العام 2004. كانت العاصمة الإسبانية تحاول الاستفاقة من هول الصدمة التي خلفتها تفجيرات متزامنة لأربعة من خطوط القطارات في مدريد. قُتل في تلك الهجمات نحو مئتي شخص وجرح ما يقارب الألفين. سارعت الحكومة فورًا لاتهام حركة «إيتا» الانفصالية بالوقوف وراء العملية، لكن الصحافة الإسبانية كان لها استنتاج مختلف.
لاحظ الصحفيون الإسبان الذين تقصوا هجمات القطارات فروقًا واضحة بين أسلوب العملية والأساليب التي جرت حركة «إيتا» الانفصالية على استخدامها. أخذوا على عاتقهم مهمة استجواب الحكومة وأمطروا المسؤولين بالأسئلة الصعبة حول ملابسات ما جرى، مرجّحين تورط القاعدة. اتهم رؤساء تحرير الحكومةَ بإخفاء المعلومات عن هوية المنفذين، واعتبروا أن مشاركة بلادهم في الحرب على العراق كانت السبب وراء ما اعتبروه هجمات إرهابية انتقامية. لم يمضِ وقت طويل حتى كشفت مجموعة من الصحفيين الإسبان دور القاعدة في العملية. اضطرت الحكومة للإقرار بذلك، ليطاح بها في أول انتخابات تلت الأحداث، ولتنسحب القوات الإسبانية من العراق.
تذكرنا الصحفية المستقلة والباحثة الأميركية ليزا فينيغن بهذه الحادثة وتضعها في مقارنة ملفتة مع حال الإعلام الأميركي عقب هجمات أيلول ٢٠٠١. آنذاك، غرقت الصحافة في الولايات المتحدة في موجة من الرهاب الجماعي، واستسلمت لمد من العاطفة الوطنية التي غيّبت أبجديات التعاطي الصحفي مع الموقف.
في كتاب حمل عنوان «لا أسئلة مطروحة: التغطية الإخبارية منذ ٩/١١»، فصّلت فينيغن كيف غابت الأسئلة الملحة حول دوافع العملية وطبيعة تنفيذها، لصالح هيمنة التفسير الرسمي القائل بأن الهدف كان النيل من الديمقراطية الأميركية. كان ثمن هذا الانسحاب باهظًا، وانتهى إلى تجدد العمليات على أراضي البلاد.
هنا في الأردن كنا قد عشنا نسختنا الخاصة من الرهاب الجماعي واستسلمنا أيضًا، صحافةً ورأيًا عامًا، على طريقتنا، للخطاب الحكومي.
ما حدث خلال الأيام الماضية في أحداث الكرك كشف المدى الذي وصلت إليه الرقابة الذاتية لدى الوسط الصحفي. شهدنا ولا نزال نشهد سيادة الخطاب الشعبوي الداعي للكف عن نقد الأجهزة الأمنية في مواجهتها للمجموعات الإرهابية. فيما بدا واضحًا أن السواد الأعظم من الجسم الصحفي قد قرر سلفًا الاختباء خلف الرواية الحكومية لما حصل. شهدنا أثناء هذه العملية وبعدها ضخًا جماهيريًا وإعلاميًا لا يدعو فقط لتقييد المعلومات، بل وصل الأمر إلى مطالبة إعلامي معروف مثل محمد الوكيل بقطع الإنترنت عن المملكة خلال العمليات لحماية البلاد من خطر الإرهاب.
باستثناء وسائل التواصل الاجتماعي التي كان واضحًا أنها سبقت تمامًا سائر ما سواها بتزويد المتابعين بالمعلومات ومقاطع الفيديو، يمكن القول بشكل عام إن الإعلام الخاص كان سابقًا للإعلام الرسمي في الحصول على المعلومات وتزويد المواطنين بها لتحرره من تعقيدات القرار البيروقراطي التي تعرقل أداء نظيره الرسمي.
لكن تغطية الإعلام الخاص لا تكفي وحدها لطمأنة المواطن الأردني داخل وخارج الكرك لحقيقة الموقف. كانت هناك حاجة لأن يكون للإعلام الرسمي دور في تغطية تلك الأحداث، وهو الأقرب لصناع القرار والمسؤولين، علّهم يقدمون إجابات شافية للمواطن المتعطش لمعرفة ما يجري على الأرض. لكن التلفزيون الاردني، وسيلة الإعلام الرسمية الأهم في هذا السياق، اكتفى بعرض خبر الهجوم على شريط الأخبار أسفل الشاشة دون أن يقطع بثّه لنقل الحدث الذي شغل وسائل الإعلام العربية والعالمية. بدا أن إدارة التلفزيون مترددة حيال الواجب فعله في مثل هذه المواقف. كما بدا أنها تحتاج إلى استمزاج رأي «اللي فوق» قبل اتخاذ أي قرار. وهو الأمر الذي أكده بيان نسب لمجموعة من موظفي التلفزيون نُشر على صفحات التواصل الاجتماعي وفي بعض المواقع الالكترونية، وعزا تأخر استجابة التلفزيون للحدث إلى «إلى تلكؤ إدارة المؤسسة في اتخاذ القرار بسبب وجود حالة من الرعب والخوف لديها».
كان هناك عدد قليل من التقارير في بعض وسائل الإعلام المحلية ذهبت شوطًا إضافيًا في تقصي خلفيات المنفذين وملابسات العملية عوض الاعتماد فقط على البيانات الرسمية. تشكل معلومات مثل هذا النوع من المواد الصحفية أهمية خاصة للمختصين والباحثين لفهم ظاهرة العنف والإرهاب لدينا واقتراح السياسات للتعامل معها. لكن يصعب اعتبار هذا النوع من التقارير، رغم أهميتها، كافيًا. تبقى الحاجة ملحة أيضًا لمزاوجة ذلك مع مواد صحفية تفحص الرواية الرسمية.
بدا لافتًا ذلك الشح في المقالات والمتابعات والتحليلات الناقدة للأداء الحكومي أو الساعية لمساءلة المسؤولين عمّا حدث. وبخلاف ما نشر على وسائل التواصل الاجتماعي، لم نشهد كثيرًا من المواد الصحفية في وسائل الإعلام التي تطرح الأسئلة التي لم تجد إجابة حتى الآن، من قبيل، كيف لم تخضع المجموعة الإرهابية للرقابة الأمنية؟ وإن خضعت فكيف تمكنت، تقريبًا، من تنفيذ مخططها لولا أن حالت الصدفة دون ذلك؟ لماذا بدت الأجهزة الأمنية مرتبكة ويعوزها التدريب والخبرة في التعاطي مع الموقف؟ كيف تمكنت المجموعة الإرهابية من الوصول إلى الكرك بعد قتلهم لرجل أمن في القطرانة دون أن توقفهم أي نقطة تفتيش؟ ولماذا استمرت الاشتباكات مع الدرك لسبع ساعات، انتهت بسقوط عشرة شهداء وأكثر من ثلاثين مصاباً على أيدي أربعة أشخاص؟ تاركة سؤالًا آخر معلقًا حول ما بدا غيابًا لمشاركة وحدات الجيش المختصة بمكافحة الإرهاب في العمليات.
ينسى صحفيون ومسؤولون أن الاستسلام للخطاب العاطفي وحالات الهياج الوطني وسط غياب المعلومة الدقيقة وتخلي الصحافة عن دورها في المحاسبة والمساءلة لصالح الاعتماد المطلق على الروايات الحكومية لن تؤدي جميعها إلا إلى ازدياد الأمر سوءًا وتفاقم المشكلات على المديين القريب والبعيد. ففي الولايات المتحدة مثلًا، كان ثمن تخلي الصحافة الأميركية عن دورها عقب هجمات أيلول باهظًا، من سن القوانين التي تلت الهجمات على الفور واعتبرت تعديًا على الحريات وروح الدستور الأميركي مثل قانون الوطنية، إلى شن حربين في العراق وأفغانستان بمباركة الإعلام ودون مساءلته لمبرراتها المعلنة التي تبين لاحقًا بطلان غالبيتها. انتهى الأمر بمعايشة المواطنين مجددًا للإرهاب في عمليتي سان برناردينو وأورلاندو اللتين أوقعتا نحو مئة قتيل وعشرات الجرحى على يد مواطنين ومقيمين على أراضي البلاد هذه المرة.
الحالة التي عاشها الأردن في أحداث الكرك تبدو شبيهة بتلك التي عاشها عقب تفجيرات ٢٠٠٥ التي هزت عمّان وأوقعت ٥٧ شهيدًا وعشرات الجرحى. حينها دخلت البلاد في حالة من الهلع والصدمة وخضع الجميع لضغط الرقابة الذاتية والحمّى الوطنية. لم يجرِ فحص الرواية الحكومية حول حقيقة ما جرى كما لم تجرِ مناقشة الأسباب العميقة لظاهرة الإرهاب. لم يندفع الصحفيون لتحليل ما حصل واكتفوا بتقبل التفسيرات الرسمية.
كان الثمن باهظًا أيضًا.
على خلفية تلك الهجمات جرى سن قانون منع الإرهاب للعام ٢٠٠٦ الذي لقي كثيرًا من الانتقادات الحقوقية الدولية وقليلًا من المعارضة الشعبية وإلاعلامية. حينذاك أيضًا لم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الإرهاب، إذ بات الأردن طرفًا أساسيًا فيها خارج الحدود، في تساوق مع سياسة الحروب الاستباقية لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن.
وعقب انطلاق الحرب ضد الإرهاب بنسختها الثانية، ضد داعش هذه المرة، عادت إلى السطح مرة أخرى تلك النقاشات المتأثرة بالبروباغندا الوطنية. الأصوات المعارضة للمشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش وجدت نفسها في مواجهة ذات الخطاب «الوطني» الذي يتغذى على ما حدث في تفجيرات عمان لتبرير الانخراط في صراعات الإقليم. فيما لم تجد وجهات النظر الداعية لتجنب المشاركة وَفهم ظاهرة الإرهاب بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية آذانًا صاغية. وها نحن الآن نواجه الإرهاب مرة أخرى على يد مجموعات لم تأتِ عبر الحدود، بل خرجت من رحم مجتمعنا.
ما تحتاجه المؤسسات الصحفية في مثل هذه الأحداث المعقدة هو الاستعداد لاتخاذ القرار التحريري السليم في اللحظات التي تضيع فيها البوصلة في البيئة المحيطة بها. الحصول على المعلومات الدقيقة من الميدان ومن المصادر الرسمية المفتوحة ومقاطعتها مع الروايات الحكومية ومن ثم متابعتها بالتحليل والتساؤل والمساءلة من قبل المجتمع والصحافة هي ما يضمن تمتين أداء أجهزة الحكم، وهي التي تعطي دفعًا لمحاسبة المقصرين ومعالجة الاختلالات، والأهم، فهم ظاهرة الإرهاب للتعامل معها بشكل أفضل.
دعونا لا نتوقع مراجعة السلطات لسياساتها وتصويب أخطائها دون وجود من يطالبها بفعل ذلك. إن لم تفعل الصحافة ذلك، فمن يفعل؟
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"حبر".]