"إذا أخذنا الحرّيّة معياراً لمكانة المرأة ودورها في المجتمعات الإسلاميّة العربية فسوف نرى أنّ المرأة لا تزال موضوعاً شرعيّاً، تعيش سجينةً في قفَصٍ من الألفاظ الدّينيّة تدور حول الحلال والحرام، وحول الممنوع والمسموح. وهي في ذلك موضوعٌ ذكوريّ، تابعة لسلطة الذّكَر، وليست كينونةً مستقلّة سيّدة نفسها وإرادتها ومصيرها.
إنّها ثقافةٌ دينيّة أسَّسَتْ لسلطة الذّكَر أباً، و" ربّاً " للعائلة. وهي سلطةٌ حوَّلَت الذّكورة إلى نوع من الهستيريا أو العُصاب. وهذا ما يجعلنا نفهم كيف أنّ إماتةَ المرأة – الأنوثة، إنّما هو نوعٌ من إحياء الذّكورة. خصوصاً أنّ هذه الإماتة تستند إلى الشّرع، وتأخذ مشروعيّتها منه. إنّها نوعٌ من قتلٍ يُمارَس طبيعيّاً باسم الدّين".
بهذه المقدمة التي حملت عنوان "المرأة العربية شرعاً وشعراً"، افتتح الشاعر أدونيس كتاب "مختارات من شعر المرأة العربية المعاصرة" الصادر عن دار نشر Oriente y Mediterráneo¨" الإسبانية، والتي قام باختيارها وترجمتها من العربية إلى الإسبانية المترجم جعفر العلوني.
أدونيس الذي يستخدم لغة الشعر، لمناسبة هذه المختارات، يصف المرأة العربية في البلدان العربية الإسلامية أنها موجودة بوصفها موتاً حيّا. وآخذاً بقول ابن عربي: "كلُّ مكان لا يؤنث لا يعول عليه"، يصل إلى نتيجة أن المجتمع الذي لا تكون المرأة فيه سيدة جسدها ونفسها وإرادتها، إنما هو مجتمع لا يعول عليه.
ولكن كيف تستعيد المرأة ذاتها وهي مكبلة في قيود الشرع؟
يجيب الشاعر بالشعر، إذ لا نقيض للشرع كمثل الشعر: كلمتان تتكونان من الحروف نفسها، وكلتاهما نقيض جذري للآخر. لا تستعيد المرأة ذاتها إلا بالخروج من قيد الشرع، وخروجها الأعمق والأجمل يتم بالشعر وفي الشعر. والشعر هنا ليس القصيدة وحدها. إنّه، قبل ذلك، النّظرةُ إلى اللغة، وإلى الإنسان، وإلى العالم. وهو كذلك طريقة أو طرائق الإفصاح عن هذه النّظرة.
من هنا جاءت هذه المختارات الشعرية من شعر المرأة العربيّة لتنقل طُرُقاً متنوِّعة لتعبير الشّاعرة عن ذاتها، عن أنوثتها الحرّة، عن جسدها، عن علاقاتها بالعالم وأشيائه. عن علاقاتها قبل هذا كلّه باللغة العربيّة الأنثى التي هي نفسُها لغةٌ تحتاج إلى الحريّة، وإلى التحرُّر من الذّكورة التي تقود الأرض باسم السّماء.
امرأةٌ شاعرة هي امرأةٌ أحَلَّت الشّعرَ محلَّ الشّرع. أو هي امرأةٌ خرجَت من الشرع الدّينيّ: كسَرَتْ قيودَها، وأصبَحَت جديرةً بأن تُسَمّى امرأةً حرّة.
"مختارات من شعر المرأة العربية المعاصرة" كتاب يقع بـ 300 صحفحة من القطع المتوسط ضم ما يقارب الثمانين قصيدة لعشر شاعرات عربيات. وقد جاء ترتيب ظهور الشاعرات وفق سنة ميلاد كل شاعرة وهن نازك الملائكة، فدوى طوقان، لمعية عباس عمارة، سنية صالح، أمل جراح، سعاد الصباح، فوزية أبو خالد، وداد بنموسى، هدى إبلان وسوزان عليوان.
يقول المترجم جعفر العلوني في مقدمته الطويلة التي تناولت بدايات شعر المرأة العربية في القرن العشرين: إن هذا الكتاب هو محاولة للتعبير عن المسيرة الشعرية التي بدأت في منتصف القرن العشرين مع الشاعرتين نازك الملائكة وفدوى طوقان. ففي ضوء ما كانت تعيشه المجتمعات العربية دينياً واجتماعياً، ثقافيا وتاريخياً، تفجر صوت كل من نازك وفدوى بوصفه صرخة وجود. كان لا بدَّ لهذه الشعلة الشعرية أن تنتقل من يدّ إلى أخرى، فكانت كل من سنية صالح وأمل جراح في ستينيات القرن العشرين، ثم جاء بعدهن كل من لمعية عباس عمارة، سعاد الصباح وفوزية أبو خالد. أما الربع الأخير من القرن العشرين، فقد أراد المترجم أن يعبر، من خلال اختياره للشاعرات، عن الخريطة الشعرية لكل الوطن العربي، فوقع الخيار على كل من اليمنية هدى إبلان واللبنانية سوزان عليوان والمغربية وداد بنموسى.
تأتي هذه المختارات ضمن السلسلة الشعرية العالمية المشهورة التي أطلقتها دار النشر Oriente Y Mediterráneo الإسبانية منذ أكثر من خمس سنوات، وتدير هذه السلسلة حالياً الشاعرة الإسبانية كلارا خانيس Clara Janés، وقد صدر عنها أهم الأعمال الشعرية العربية: كأغاني مهيار الدمشقي للشاعر أدونيس، في حضرة الغياب للشاعر محمود درويش.
احتوى الكتاب كذلك على ملحق يتناول سيرة حياة كل شاعرة إضافة إلى دراسة مصغرة للمسيرة الشعرية لكل واحدة من هؤلاء الشاعرات.
الكتاب، إذاً، وكما يقول المترجم، هو أعمق من كونه مجرد مختارات شعرية فحسب، إنه رسالة لكل امرأة عربية للخروج من قيدها، للتعبير عن ذاتها، عن جسدها، وعن طريقة الحياة التي تريدها. وفي ضوء ما يجري اليوم في الوطن العربي من تغيرات وتحولات وتمرادات، في ضوء هذا كله، دينياً واجتماعياً، ثقاقياً وتاريخياً، تتجلى أهمية المرأة الشاعرة وصوتها، حيث يجب أن يتفجر اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بوصفة احتجاجاً وقلقاً وصرخة وجود.
من الجدير بالذكر أن حفل توقيع الكتاب سيتم في السادس عشر من نوفمبر في مؤسسة البيت العربي في مدريد بحضور عدد من المثقفين والمهتمين.