دلف مفتي البلاد بخطوات وئيدة أثقلتها سنواته السبعون إلى قصر الخليفة الذي استدعاه لأمر عاجل. كان يتحرك ببطء، ويبتسم محنيا جبهته بوجه من يراه بوقار متوقع ممن يفسر كلام الله وينطق بأحكامه. فتح الحاجبان الباب المذهب الضخم وقد أحنيا هاماتيهما احتراما. بدا مشهد الشيخ مهيباً أكثر وهو يخطو بقامته القصيرة التي تعلوها عمامة لفت بعناية، وتتمايل على جنبيه أطراف عباءته السوداء الموشاة بخيوط ذهبية اللون إلى قاعة ضخمة بيضاوية الشكل تحف أطرافها نوافذ كبيرة تطل على حديقة القصر، وتتوسطها أعمدة من مرمر انتصبت على أرض رخامية ملساء. وقف الخليفة من جلسته على كرسيه الوثير الذي يتوسط القاعة فاتحا يديه أمام جلسائه: أهلا ومرحبا بشيخنا الجليل، منبع الحكمة وأيقونة البركة في بلادنا. ردد الصدى كلمات الخليفة.
رد الشيخ على ذلك الاطراء بابتسامة مزج فيها الخجل بوقار الحكماء الذين يعرفون ويعترفون أنهم يستحقون أن برفعهم الناس فوق الآخرين. " أدام الله مولانا الخليفة حامي المؤمنين، ومعز الدين، ومذل أعدائه الخاسئين". هز الخليفة رأسه وزادت ابتسامته اتساعاً.
أوسع له الجلساء صدر المجلس، وأشار الخليفة له أن يجلس في أول كرسي بالقرب منه، وهو تكريم يتمناه كل من أسعدته الدنيا بأن يحظى بشرف لقاء أمير المؤمنين. لم يكن في بال الشيخ شيء عن سبب الاستدعاء، وهو عادة لا يكون إلا للاستئناس برأيه بشكل مباشر في أمر مهم للدولة أو للخليفة شخصيا. افتتح الخليفة الكلام مخاطباً الشيخ:
"تعرف يا شيخنا أن جماعة الشيخ أحمد قد أحدثوا في صفوف العامة بلبلة بما أذاعوه من تفسيرات واعتقادات مخالفة لما نحن عليه".
هز المفتي رأسه قائلا: "نعم، هم مبتدعون يمرقون من الدين كما يمرق السهم. لعنهم الله ورسوله فقد أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولكن جنده كانوا لهم بالمرصاد والفضل لكم ولوالدكم رحمه الله وغفر له".
أخذ الخليفة نفساً عميقا وصمت. بدا وكأنه أخذ بجواب المفتي الذي لم يكن يتوقعه قبل أن ينهي ما ابتدأ.
قال لنفسه: ربما أخطأت في الاستهلال بهذا الشكل. فلأكمل وأصارح الجميع بما انتهينا إليه.
استطرد الخليفة في كلامه قائلا:
لقد كنت يا شيخنا في طليعة من ينافحون عن الدين وسبله الواضحة المنيرة بالكتاب والسنة. ولهذا فإنني دعوتك اليوم لابلغك مع هذا الجمع الطيب أنني قد اتفقت مع الشيخ أحمد أن ننهي ملاحقة أتباعه، ومصادرة كتبهم، وتكميم أفواههم وأن نمنحهم فرصة ليطرحوا ما لديهم بحرية والأمر في منتهاه خاضع للأخذ والرد بيننا وبينهم. كل تلك السنوات من السجن والتضييق والقتل لم تجتث فكرا ولم تسكت كلمة في القلوب والعقول. فلندع الفكر يواجه الفكر، والحجة بالحجة ونتخاصم إلى العقل وننهي سفك الدماء وسجن المخالفين.
أخذ الحاضرون بما قاله الخليفة. تغير وجه المفتي بعد سماعه لما لم يكن يتوقعه عن جماعة كان قد أفتى لوالده الخليفة السابق بمروقهم عن الدين وأنهم مفسدون في الأرض يحق عليهم حد الحرابة. واستتبع ذلك موجة اعتقالات واضطهاد اسعة تمت بمباركة المفتي ورجال دينه. أما الآن، فعليه أن يقبل بعودة هؤلاء المشاكسين الذين يعارضون مدرسته في التفسير، ويرون أن السلطة للأمة فوق الجميع مفتيا كان أو إماما.
تململ الشيخ في مقعده. بدا عليه الضيق وأخذ يفكر في الطريقة المثلى ليقول للخليفة إنه يعارض تماما ما يدعوه إلى قبوله.
"ولكنهم أحدثوا في الدين ما ليس فيه، وهم سيفتنون الناس عن الطريق القويم" قال المفتي بهدوء
"صلاح الدين في صلاح الأمة، والقمع ليس حلا. بل لا بد لنا من أن نجعل ما يغلي في الصدور يخرج إلى العلن وإلا انفجر في وجوهنا" رد الخليفة بنفس الهدوء وبنبرة حزم واضحة
"أصلح الله الخليفة، ولكننا لن نكون في مأمن من الفتن إن أخرجناهم من السجون إلى شوارع المدينة يؤلبون العامة على دينهم وحكامهم" رد المفتي
" لقد وعدني شيخهم أنهم سينقطعون للدرس والوعظ ولن يمسوا مقام الخلافة. وأظنك يا شيخنا قادر على رد حججهم بما أفاءه الله عليك من علم وتفقه في الدين. وبهذا تكون قد كفيت الخلافة بعلمك مؤونة التصدي لهم، وحميت بلسانك وحجتك أرواح الناس وموارد بيت المال لما هو أهم وأنفع". قالها الخليفة بلهجة هي بين اللين والمكر.
"سدد الله جهودك يا مولانا الخليفة. نحن نعلم مدى حرصك أنت وأسلافك رحمهم الله على ما فيه صلاح العباد. ولكن هذه الشرذمة لا أمان لها. وأخشى أنني سأخيب أمل مولاي هذه المرة. الأمر لك بالطبع ولكني لا أملك لهم إلا التكفير فهم أشر خلق الله على الأمة. لك أن تطلق سراحهم من السجن ولكني لن أقول للناس إلا ما يمليه علي ربي وقرآني" قالها المفتي بأدب وحزم استغربه كل الحاضرين.
" فلتتركونا سوية أنا وشيخنا الجليل" قال الخليفة، وفي لحظات تراجع جمع الحاضرين من علية القوم بظهورهم إلى الباب وهم يحيون الخليفة. أغلق الباب المذهب الضخم ولم يبق في القاعة الفسيحة إلا الخليفة ومفتيه. نهض الخليفة من كرسيه صامتا. نزل الدرجات الثلاث التي ترفع كرسيه عن الأرض الرخامية وتمشى لبضع خطوات شابكا يديه وراء ظهره. وقف المفتي احتراما للخليفة وهو يرى يديه المشبوكتين وراء ظهره وهو يذرع القاعة جيئة وذهابا.
وفجأة استدار الخليفة ونظر إلى المفتي بعينين كأنهما قدتا من جمر، وقد تمعّر وجهه وارتفع حاجباه غضباً وصرخ فيه:
"أوتظن نفسك حقاً المتحدث باسم الله أيها الشيخ الخرف؟ هل بلغ بك العته والخيلاء أنك صدقت أن لك من السلطة ما لم أعطه إياك أو أسمح لك به متنعما متفضلا على من توهم نفسه لسان السماء وسوطها الذي يلذع ظهور المارقين، وبشيرها الذي يبيعهم أحلام الجنة والنعيم الأبدي إن هم عاشوا كما يريد هو؟ أحقا صدقت كل هذا؟ كنت أظن أن خدمتك مع جدي المؤسس ثم مع أبي قد علمتك أن دورك هو أن توائم بين ما حفظته من الصحائف وبين ما يريده الكرسي منك". وضرب بيده بعنف على مسند كرسيه.
انتفض جسد المفتي فزعا وصدمة مما سمعه. لم يسبق لأحد أن لطمه بهكذا كلام من قبل من يوم أن دخل البلاط مفتيا تقع كلماته على آذان الناس أحكاما قاطعة تزهق أرواحا وتنجي أخرى، وتشعل حروبا واضطهادا وتخمد أخرى، وتنزع أملاكا وتمنح أخرى. كان هو من يحدد من المؤمن ومن المبتدع الخارج على الملة. كم من جسد مزقته السياط بكلمة منه، وكم من رقبة قطعتها فتواه. أما الآن، فقد هزت هذه الكلمات الغاضبة عرشه الديني الذي ظنه راسخا مع الأيام، فهو مستنطق نصوص الدين وترجمان القرآن.
" لم أقل يوما إلا ما يمليه علي علمي وفقهي وما أريد أن ألقى به ربي يوم المعاد". رد بلهجة هادئة لا تخلو من تحد مبطن.
" أنت لا تريد الصفح عن جماعة الشيخ أحمد حتى لا ينازعك أحد سلطان الكلمة المقدسة التي تحتكرها. وحتى لا يطالبك أحد ببعض ممتلكاته التي استحوذتها لنفسك. هم مهرطقون تحل دماؤهم وأموالهم، فلنأخذها لأولادنا ولنمتع أنفسنا بها بعد أن نقطع رقاب من لم يفهموا القرآن مثلنا. يا للخيبة، ستعيد القصر المنيف الذي أخذه ولدك، والبستان الذي اشتريته أنت من بيت المال بعد أن صادرنا أملاك هؤلاء الأشقياء. أتظنني لا أعرف نبل مقصدك".
" أنا لم أتجاوز حدود الله ولم أطبق إلا ما جاء في كتب الأولين. المارقون تحل دماؤهم وأموالهم. التعاليم والنصوص تقول لنا ذلك".
"صلصال، صلصال مقدس" صرخ الخليفة. اتجه نحو المفتي بعينيه وأكمل كلامه مرعدا مزبدا " ألا تدرك أن كل ما تحفظه من نصوص هو صلصال تشكله لنا كما تقتضي الحاجة؟ الغافل فقط هو من يظن أن الكلمة تقبع في معناها لا تغادره قرونا أيها الشيخ. هل سأعلمك أنا أن الزمن يجعل كل تلك النصوص صلصالا يشكله زماننا وعقلنا، ولا تفعلون أنتم سوى أنكم تدخلونه في ناركم المقدسة التي توارثتم سدانتها فتحيلونه شواخص تهدي الناس للطريق القويم كما نراه في زماننا لا كما كان في أزمنة مضت. الماء الجاري هو الذي يروي الحقول وينشئ الحياة، لا الحجارة المرصوصة التي لا تتحرك". قال جملته الأخيرة بصوت منخفض وكأنه يذكر الشيخ بما لا يجوز لمثله أن ينساه.
" مارقون، مبتدعون، خوارج، كفرة، مهرطقون، روافض، نواصب، مشركون، وغيره مما ابتدعتموه أنتم وغيركم من ألفاظ تستبيح الدماء والأموال ولكنها لا تصف إلا من يرون بغير أعينكم ويفهمون بغير عقولكم، ويهددون بهذا عروشكم الكهنوتية". استرسل الخليفة.
"أستغفر الله يا مولاي، لست ممن يغيرون كلام الله وتعاليمه وثوابت فقهاء دينه الأكارم، ويتساهلون مع من يتجرأ على ما أنزله".
" من قال لك أن تغير شيئا يا رجل؟ انتقِ. هناك بين السطور وعيد وبشير، ولين وشدة، ورحمة وصرامة. لنا نحن أن ننتقي من كل هذا ما يوائمنا، وأمام الله والناس نحن في مأمن فنحن لم نتعد الحدود ولم نبتدع".
"ولكن فتاوى علمائنا الأقدمين تحتم علينا غير هذا يا مولاي".
" نعم، وفتاوى الأقدمين أيضا تحذر من مخالفة ولي الأمر. لا تنس للحظة أنني أستطيع أن آتي بعمامة أخرى هنا تطمع في مركزك لتفتي بأنك قد خالفت كتاب الله وسنة نبيه، وابتدعت ومزقت شمل الأمة حين خالفت أولي الأمر في مسعاهم لما فيه مصلحة البلاد والعباد. العمائم كثر يا شيخنا وأنت تعرف هذا خير المعرفة. وسأكون رؤوفا رحيما حينها إن أنا أبقيت رأسك على كتفيك. ستذهب كما ذهب كل من أفتيت سابقا بقتلهم".
جحظت عينا الشيخ، وارتعشت يداه المعروقتان، وتفصد جبينه عرقا، وتلمس مقعده وجلس ذاهلا عن أن الخليفة لا يزال واقفا. اتجه الخليفة إلى ركن في الغرفة وصب بعض الماء في آنية نحاسية مزخرفة وجاء بها إلى حيث يجلس الشيخ. "اغسل وجهك يا مولانا" قالها بصوت خفيض.
انتبه الشيخ إلى يدي الخليفة الممدوتين وانتصب واقفا وهو يعتذر. دفعه الخليفة برفق وطلب من أن يجلس ليرتاح ويغتسل من عناء السجال. " النصوص يا مولانا مثل البذور، وحياة البشر مثل مواسم المطر، أحيانا تينع بعض البذور وتموت أخرى، ولكنها كلها بذور رزقنا إياها الله. إنه قدر الله لا قدرنا، أليس كذلك؟"
هز الشيخ رأسه المرتجف وقطرات الماء تنسدل على لحيته القصيرة.
انسحب الخليفة إلى ركن آخر في القاعة وعاد يحمل صرة منتفخة. " هذا بعض ما أفاءه الله علينا يا مولانا. أرجو أن تتقبله ليعينك على معيشة أهل بيتك"، قالها الخليفة بصوت ودود وقد علت وجهه ابتسامة.
"زادك الله علماً ومالاً وجاهاً وجعلك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه". رد الشيخ.
"حسنا إذا، وشكرا لك على فتواك الجديدة".
"الشكر لله يا مولاي. هل أستطيع الانصراف؟"
" بالتأكيد، لكن لا تحرمنا من صحبتك وعلمك يا شيخنا"
"أكرمكم الله وسدد خطاكم. في أمان الله" قالها الشيخ واستدار خارجا من القاعة. مشى بخطوات قصيرة بطيئة تتابعه عينا الخليفة حتى انفتح له الباب الضخم وأحنى الحاجبان له هاماتيهما وهو خارج. كانت أنفاسه ثقيلة كمن استيقظ لتوه من كابوس. لم يكن يرى وهو بالكاد يمشي سوى موضع خطواته أمامه، ولم تدعه ضربات قلبه المتلاحقة يستمتع برنين الدراهم الذهبية وهي تتراقص في جيب سرواله.