هناك مؤشرات متنامية، لكن القليل من الحقائق، حول شكل السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وخاصة في الشرق الأوسط. وكي نفهم ما تخبئه الأعوام الأربعة القادمة للمنطقة - وكجزء من سلسلة لقاءات “أفكار سريعة” مع محللي الشرق الأوسط في “مجموعة الأزمات الدولية” - حاورت “جدلية” روبرت بليتشر، نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة المذكورة.
جدلية: يبدو أن المحللين والمراقبين لا يمتلكون رؤية واضحة حول سياسة الإدارة الأميركية القادمة في الشرق الأوسط، وحيال سياستها الخارجية بعامة. برأيك ما هي الصفات العامة أو المبادئ الرئيسية التي ستتسم بها هذه السياسة؟
روبرت بليتشر: حتى حين يأتي الرؤساء إلى مناصبهم برسالة متماسكة ومجموعة من المبادىء التي يتم الإعداد لها جيداً ، فإن الواقع يدمر أفضل الخطط الموضوعة. ففي عام 2000 أعلن جورج دبليو بوش أن إدارته ستركز على الشؤون المحلية، وفي 2008 أعلن باراك أوباما أنه سيخلّص الولايات المتحدة من حروبها في الشرق الأوسط ويلتفت إلى آسيا. لكن الأمر لم يعمل بهذه الطريقة، ومن المحتمل أن يمرّ دونالد ترامب في تجارب مشابهة. هناك أيضاً مسألة التنافس على إصغاء دونالد ترامب وعلى التفوق المؤسساتي. إن الشخصين المهمين اللذين اختيرا للأمن القومي: مايكل فلين كمستشار للأمن القومي، وجيمس ماتيس لوزارة الدفاع يمتلكان رؤيتين ومقاربتين مختلفتين.فماتيس يمتلك سمعة كعقل عسكري رصين لكنه من الصقور. بالمقابل، يُقال إن فلين يميل إلى نظريات لا تجمعها إلا صلة محدودة بالواقع. ومن تقارير ترامب الخاصة عن لقاءاته معهما يبدو كأن الرئيس المنتخب يغيّر رأيه بسهولة: أنا أفكر مثلاً في إعادة نظره العلنية في إيمانه السابق (والعلني جداً) بفعالية التعذيب بعد اللقاء مع ماتيس. وبسبب افتقار ترامب للتجربة في الشؤون الخارجية يمكن أن تعكس السياسات في النهاية وجهات نظر المحاوِر الأحدث له.
بعد قول كل هذا، لا يوجد سبب يمنعنا من أن نحكم على تصريحات ترامب من قيمتها الظاهرة بأنه يريد أن يرى الولايات المتحدة منخرطة في صراعات أقل، وبأنه يثمّن الاستقرار، والذي لا يمكن أن يحققه في رأيه إلا أمن القبضة الحديدية، وأنه حين تنخرط الولايات المتحدة في صراع فإنها يجب أن تستخدم القوة الساحقة، بما فيه التعاون مع شركاء يفعلون هذا أيضاً دون أن يفكروا بالضرورة بالأبعاد السياسية للصراع المسلح. إن هـذه الأجندة ليست سيئة كلها، على الأقل فيما يتعلق بالهدف الأول، والذي هو انخراط أقل في الحروب الخارجية. إن المشكلة هي أن تخفيض النفقات سيفتح المزيد من الفضاء للثاني والثالث.
جدلية: إلى أي حد تستطيع إدارة ترامب أن تحدث تغييرات مهمة في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وإلى أي مدى ستحدد التعيينات في المناصب العليا سياسات إدارته في مقابل البيروقراطيات المتعددة المسؤولة عن تطبيقها؟
روبرت بليتشر: تقول لنا الحكمة التقليدية إن رؤساء الولايات المتحدة يقودون سفينة كبيرة ويستطيعون أن يدفعوا مسارها عدة درجات إلى جانب أو آخر لكنهم لا يستطيعون تغيير اتجاهها الكلي جذرياً. نستطيع أن نفهم لماذا تكوّن شعور كهذا لدى الكثيرين في إدارة أوباما: إن عمل الحكم روتين يومي يتضمن ملايين الأشخاص الذين يقومون بشكل رئيسي بالأمور نفسها التي أُنجزت في اليوم أو العام السابق، والشيء نفسه سيحدث في ظل إدارة ترامب.
لكن هناك نوعاً آخر من القيود يواجه رؤساء مثل الرئيس أوباما: ضبط النفس. وإلى حد كبير، كان النوع الوحيد من المرشحين الذي يمكن أن يبزغ من آلتي الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري هو مرشح لن يهز قارب الأمن القومي كثيراً. لكن هذه الانتخابات أنتجت رئيساً عارضته نخب حزبه نفسه وغير مشهود له بضبط النفس. ربما صار القادة العالميون متحررين من فوبيا تصريحاته وتغريداته الحسية المؤلفة في ساعات الصباح الأولى، لكن كونه رئيساً يختلف عن كونه مرشحاً يستطيع قول أي شيء بدون الكثير من العواقب. سواء أُطْلقت هـذه التصريحات بشكل طائش أو متعمّد فإنها تصريحات لرئيس أميركي يمكن أن تعبئ جيوشاً.
جدلية: هل تتوقع أن تطبّق إدارة ترامب السياسات التي أعلن عنها أثناء حملته الرئاسية حيال إيران، وسوريا، إسرائيل - فلسطين ودول الخليج (خاصة المملكة العربية السعودية).
روبرت بليتشر: إن بعض التغييرات في السياسة المعلنة ستكون أكثر أهمية من أخرى. وفي الأمكنة التي كَثُر الكلام فيها وقلّ الفعل في ظل إدارة أوباما، يمكن أن يفعل ترامب المزيد كي يؤكد تناقض السياسة الأميركية بدلاًمن أن يحدث أي نوع من التغيير الحقيقي
في سوريا، يقول ترامب إنه سيعمل مع الروس كي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، مما ينطوي على تساهل أكبر مع نظام الأسد. ولكن بعد قتل خمسمئة ألف شخص، وتدمير حلب، وفقدان المتمردين الذين تدعمهم أميركا للفائدة السياسية، كيف سيبدو تغيير ترامب الكبير على الأرض؟
في القتال الأوسع ضد مجموعات مثل “القاعدة” و”تنظيم الدولة” يمكن أن يخفّف ترامب من قواعد الاستهداف لكن قد يكون لهذا عواقب مؤلمة. وكما نعلم، وسّع أوباما كثيراً استخدام الطائرات بدون طيار وقتل الكثير من المسلمين، وهـذه حقيقة واضحة للجميع في الطرف المُسْتَهدف بهذه الغارات حتى ولو أن أوباما رفض بشكل عقلاني استخدام مصطلحات مثل “الإرهاب الإسلامي المتطرف”.
في إسرائيل وفلسطين، فشلت محاولات وزير الخارجية جون كيري في التوسط من أجل محادثات حول الوضع النهائي، وصارت مصيبة غزة أسوأ مما كانت عليه من قبل، وعلى الرغم من النقد الأميركي توسّع بناء المستوطنات الإسرائيلية بشكل ملحوظ في الأعوام الثمانية الماضية، بما فيه وراء الجدار الفاصل وفي مناطق حساسة. أكيد أن نبرة ترامب ستكون مختلفة عن نبرة سلفه - تستطيع أن ترى مسبقاً هـذا في اختياره لديفد فريدمان كسفير في إسرائيل - لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن توجد احتمالات لعكس هذه الاتجاهات السلبية أو لتحقيق فتح فوري وشيك من أجل حل الدولتين في الأفق.
لا تفهمني خطأ: إن تغيراً في النبرة قد تكون له نتائج مهمة طويلة الأمد في مكان مثل إسرائيل - فلسطين. يمكن أن يهزّ الأشياء بطرق مساعدة وأيضاً بطرق مؤذية. إن ديناميات عديدة يمكن أن تطلق عنفاً أكثر كلفة وأذى للفلسطينيين بشكل خاص: نشاط استيطاني إسرائيلي كبير في الضفة الغربية، تحرك إسرائيلي لتغيير وضع أجزاء من الضفة الغربية، وإحساس متصاعد بين الفلسطينيين بأن المجتمع الدولي، كما هو، لم يعد يملك شيئاً يقدمه لهم. لكن معظم هذه الديناميات تلعب على أرض الواقع. وهكذا فإن المسألة لا تتعلق بأوباما إزاء ترامب، بل بسياسة أميركية طويلة المدى حيال الصراع.
في أمكنة حقق فيها أوباما إنجازات أكبر، يمكن أن تكون العواقب أكثر وضوحاً. هنا تقف إيران. سيكون من السهل نسبياً تمزيق الاتفاق النووي مع إيران، سواء من خلال شجبه علناً، أو من خلال اللجوء إلى العنف.وإذا كان ترامب سيفعل هذا، يمكنه أن يأمل تعديل علاقة الولايات المتحدة مع الخليج، التي ساءت بسبب انفتاح إدارة الرئيس أوباما على إيران. لكن حتى هنا، يستطيع المرء أن يتخيل ترامب مشدوداً بسرعة إلى التناقضات نفسها التي صاغت سياسات أوباما. إن بعض مستشاري الرئيس المنتخب بدأوا يخبرونه من قبل أنه إذا سارت الصفقة النووية بطريقة خاطئة، سيضعف نفوذ أميركا. وينطبق الأمر نفسه في سوريا: إذا تحالف ترامب مع روسيا وترك نظام دمشق يدير الطاولة أكثر مما هو يفعل، ستكون إيران من بين أكبر المستفيدين. وفي العراق، حيث لعب الجيش الأميركي دوراً فعالاً في قيام حملة الموصل من خلال التوسط في توزيع الأدوار بين القوى المتخاصمة وموازنة الاهتمامات الإقليمية، فإن أي انحراف عن سياسة أوباما سيسرع الاتجاهين القائمين: تقوية النفوذ الإيراني في العراق وتدمير المناطق السنية بدون امتلاك رؤية حول كيفية إعادة دمجها في الدولة العراقية. لا أحد يمتلك فكرة واضحة حول إعادة ترتيب العراق ثانية. لكن بدون الولايات المتحدة، فإن دولة إسلامية ثانية هي مسألة وقت فقط.
جدلية: ما هي برأيك التحديات الرئيسية التي يمكن أن تواجه ترامب في الشرق الأوسط في الأعوام الأربعة التالية، وهل تعتقد أن هـذه ستأتي من داخل المنطقة، أو تنجم عن أفعال وتصريحات الإدارة؟
روبرت بليتشر: يستطيع ترامب أن يولّد تحديات بكلام وفعل فضفاضين، لكنه يستطيع أن يكون متأكداً تماماً أنه بصرف النظر عما يقوله أو يفعله فإن هناك مفاجآت تنتظره في المنطقة. فقد فاجأت المنطقة جيمي كارتر بالثورة الإيرانية (وأزمة الرهائن) والغزو السوفييتي لأفغانستان، وفاجأ الغزو الإسرائيلي للبنان والحرب الإيرانية العراقية رونالد ريغان. وفاجأ الغزو العراقي للكويت جورج بوش الأب، أما بيل كلنتون فقد كان من نصيبه اتفاقات أوسلو، وفاجأت بوش الابن هجمات الحادي عشر من أيلول، وعرّفت الانتفاضات العربية ،وميراث مغامرة بوش في العراق، مقاربة أوباما للمنطقة. ومن المؤكد أن هناك شيئاً ما ينتظر ترامب.
[للمقال باللغة الانجيليزية انقر\\ي هنا]
ترجمة: أسامة إسبر