبدو أن هذه اللحظة من تاريخ الأطفال وأدبهم في الوطن العربي تحمل تناقضات أساسية مكثفة من الصعب قياسها بمعايير نكسة حزيران، إلا أنها أقله قد تُشكّل مرجعا للمقارنة.
- ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
- واجهت في هذا البحث تحديين أساسين، نظري ومنهجي. من الناحية النظرية، لم أجد ما يمكنني الاستناد إليه في الفكر العربي المعاصر كنقطة انطلاق مفاهيمية تربط ما بين الطفولة واللغة والأدب. اضطررت أن أعود للمفاهيم الغربية بالأساس، وحاولت أن أستخلص منها بعدا كونيا، قمت بتحويره بناء على قراءتي للتاريخ العربي الحديث وموقع كل من الطفولة واللغة والأدب فيه. من جانب آخر، وجدت العديد من المداخلات النظرية التي قام بها باحثون وباحثات عرب في الفترة التي قمت بدراستها، وهي معرفة مهمة إلا أنها لم تخلق آليات تراكم، بل بالعكس يبدو أن ما قام به هؤلاء في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أعمق وأشمل مما يُنتُج اليوم. وهذا بالطبع يشير إلى النمط السائد بالحقل الفكري والبحثي العربي في أيامنا.
إن التحدي المنهجي تمحور حول قضية كون منشورات دار الفتى العربي مدونة، أي هل لها مبنى نسقي أم لا. لقد قمت بتجميع ما يقارب 220 منشورا صدرت عن دار الفتى العربي، وذلك عدا المصادر الثانوية التي كُتِبَت عن دار الفتى العربي ومنشوراتها. إن القراءة التحليلية الممنهجة لهذه المنشورات مكنت من استخلاص ملامح مشتركة عامة أولية، استخدمتها للغوص من جديد في كل منشور وسلسلة منشورات من جديد. يمكنني القول، أن مفهوم المدونة لم ينضج إلا في مرحلة كتابة البحث ذاته.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
لا أدري كيف سيتموضع هذا الكتاب في الحقول الفكرية والأجناس الكتابية التي يتقاطع معها، فكما تعلم لكل نص حياته الخاصة به والتي تأخذ منحا مستقلا عن مؤلفه في لحظة النشر، أي النشر هو فعليا موت المؤلف. من جانب آخر، أستطيع أن أشير إلى المساهمة المتواضعة لهذا الكتاب في الربط بين حقول معرفية متعددة، عادة، لا يجري فحص طبيعة العلاقات بينها. وهذه الحقول هي: الطفولة، اللغة، الأدب، وعلاقاتها الجدلية مع النظام الاجتماعي التاريخي العيني، الذي قد يحدد طبيعة الهيئات المختلفة التي تتمظهر فيها هذه الحقول على المسرح أما ناظرينا. آمل أن أنني أستطعت أن أنحت نموذجا، أقله أوليا، لهذه البنية الإنتاجية في المجتمعات العربية الحديثة.
- ماهو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
- في هذا الكتاب، قمت بربط بين عدة محطات فكرية وإبداعية عملت فيها في السابق، الطفولة المبكرة اللغة والأدب والمأساة الفلسطينية وتاريخها. إن هذا الربط التفاعلي أدى إلى الارتقاء بفهمي للثقافة العربية الحديثة من منظور لم يكن متوفرا لي قبل الشروع بهذا البحث وكتابته، تحديدا العلاقة بين المأساة وفن المأساة. التركيب بين اللغة والإيديولوجيا والتعبير الجماليّ هو في أساس ما أقوم ببحثه منذ عدة سنوات، ودراسة الحالة هذه مكنتني من تطوير أدوات نظرية ومنهجية تتجاوز الحقل الأدبي التاريخي العيني، خاصة الأطفال وخاصة المجتمعات العربية الحديثة، باتجاه أفق يرى إلى المأساة الإنسانية غير القابلة للحل في هذه اللحظة من الحداثة/الاستعمار المتأخرة.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
- لا أدري من هو الجمهور المفترض للكتاب، أعتقد أن كل كتاب جيد يساهم في خلق جمهوره الخاص، فالجمهور، وبعكس الشائع، ليس معطى مسبقا على فعل القراءة. كنت أرجو أن يستطيع الأطفال قراءته، ولقد اقترح عدة أشخاص قرأوا الكتاب أن أقوم بـ"تبسيطه" لفئات عمرية مختلفة، ولا أدري إن كانت لدي المقدرة على القيام بذلك، يبدو لي بأنني في هذه الحالة سأكتب شيئا آخرا تماما.
بالإضافة إلى المضامين التحليلية التي يحملها الكتاب، آمل أن ينشبك القراء والقارئات مع محاولة التفكير النسقي في المأساة وفن المأساة في أدب الأطفال، وعامة، لكي نستطيع أن نتجاوزه إلى ما هو مادة المأساة ذاتها.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
- حاليا، أعمل على كتابة الجزء الثاني من هذا المشروع والذي يتمحور حول الرسومات في أدب الأطفال العربي، عامة، وفي مدونة دار الفتى العربي، خاصة. أما بالنسبة للمشاريع البحثية الأخرى التي أعمل عليها، فهي التاريخ الاجتماعي للفن التشكيلي العربي الحديث، وتاريخ تطور العلاقة بين المأساة وفن المأساة في الثقافة العربية الحديثة. بالطبع هنالك المشروع الدائم الذي يشغلني، وهو هدم الحدود بين الفكريّ والشعريّ في الحقل المعرفي العربي المعاصر، ولكن هذه قصة أخرى.
مقطع من الكتاب
4. البيئة النصية الأدبية والتربوية-العلمية: عينتان
لقد استقطبت دار الفتى العربي عدداً كبيراً من الأدباء والأديبات من شتى أنحاء العالم العربي. ومن الممكن، بدايةً، وصف هذه المجموعة بأنها، أقله، غير متجانسة فكرياً وأدبياً وسياسياً، بل هي إلى حد بعيد، تعكس التيارات المختلفة التي شاركت، منذ بداية خمسينيات القرن العشرين، في إعادة تشكيل هذه الحقول الثقافية والاجتماعية. بهذا، فإن أغلب هذه المجموعة هو مخضرم من حيث أنه كبر وترعرع أدبياً وفكرياً وسياسياً قبل النكسة، عاش تجربة الهزيمة والانكسار وجودياً في أعقاب حرب حزيران، ومن ثم أخذ يُعالج هذه الجوانب من تجربته أدبياً وفكرياً وسياسياً1. ولعل أبرز الأسماء التي من الممكن الإشارة إليها في هذا السياق، وذلك لمركزيته في مشروع دار الفتى العربي، هو محجوب عمر2. ونحن هنا، في محاولتنا لتحديد البيئة النصية الأدبية والتربوية-العلمية لمدونة دار الفتى العربي، إزاء مسألتين منهجيتين أساسيتين. فمن جانب، فإننا لا نستطيع الحديث عن بيئة نصية أدبية وتربوية-علمية ذات طابع مميز، بل يجب الإلمام بالحقل الفكري والأدبي العربي العام، ومحاولة تمييز الحقول الفكرية والأدبية القُطرية المختلفة التي عاشها هؤلاء المؤلفون والأدباء، وكيف تفاعلت هذه، من ثمة، في لحظة التقائها مع دار الفتى العربي، مؤسسة نشر أدبية وتربوية-علمية ذات أجندة محددة. هذا إضافة إلى تميز كل مؤلف/ة ومشروعه/ا، ومداخلاتهم الفكرية والأدبية والجمالية التي قد تأخذ من الحقل الذي قدموا منه، ولكن في الوقت ذاته قد تقطع أواصرها معه بقصد، أو بدونه حتى3. أما من الجانب الثاني، فالفكر والأدب، وبعكس السياسة، لا يتناولان الراهن مباشرة بالضرورة، وإنما لديهما منطق عمل آخر للتعامل مع الأحداث التاريخية العينية، ومن هنا فإن فحص العلاقة بينهما وبين السياسة قد يحتاج إلى فسحة زمنية أرحب من سنوات عدة، وأحياناً عقود كاملة. لهذه الأسباب لا يمكن اختزال تاريخ الأدب العربي الحديث لمنطق تاريخ العرب السياسي، وإنما يجب قراءة الأدب كمداخلة من نوع آخر في العملية الاجتماعية التاريخية العامة التي تتضمن التاريخ السياسي كجزء منها. من هنا، وللتغلب على هذه الإشكاليات البنيوية بمستوى ظاهرة البحث التي نحن بصددها، فسنتناول قضية البيئة النصية الأدبية والتربوية-العلمية بطريقة ستبدو عكسية عن منطق تتبعنا للنصوص التي تناولناها في الجزء الأول من هذا الفصل، حيث تتبعنا النصوص التأسيسية السابقة على انبثاق "فلسفة التربية للشعب العربي الفلسطيني"، لنرى الخيوط النصية والخطابية التي أفضت إليه. هنا وبسبب مورفولوجيا الفعل الأدبي، إن جاز هذا التعبير، فإننا سنأخذ بعض النماذج التي جرى إصدارها في دار الفتى العربي، وذلك لاستخلاص روافدها الأدبية والتربوية-العلمية بما هي خيوط ساهمت في نسيج العمل الأدبيّ. وهذه الطريقة من التحليل بأثر رجعيّ، أي من النص إلى مكوناته، ليست باستحداث ومن الممكن ضبط تأثيرها على التحليل الخطابي والنصي عبر مقارنة نصوص عدة للمؤلف ذاته و/أو التيار ذاته الذي ينتمي إليه.
ككل عمل جماعيّ، فإن دار الفتى العربي أفرزت نوعاً من "القيادة" الفكرية الأدبية التي ساهمت بشكل رئيسي في صياغة التوجهات الفكرية والأدبية لمنشورات الدار بشكل عام. وهذا الدور نبع من أسباب عدة، بعضها له علاقة بالوظيفة الرسمية التي شغلها المفكر أو الأديب، وبعضها بسبب حضوره الأدبي والفكريّ في الحقل الفكري والأدبي العربي عامة، ويبدو أحياناً أن التوقيت لعِب دوراً مهماً في هذا السياق. ونحن ندّعي أن محيي الدين اللباد، ومحجوب عمر، وصنع الله إبراهيم، وزكريا تامر، شكلوا نواة قيادية بمستويات عدة في مشروع دار الفتى العربي، وحددوا أغلب المسارات التي سلكتها خلال العقدين اللذين عملت بهما كواحدة من أهم دور نشر أدب الأطفال في العالم العربي. لقد قام هؤلاء بوظائف إدارية مفصلية في دار الفتى العربي، وقاموا بتوجيه مسالكها عبر القرارات التي اتخذوها. إلا أننا هنا، نريد فحص الجوانب الخاصة بالبيئة النصية الأدبية والتربوية-العلمية التي ساهموا في إرساء معالمها عبر النصوص التي كتبوها وألفوها ونشروها من خلال دار الفتى العربي. ولقد تنوعت المدونة النصية التي ألّفها كل منهم خصيصاً لدار الفتى العربي، وهي محط اهتمامنا هنا، بين نصوص أدبية، وعلمية، وتربوية، وتاريخية. واخترنا هنا أن نبدأ بمحيي الدين اللبّاد وصنع الله إبراهيم، على أن نتطرق إلى نصوص محجوب عمر وزكريا تامر الأدبية والتربوية في الفصل القادم، ذلك أن اللبّاد وإبراهيم تميزا بمحاولاتهما لتأسيس مشروع حداثيّ عبر-نوعي يُعالج محور المجالات والمضامين الأساسي لدار الفتى العربي، الأدبيّ والتربوي-العلميّ.
4.1 اللبّاد: الأحرف والألفباء
إن النظرة الأولية على نصوص دار الفتى العربي، لا تترك مجالاً للشك بأن أحد الشخصيات الرئيسية الفاعلة فيها تأسيساً وإدارةً وطباعةً ورسماً وتأليفاً كان محيي الدين اللباد4. ومن جهة التأليف النصي، فلقد قام اللباد بتأليف القصص، مثل "الفيل يجد عملاً" (1975)، والمواد التربوية، مثل "الحروف الإنجليزية" (1985)، و"الأعداد" (1985)، وغيرها5. ولعل من أكثر النصوص ارتباطاً بما نسعى إلى تحديده هنا، البيئة النصية الأدبية والتربوية-العلمية لمدونة دار الفتى العربي، هما نصيّه: "الحروف في العربية" و"ألفبائية فلسطين"6. من الممكن إدراج هذين الكتيّبين في النوع التربوي من النصوص، حيث كلاهما يهدف إلى التعريف بأحرف اللغة العربية بطريقة مبدعة وسهلة للتناول؛ ولكنها في الوقت ذاته ثرية بالمعاني التي تربط مقومات جسد اللغة، الحروف والكلمات، بالرؤى الفكرية والسياسية للمؤلف والتيار الذي يمثله. والجانب التصويريّ هو جزء أساسي من هذه الأعمال، وهنالك نوع من التوازن بين الصورة والنص استطاع اللبّاد أن يحققه ببراعة عالية، ولكن لهدفنا التحليلي هنا سنفحص النص وحده، على أن نتطرق إلى رسومات اللبّاد في بحث آخر. الكتيّبان مرتبان حسب الألفباء العربية، حيث لكل حرف منها هنالك مثال على شكل كلمة، ففي "الحروف في العربية" لكل حرف هنالك أكثر من كلمة، وذلك لتوضيح التغيير في شكله بحسب موقعه في الكلمة، في البداية، أو الوسط، أو نهاية الكلمة، أما في "ألفبائية فلسطين" فلكل حرف هنالك كلمة واحدة مرتبطة بثقافة المقاومة الفلسطينية وإرثها وتراثها. الجدول التالي يعرض كل الحروف وكلماتها في كل من الكُتَيّبين:
الحروف في العربية ألفبائية فلسطين
1. أ: إبريق، أسد أ: أَخْضَر
2. ب: باب، حَبْل، كلب ب: بُرتُقال
3. ت: كتاب، بنت، توت، تمساح، تفاح ت: تين
4. ث: مثلث، برغوث، ثعبان، ثعلب ث: ثَوْب
5. ج: عَجَلة، دجاجة، بَنَفْسَج، مُهرِّج، جمل، جريدة ج: جُذور
6. ح: نحْلة، لوْحة، مِلْح، جَنَاح، حِمار، حِذاء ح: حَطّة
7. خ: نخلة، بطّيخ، منفاخ، خروف، خشب خ: خُبْز
8. د: راديو، فهْد، عمود، ديك، درّاجة د: دَار
9. ذ: أُذُن، بذور، جُرَذ، قُنْفُذ، ذئب، ذُبابة ذ: ذُرَة
10. ر: شجرة، أرْنب، جَزَر، رسالة، ريشة ر: رَصَاصَة
11. ز: حزام، خبز، مَوْز، زمَّار، زهرة ز: زَيْتون
12. س: مسطرة، كرسي، ملبَّس، دبّوس، ساعة، سُلَحْفاة س: سَيْف
13. ش: فراشة، حشيش، خفَّاش، شُبَّاك، شمس ش: شِبل
14. ص: عصا، مقصّ، قُرْص، صُنْدوق، صفّارة ص: صُبّير
15. ض: مِضْرَب، بَيْض، بعوضة، حَوْض، ضفدعة، ضِمَادة ض: ضَفِيرة
16. ط: بطّة، مشط، بلاط، طابع، طفلة ط: طَبْل
17. ظ: نظّارة، واعِظ، قَلاَوُوظ، ظُفْر، ظِلّ ظ: ظَرْف
18. ع: مِلْعَقَة، مِدْفع، زَرْع، عَيْن، عَلَم ع: عَلَم
19. غ: بَغْل، صَمْغ، دِماغ، غُراب، غُصْن غ: غُرْبال
20. ف: عُصْفور، سَيْف، زرافة، ظرف، فنجان، فيل ف: فِدَائي
21. ق: حُقْنة، طبق، طاقيّة، طَوُق، قِطّ، قلم ق: قُنبُلة
22. ك: مكعَّب، سَمَك، شُوَك، مركب، كفّ، كرة ك: كِتاب
23. ل: عُلْبة، جمل، غُربال، طبْلة، لُعْبة، لسان ل: لَوْز
24. م: حمامة، خاتَم، ثَوْم، مِفْتاح، مِسْمار م: مُسَدَّس
25. ن: سفينة، عنب، لبن، ليْمون، نَمِر، نُجوم ن: نَخْلَة
26. ه: سهْم، مُنَبِّه، مُنْتَزَه، هرم، هلال ه: هَدَف
27. و: عود، وَلَد، وزَّة و: وَطَن
28. ي: طيّارة، زيْتون، شرطيّ، شاي، ياسمين، ينبوع ي: يَقْطين
إن الفكرة الأساسية بأن هنالك ألفبائية خاصة بفلسطين، مقارنة مع الأحرف العربية عامة، هي بحد ذاتها
تعكس موقفاً محدداً من العلاقة بين المستوى القُطري الفلسطيني وبين مستوى الأمة العربية كجماعة واحدة. ويعرض اللبّاد هنا مداخلة حول كيفية العلاقة بين هذين المستويين من خلال اختياره لمفردات كل منهما، أو بالأحرى تفسيره لما كل مستوى ينبغي عليه أن يكون وعلاقاته مع المستوى الآخر. فنرى أن مفردات الأحرف العربية هي من اللغة العربية الفصحى المعيارية الحديثة، والكلمات مأخوذة من العالم القريب للطفل الذي بدأ في تعلّم القراءة والكتابة، وهذا المستوى اللغوي للعربية هو واحد من خيارات عدة ممكنة، الفصحى القديمة للنصوص الكلاسيكية، العامية على أطيافها المختلفة، وما إلى ذلك7. لهذا فإن اختيار اللباد للمستوى اللغوي هو اتخاذ موقف لما ينبغي على اللغة العربية خاصة الأمة العربية أن تكون، ما يُحدد تبعاً لذلك ما هي هيئة جماعيّة الأمة العربية في نظره. فمثلاً، في حرف السين نجد مسطرة، كرسي، ملبَّس، دبّوس، ساعة، سُلَحْفاة، وهي كلمات تشير إلى واقع يوميّ معيش من قبل القارئ الطفل، من أدوات ومأكولات وحيوانات؛ ويتكرر النمط ذاته في حرف الميم، حيث نجد حمامة، خاتَم، ثَوْم، مِفْتاح، مِسْمار. إن التركيز على راهن اليومي المعيش من خلال الأدوات والمأكولات والحيوانات، يربط عضوياً بين التجربة الحياتية للطفل وبين اللغة العربية التي يتعلمها، وذلك بعكس مستويات لغوية أخرى التي قد تفصل بين عربيته وواقعه والكتابة والقراءة عنهما. أما بخصوص "ألفبائية فلسطين"، فالتفسير اللغوي الذي يطرحه اللبّاد عبر اختياره لمفردات عينية، فهي تشير إلى لغة ثقافة المقاومة الفلسطينية بتحويرها الوطنيّ، الذي يرى بالكفاح المسلح استراتيجية أساسية في العمل لتحرير الأرض والإنسان، وذلك كما رأينا في "فلسفة التربية". وهنا من المهم التشديد على أن هذا خيار أو إمكانية من عدة، حيث أن الحركة الوطنية الفلسطينية شملت "لغات" عدة، أو تفسيرات عدة، لما هي جماعية المجتمع الفلسطيني كما الطرق الأنسب لتحقيقها، وذلك مقابل "لغات" فلسطينية أخرى كانت تموضَع، آنذاك، خارج إطار الحركة الوطنية8. فمثلاً، رَصاصَة، زَيْتون، سَيْف، شِبل، صُبّير، هي مفردات تحيل إلى الخطاب الذي يربط بين الأرض ومعالمها والأدوات التي تربط بين الفلسطيني وطريقه إلى تحرير الأرض وإعادتها إليه؛ والطفل هنا بهيئته كـ"شِبل" يأخذ دوره تحديداً من الربط بين واقعه المعيش، تحت الاحتلال و/أو في الشتات في أعقاب الاحتلال، وبين لغة قراءة وكتابة عربية تعبّر عن هذا الواقع وتستنهض حركة التغيير فيه. والسؤال هنا حول تصوّر اللبّاد للعلاقات الممكنة بين "اللغتين"، لغة الأمة العربية الحداثية الراهنة ولغة ثقافة المقاومة الفلسطينية؟
إن اللغتين منبعهما العربية، أُمةً ولغةً، ومن هنا فإن العلاقة الأولى الممكنة بين اللغتين هي بأن أحرف العربية هي البيئة الأم، التي تنبثق منها ألفبائية فلسطين. ولكن هذا الانبثاق ليس عفوياً، وإنما هو نوع من العمل باتجاه محدد، يُجسّد اقتراح حل للتناقض الأساسي لجماعة الأمة العربية ولغتها الأم في مادية اللغة عبر إعادة صياغتها بناءً على تجربة المقاومة الفلسطينية وثقافتها التحويلية. فمثلاً، دَار، ذُرة، قُنبُلة، كِتاب، مُسَدَّس، لَوْز، هَدَف، هي مفردات عربية صرفة جرى غرسها في مادة التناقض الاستعماري في فلسطين لتتحول حقول معانيها إلى أدوات في تحويل هذا التناقض وحلّه. هذا التجسيد يفتح إمكانية أخرى للعلاقة بين اللغتين/الجماعتين، أي أن الانبثاق لا يعمل في اتجاه واحد، بل في لحظة حدوثه تُفتح إمكانية تحويل العربية الأم ذاتها. وفي هذا الاتجاه الثاني، فإن لغة الأحرف العربية تشير إلى بيئة معيشة مُعطاة على الطفل أن يقوم بإتقان قواعدها لكي يعمل من خلالها، كما أن هذه البيئة، إلى حد بعيد، مألوفة وأليفة. أما لغة "ألفبائية فلسطين"، فهي تشير إلى بيئة معيشة على الطفل أن يقوم برفضها والعمل على تغييرها، وهذه البيئة يجب ألا تصبح مألوفة من حيث أنها تنفي وجود الطفل الاجتماعي. وهكذا، فإن لحظة انبثاق ألفبائية فلسطين تشير إلى إمكانية معالجة التناقضات الأساس في لغة/جماعيّة الأمة العربية عامة. فمثلاً، في حال زاوجنا المفردات من أحرف العربية مع تلك من "ألفبائية فلسطين"، تصبح الأولى حمالة معانٍ جديدة، إضافة إلى "العادية" منها؛ وهكذا فالقلم في "قلم: قُنبُلة"، والمركب في "مركب: كِتاب"، والمفتاح في "مِفْتاح: مُسَدَّس"، والسهم في "سِهْم: هَدَف" تنتقل من مجرد وصف لأدوات على الطفل إدراك منطق عملها، إلى أدوات ذات تأثير مباشر على الواقع بغية تحويله بالاتجاه الذي نسعى إليه. لا تهدف هذه المزاوجة وخلق الثنائيات بين اللغتين إلى فرض علاقة غير قائمة بين نصين، وإنما هي نابعة من كون الأحرف العربية متوقعة، بل متطلبة كنوع نصي تقوم به معظم دور النشر الخاصة بأدب الأطفال في العالم العربي، بينما "ألفبائية فلسطين" هي تحوير على النوع النصي ذاته، ومن هنا فإن العلائقية قائمة بينهما بالضرورة.
من هنا يتضح لنا أن الروافد النصيّة التي يستخدمها اللبّاد هي ذات شقين على الأقل: القومية العربية الراهنة بشقها العلماني الحداثيّ، والحركة الوطنية الفلسطينية بشقها الخاص بالمقاومة والكفاح المسلح. إن المدونة النصية لهذين الرافدين، في أعقاب نكسة حزيران العام 1967، وما تلاها من أحداث وتفاعلات في مشهد الفكر السياسي العربي، لم تكن واضحة المعالم والحدود. وهي على الأغلب كانت في مراحل صياغة وتنافذ مع تيارات تقليدية وأخرى مستحدثة، مثلاً بداية بروز التيارات الدينية الإسلامية كبديل واقعي للقومية العلمانية، وصعود التيارات الليبرالية المتحالفة مع النظام الرجعي العربي والنظام الرأسمالي الغربي. والملفت للنظر في كُتيبيّ اللبّاد هذين، هو وضوح الصقل النصيّ التربويّ وحسمه موقفه اتجاه البيئة الفكرية التربوية العربية والفلسطينية؛ فهو يأخذ الروافد النصية ذات الصلة ويصهرها بشكل متقن في رؤياه الفكرية التربوية، بحيث يحسم "التأتأة" والتخبطات الفكرية التربوية التي سادت في أوساط العاملين في التربية وأدب الأطفال في تلك الفترة. إلا أن هذا التشكيل النصي الحاسم لا يترك مجالاً للخوض في طبقات من التجربة الفلسطينية والعربية التي تشكلت كبنية شعورية عميقة لدى الفلسطينيين، خاصة، والأمة العربية، عامة. فمن جانب، نرى غياباً تاماً في هذه المفردات للوالدين والعائلة وحقول المعاني المرتبطة بهما، وقد ينم عن موقف رافض للمجتمع العربي الأبوي وأخلاقياته. أما من الجانب الثاني، فإن الصقل النصي يعطي حلاً عاطفياً إيجابياً بأن المستقبل بالضرورة أفضل في حال جرى تغيير الواقع عن طريق المبادرة إلى العمل. من هنا نرى أن الصقل النصيّ المُتقن هو بمثابة حل يسير باتجاه واحد ومحدد لا توجد فيه تناقضات ما كما في مستويات الواقع المعيش، مثلاً أن الفدائي يحمل مشروع شهادته بموازاة مشروع التحرير، وأن القنبلة التي استخدمت بيد العدو خلفت مجزرة قد يكون والديّ الطفل ضحيتها، وما إلى ذلك. وقد برزت هذه القضية في "فلسفة التربية" من حيث أحادية البنية الشعورية، والتشبث بالمنظومة الإيمانية الأخلاقية، ما منع الخوض في آليات العمل، التي هي ركن أساسي في حال أردنا تقويض الخطاب الأبوي الأخلاقي التقليدي عوضاً عن مجرد تغييبه.
هوامش:
1. للاطلاع على هذه التيارات المختلفة، انظر مثلاً:
Starkey, P., 2006. Modern Arabic Literature. Edinburgh: Edinburgh University Press, pp. 139-162.
Al-Musawi, M. J., 2003. The Postcolonial Arabic Novel: Debating ambivalence. Leiden: Brill.
Amyuni, M. T, 2000. Literary Creativity and Social Change: What has happened to the Arab psyche since the sixties? A study in a few masks. In K. Abdel-Malek & W. Hallaq (eds) Tradition, Modernity, and Postmodernity in Arabic Literature: Essays in the memory of professor Issa J. Boullata. Leiden: Brill, pp. 94-112.
2. للاطلاع على جانب من سيرة محجوب عمر، انظر:
فحص، هاني، 2010. "فلسطين التي جمعتنا: محجوب عمر- حكاية ورسالة". مجلة الدراسات الفلسطينية، 82، ص 70-79.
خوري، إلياس، 2012. "محجوب عمر: الفدائي وخدّام اللطافة". مجلة الدراسات الفلسطينية، 91، ص 142-145.
3. حول العلاقة المركبة بين الكتابة والتأليف لـ"الكبار" مقارنة مع الكتابة والتأليف لـ"الأطفال"، لدى ذات المؤلف/ة، انظر:
Galef, D., 1995. Crossing Over: Authors who write both children’s and adult’s fiction, Children’s Literature Association Quarterly, v. 20, 1, pp. 29-35.
4. للاطلاع عن كثب على مشروع اللبّاد، انظر:
اللبّاد، محيي الدين، 2012. نظَرْ. القاهرة: مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
5. انظر:
اللبّاد، محيي الدين، 1975. الفيل يجد عملاً. بيروت: دار الفتى العربي.
اللبّاد، محيي الدين، 1985. الأحرف الإنجليزية. القاهرة وبيروت: دار الفتى العربي.
اللبّاد، محيي الدين، 1985. الأعداد. القاهرة وبيروت: دار الفتى العربي.
6. انظر:
اللبّاد، محيي الدين، 1985. الحروف في العربية. القاهرة وبيروت: دار الفتى العربي.
اللبّاد، محيي الدين، 1985. ألفبائية فلسطين. القاهرة وبيروت: دار الفتى العربي.
7. حول المستوى اللغوي للعربية وعلاقته بأنواع جماعية مختلفة داخل المجتمعات العربية المعاصرة، انظر:
بدوي، السعيد محمدـ، 1973. مستويات العربية المعاصرة في مصر: بحث في علاقة اللغة بالحضارة. القاهرة: دار المعارف.
Haeri, N., 2000. Form and Ideology: Arabic sociolinguistics and beyond, Annual review of Anthropology, 29, pp. 61-87.
8. انظر، مثلاً:
الشريف، ماهر، 1995. البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني، 1908-1993. بيروت: دار المدى.