"ماتخافوش مافيش حاجة "
من وحي انفجار "القديسين"
أتذكر الحدث1 كأنه بالأمس..
في الساعة الأولى من عام 2011 المجيد.. في الإسكندرية...
صوتُ الإنفجار المفزع يُعلن البداية. اهتزت الكاميرا وصرخ الناس. جرى الرجال و النساء في كل مكان و تطايرت أشلاء المختارين في الفضاء. التفت رجل الله إلى شعب الله وأعلن البشارة - التي كُتمت عقود طويلة- في الميكروفون: " ماتخافوش .. مافيش حاجة".
بالانجليزية “Don’t be scared there is nothing “ ..
لكن كان القرار الجمعي أن تكون المأساة كأي مأساة تقذفها ما بعدها إلى الوراء، إلى ظلام النسيان، أحداث القديسين التي حدثت يتم محوها من الذاكرة لصالح كوارث جديدة تتلاحق بلا توقف. وكأن الناس رفضوا استقبال الخلاص من الخوف.
مكتوب في الكتاب المقدس عن بدء الخلق في سفر التكوين . العالم كان خراباً وخواء.
بالإنجليزية " "The world was emptiness and void..
كان هذا الإعلان الأول للخلاص: إن العالم جوهره الخراب والخواء!
نيتشه شكّك في الوجود الابستيمي للحقيقة2 ، في رأيه لسنا قادرين على وعي الحقيقة بكاملها، و كل ما نعيه منظور داخل دائرة إدراكنا الشخصي. رغم أن نيتشه انطلق من هذا لتأسيس مفهوم الإنسان الأعلى، إنسان القوة و قيم الحضارة الجديدة، إلا أنه خرج من رحم نصوصه ما بعد الحداثة والتفكيك.
نيشته كان مخطئاً. وجهوده ذراها الريح كما يقول المزمور. لأن الحقيقة جلية ويمكن إدراكها لمن يسمع الصوت. الصوت الذي يخرج من الميكروفون ليقول "ماتخافوش..مافيش حاجة". هذه حقيقة قوامها الخواء. و في هذا الخواء الخلاص من الخوف.
الخلاص الذي يأتي صوته كترنيمة كنسيّة. بعد صوت الإنفجار وحين تتناثر أشلاء الأجساد على أشجار الكريسماس3 احتفالا بإنتهاء الخوف وتجلي الحقيقة الواحدة مهما تكوَّنت المعاني حولها لتخفيها.
"ماتخافوش مافيش حاجة"
بالعربية الفُصحى: "لا تخافوا ليس هناك شيء"
**********************
الحياة مؤدلجة. المجتمع مسيّس. يخاف القنابل والانفجارات. ولكن نحن الذين علمنا بخواء الحقيقة قد انفجرنا بالفعل وأجسادنا لم تقف أمام المرآة للتوحُّد مع صورة مفردة4 بل احتفينا بأجسادنا الممزقة وأشلاءنا المبعثرة على الأشياء وفي الأشياء. لذلك باركنا الله و محى من نفوسنا كل خوف. وإلهنا ليس بميت كإله نيتشه ولا قائم من الموت كيسوع ولكن إلهنا منفجر وممزق وأشلاؤه في كل مكان.
غرّ المفكرين والمحللين والفلاسفة الربيعُ العربي، خدعهم بريقُ حلم التغيير الزائف ورومانسيات النضال القشري وعلوم الجيوبوليتيكا5 النظرية. لم تكن تلك الثورات ولازالت سوى أعراض، أما الجوهر فلا يمكن الوعي به؛ الجوهر غائب عن ميادين الرقص والبهجة أو ميادين المقاومة المُستعارة، لا أحد منشغل بماهية الفعل ولا الطريق. وحتى الحكومات وكيانات الدين ماكينات الايدولوجيا الجبارة غير قادرة على الرؤية البعيدة كما تدعي، فأُهملت عن قصد أحداث القديسين كأنها عنوان فرعي في قائمة العمل اليومي، وتواطأ الجميع على إنكار الحقيقة، أو إغفالها.
أشفق كثيراً علي أصحاب حقوق الانسان وأصحاب السياسة وأصحاب الدين لأنهم حرموا التفكر في أشلاء الله والإنسان على أشجار الكريسماس. حرموا البصيرة لانه سعوا للانتصار. وللإمانة فقد توالت انتصاراتهم جميعا، بل إن انتصارهم ظهر لهم كديمومة.
انزل لساحة السياسة ثم استحضر تباعا القديسين أو مذبحة الأقباط بليبيا6 أو أخيراً البطرسية7 ، تجد الجميع يقف منتصراً: صار المسلم الحق منتصراً بحسب ايديولوجيته لأنه غلب عدو الله، وصار المسيحي الحق منتصرا بحسب ايديولوجيته لأن يسوع أخبره أن الناس ستقتله رافعين رايات الله، وصار القومي نفسه منتصرا، لأنه يعلم أن الدولة لم تسكت ولم تركع، وإن ركع أقباطها وذبحوا، بل واليساري، لأنه يرى دائما في تلك الأحداث دليلاً قاطعاً على صحة الوقوف يساراً لأن وحش الرأسمالية أزهق أرواح الأبرياء.
فالايدولوجيا قوامها الإنتصار. قوامها إنكار الخواء. فلذلك إن تأملت أبناء الايديولوجيا أنفسهم تجدهم يقشعرون من تحققها أمام أعينهم. لأن الخواء يُعلن عن نفسه وليس بصامت.
***
هل تحب الصورة؟ الاجابة القطعية هي نعم .
الجميع يحبونها.
الصورة صارت السلطة: هي حاضنة الايديولوجيا. إمبراطور الحضارة المعاصرة. أم العلامات والسيمانطيقا8 ومستقر الآخر الأكبر9 .
كل شيء اليوم يحدث لإلتقاط الصورة: يتقابل الأصدقاء بعد الغياب من أجل "السيلفي"، يفتح العريس زجاجة الشامبانيا ضاحكاً من أجل لقطة واسعة و تقّبل الام طفلها مبتسمة من أجل لقطة قريبة "كلوز شوت" ويقف موكب الرئيس ليحتوي العجوز من أجل صورة متوسطة الطول وهو يفتح لها السيارة، بل يقتل السفير الروسي10 من أجل فيديو قصير يتكوَّن من صور متتالية لكادر ثابت. كلنا نتحرك ونفعل وننفعل من أجل صورة: من أجل خدمة المعنى المصور في سيميائية11 غير مكتوبة أو منطوقة.
ولكن هل نحن أبناء الخواء نصنف كأعداء الصورة؟ لازلنا حائرين كيف لنا أختراع صورة بلا سيمانطيقا و لا علامات سوى تجلي الخواء وصورة قادرة على إفزاع أبناء الايديولوجيا.
ربما في احداث البطرسية الاخيرة حينما خضع الجميع لتلك الصور المشهدية السينمائية: بروفيل الراهبة الحزينة / القسيس المترنح المتألم / الطفلة المبتسمة الجميلة التي لفظت انفاسها بالمستشفى / الساعة المتوقفة وخلفيتها كنيسة محطمة.
أما نحن فلم ترقنا سوى صور الطفل الممزق إلى أشلاء. تلك الصورة التي يكرهها أهل المشاعر والأيديولوجيا والدين وأصحاب حقوق الانسان، ولا يحتملون رؤياها. لأنها تكشف في ثوان معدودات ما أرادت جميع الصور إخفاءه.
تكشف الخواء.
لا عجب أن يصل الناس للولع بالمشهدية ذاتها كما حدث في قتل السفير، فقد تم إغواء الجميع بالمشهد فتجلّت سُلطة الصورة. الجميع اغوته الصورة وعجز عن الحديث سوى عن جمالها وعلاماتها الاخاذة. هكذا فعلت الصورة السيمانطيقية المشهدية حين اشارت لنفسها؛ إنها الديكتاتور الذي ينجب ديكتاتورية المشاعر الجمعية مانعاً الوعي بالهشاشة من التبلور. ولكنها لم ولن تغوينا.
**********************
الكون بدأ بالإنفجار العظيم12 . حقيقة أكدها أهل الفيزياء متأخرين جداً - لكن الفيزيائيين لم يسمعوا ما قاله الروح بعد الانفجار العظيم..
هكذا تحدث الروح من يومها: ماتخافوش مافيش حاجة..
Don’t be scared there is nothing
كمن جاء من قلب العدم. وبقى فيه. بقى في الحقيقة: الخواء.
**********************
و مالذي جنيناه نحن الواعون بالخواء؟
نحن الواعون بأن العالم هش وقوانينه هشة وأديانه وايديولوجياته وعلومه هشّة؟ تلك الهشاشة التي أنجبها الخواء كقانون الوجود الأول مانحاً لها أن تكون الوجود وعلامة إدراك ذاته الفرد؟ تلك الهشاشة التي اعتبرها أهل الدين حكمة الله ومقادير جبروته ناسين أن الله قد أنفجر و في إنفجاره التجلي الأكبر للهشاشة. وأعتبرها أهل التقدميّة العدو الذي يجب مواجهته بصلابة العلم ناسين أن إكتمال الصلابة هو السكون وموت الحركة.
جنينا أننا أدركنا أن الهشاشة هي فرصتنا الوحيدة، الفرصة الحقيقية خلف الستار، خلف كل الايديولوجيات، خلف كل معنى. وأصبحنا وحدنا القادرين على صبغ العالم بالمعاني. نحن وحدنا الذين نستطيع تجسيد بروميثيوس13 وسيزيفيوس14 معاً في آن؛ نستعيد كبد الحقيقة ونعبد خلقه كلما أكله الطير ونسرق أشلاء اللاهوت والناسوت ونشكِّلها أعلى الجبل كلما تهاوت إلى المنحدر ، ولا نمل من أن نعيد تشكيلها كل لحظة قائلين لأنفسنا وللعالم: ماتخافوش.. مافيش حاجة.
هوامش:
1. أحداث تفجير كنيسة القديسين: تفجير استهدف بمنطقة سيدي بشر بمدينة الإسكندرية المصرية فجر السبت 1 يناير2011 في الساعة 12:20 عشية احتفالات رأس السنة الميلادية. يعتبر من أعنف الأحداث الإرهابية في تاريخ مصر استهدافا لمدنيين وتميز بغزارة المادة المصورة و التأثير النفسي الواسع حيث يري البعض أنه ساهم بشكل كبير في إشعال الغضب قبل ثورة يناير التي قامت بعدها بخمسة و عشرين يوم فقط.
2 قال نيتشه: لا يوجد حقائق، فقط تأويلات. يعتبر نيتشه أحد آباء الفكر المابعدحداثي الذي يلغي مركزيّة الحقيقة وينفي الوصول إليها.
3 من العلامات المميزة لاحداث انفجار القديسين تناثر اشلاء الضحايا علي اشجار الكريسماس في ممرات الكنيسة
4 بحسب نظرية الفيلسوف الفرنسي جاك لاكان، فأن في مرحلة مرآوية في الطفولة هي ما تصنع الذات وتجعلها كيان موحد يعي نفسه.
5 Geo-politics: علم يختص بالسياسة وعلاقتها بالجغرافيا والحدود.
6 قامت جماعة داعش بذبح 21 قبطياً في ليبيا في يوم 15 فبراير 2015
7 قامت جماعة داعش بتفجير كاتدرائية القديس مرقس بالقاهرة يوم الأحد 11 ديسمبر 2016 عن طريق إنتحار فجر نفسه يدعى أبو عبد الله المصري، قُتل على إثره 25 شخصاً وأصيب 31 آخرون.
8 Semantics: علم الدلالات والمعاني
9 The Big Other: مفهوم لاكاني يعني الآخرية الراديكالية المتمثلة في البنية الرمزية فيما هو اللغة والقانون.
10حادثة أغتيال السفير الروسي بتركيا: أغتيل السفير الروسي أندريه كارلوف على يد شرطي تركي يوم 19 ديسمبر 2016 في العاصمة التركية أنقرة.
11 Semiotics: علم العلامات والرموز.
12 Big Bang Theory: نظرية علمية عن نشأة الكون تقول بأن نقطة لا متناهية الكثافة انفجرت ومن خلال تمددها نشأ الكون.
13 البروميثيوسية الجديدة: حركة فلسفية ترجح قدرة الإنسان على تغيير ظروفه وواقعه وطبيعته
14 شكك ألبير كامو في تعاسة سيزيف وهو يرفع الصخرة
****