حسم الفلسطينيون في هذه المرحلة، معركة الرواية التي استمرت عقوداً مع إسرائيل بشأن هوية القدس وأماكنها المقدسة، بعدما صوتت منظمة "اليونسكو" لمصلحة مشروع قرار يؤكد أن المسجد الأقصى هو موقع إسلامي، غير أن حسم المعركة مرحلياً لا يعني أن الأمر انتهى، إذ يمكن لإسرائيل، التي سارعت إلى الرد بمنطق القوة على قوة الحق والمنطق، أن تلجأ مباشرة، أو عبر أي دولة عضو في المنظمة، إلى طلب تعديل على القرار.
قبل أشهر من حلول الذكرى السنوية الخمسين لاحتلال القدس تبنّى المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، بأغلبية 24 صوتاً في مقابل 6 أصوات وامتناع 24 دولة من التصويت، قراراً يؤكد "أهمية مدينة القدس القديمة وأسوارها بالنسبة إلى الديانات السماوية الثلاث"، وعن المسجد الأقصى "بوصفه موقعاً إسلامياً مقدساً مخصصاً للعبادة."
ونظر الفلسطينيون إلى القرار باعتباره انتصاراً، وقال وزير شؤون القدس ومحافظ المدينة عدنان الحسيني، لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية": "نُصرّ على أن ما ورد في قرار اليونسكو هو الحقيقة التي غابت فترة طويلة، ولكن من خلال المتابعة الحثيثة تمكنّا من الحصول على هذا القرار الذي يؤكد أن هذا مسجد إسلامي، وبالتالي لا يحق لإسرائيل أن تمنع العبادة فيه، أو أن تتدخل في شؤونه، أو أن تقتحمه بالقوة، أو محاولة تغيير تاريخه." وأضاف: "لقد وضع هذا القرار حداً للاستهتار بتاريخ الأمم، علماً بأنه لم يصدر من فلسطيني أو عربي أو مسلم، وإنما صدر من العالم ليقول إن المسجد الأقصى هو مكان مقدس للمسلمين.. هذا الجدل الذي استمر مئات السنين عبر أعمال تزوير وتلفيقات انتهى الآن، فالحقائق واضحة."
لكن الحسيني استدرك قائلاً: "إسرائيل تقوم بمحاولات من أجل تغيير القرار، فالمجلس التنفيذي لليونسكو يجتمع سنوياً، وبإمكان أية دولة أن تتقدم بتعديلات أو تغييرات، وبالتالي فإن علينا أن نسعى بشكل دائم ودؤوب لمنع أي محاولة للتغيير حتى نُبقي على هذا الإنجاز على النحو الذي تم، وهي معركة مستمرة ويتعين التعامل معها بجدية."
غضب نتنياهو
لم يكن تمرير قرار كهذا بالأمر الهين، إذ كشف وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني رياض المالكي النقاب لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية" عن أن "الحكومة الإسرائيلية استخدمت كل أساليب التهديد والوعيد مع الدول الأوروبية تحديداً من أجل عدم التصويت لصالح مشروع القرار، على الأقل." ولفت المالكي الأنظار إلى أن "إسرائيل توعدت باتهام الدول الأوروبية التي تصوّت لصالح مشروع القرار باللاسامية"، مفسراً بذلك سبب لجوء هذه الدول إلى الامتناع من التصويت.
وقد أتى القرار على ذكر "المسجد الأقصى / الحرم الشريف" 19 مرة، من دون أن يستخدم ولو مرة واحدة، المصطلح الإسرائيلي "جبل الهيكل"، فأثار غضب إسرائيل كما لم يفعل أي قرار دولي من قبل. وقال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في بيان رسمي: "الادعاء أن إسرائيل لا علاقة لها بجبل الهيكل وبالحائط الغربي يشابه الادعاء أن الصين لا علاقة لها بالسور العظيم، وأن مصر لا علاقة لها بالأهرامات. وبهذا القرار السخيف فقدت اليونسكو الشرعية القليلة التي تبقّت لها، لكنني أؤمن بأن الحقيقة التاريخية أقوى، والحقيقة ستنتصر." وسارع نتنياهو فأعلن اكتشاف سلطة الآثار الإسرائيلية ورقة بردى قال إنها تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، وتتضمن أقدم ذكر لاسم القدس باللغة العبرية، وقال إنها "بمثابة رسالة من الماضي موجَّهة إلى اليونسكو لتبيّن باللغة العبرية الصلة التي تربطنا بأورشليم والموقع المحوري لأورشليم لدينا." غير أن علماء آثار إسرائيليين سرعان ما دحضوا صدقية هذه الورقة مؤكدين أنها مزورة، فأوقف نتنياهو الإشارة إليها بعد أن كان قد تصور إلى جانبها في إحدى كلماته.
المكتشفات الأثرية تدعم فلسطين
حاول الفلسطينيون على مدى أعوام طويلة، دحض الرواية الإسرائيلية بوجود آثار يهودية أسفل المسجد الأقصى أو في محيطه، لكن شهادتهم لم تكن تلقى آذاناً صاغية في الغرب. و"يعتقد" المتدينون اليهود أن المسجد الأقصى أُقيم على أنقاض المكان الذي وُجد فيه الهيكل الثاني قبل هدمه.
في مقابل ذلك قال رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري: "على الرغم من الحفريات الحثيثة المستمرة منذ سنة 1967، والتي باتت تعرّض أساسات المسجد الأقصى للخطر، فإنه لم يجرِ اكتشاف أي أثر يهودي، وكل ما جرى اكتشافه هو آثار غير يهودية." كما أن أستاذ الآثار في جامعة القدس هاني نور الدين، تحدث إلى "مجلة الدراسات الفلسطينية" معززاً الرواية الفلسطينية، بالقول: "لا توجد معطيات مباشرة تشير إلى أن الهيكل كان قائماً مكان المسجد الأقصى. توجد آثار لحقب تاريخية عديدة، ولكن لا يوجد ما يربطها بالهيكل." وأضاف: "ما هو قائم هو مبنى إسلامي اسمه المسجد الأقصى." وكان عالم الآثار الإسرائيلي مئير بن دوف، الذي تولى رئاسة الفريق الإسرائيلي الذي أجرى أعمال الحفر في محيط المسجد الأقصى أعواماً طويلة، قد دحض في أكثر من مناسبة المزاعم عن اكتشاف آثار تفيد بوجود بقايا الهيكل أسفل المسجد أو في محيطه، وكان هذا الجدل أحد الأسباب التي أدت إلى تفجر المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في قمة كامب ديفيد في سنة 2000، والتي قاد الوفد الفلسطيني فيها الرئيس الشهيد ياسر عرفات، بينما قاد الوفد الإسرائيلي رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك إيهود باراك برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. ويشير أحمد قريع أبو العلاء إلى أن الرئيس الأميركي اقترح في تلك المفاوضات أن يكون المسجد الأقصى تحت وصاية فلسطينية وسيادة إسرائيلية، وأن يكون لإسرائيل السيادة أسفل المسجد. آنذاك، لم يكن ثمة أي قرار بوزن القرار الصادر عن اليونسكو يدعم الموقف الفلسطيني الرسمي الذي يُعتقد على نحو واسع أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات دفع حياته ثمناً له. وعلى ذلك، رأت دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس أن قرار اليونسكو يعني "بطلان جميع إجراءات الاحتلال التي غيرت الوضع القائم بعد 5 حزيران [يونيو] 1967."
إمعان إسرائيلي
وإذا كان قرار اليونسكو يساند سياسياً الرواية الفلسطينية فإنه لا يملك قوة التطبيق على الأرض، الأمر الذي جعل إسرائيل تمضي قدماً في فرض الوقائع، فمن ناحية بدأت تتعالى الأصوات المطالبة بالسماح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، ومن ناحية ثانية شرعت في إجراءات لإسكات صوت الأذان من مكبرات الصوت. ونجح مستوطنون متطرفون يهود في اقتحام ساحات المسجد الأقصى بتسهيل السلطات الإسرائيلية وحمايتها، وسارع عَرّاب الاقتحامات وعضو الكنيست من حزب الليكود "يهودا غليك" إلى تنظيم حفل كبير داخل البرلمان الإسرائيلي مطلع تشرين الثاني / نوفمبر، ونال الحفل صفة سياسية بعد أن شارك فيه كل من رئيس الكنيست يولي إيدلشتاين، ووزير الأمن الداخلي غلعاد إردان، ووزير شؤون القدس زئيف إلكين، ونائب وزير الجيش الإسرائيلي إيلي بن دهان.
وعلمت "مجلة الدراسات الفلسطينية" بأن المسؤولين الإسرائيليين دعوا صراحة في هذا الاجتماع إلى تغيير الوضع القائم في المسجد كي يصبح في إمكان اليهود الصلاة فيه، وهي أقوال تُسمع للمرة الأولى من جانب مسؤولين على هذا المستوى. وقال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إردان، بحسب توثيق الجماعات الاستيطانية: "إن الوضع القائم في `جبل الهيكل` [المسجد الأقصى] يميز ضد اليهود، وأنا أدرك تماماً أن هناك الكثير مما يجب القيام به لتحسين الوضع الحالي." ويُذكر أن الوضع القائم هو الوضع الذي ساد في المسجد الأقصى منذ الحقبة العثمانية، واستمر خلال الانتداب البريطاني والحكم الأردني، ومنذ الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1967 حتى سنة 2003، حين قررت إسرائيل تمكين المستوطنين من اقتحام المسجد بحراستها، إذ اقتحم المسجد منذ ذلك الحين 13,8 ألف مستوطن سنوياً. وقال رئيس الكنيست الإسرائيلي إيدلشتاين في الاحتفال ذاته: "أنا أدعم إنشاء جماعة ضغط في الكنيست لتعزيز صلة اليهود بجبل الهيكل [المسجد الأقصى]"، بينما اعتبر وزير شؤون القدس زئيف إلكين تلك الصلة على أنها القضية الحاسمة، مطالباً الحكومة بأن تأخذها على محمل الجد، ومباركاً الجهود. وكشف نائب وزير الجيش الإسرائيلي إيلي بن دهان النقاب عن أنه في عمله السابق في وزارة الأديان بدأ بصوغ مبادئ توجيهية لتمكين اليهود من الصلاة في المسجد الأقصى، وقال: "أدعو الحكومة إلى تنفيذ هذه المبادئ التوجيهية."
وقد جرى هذا الحفل من دون تغطية من وسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية.
معركة الأذان
في تطور لافت، دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مشروع قرار لفرض قيود على استخدام مكبرات الصوت في الشعائر الدينية والوطنية، وهو ما اصطلح عليه "مشروع قانون الأذان". واتّسم مشروع هذا القانون بطابع الانتقام والمنافسة والاسترضاء من طرف نتنياهو، فمن ناحية أراد الانتقام من قرار اليونسكو، ومن ناحية أُخرى رغب في التنافس مع رئيس بلدية القدس الغربية نير بركات الذي يتنافس على مركز متقدم في حزب "الليكود"، والذي بادر إلى طرح وضع قيود على استخدام مكبرات الصوت في الأذان بعد أن نحا (نحّى) نتنياهو هذا الموضوع جانباً أشهراً طويلة، في حين قالت القناة العاشرة في التلفاز الإسرائيلي إن نتنياهو أراد بذلك إرضاء ابنه يائير الذي بلّغه أنه "يتضايق" من صوت الأذان المنبعث من جسر الزرقاء عند وجوده في منزل العائلة في مدينة قيسارية. وفي إشارة واضحة إلى أنه يقصد الأذان تحديداً، قال نتنياهو في مستهل اجتماع لحكومته مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر: "هذا ما يتم القيام به في مدن كثيرة في أوروبا وفي أماكن متعددة في العالم الإسلامي، إذ يجري فرض قيود على مستوى الصوت في المكبرات، أخذاً في الاعتبار جميع المواطنين. إنني أدعم سنّ قانون بشأن ذلك، وأدعم تطبيقه بشكل مماثل في دولة إسرائيل."
وبينما أقرت اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون التشريع مشروع القانون، إلاّ إنه سرعان ما تحفّظ عليه وزير الصحة وزعيم حزب "يهودوت هتوراه" المتدين يعقوب ليتسمان، الذي وبعد اتصالات نواب عرب معه، خشي استخدام مشروع القانون ضد استخدام مكبرات الصوت في إطلاق البوق عند بداية كل سبت. ويقضي الاتفاق الائتلافي الحكومي الإسرائيلي بعدم عرض أي مشروع قانون على الكنيست للتصويت عليه في حال اعترض عليه أحد أعضاء الائتلاف.
وأثار مشروع القرار غضباً شعبياً ورسمياً فلسطينياً في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني، فنظموا مسيرات ووقفات احتجاجية، وأذّن في داخل قاعة الكنيست النائب أحمد الطيبي والنائب طلب أبو عرار، وفعل الأمر ذاته مسيحيون في مدينة الناصرة. وسعت أطراف في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي لإقناع ليتسمان بسحب اعتراضه، لكنه قال أنه من ناحية يفضل وجود نص في مشروع القانون يستثني شعائر السبت، وأنه من ناحية ثانية يخشى أن يقوم الفلسطينيون في حال تم ذلك على تقديم التماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية التي قد تبادر إلى تعميم القانون على الجميع، بمَن فيهم اليهود.
وفي مسعى منه لتفادي المحكمة العليا الإسرائيلية، اقترح مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية أن ينص القانون على أن القيود تُفرض من الساعة الحادية عشرة ليلاً حتى الساعة السابعة صباحاً، الأمر الذي يعني أنه لن يشمل شعائر السبت، لكنه سيشمل أذان الفجر. وقالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في افتتاحية لها: "إن استثناء صافرات اليهود من مشروع القانون يكشف الوجه الحقيقي للقانون: هذا قانون يستهدف فقط إهانة المسلمين في إسرائيل والمسّ بمشاعرهم وبحريتهم في العبادة." وبرز في هذا الأمر أيضاً صراع الهوية، فقد قالت القائمة العربية المشتركة في الكنيست في بيانها: "إن مشروع القانون العنصري لا تنحصر أهدافه في انتهاك حرية الديانات والعبادة والمقدسات، بل يهدف إلى محو حضور الهوية والثقافة والحضارة العربية والإسلامية في الحيّز العام."
ولم يتوقف تنافس نتنياهو ورئيس بلدية القدس الغربية بركات عند هذا الحد، إذ رد رئيس الحكومة الإسرائيلية على قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الإصرار على إخلاء مستعمرة "عامونا" بعد ثبوت إقامتها على أراضٍ فلسطينية خاصة في وسط الضفة الغربية، بدفع مشروع قرار "التسوية" الذي يسمح بمصادرة أراضٍ فلسطينية خاصة في الضفة الغربية لمصلحة الاستيطان، وجرى التصويت له بالقراءة التمهيدية في الكنيست في جلسة حضرها وشارك فيها نتنياهو نفسه.
وعقّب مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية خليل التفكجي، لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية" على مشروع القانون الجديد، مشيراً إلى أنه يستهدف ثلث مساحة الضفة الغربية تقريباً. غير أن رد بركات كان أعنف، إذ توجه إلى مستعمرة "عامونا" نفسها، وأعلن من هناك أنه توجه إلى المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية بطلب تطبيق الأمر ذاته على ما قال إنها "مئات وربما آلاف" المنازل الفلسطينية التي أقيمت على أراضٍ يهودية في القدس الشرقية. ويزعم بركات أن فلسطينيين أقاموا منازل لهم على أراضٍ في القدس الشرقية المحتلة كان يمتلكها يهود قبل سنة 1948، فاتحاً بذلك باباً كان الإسرائيليون يعتقدون أنه أُغلق، إذ قال وزير شؤون القدس ومحافظ المدينة عدنان الحسيني، لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية": "إذا كان الأمر كذلك فليعيدوا إلى الفلسطينيين أملاكهم في القدس الغربية، والتي تقدّر بأكثر بكثير ممّا يدّعي بركات أن لليهود في القدس الشرقية." وأضاف الحسيني: "المعطيات المتوفرة لدينا تشير إلى أن 194 ملكية في القدس مسجلة باسم ما يسمى بحارس أملاك الغائبين، وقد وضع المستوطنون يدهم على أكثر من نصفها بأساليب غير صحيحة وبالضغوط ومن خلال القوانين العنصرية التي سنّوها فقط لهذه الغاية." وتابع الحسيني: "لدينا الكثير من الأملاك في القدس الغربية التي جرى وضع اليد عليها من دون وجه حق، ووسّعوها وبنوا عليها وأضافوا إليها، وإذا ما كانوا يتحدثون عن عدالة، فطالما أنهم يريدون إخلاء مَن في القدس الشرقية، فإن من حقنا أن نخلي مَن يقيمون في أملاكنا في
القدس الغربية، وعلى بركات أن لا يعتبر نفسه ذكياً لأنه في هذا الجدل هو من الظالمين."
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية".]