وصلت المؤسسات الفلسطينية في القدس، منذ توقيع اتفاق أوسلو وبسببه، إلى مرحلة أصبحت فيها المؤسسات التي تمكنت من الصمود، أمام واقع لا يمكن مواجهته: إسرائيل تضع ثقلها كله خلف سياسة تهويد المدينة وإبعاد سكانها الفلسطينيين، بينما السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لا تبذلان الجهد الكافي لمواجهة سياسات الحكومات الإسرائيلية.
تأخذك الأزقة داخل السور القديم، من حي إلى آخر، وتدفعك الأرضية المرصوفة إلى التساؤل دوماً: من أين يأتي المقدسيون بجميع الحجارة التي يضربون بها جنود الاحتلال المدججين والمستوطنين المتطرفين دفاعاً عن المدينة وهويتها وتاريخها الفلسطيني العريق؟ هذا هو حال المدينة اليوم؛ دفاع فردي بأدوات إبداعية ربما، دفاع سطع خلال الهبّة الشعبية، مقرون بإجماع على الفشل المؤسساتي في المدينة، والذي كثيراً ما كان المظلة والمؤونة مع غياب السلطة الوطنية. وتستمر خيبة الأمل بحضورها الغائب والمغيّب!
تحظى القدس برعاية ملكين: الملك الأردني، وملك المغرب رئيس لجنة القدس، ورعاة آخرين من فلسطين والعالم، ومؤسسات مقدسية كثيرة لم تستطع أن تبدد سحابة الحزن التي تعلو سماء المدينة، وصار أقصى ممارسات الدفاع عن القدس، الدعوة إلى شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى فقط1. وفي السابق كانت المؤسسات الأهلية والنوادي والجمعيات والنقابات هي الحامي للمكان، فحاربها الاحتلال مغلقاً العشرات منها، أبرزها مؤسسة بيت الشرق المركز الرسمي للفلسطينيين في المدينة، كما أن جدار الضم والفصل العنصري أخرج مؤسسات أُخرى، ومنها ما رحل "طوعاً". وهكذا أصبحت القدس، ملتقى الفن والثقافة والأدب والسياسة والأديان، مكاناً يحظر دخوله إلاّ لزيارة خاطفة للصلاة، وربما لالتقاط صور تاريخية! مدينة تقطعت أوصالها إلى أحياء متفرقة وجماعات مفككة ومعزولة عن محيطها، غير مرتبطة بخصائص المدن الطبيعية.
المستوى الرسمي.. و"نقمة" النسيان
على الرغم من وجود دعم رسمي فلسطيني لمدينة القدس بمختلف مكوناتها المؤسساتية والشعبية، فإن عدة علامات استفهام تُطرح بشأن التشتت والتشتيت الواضح في إدارة ملف القدس. وقد توصل كثيرون ممّن لهم علاقة بالملف إلى توقّع وجود قرار رسمي فلسطيني غير معلن، بعدم الاهتمام بالملف! وفي هذا السياق يقول منسق الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق المقدسيين زكريا عودة، بعد لقائه مع أعلى الهرم الرسمي الفلسطيني، أنه لمس هذه اللامبالاة بقضية القدس، مضيفاً: "لقد تُرك أمر الدفاع عن المدينة للأفراد رغم بعض المساعدات والمبادرات، وهذا أدى أحياناً إلى حل مشكلات على حساب القضية العامة، مثل أن يتنازل مقدسي عن هويته المقدسية مقابل الجنسية الإسرائيلية"2!!
وينتقد أحمد قريع (أبو العلاء) أحد مهندسي أوسلو وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس دائرة القدس منذ سنة 2009، واقع المؤسسات الفلسطينية في القدس، فيقول: "حين يتم وضع خمس مرجعيات للقدس للأسف، فكأن المسؤولية غير موجودة، وكأنه يقول مَن المسؤول؟ ثم مَن الذي يُسائِل؟ فالمرجعيات بلا متابعة أو مساءلة، والطاسة ضايعة، كل مرجعية تقول إنها المسؤولة وهذا خطأ"، وحين سُئل عن اللجنة العليا التي تضم هذه المرجعيات كلها برئاسة الرئيس الفلسطيني، فإنه يجيب ساخراً: "هذه لجنة مرتاحة.. والأمور سائرة فيها!3"
ويؤكد أحمد الرويضي، مسؤول وحدة القدس في ديوان الرئاسة حتى نيسان / أبريل 2016، لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية" قبل يوم واحد من تركه منصبه، أن "الملف لم يتوقف، وهو غير مرتبط بوجودي كشخص." ويستدرك: "توقفت وحدة القدس عن العمل سنة 2012 عند تأسيس وزارة القدس التي أصبحت الجهة التنفيذية فيما يتعلق بالمدينة.4"
وربما أراد الرويضي "الخائف" على منصبه الجديد كسفير في منظمة التعاون الإسلامي، إمّا أن يقوم بمهمة الدفاع فقط، وإمّا نفي انتهاء هذا الملف من مكتب الرئيس إدارياً وانتقال مهماته إلى جهة أُخرى. لكن الحقائق تقول شيئاً آخر.
ركعتان وصورة!
يؤمّ المسجد الأقصى الملايين سنوياً من داخل فلسطين وخارجها لأداء فريضة الصلاة، وبعضهم مَن يقدس حجّته أو يطمح إلى الاستفادة من فضل الصلاة في المسجد، وهناك مَن يبتغون التقاط صورة تاريخية، ثم يغادرون، تاركين المهمة لمواطني القدس المفككين والمغضوب عليهم إسرائيلياً. والدعوات تتركز على شدّ الرحال إلى المسجد وليس إلى المدينة كلها على الرغم من هول ما تعانيه. وبحسب مدير المسجد الأقصى الشيخ عمر الكسواني، فإن "المدافعين الدائمين عن الأقصى هم موظفو وزارة الأوقاف الأردنية وعددهم 800، بينهم 240 حارساً و20 حارسة، عدا عن السدنة وعمّال النظافة والأئمة والمؤذّنين، إضافة إلى المصلين الذين يصل عددهم إلى 4000 في الأيام العادية، وإلى 70,000 أيام الجُمَع، ويتراجع العدد جرّاء الإجراءات الإسرائيلية المشددة ليصل إلى 55,000، وهكذا تنتهي الصلاة ويُترك المكان عملاً بمقولة: `للبيت رب يحميه`.5"
ويشير الشيخ الكسواني إلى أن دور المؤسسات الفلسطينية في الدفاع يقتصر على تنظيم المؤسسات التعليمية من مدارس القدس جولات في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، بينما تفضّل مدارس أُخرى في الضفة، والتي تنظم رحلات لطلبتها إلى أراضي 48، اصطحاب الأطفال إلى حديقة الحيوانات.
وفي المقابل، يهاجم المتطرفون الإسرائيليون باحات الأقصى فيقيمون صلواتهم التلمودية فيه يومياً، وتنظم جولات مدعومة من مؤسسات ومدارس وجامعات إسرائيلية ومراكز دينية يهودية، لحماية الهيكل المزعوم.
"توزيع" الكعكة
ترحل المؤسسات عن القدس وتصاب أُخرى بالضعف بسبب سياسة التمويل. ويقول مديرمركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية زياد الحموري، إن أحد الأسباب تتعلق بكون كُبريات المؤسسات المانحة تعتمد سياسة غير معلنة تشجع على الرحيل في مقابل توفير التمويل6، الأمر الذي ينفيه المحافظ الحسيني قائلاً: "قبل ثلاثة أعوام كان هناك دعم مشروط، لكن الاتحاد الأوروبي يعترف اليوم بالقدس الشرقية ويقدم الدعم في مناطق (ج) وللبدو المقيمين فيها." غير أن كل من زكريا عودة والفنان المقدسي كامل الباشا يقرّان بوجود شروط للتمويل مرتبطة بالرحيل عن المدينة، أو بإيجاد شريك إسرائيلي أو أردني، وأن البعض القليل يتوجه إلى الشريك الفلسطيني الذي يحمل جنسية إسرائيلية لحل هذه المشكلة7.
ويكشف الكاتب والمسرحي المقدسي ومدير مؤسسة "قدس آرت" كامل الباشا أن التمويل الذي يصل إلى القدس من الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يستلزم توقيع محافظ ووزير القدس عدنان الحسيني، ويضيف: "هذا أمر سيىء، فموافقة قيادات فتحاوية هي العنصر المقرِّر لمنح الدعم، وأحياناً يجب أن يكون صوتك عالياً لتحصل على التوقيع. وهناك مبالغ تُصرف على ندوات وسفريات لمسؤولين باسم القدس، كتكاليف مؤتمر عن القدس هنا، أو تغطية مشاركة عضو مركزية `فتح` في ندوة بالقاهرة عن القدس، أو مشروع لإحدى المؤسسات الأهلية الممولة بقيمة مليون شيكل ينتج عنه عشر فرق دبكة. إنه لأمر مؤسف، في الوقت الذي يمكن فيه تخفيض النفقات باستخدام قاعة مسرح الحكواتي مجاناً، وهو المؤسسة الثقافية الوحيدة التي تفتح أبوابها للجميع، وغير محددة بأوقات دوام." ويفيد الباشا بأن مؤسسة ثقافية حصلت على دعم من السلطة الفلسطينية كي لا تغلق أبوابها بسبب تراكم الضرائب متسائلاً: "لماذا تغلق هذه المؤسسة الثقافية أبوابها في الخامسة مساء؟" ومن المعروف أن المدينة تموت بعد هذا الوقت، بسبب إجراءات الاحتلال والتقاعس الفلسطيني8.
وعندما سألنا رئيسة دائرة القدس في المجلس التشريعي النائب جهاد أبو زنيد عن رأيها، وجدنا أن درجة الشكوى لديها مساوية لجميع المقدسيين، وأقرّت بأنه ليس لديها أي تأثير في ميزانية القدس لدعم أي مواطن مقدسي، وقالت: "من زمان ما سمعنا أنه تم دعم مؤسسات ومواطنين مقدسيين متضررين.9"
وبينما تخصص سلطات الاحتلال أربعة مليار شيكل للقدس سنوياً، تبلغ الميزانية المخصصة للقدس فلسطينياً 25 مليون شيكل سنوياً، وهي عبارة عن ميزانية لوزارة القدس، الأدنى بين الوزارات الأُخرى، وخمسة ملايين لـ "اللجنة الوطنية العليا من أجل القدس" برئاسة الرئيس وعدد من المرجعيات المقدسية، بينما لا تملك محافظة القدس سوى ميزانية تشغيلية، عدا ما تقدمه الوزارات الأُخرى من دعم للقدس في قطاعات متعددة بحسب تخصصها مثلما يؤكد المحافظ عدنان الحسيني، وهناك أيضاً 30 مليون دولار ميزانية وكالة بيت المال التابعة للجنة القدس برعاية ملك المغرب، تُصرف خلال الفترة 2014 ـ 2018.
التخطيط حبيس الأدراج
وبحسب المحافظ الحسيني والرويضي، فقد أُعدّت خطة جرى عرضها على القمة العربية التي عُقدت في مدينة سرت الليبية في سنة 2010، بقيمة 428 مليون دولار تُصرف على مدى ثلاثة أعوام، لم يصل منها سوى 37 مليون دولار10. ويشير المحافظ إلى تراجع دعم المانحين إجمالاً للسلطة، الأمر الذي أوصل العجز في ميزانية الحكومة إلى نسبة 40%، ويقول: "الحكومة لا تستطيع مساعدة القدس ولا غيرها." بينما يؤكد الرويضي أن قيمة العجز في ملف القدس تصل إلى 60% 11.
ويطرح عبد القادر الحسيني، رئيس مجلس إدارة مؤسسة فيصل الحسيني، تساؤلات عن التمويل فيقول: "أين يذهب هذا التمويل؟ ثم إن التمويل العربي مليء بالتحفظات، وخصوصاً فيما يتعلق بمشاريع البنية التحتية التي تستلزم رُخصاً إسرائيلية.12" وينفي الرويضي ذلك، بينما يعترف به المحافظ الحسيني، ويبدو أن هذا التضارب بين الرجلين يشبه وصف النائب أبو زنيد لمشهد الدعم في القدس، والتي تقول: "كل يغني على ليلاه.13"
وكان بيت الشرق أعدّ أول خطة قطاعية للقدس في سنة 2002، وقد جرى تحديثها في سنة 2006، ثم أصدرتها وحدة القدس في ديوان الرئاسة للسنوات 2011 ـ 2013، وبعد ذلك توقف العمل على تحديثها. وتتناول الخطة تشخيصاً لواقع المدينة وبرامج وخطة تنفيذية، وكل ما يتعلق بالتمويل، وكيفية تعزيز الهوية ورفع الوعي الثقافي في المدينة، وآلية للمتابعة والتقويم لما جاء فيها، ولتحديثها بحسب الحقائق على الأرض، ويبرّر الرويضي عدم تحديثها بالقول: "التشخيص واحد، والاحتلال موجود، والإجراءات ضد المقدسيين لم تتغير.14"
نتساءل هنا عن أسباب هذا التوقف: فهل يعني توقف التخطيط إيقاف التنفيذ أيضاً؟ وهل هو استخفاف بملف القدس أو بالجهود التي أعدّت الخطة؟
يقول زكريا عودة: "مطلوب خطط مدعومة بميزانيات قابلة للتطبيق"، مضيفاً: "عندما اجتمعنا مع المسؤولين لاحظنا عدم وجود رغبة أو استعداد للدعم." وعن التغييرات الهائلة التي تحدث في المدينة ـ والتي ينفيها الرويضي ـ يؤكد عودة أنه خلال الأشهر الستة الأولى من هبَّة القدس، أغلقت قوات الاحتلال 30 متجراً في البلدة القديمة، وأن هناك 22,000 مشكلة بناء في القدس يحتاج أصحابها إلى ترخيص ودعم ومساندة قانونية، ويضيف: "لم يبقَ ملكاً للمقدسيين سوى 13% من مساحة المدينة الإجمالية فقط.15"
وتتحدث الخطة عن إعداد القدس لتكون عاصمة فلسطين، واليوم بعد ثلاث خطط استراتيجية ومرور ثلاثة أعوام على آخر خطة، فإن الفعل الفلسطيني المنظم في القدس ضعيف، ولا يتناسب أبداً مع إجراءات تهويد المدينة وأسرلتها.
الحرب على المؤسسات
تلاحق سلطات الاحتلال المؤسسات المقدسية وتحارب نشاطاتها، وأغلقت أكثر من تسعين منها منذ أوسلو إلى اليوم، ثلاثون منها خلال عامَين فقط. وكان عددها قد وصل قبل قيام السلطة إلى أكثر من مئة مؤسسة نقابية وأهلية.
ومن هذه المؤسسات التي كانت ناشطة: لجان العمل الصحي التي تأسست في القدس، وقدمت خدماتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعمل منذ سنة 2003 في رام الله، وهي من المؤسسات التي غادرت المدينة بسبب الجدار والحواجز والضغوطات الإسرائيلية التي تلاحق أنشطتها، لكنها حاولت الإبقاء على مكاتبها على الرغم من رحيلها، إلى أن أصدرت المحاكم الإسرائيلية أمراً بإغلاقها، وقد أصبحت اليوم محظورة أمنياً16.
رحيل قسري أم طوعي؟
يقول عبد القادر الحسيني: "بعد أوسلو انتقل عدد من كوادر مؤسسات القدس للعمل في مؤسسات السلطة، وبحسب الاتفاق بات ممنوعاً على السلطة تمويل المؤسسات، وصار التمويل الدولي يذهب مباشرة إلى السلطة، فقامت المؤسسات بفتح حسابات لها في البنوك الفلسطينية في الضفة الغربية، لتحصل على الدعم، وهكذا تسجلت المؤسسات في الضفة أيضاً، وفتحت مقرّات وفروعاً لها، وخاصة في رام الله وبيت لحم." ويضيف: "هناك مؤسسات أغلقت بسبب شح الموارد، أو اشتراط المانحين أن تكون الحسابات في البنوك في الضفة.17" ويؤكد المدير العام لبيت الشرق إسحق البديري، أنه و"منذ خمسة عشر عاماً والمؤسسات ترحل طواعية واستسلاماً للأسف.18" أمّا أحمد قريع فيقول: "لا إمكانات لدينا لمواجهة المخططات الإسرائيلية ولا حتى دعم المؤسسات، لذلك ترحل المؤسسات عن القدس.19"
بيت الشرق: الرمزية والدور
كان إغلاق بيت الشرق في سنة 2001 مرحلة فاصلة في حياة القدس، وبعده لم ينجح المستوى الرسمي في إيجاد مرجعية بديلة، بل إن رحيل فيصل الحسيني بشعبيته وعلاقاته الدولية شكّل فراغاً كبيراً لم يملأه أحد منذ خمسة عشر عاماً. وكان فيصل الحسيني قد أسس جمعية الدراسات العربية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وفي التسعينيات أصبح مسؤول دائرة القدس في منظمة التحرير، فتوسعت دوائر الجمعية وصار المبنى متداخلاً ما بينها وبين بيت الشرق الذي صار مقراً لمفاوضات مدريد، والمقر شبه الرسمي لمنظمة التحرير الذي كانت الوفود الرسمية بمستوى وزراء وقناصل ومبعوثين تؤمّه وتجتمع بالمسؤولين الفلسطينيين بالتوازي مع لقاءاتهم بالإسرائيليين20.
وبعد رحيل الحسيني بسبعين يوماً تجرّأ الاحتلال فأغلق بيت الشرق، فغاب صوتها العريق، وبحسب نجله عبد القادر الحسيني، فإن المؤسسات المقدسية توافقت بالتشاور مع المستوى الرسمي على عدم التوجه إلى محاكم الاحتلال لإعادة فتح بيت الشرق، كونها قضية تتعلق بالسيادة، وأنها قضية مطروحة دائماً في المفاوضات ومع الوفود الدولية21. ويبرر إسحق البديري ذلك بأن هناك تخوفاً من احتمال إصدار محكمة العدل العليا الإسرائيلية قراراً ضد المؤسسة، فيستحيل بالتالي إلغاؤه، ولا يعود ممكناً إعادة فتحه22.
ولا يرى الرويضي وجود مبرر قانوني للتوجه إلى المحاكم الدولية بشأن قضية بيت الشرق لأنه ليس قضية جنائية23. لكنْ ثمة قانوني آخر يخالف رأي الرويضي، ويعتبر أن الأمر ممكن، فرئيس وحدة المناصرة المحلية والدولية في مؤسسة الحق عصام عابدين، يشدد على ضرورة إدراج قضية بيت الشرق ضمن ملف شامل يُحال إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية ضمن الجرائم الدولية التي تُرتكب في القدس من نهب أملاك واضطهاد وفصل عنصري، وهي جرائم من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ويقول: "هذا بحاجة إلى حرفية عالية في بناء الملفات القضائية، وضمن حملة دولية واسعة النطاق ورؤية مبنية على توثيقات مهنية لفضح تلك الجرائم وحشد الرأي العام حولها واستنهاض سفاراتنا والشتات الفلسطيني."
بقي بيت الشرق مكاناً رمزياً يضيء فيه الفلسطينيون الشموع في ذكرى رحيل الحسيني، وما زالت الحكومة الفلسطينية تسدد أجرته بحسب الرويضي، وبعض دوائره يعمل خارج القدس بصورة محدودة24. لكن النائب جهاد أبو زنيد، تعتبر أن منظمة التحرير لم تهمل فقط، بل قصّرت بشكل مقصود أيضاً، في إدراج قضية بيت الشرق والمؤسسات الأُخرى في الأجندات الفلسطينية والدولية، فضلاً عن أن القضية لم تتحول إلى قضية رأي عام، ولم تعد وسائل الإعلام تتداولها25. ويؤكد إسحق البديري بدوره التقصير، فيقول: "الجهات الرسمية الفلسطينية مقصّرة أمام حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، وعلى منظمة التحرير والمفاوض الفلسطيني أن يقوما بدور ضاغط، والجميع أهمل القضية.26"
وفيما يتعلق بمسؤولية المنظمة عن هذه المؤسسات، ولا سيما بيت الشرق، يقول البديري: "منظمة التحرير هي المسؤولة، وتمثل القدس في المؤتمرات والندوات وليس أيّاً كان! بيت الشرق له مكانته، وإن شاء الله تعود الأمور إلى هذه المكانة.27"
القدس بلا عنوان
تؤكد الباحثة نائلة الرازم وجود تعدد في المرجعيات الفلسطينية العاملة في المدينة تحت مظلة منظمة التحرير أو السلطة الوطنية. والسبب في رأيها يعود إلى اعتبارات شخصية، وليس ضمن رؤية تعكس جدية التعامل مع القدس وقضاياها، ولذا تداخلت الصلاحيات والمهمات، ونشأت ظاهرة "الاستزلام" لكل مرجعية من المرجعيات، جرّاء الصراعات فيما بينها، والتي طغت على تقديم الدعم إلى القدس. وتضيف أن توزيع جزء من التمويل المخصص للقدس، هو لتغطية المصاريف التشغيلية لهذه المرجعيات الخمس والمتمثلة في: "دائرة شؤون القدس" التابعة لمنظمة التحرير برئاسة أحمد قريع؛ "مؤتمر القدس" بقيادة الراحل عثمان أبو غربية عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"؛ وزارة القدس؛ محافظة القدس؛ وحدة شؤون القدس في ديوان الرئاسة. ثم جرى "ابتكار" لجنة عليا برئاسة الرئيس محمود عباس.
باختصار ثمة تخبط عنوانه دوران المسؤولية وعدم استقرارها من دون أن يعرف أحد ما هي الحكمة من هذا الدوران. وكثيرون ممن طُرح عليهم السؤال أكدوا عدم وجود مرجعية محددة للقدس28، بينما طالبت النائب أبو زنيد بتوحيد المرجعيات وأن يكون للتشريع دور فيها لأن من يدفع ثمن التعدد في رأيها، هو المواطن المقدسي ومؤسسات القدس29.
لكن المحافظ والوزير يعتبران اللجنة العليا أداة توحيد، إذ إنها تأسست في سنة 2011، وتجتمع بشكل شبه شهري، وتضم: الرئيس أو مَن ينوب عنه؛ رئيس الحكومة؛ انتصار أبو عمارة مديرة مكتب الرئيس وأمينة السر؛ أحمد قريع؛ الراحل عثمان أبو غربية؛ مستشار رئيس الحكومة للصناديق العربية جواد ناجي؛ محافظ ووزير القدس.
واللافت أن استقبال شخصيات رفيعة المستوى في القدس خفَتَ كثيرا،ً ويحتاج إلى موافقة إسرائيلية، ثم إن المسؤولين الأجانب يرفضون أحياناً القيام بجولات في القدس الشرقية بسبب امتثالهم للتحذيرات والتهديدات الإسرائيلية، ويبدو أنه لا يوجد موقف رسمي فلسطيني بمستوى التحدي ومواجهة الغطرسة الإسرائيليين، ولا مواقف نقدية تجاه تراجع الأصدقاء الضيوف. وكان محافظ القدس قد استقبل في باحات المسجد الأقصى رئيس حكومة سنغافورة، فهل المشكلة في القيود والمنع الإسرائيليين، أم في المبادرة الفلسطينية وسياسة القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي؟
وتنتقد نائلة الرازم حصر ملف محافظة القدس والوزارة ضمن مسؤولية شخصية واحدة هي عدنان الحسيني، مشيرة إلى أن هذا سياسة تثير تساؤلات إدارية وقانونية من حيث الازدواجية في التسمية، والتبعية والمساءلة، ومنح الثقة وحجبها، وآلية الصرف من الميزانية30.
أمّا الحسيني فيعتبر الأمر تكاملياً ويخدم منطقة جغرافية واحدة، فالمحافظة دورها خدماتي والحفاظ على الأمن والسلامة العامة ومراقبة التراخيص ومواءمتها للشروط، بينما تقوم الوزارة بكل ما له علاقة بدعم صمود الإنسان بسبب أوضاع القدس الخاصة قانونياً ومادياً، موضحاً أن المؤسستين موجودتان في مبنى واحد ويبلغ عدد موظفي المحافظة أربعين، وموظفي الوزارة ستة عشر. وعندما سئل الوزير كيف يتابع من مكتبه الواقع في الرام خارج الجدار قضايا المقدسيين بعيداً عن مشكلاتهم داخل الجدار، قال: "أقوم بجولة ساعة أو ساعتين داخل القدس يومياً ومكتبي مفتوح للجميع." وإذا علمنا أن مكاتب المحافظات عادة ما تكتظ بالمراجعين والشكاوى، فكيف إذا كنا نتحدث عن محافظة القدس التي يقطنها 400,000 مقدسي داخل الجدار وخارجه يعيشون في 44 تجمعاً وبلدة، ويشكلون 38% من مجمل سكان القدس بشقّيها الشرقي والغربي، فهل تكفي ساعتان؟!
بعض الأمل...
وعلى الرغم مما سبق، فإن مؤسسات عديدة لا تزال موجودة في القدس، منها: مسرح الحكواتي؛ معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى؛ مؤسسة يبوس الثقافية. وتقول المديرة العامة لمؤسسة يبوس رانيا الياس: "التمويل هو مشكلتنا الرئيسية، واستراتيجيتنا عدم الاعتماد على الممول الأجنبي، ورفع الدعم الفلسطيني سواء من الإيراد أو من القطاع الخاص، وإشراك المجتمع في ذلك ليشعر بالانتماء إلى المكان، ولا نوافق على أي دعم مشروط.31"
ويؤكد عبد القادر الحسيني أن مؤسسة فيصل الحسيني استطاعت تنفيذ مشاريع في قطاع التعليم داخل الجدار على الرغم من وجودها خارجه، موضحاً أن العمل بعيداً عن الإعلام مُجدٍ أكثر، فأي نشاط يتم الإعلان بشأنه تلاحقه إسرائيل وتصبح المؤسسة عرضة للإغلاق، وأن المؤسسات تستطيع المواءمة بين الضفة والبقاء في القدس32.
أمّا مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والذي نجح في البقاء في القدس، فتحدث مديره العام زياد حموري عن سر البقاء قائلاً: "نحن هنا بالمباطحة، لكننا كنا سبعة وعشرين موظفاً بينهم سبعة محامين، واليوم نحن خمسة فقط.33"
إن أي مقارنة بين التعامل الفلسطيني والإسرائيلي مع مدينة القدس، ستكون صادمة جداً، فثمة بون شاسع بين الاستراتيجيا الإسرائيلية المخصصة لضم المدينة وتهويدها وأسرلتها، وبين اللااستراتيجية الفلسطينية؛ بون شاسع أيضاً بين التحويل الكولونيالي الإسرائيلي للمدينة والإخفاق الفلسطيني في صدّه. ثمة تباين هائل في الميزانيتين، وتباين بين عملية الهدم ومنعه، أو البناء المضاد، وحتى الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي وغير الرسمي لا يعكس ما يحدث على الأرض. العجز والرضا بالأمر الواقع، والانتظار، والصمت، تلك المواقف التي يتسم بها موقف المنظمة والسلطة والمعارضة، مواقف تفصل أصحابها عن المقدسيين الذين يتعرضون للتطهير العرقي، لكنهم يصمدون، فينجحون قليلاً، ويفشلون كثيراً ويقاومون، وقد خلقوا وقائعهم المتمثلة في وجودهم الديموغرافي، بلا مؤسسات. والسؤال، هل تتضافر المؤسسات الصامدة مع مؤسسات في الخارج لدعم المدينة، والأهم هل تبني الحركات الشبابية والاجتماعية مؤسساتها؟
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية".]
هوامش:
1. مجد كيّال، "ملاحظات حول قيادة الهبة الشعبية في القدس"، موقع "رابطة القوميين العرب ـ شباب الثورة العربية"،
2. زكريا عودة، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 26 / 4 / 2016.
3. أحمد قريع، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 4 / 5 / 2016.
4. أحمد الرويضي، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 25 / 4 / 2016.
5. الشيخ عمر الكسواني، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 26 / 4 / 2016.
6. زياد حموري، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 25 / 4 / 2016.
7. عودة، مصدر سبق ذكره؛ كامل الباشا، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 26 / 4 / 2016.
8. الباشا، مصدر سبق ذكره.
9. جهاد أبو زنيد، مقابلة هاتفية معها بتاريخ 27 / 4 / 2016.
10. عبد القادر الحسيني، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 25 / 4 / 2016؛ الرويضي، مصدر سبق ذكره.
11. الرويضي، مصدر سبق ذكره.
12. الحسيني، مصدر سبق ذكره.
13. أبو زنيد، مصدر سبق ذكره.
14. الرويضي، مصدر سبق ذكره.
15. عودة، مصدر سبق ذكره.
16. شذى عودة، مقابلة هاتفية معها بتاريخ 2 / 5 / 2016.
17. الحسيني، مصدر سبق ذكره.
18. إسحق البديري، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 2 / 5 / 2016.
19. قريع، مصدر سبق ذكره.
20. يعقوب عودة، "إغلاق مؤسسات القدس تطهير عرقي لمدينة القدس العربية"، "حوليات القدس"، العدد 8 (شتاء ـ ربيع 2009 / 2010). وإلكترونياً في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
21. الحسيني، مصدر سبق ذكره.
22. البديري، مصدر سبق ذكره.
23. الرويضي، مصدر سبق ذكره.
24. المصدر نفسه.
25. أبو زنيد، مصدر سبق ذكره.
26. البديري، مصدر سبق ذكره.
27. المصدر نفسه.
28. نائلة الرازم، "المؤسسات والمرجعيات الفلسطينية الرسمية في القدس"،"المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات".
29. أبو زنيد، مصدر سبق ذكره.
30. الرازم، مصدر سبق ذكره.
31. رانيا الياس، مقابلة هاتفية معها بتاريخ 26 / 4 / 2016.
32. الحسيني، مصدر سبق ذكره.
33. حموري، مصدر سبق ذكره.