فكرة "الذات" الفلسفيّة، هي فكرة حديثة، جاءت مع عصر التنوير الأوروبي والنزعة الإنسانيّة، فالذات المفكرة والواعيّة تجد تعبيرها الوجودي الميلادي الأول في بيان ديكارت الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، أو ماعُرف بـ"الكوجيطو"، وبالتالي فوجودية الذات تتحدد بكونها "ذاتًا" ذات تصور ابستمولوجي، أي بوصفها ذاتًا "مفكرة عارفة"، في مقابل "موضوع" معروف ومحكوم، فيما نسميه ازدواجيّة/ثنائيّة "الذات والموضوع". وإذا كان النقد ما بعد البنيويّ وما بعد الحداثيّ يقول بأن نهايّة "الذات" دلالة على نهايّة العصر الحديث أو دلالة على خاتمته، فثمة حاجة إلى تأمل الذات وعمليّة التفكير (الكوجيطو)، والموضوع المفكّر فيه. أيّ أنّ عمليّة "التفكير" عمليّة ليست فقط وجوديّة، ولكنها كذلك تنتج "ذاتًا" مُهيّمنة ("ذات" ذات هيّمنة)، وأنّ أيّ عمليّة تفكيك لتلك الذات أو حتى تأملها توقع عليّها نوعًا من القلق الوجودي، لكل الأطراف المشاركة في الخطاب: الذات والآخر، وما بينهما وما يجمعهما من ذاكرة، وغيرها.
"الذات"، والتي هي وحدة قانونيّة وفلسفيّة ومفاهيميّة ونفسيّة وسياسيّة، تجد معناها الكامل في فرضيّة الاستقلال، والتي تمنح "الذات" (أو الـ"أنا") منزلة الوجود، تُنتجها –أو تساهم في إنتاجها- المركزيّات ما بين شرقيّة وغربيّة. وهذه الاستقلاليّة –المُدّعاة- تُنتج وِفق استراتيجيّة خطابيّة استطراديّة معقدة وتراكميّة. لكن، ما يهمنا في تلك الاستراتيجيّة (وفي مثال التأمل والتفكيك ها هنا وهو صورة قاتل السفير الروسي في أنقرة 19/12/2016) أن آليّة إنتاج "الذات" تتطلب طرفًا آخر أو شرطًا آخر تُميّز الذات نفسها من خلاله، وبالتالي فإن عمليّة نقد هذا "الآخر"، بقدر ما تنتج "الذات"، هي أيضًا، (قد) تقوض هيّمنتها وسلطتها، وتمارس نقدًا ما عليها، ما يوقعها في قلق وجوديّ، لا ينجُ منه أحد.
لعل مشهد اغتيال السفير الروسي في أنقرة (19/12/2016)، يُكثف تلك العلاقة المركزيّة والبينيّة بين الذات والآخر، وديناميّاتها المهيّمنة وكيف تُفكّك في المقابل (بالرصاصة)، ليُعاد إنتاجها، وهكذا دواليك. فهي صورة بالغة التراكبيّة، فالقتيل الذي يمثل مؤسسة الدولة "روسيا الاتحاديّة"، الشريك الأساسي للنظام السوري، في قتل وتشريد واعتقال وتجويع الشعب السوري، كان يلقي كلمته بصفته الرسميّة ممثلًا لدولته، محاطًا بكل رموز القوة المعنويّة والماديّة، في معرض فوتوغرافي بعنوان "روسيا في عيون الأتراك"، وبالتالي فالكلمة والمعرض جزءان أساسيّان من الصورة ونتيجة لتحوّل خطابي شهدته العلاقات الروسيّة التركيّة في الأشهر الأخيرة حول المسألة السوريّة، وبالتالي تسقط فكرة "مدنيّة" القتيل والمواجهة، وفكرة صورة "روسيا في عيون الأتراك" الفنيّة المتعاليّة على "الآن" و"الهُنا"، كما يدعي متثاقفوا/متثاقفات الإنسانويّة، ما استلزم حدثًا كهذا للتعبير والإجابة عن سؤال "الرؤية": ماذا نرى من روسيا في تركيا ومن تركيا في روسيا؟ أيّ آخر تراه الذات فيها وأيّ ذاتٍ يراها الآخر فيها؟
وأمّا القاتل المتأنق في ملبسه، الشبيه بشخصيّة "جيمس بوند" (للحظات فقط قبل إطلاقه للنار والتكبير)، فحين صدح بالتكبير، ورفع سبّابة يساره، وفي يمينه مسدسه، فأنه بذلك يكسر صلابة "صورة" "الآخر" الإسلامي/المتأسلم التي تنتجها وتنحتها مركزية الذات الغربيّة/غير المُسلمة، ضمن تعريفها السلبي لذاتها (أي عن طريق استحواذ الحق في تعريف الآخر)، وتصديرها ضمن تعليب فوتوغرافي صلب تستبطنه أنماطنا الخطابيّة العربيّة/الإسلاميّة دونما تفكيك (على المستوى الإعلامي والسياسي، وكثيرًا على المستوى الثقافي)، حتى ولو على مستوى "الملبس" و"المظهر"، سيميائيًا. وهو يترك الناظر/مستهلك الصورة في حالة من القلق التفكيكي، في تناوله للصورة ودلالاتها، لأنه يسائل نفسه حينها ويسائل آخره : من أنت؟ ومن أنا؟
أمّا عندما هتاف القاتل بعبارة "الله أكبر... الله أكبر، نحن من بايعنا محمدًا على الجهاد"، تعود الكلمة لتسيطر على التأويل والتلقي، فهذا الهتاف كان معروفًا إبان فترة "الغزوّات" النبويّة، أيّ أنه نابع من جزء أصيل من السرديّة الإسلاميّة الممأسسة، والتي تعتبر جزءًا أصيلًا من الذاكرة التوحيدية لتعريف المسلم و/أو العربي وبناء هويّته. وهي نفس الهويّة التي تستخدم لقتل الآخر المسلم ابن نفس الذاكرة التوحيدية، وقتل الآخر من خارج الظل الإسلامي. وكذلك، لتحرير الأوطان والآلهة وغير ذلك (يُذكر أن المرشد الأعلى في إيران قال بأن حلب انتصرت للإسلام على "الكفر"!!). ومرور المقولة في الصورة المكثفة واللحظيّة كسلعة، يُضطر المتلقي إلى مواجهة لوقف مكثّف – كما هي مكثفة الصورة ومضامينها المعنويّة كالأفكار والرموز والماديّة كالأجساد والأشكال والألوان- إما قبولًا أو رفضًا، من دون عميق تأمّل في الحدث ذاته، وصورته المكثفة ، وتفكيك لتداعياته.
علينا ألا ننسى أن العنف هو ما يمكنه أن ينسينا أننا ضحايا العنف الرمزي الخفيّ للأنظمة والمجتمع. فزخم الصورة وما تعبر عنه من "مُصاب" (بمعنى "ما وقع") ليست "مصيبة" إلا بما تحمله من معنى وأثر مادي مكثّف، وبالتالي فالسلطة أو الخطاب المهيمن هو ما/من سيستخدم هذا التكثيف في الحدث وهذه الصورة لتبرير المزيد من العنف المادي والرمزي.
الموت في هذا الحدث/ المشهد، هو نموذج أعلى من نماذج غياب المقايضة بالمزيد من المقايضات، ولعلّ هذا ما يراه الفيلسوف بوليارد في القول بأن الموت يتحول لأسلوب مقاومة ضدّ الأنظمة عندما يتخطى حاجز المزايدات، بلفظ آخر، فشل السفير وما يمثله من دولة/مؤسسة في خلق ذاتٍ "مفكرة"، والنزوع إلى التقتيل والتشريد لشعب كامل، هو فشلٌ يثابله فشل القاتل في خلق آخر مفكر محايث للآن والهنا (ولعلّ هذا هو السبب في اختيار هذا الهتاف بالعربيّة تحديدًا!).
التداخليّة بين "الإرهاب" (وهو خروج العنف عن حدود اللعبة السياسيّة وقوانينها لا أكثر) والإعلام، لا يختلف سوى في التكثيف، عن العلاقة بين السياسة والقمع الممأسس والإعلام، ولأننا كأفراد أجساد وكيانات "مواطنيّة" (هكذا يجب أن نكون في عصر الدولة الحديثة) بتنا واقعين بشكل ما أو بآخر عن وعي أو لا وعي ضمن إطار الصورة الإعلاميّة للعنف، حيث كلنا دروع بشريّة واقية للمؤسسة، ورهائن للإرهاب، بمجرد وجودنا في خطاب هذه الصورة الاستهلاكيّة، ولعلّ هذا ما يمكن استبيانه في سرعة رد مصور رويترز الذي سرعان ما حملنا كمشاهدين إلى إطار أقرب للقاتل بعد أقل من لحظات على قتله للسفير، وكأن العنف/الصورة/الحدث أولى من الوجود الجسدي للمصور كإنسان وجسد وضحيّة محتملة. يقول غي ديبور (1931 – 1994) في كتابه، "مجتمع الاستعراض" (1967): "لا يمكن فهم الاستعراض/ التمثّل (Representations) على أنّه إساءة استخدام عالم الرؤية، إنّه، بالأحرى، رؤية للعالم صارت فعليّة، وجدت ترجمتها الماديّة. إنّها رؤية للعالم صارت متشيّئة".، ما يحدث من ترابط بين الدولة والإرهاب في صورة القتل، يجعل عمليّة إنتاج الدولة والمؤسسة إنتاج مادي، يتمثّل في الأجساد، والإرهاب كذلك، وبالتالي فلا مكان لتفكيك هذا التمثيل من دون دور مسند للأجساد، وهذا كان ماعنته فكرة تحليل مقتل جسد القاتل واغتياله، ومقارنتها مع جسد السفير في أنساق تآمريّة. ومن هنا نظن أن الصورة بكامل عناصرها عامةً، وبالأجساد الحاضرة فيها خاصة ستشهد الكثير من عمليات التبادل وخلق التمثلات والترميز المخترق لحدث الموت المؤسس في الذاكرة الإنسانية الوجودية ككل، وأجساده، وهذا نسق استهلاكي معولم مسّ قبل ذلك صورًا لحوادث وأجساد ميتة كان أشهرها تشي غيفارا، وليس آخرها ما نشرته مجلة "تشارلي إيبدو" لصورة الطفل السوري الغريق على السواحل الأوروبيّة، وكمّ العنف في تلك النماذج الصوريّة.
أيمكن اعتبار الصورة أولًا، والحدث ثانيًا، التعبير الخطابيّ المناسب لعنوان المعرض الفني الذي كان القتيل ضيفه: روسيا في عيون الأتراك؟! روسيا ممثلة في السفير المتأنق هو أيضًا، في مشهد سوريالي بالغ البياض من حوله، وما يحمله هذا البياض من حياد، هذا التعقيم الغالب على المشهد الأبيض، برغم تورط روسيا وسفيرها في الدم والدمع، هذه البنيّة المخيفة للحياد والبياض، المهددة من حيث هي لا تدري؛ وفي لحظة ما، وفي عزّ استتباب البياض وتأنقه وكأنه لم يفعل شيئًا، يهجم السلاح، ويتطرف البياض الحياد ويتأنّق، حتى الموت والجهاد والشهادة، ويبتلع الحياد جثة السفير بعد أن ينتقل المعنى كاملًا للقاتل (الذي لا نرى مقتله في البياض)، ويتكثف الحيّاد والتحيّز معًا فيتطرف المتلقي في التلقي بين شيطنة ولعن من ناحية، وتأليه وشهادة من أخرى، ويغدو آخرًا لذاته، وذاتًا لآخره، معًا؛ بينه وبين القاتل والقتيل تقاطعات ومشتركات كثيرة في التفكير والتأويل والفعل، كم فرحنا بالقتل وتخوّفنا من التبعات، وكم كرهنا القتل واشتممنا منه عدالة ما، من أجل حلب، ولكن أتكفي العدالة فحسب ولا حياد في الدم؟!