سيد حجاب :شاعر فقراء العالم و محرّض الطوفان
كما لو أنه أبى إلا أن يكون موته آخر قصائده الثورية، مات شاعر الفقراء ومحرض الطوفان سيد حجاب يوم 25 يناير 2017، في الذكرى السادسة لثورة لم تكتمل. لكي يجعل من الموت صرخته المدوية التي لم يفلح النظام القمعي في كتمها كما أفلح في قمع كثير من أصوات الأحياء. فإذا كان الشاعر سيد حجاب قد نقّل فؤاده وخياراته والفنية كيف شاء من هوى الشعر لكن بقي حبه الأول وحلمه الأبدي هو الثورة التي لم تخمد جذوتها في كل ما كتب من قصائد وأغان وفي كل بصماته الشعرية الفريدة على الأعمال السينمائية والدرامية التي ما كلّ ينفث فيها حلمه بالثورة العارمة التي ستأتي لا محالة فلا تبقي ولا تذر ظالما أو جبارا أو حتى مضطهدا متوانيا عن الغضب من أجل الحق. فكان انحيازه لقضايا المضطهدين ساطعا منذ ديوانه الأول "صياد وجنية" 1966، سواء في لغته الشعرية أو في رؤيته لدور الشعر ورسالته وغايته في الوصول للفقراء وليس للنخبة وللمؤسسات الثقافية. ولم يتوان سيد حجاب عن التجريب والتقسيم على كل آلاته الشعرية ليتواصل مع جمهوره العريض بكل تنويعات الوجوه التي يرتديها، والتي يتماهى فيها مع شخصية عبدالله النديم الذي لم يكف عن تثوير الكلمة من أجل معشوقتيه مصر والحرية:
أُدباتى .. أراجوز .. نديم صاحبى و خِلّانى
زجاّل .. مهرّج .. مِركّب صوتى فى لسانى
و صحيت لقيتنى أعرفك و انتى عارفانى
واخدانى من مجلس الضايعين و حطانى
على أعلى منبر .. يهزك صوتى و أدانى
فلم يزل يصدح بحلم الحرية مثل كل شعراء الثورة في العالم حتى أسكته ما أسكت من قبله صلاح جاهين "كتم الغنا في ليل العنا"، كما عبر هو نفسه في قصيدته "طفل الخلود" التي رثى بها أستاذه وصديقه صلاح جاهين، وكما رأى مكمن الموت لكل الشعراء الذين انحازوا للفقراء وللثورة من صلاح جاهين إلى بابلونيرودا ولوركا وناظم حكمت وعبدالله النديم وفؤاد حداد وغيرهم:
مين اللى دسّ السم فى قهوتك
عشق الحياة؟! لأ دى الحياة غنوتك
كانت بحبات عينها.. بتقوتك
ياما ارتميت مجروح وغرقان دما
وبلمسة من كف الحنان قوِّتك
عمر الغنا ما موتك إنما
يمكن يكون كتم الغنا ف ليل العنا موِّتك
***
من تلاقح فن الشعر والثورة، يبزغ تفرد تجربة سيد حجاب الشعرية. أعني من تثوير فن الشعر ولغته وتقنياته الفنية ورؤاه الإبداعية، وليس مجرد تحويل الشعر لبوق للدعاية السياسية، حتى لو كانت دعاية مباشرة للثورة. سيد حجاب، في رأيي، هو أشعر شعراء العامية المصرية، وأبعدهم شأوا وأعمقهم تجربة وأغناهم من الناحية الفنية. إلا أن تواضع ومحدودية إمكانات النقد في بلادنا لم تستطع أن توفي تجربة سيد حجاب شديدة الغنى بعض ما تستحق وبعض ما يستحقه كل شعر العامية، وبخاصة التجارب التي كانت تغرد خارج سرب المباشرة أو البروبجندا، سواء بروبجندا سلطوية أو بروبجندا ثورية. حجاب شاعر غول، عملاق، لا تستطيع أن تحتويه شروط النجومية في الشعر، يفوق حدودها بمراحل وينفلت من شروطها التي قد تحجم طاقته الشعرية الفائقة فلا تستطيع أن تجاريه ولا يستطيع أن يقلص بركان إبداعه لتحتويه نجومية أو شللية أو عجز النقاد عن دراسته.
بينما كان يجدر به أن يزهو بنجاح ديوانه الأول "صياد وجنية"، فزع سيد حجاب من أن شعره سيكون مقضيا عليه بالموت إذا ما انحصر في نطاق ترحيب النخبة واحتفائها به. فالديوان الذي احتفى به كبار نقاد الأدب حينها، محمد مندور وغيره، لم يصل إلى الجمهور الذي كتب سيد حجاب من أجله بالأساس: الصيادين والعمال والفلاحين وكل الفقراء الذين كان يحلم أن يكون هو صوتهم، حكاياتهم وغناءهم وصرخاتهم. كانت تلك اللحظة التي أدرك فيها سيد حجاب أن عليه أن يعيد حساباته في جدوى كتابة الشعر لفقراء لا يقرأون، لا الشعر ولا غيره. رأى سيد حجاب أن كتابة الشعر ونشره في كتب لا يهتم بقراءتها سوى بضعة مئات، أو بضعة آلاف على أقصى تقدير، نوع من العبث. ومثل نجيب محفوظ وصلاح جاهين قبله، استطاع سيد حجاب أن يدرك أن تأثير الكلمة المقروءة محدود للغاية أو معدوم في مجتمع لا يقرأ. فطبعوا بصماتهم على وجدان كل الجمهور سواء كان يهتم بالقراءة أو يكتفي بمشاهدة السينما والتليفزيون. قرر حجاب ألا يكون الكتاب الوسيط الوحيد الذي يتواصل من خلاله مع الجمهور المفترض الذي ينشده. فبدأ في التوسل بالوسائط المسموعة والمرئية ليبلغ شعره مبتغاه الحقيقي. وبدأت مرحلة جدية في رحلة حجاب الشعرية عمل خلالها على التجريب في تفعيل وتثوير وظيفة الشعر من خلال الوسائط الجديدة. فكانت إضافته المتفردة في الأعمال الدرامية في الإذاعة والتليفزيون والسينما. ويكمن تفرد تجربة سيد حجاب في هذا المجال في وعي مغاير بوظيفة الشعر والأغاني في الأعمال الدرامية؛ بحيث لا تكون الأغنية حلية تضاف للعمل الدرامي وإنما تصبح إضافة شعرية تضيء وتثري الدراما شعريا.
نزع حجاب إلى تأصيل دور الشعر والأغنية في العمل الدرامي من خلال وعيه بوظيفة الشعر والأغنية في دور الكورس مثلا في الدراما الإغريقية؛ حيث يكون غناء الكورس إضاءة وكشفا عن أبعاد لا تكشفها الدراما وحدها على المسرح. فيكشف الشعر عما لا يستطيع السرد الدرامي أن يبينه في الأحداث أو في أعماق الشخصيات ومحمولاتها النفسية والثقافية. ويتجلى ذلك في كل الأعمال التي وضع عليها سيد حجاب بصماته الشعرية من مسلسلات تليفزيونية مثل ( الأيام – الشهد والدموع – ليالي الحلمية – أرابيسك – عبدالله النديم – المال والبنون – الليل وآخره – بابا عبده – أميرة من عابدين – بوابة الحلواني – عصفور النار، وغيرها) ومن أفلام سينمائية ( البداية ، مع المخرج صلاح أبو سيف ، كتيبة الإعدام مع عاطف الطيب، الأراجوز مع هاني لاشين، أيام الغضب مع منير راضي ، الكيت كات مع داود عبد السيد... وغيرها).
في مسلسل "الأيام"، على سبيل المثال، اعتبر حجاب أن دوره لا ينحصر في كتابة أغان لمقدمة المسلسل ونهايته فحسب، وإنما عليه مسؤولية تقديم القيمة الحقيقية لطه حسين للجمهور الذي لم يقرأ كتبه. وذلك من خلال كشف كفاح طه حسين في أبعاده الثقافية والإنسانية الخفية التي لا تختزل في تحديه للإعاقة البصرية، وإنما يكشف في أغنياته داخل المسلسل المحمولات الثقافية الكثيرة التي ينبغي أن يتعرف عليها جمهور التليفزيون في شخصية طه حسين وفي كفاحه المعرفي وربط ذلك بالمؤثرات النفسية التي شكلت وجدان طه حسين ومعاناته التي تماهت مع شخصيته الأثيرة أبي العلاء المعري، رهين المحبسين:
محبوس أنا وعمايا في الأوضة
والعتمة حوالين مني مفرودة
والسكة قدّام مني مسدودة
والدنيا ، كل الدنيا بير سودا
فكان للمسلسل ولكلمات سيد حجاب الفضل في خلق طه حسين أيقونة وبطلا شعبيا تتمثله وتحتذيه أجيال تحلم ببطولة كبطولته في تحدي ركام ظلام الروح والعقل في مجتمعاتنا العربية.
وبفضل بصمات سيد حجاب الشعرية على الأعمال التليفزيونية صارت للأغاني في تلك الأعمال جاذبية ورونق بالغين يضيفان للعمل نفسه سحرا وشعبية. فصار وجود اسم سيد حجاب على عمل تليفزيوني أو سينمائي ضمانة مبدئية لقيمة فنية كبيرة يتوسمها المشاهدون في العمل حتى قبل مشاهدته. وصارت لأغاني مقدمات ونهايات المسلسلات شعبية غير مسبوقة. فنجد على اليوتيوب مثلا عددا هائلا من المشاهدات لأغاني المسلسلات التي كتبها سيد حجاب يصل إلى الملايين أحيانا. فساهمت تلك الأغاني في تشكيل الوجدان الشعبي على نحو لم تحققه آلاف الدواوين المطبوعة. وتكفي مطالعة لأكثر أغاني المسلسلات انتشارا على اليوتيوب لنعرف مدى إسهام سيد حجاب في تشكيل وعي ووجدان وذاكرة الجمهور على مدار أكثر من ثلاثة عقود في أشعاره التي صاغ فيها فلسفة وحكمة وقيما شكلت إنسانية أجيال متتالية تربت على مشاهدة أعمال مثل مسلسل "المال والبنون":
إيه معنى دنيتنا وغاية حياتنا .. إذا بِعنا فطرتنا البريئة الرقيقة
و ازاي نبصّ لروحنا جوا مراياتنا .. إذا احنا عِشنا هربانين م الحقيقة
أو مسلسل "الشهد والدموع":
تحت نفس الشمس وفوق نفس التراب
كلنا بنجرى ورا نفس السراب
كلنا من أم واحدة.. أب واحد.. دم واحد
بس حاسِّين باغتراب
***
من حنان الحب هلّل غِل جانا
من مرارة الغل جلجل صوت رجانا
نبكى من الغل اللي بيعكّر حياتنا
ولا من الحب اللى هدهدنا وشجانا
وعبر استثمار هذا الوسيط واسع الانتشار، استطاع سيد حجاب كذلك أن يبث رسائله الثورية التي لا تكل عن التحريض ضد الاستبداد والظلم. فالرؤية الثورية عند سيد حجاب تهيمن على تشكيلاته الشعرية، على لغته وصوره وإيقاعاته، على انتقاء المفردات التي تتفجر غضبا والصور المشحونة بأقصى دلالات التمرد العنيف ضد القهر، التي تصور بركان الغل الذي لا يخمد قبل أن يصهر الظالم ويطيح بكل رغبة في السكوت لدى المظلوم. ولعل هذا ما تمتاز به لغة سيد حجاب الشعرية ورؤيته الثورية معا مقارنة بشعراء آخرين مثل صلاح جاهين أو عبد الرحمن الأبنودي أو أحمد فؤاد نجم. فمقارنة أولية بين قصيدة صلاح جاهين "القمح مش زي الدهب" والتي اعتبرت شارة على الثورية الاشتراكية: (القمح مش زي الدهب / القمح زي الفلاحين / عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين / زي اسماعين ومحمدين / وحسين أبو عويضة اللي قاسى وانضرب / علشان طلب / حفنة سنابل ، ريها كان بالعرق / عرق الجبين / القمح زي حسين / يعيش ياكل في طين / أما اللي في القصر الكبير / يلبس حرير / والسنبلة / يبعت رجاله ، يحصدوها من على / عود الفقير) وقصيدة سيد حجاب "الغِّل":
الغِّل فَحل جاموس جوايا
فرعون في حشايا..
لاطفح في وش الندل ولا اخلي
وارشق في قلبه السِل من غِلّي
واهده بقوايا
واسقيه ليلاتي الحنضل المغلي
دانا الجبل
شلته علي كتوفي
طمعان في حق مشاله لعشايا
ومشيت ألوف مرات مدد شوفي
لحد بيت حرباية لوانه
لحد بيت الندل شايله له علي قهري
شلت الجبل..
وف آخره المشوار.. جوار بيته
حق المشال
،علي قلة المقدار، ما لمّيته
والغل فحل جاموس جوايا..
تكشف المقارنة بوضوح الفارق بين ثورية جاهين الرومانسية التي تتجلى في اثارة التعاطف مع الظلم الواقع على الفلاحين. بينما في المقابل يتفصد الغضب والتحريض على فعل الثورة والتمرد بعنف ضد الظلم والقهر من كل مفردات القصيدة وصورها وتشكيلاتها الصوتية ونبر الحروف. وفي مقابل نزعة السخرية وجلد الظالم بسياط التهكم والتقريظ والسباب عند أحمد فؤاد نجم ، أو نزعة كشف مظاهر الظلم ومأساوية الخوف من المستبد والتباكي على هوان وضعف المظلوم عند عبد الرحمن الأبنودي، لا يرضى سيد حجاب بغير فعل الثورة التي لا تهادن ولا ترضى بأقل من غضب ساطع عارم لا يبقى ولا يذر مقوما من مقومات عالم الظلم والاستبداد ببركان غضب أو طوفان لا يرحم لا المستبد ولا الصامتين على الاستبداد ولا الخانعين الراضين به معا. ومن هنا لا يمل سيد حجاب من نفخ روح الثورة وإزكاء جذوة الغضب في الأغاني التي يكتبها للمسلسلات والأفلام.
فيصبح كل فيلم وكل عمل درامي بالنسبة لسيد حجاب فرصة جديدة ليضع عليه رايات الثورة التي يبشر بها. لا ينتظر أن يكون العمل نفسه داعيا للثورة بالأساس، لكنه يبادر بتثوير العمل السينمائي أو التليفزيوني بطريقته الشعرية الخاصة. حتى الشخصيات التي لا نتوقع منها أكثر من التسلية أو الضحك والفكاهة يحولها إلى فيلسوف للمقاومة والثورة، مثل شخصية الأراجوز في فيلم هاني لاشين والتي أداها عمر الشريف على نحو لم يقدمه في كل تاريخه السينمائي، بفضل الصورة التي خلقتها له كلمات سيد حجاب. فالأراجوز في الفيلم ليس نكرة لا حول له ولا قوة، ولا هو فقط المسلي المهرج الذي لا يملك إلا أن يكون موضوعا للنكات والضحك. لكن سيد حجاب يكشف في شخصية الأراجوز ذلك الدرويش، الصوفي الجوال الذي لا ينعزل في خرقته وإنما ينخر في هموم الناس وصراعاتهم ويصر أن يكون لسان الحق المدافع عن الناس ضد الظلم. الأراجوز هو العراف، الدرويش الذي يرى أبعد وأعمق، الذي يبصّر الناس بما لا يبصرون، الصوت الصارخ في البرية ينذر بالطوفان القادم ويحذر الناس من كل ظالم لئيم يتخفى في وجوه متعددة، حتى لو كان وجه ابنه نفسه.
أراجوز .. أراجوز .. إنما فنان
فنان .. أيوه .. إنما أراجوز
و يجوز يا زمان أنا كنت زمان
غاوي الأرجزة طياري .. يجوز
إنما لما الكيف بقى إدمان
آجي أبص لشيء واحد أرى .. جوز
أرى إيه؟ أرى إيه؟ أرى جوز أرى جوز
لا يحتاج الأراجوز للمقومات التقليدية السطحية ليكون بطلا، لا يحتاج للعضلات بقدر ما يحتاج لنفاذ البصيرة، للشجاعة والثبات على قول الحق، للمثابرة في التصدي لكل من يسرق أقوات الفقراء:
أراجوز أنا وأحمي قرا .. قرا إيه ؟
أحمي قراريط الناس .. من مين؟
م الناس القرا .. قرا إيه ؟
م الناس القراميط الملاعين.
ماهو أصل أنا مش م القرا .. قرا إيه ؟
مش م القراطيس
ولو الحال مال ، ماقعدش أنا على قرا ..
قرا إيه ؟ قرافيصي و اطنش ع الأندال
لازم أشكّ الأندال مهموز ، وأدوس ع اللي افترا والعنطوز
مانا أرا .. أرا إيه؟؟ أراجوز أراجوز
ويواصل تبليغ رؤيته وتحريضه على التمرد ضد الظلم عبر شخصيات مثل "الشيخ حسني" في فيلم "الكيت كات":
وبص بص شوف، شوف الناس والظروف
يمكن تلقى الديابة لابسة فروة خروف
يمكن تلقى الغلابة في أول الصفوف
أو حتى في أغنية فكاهية يغنيها المجانين في فيلم "أيام الغضب":
دنيا بتدّي للهبّيش
ويا عيني علينا يا حرافيش
نِشقى عشان حبة ملاطيش
ما يكفوش العيش والشاي
وبالطبع في معظم المسلسلات التي كتب أغنياتها، مثل "الوسية" التي صارت أغنياتها أيقونات التعبير عن حال مصر في العقدين الأخيرين؛ حيث يتم توظيفها على اليوتيوب في فيديوهات تفضح الظلم في كل عصر، نجد الوسية وسما على كل نظام فاسد مستبد، من مبارك إلى المجلس العسكري والإخوان المسلمين و حتى عبد الفتاح السيسي:
مين اللى قال الدنيا دى وسية .. فيها عبيد مناكيد وفيها السيد
سوانا رب الناس سواسية .. لا حد فينا يزيد ولا يخسّ إيد
*****
نفس الوسية في كل حتة ورانا
مطرح ما نهرب نلقي نفس العتامة
ممرمرانا، فى رجلها مجرجَرانا
وكأن ده المكتوب ليوم القيامة
****
آه يا زمن معيوب يا أيام سفيهة
يا دنيا مقلوبة عاليها ف وطيها
بقى يسرقونا ويتهمونا احنا فيها
وغفيرها حرميها وكبيرها خاطيها
الاغراب بياكلوا لحمنا ويحرمونا
وبيشربوا من سيل عرقنا و دمانا
نِهوِى بكرباج يهوِى بيه يقوّمونا
وازاى نقوم وهمومنا دى مكوّمانا
في أوج سطوة الحكم العسكري ورونق مجده وشعبيته في عهد عبد الناصر، لا يكتفي سيد حجاب بالنقد اللاذع لفشل الحكم العسكري حربيا الذي قدمه أحمد فؤاد نجم تعقيبا على هزيمة 1967 "الحمد لله وخبطنا تحت باطاتنا / يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار) لكنه يذهب أعمق من ذلك ليكشف أن الهزيمة تكمن في حكم العسكر في حد ذاته الذي أدى إلى الهزائم على كل المستويات سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
فيقول في قصيدة "حطة يا بطة" التي غناها الشيخ إمام:
يا بلدنا يا زادنا وزوّادنا
يا ام جدودنا وبنت ولادنا
إيه آخرتها مع الظباط
بيروقراط على تكنوقراط
حُكَما فلاسفه فشر سقراط
واحنا يا عيني غلابه بُساط
فَرَدانيه ما بينّاش رابطه
حطه يا بطه
****
مثل كل شعراء العامية المصرية الكبار، يستلهم سيد حجاب بنية الموال. فالموال الشعبي له في خصائصه الدلالية والتشكيلية كثير السحر الخاص الذي يتميز به عن كل أشكال التعبير الغنائي الشعبي. فمن ناحية الدلالة، يستطيع الموال في بنية شديدة التكثيف والإيجاز تقديم حالة كاملة من المأساة التي لا تقل في تأثيرها عن مأساة إغريقية كاملة. كما يضمن بناء الموال امكانات هائلة في تضمينه محمولات دلالية بالغة العمق يبث من خلالها الشاعر لواعج وأحزان إنسانية لا تنقلها المفردات التي يتكون منها الموال بقدر ما تنقلها بنية الموال الموسيقية ذاتها. ومن الناحية التشكيلية، يعتبر فن الموال بأشكاله وبناه المتنوعة، من المربع إلى الموال الخماسي والسباعي والعشاري من أرحب التشكيلات الغنائية والشعرية التي يستطيع خلالها الشاعر أن يمارس تجريبه الموسيقي أو أن يستعرض حرفيته ومهارته في ابتكار والتنويع على تشكيلات موسيقية تعتمد على التجنيس أو اللعب على القوافي أو المغامرة باختراع تشكيلات موسيقية من خلال تساوق الحروف والكلمات أو كل الأشكال الأخرى التي يمكن لشاعر أن يبرز فيها مهاراته وحرفيته الشعرية. وهذا الجانب تحديدا هو ما فتن سيد حجاب بالموال بتنويعاته المختلفة. فنجد في كثير من أشعاره استلهام بنية الموال المربع أو الخماسي أو السباعي كما في الأغنية التالية من مسلسل النديم:
يا لولا دقة ايديكى ما انطرق بابى
طول عمرى عارى البدن و إنتى جلبابى
ياللى سهرتى الليالى يونسّك صوتى
متونسة ب حسّ مين - يا مصر - فى غيابى ؟
أدباتى .. أراجوز .. نديم صاحبى و خلانى
زجال .. مهرج .. مركب صوتى فى لسانى
و صحيت لقيتنى أعرفك و انتى عارفانى
وخدانى من مجلس الضايعين و حطانى
على أعلى منبر .. يهزك صوتى و أدانى
ياللى فطمتى النديم : رديه صغير السن
أسكت الجرح ... يسكت ... ينطق التانى
حيث تبرز بنية الموال الرباعي في المقطع الأول والسباعي في المقطع الثاني. غير أن سيد حجاب إذ يستلهم الموال فإنه يستلهم بنيته الموسيقية الآسرة وإمكانات اللعب الابتكاري غير المحدود على القوافي، بينما لا يحبذ كثيرا استلهام النزعة البكائية الشاكية في الموال. حيث يتنافى ذلك مع طبيعة شعر حجاب ورؤيته التي تنبض بالتمرد ودفع الظلم بدلا من التباكي والشكوى. لكنه لا يجد مفرا من استخدام بكائية الموال في السياق الذي لا تجدي المقاومة فيه نفعا، وهو مقام الحب ولوعاته:
عالليل و آخره يا ولداه
و إيش بعد نوح المواويل داه
الليل طويل أوى يا ولداه
للى هواه كان أول داه (دائه)
عالليل و آخره الخُطى يابا
تايهة ، و راكبنا الخَطا يابا
ريحنا الطيب زادنا طيابة
جرّحنا روحنا ولا طيابة (شفاء – طب)
لجروحنا يابا وعمرنا تاه
شوك حشّ روحنا و حَشانا
يا وشوش يا غالية يا واحشانا
حاشاكى تنسى و حاشانا
ده انا لا شين و لا وحش انا
انا قلبي ربي حباه و إدّاه
اتنين في العتمة
في صيف 2007 كان آخر لقائي بالشاعر سيد حجاب في القاهرة حيث كنت أستعد للسفر لأمريكا وكنا في غداء في مطعم بوسط القاهرة نحتفل بانتهاء عدد مجلة ألف في طقس سنوي رسخته الدكتورة فريال غزول تدعو فيه من ساهموا في العدد. وقد تمنينا جميعا على الشاعر سيد حجاب أن يقرأ علينا إحدى قصائده، وتمنيت عليه أنا قصيدة "إتنين في العتمة" تحديدا. وتفضل بقراءتها واستمتعت بقراءته للقصيدة على نحو فاق كل المرات التي قرأت فيها القصيدة من قبل ومن بعد.
قصيدة اتنين في العتمة سيمفونية صوفية إيروتيكية تتسربل فيها صور فعل الخلق والعشق والصراع الإنساني، ملحمة الخلق والوجود ورحلة البحث عن معنى الوجود وفعل الخلق والميلاد ومصارعة العدم الموت، سيمفونية شعرية تتعدد فيها الأصوات، وتعدد الايقاعات، إيقاعات الصوت وإيقاعات الصور والدلالات في بنيات تشكيلية متباينة.
عِريان
عِريانة دفيانة
دفيان
(على جبل الشهوة الطاهرة ..
.. النسر بياكل أكبادنا !!
بنقرب .. بنقرب .. من بعض
الضلع الناقص لمكانه يترد)
ح آخدِك أوريكي الجبل اللي اتكلم..
.. من فوقه الرب
****
على نفس الأرض ..
اللي أمي اتعرت فوقها لآدم ..
عريانة يانا ..
وباصلي صلاة الحياه والموت ..
عيد الميلاد .. الجبّانة.
بافتح شبابيك للنار الحَرة في مسامّي ..
عريت دمي لشمس الشهوة اللوّانة
خيل حمرا بتجري في عروقي
وش حبيبي شمس وشمسية من فوقي.
غواية الصوت ودويّ الطوفان
من السمات الأشد بروزا في تجربة سيد حجاب الشعرية افتتانه بالتشكيلات الصوتية وقدرته الفائقة على فتنة القارئ أو المستمع بابتكاراته تقاسيم صوتية تنزع الألفة عن التلقي العادي لتلك الأصوات والمفردات حين يضعها في تشكيلاته الصوتية والدلالية الفريدة. فالشاعر الذي امتلك ناصية لغته المصرية بكل غوايات ألاعيبها الصوتية والموسيقية لم يكف عن ابتكار تقاسيم موسيقية جديدة في كل قصيدة أو أغنية لتحمل دائما دلالات جديدة لا تنفصم عن التشكيل الموسيقي ذاته. فألعابه وابتكاراته الموسيقية التي تخلق من أصوات القصيدة بنية تتضافر مع بنيتها الدلالية لا ترى الجرس الموسيقي في القصيدة حلية أو زخرفة صوتية تمثل عبئا يثقل كاهل القصيدة وإنما يعيد تضفير الدلالات في بنى موسيقية تضفي ظلالا عديدة على دلالات القصيدة وتطلق للأذن العنان في الاستمتاع بتقاسيمه الصوتية وبإعادة أنتاج دلالات المفردات الحرفية مرة أخرى في سياق ما أعطتها التشكيلات النغمية لأصوات الحروف بتجنيساتها من أفاق جديدة لفهم المعنى. فيبتكر سيد حجاب بنى صوتية في القصيدة أو الأغنية تشبع لذة السمع من ناحية وتستحث الذهن باستراتيجيتها في توليد المعاني من قوافي جديدة. فمن براعة الشاعر الشعبي التقليدي في فنون القافية في الموال أو المربعات أو فن الواو بحرفية استيلاد قوافي تشحذ ذهن المتلقي في توقع كيفية توليد الشاعر للقافية التالية التي سيخلقها من ضم مبتكر لكلمتين أو أكثر في تكوين صوتي مبتكر يتماثل مع القافية السابقة لكنه يختلف في المعنى كما رأينا في بنية الموال في "الليل وآخره" (وحَشانا – واحشانا – وحاشانا – وحش أنا) وفي غيرها كثير من الأعمال الغنائية.
لكن حجاب يبتكر نوعا جديدا من ألاعيب صوتية لقافية لا تنتهي بها الكلمات بل تبدأ، كما في أغنية الأراجوز. فيستخدم المقطع الأول من كلمة أراجوز ليبدأ تقاسيمه في استيلاد الكلمات التي تبدأ بالمقطع نفسه صوتيا باللغة المصرية التي ينطق فيها صوت القاف همزة ( أراضيّ – قرافيصي – قراريط – قرمتني – قراطيس – أراعيكي – قروانتي – قراميط – أرازلها – أراغيلها...) ويستحضر لعبة التخمين مع المتلقي فيسأل قبل أن يكمل كل كلمة بعد المقطع الأول المتكرر "ارا ايه ؟ أرا أيه؟". كما يكرس بعض المقاطع للتقسيم الموسيقي على صوت بعينه كما في أغنية مسلسل أرابيسك:
الشرّ شرق و غرب داخل في حوشنا
حوشوا لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا
حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا
و تغشنا المرايات تشوش وشوشنا
و تهيل تراب ع الهالة و الهيلمان
الغش طرطش رشّ ع الوش بوية
ما درتش مين بلياتشو أو مين رزين
شاب الزمان ، و شّي مش شكل أبويا
شاهت وشوشنا ، تُهنا بين شين و زين
ولسه ياما و ياما حنشوف كمان
في ديوانه أصوات، يفرد الشاعر سيد حجاب قصيدة من الديوان لكل آلة موسيقية ويقدم حسه الشعري والشعوري بكل من تلك الآلات الموسيقية (الأرغول – الناي – الهارب – البوزوكيا – القانون – الكمان – العود – الربابة – الترومبيت – السمسمية). فيصور مثلا في قصيدة "الأرغول" المحمولات الدلالية والشعورية عن آلة الأرغول وصوته الشجي في ارتباطه بالقرى المصرية وتراث غني من المأثور الشعبي الموسيقي والغنائي:
لما باسمع حس أرغول جاي عليّ
عيني تسرح للنجوعة .. والكفور
تلمح الضي المدغمس وسط أشباح الكافور
قلبي يتلولو في يدّ الحزن ليّ
روحي ترمح .. مُهر شارد ع الجسور
في الموارد والبحور مش لاقي ميّ
واللسان ممرور ومقهور ..
.. مش لشــيّ
إنما الأرغول كدة ، يقلّب هموم قلبي عليّ
بينما في قصيدة "تنويعات على الساكسفون" ترتبط آلة الساكسفون بتراث الأمريكان السود وتاريخ الاستعباد الذي ولد موسيقى البلوز:
مزارع القطن في جنوب أمريكا .. والزنوج
.. كرباج يدور
يقعوا العبيد .. فوج بعد فوج
يا قطن .. يا نوّار .. ولوز
من دمنا المهدور
طالع يا قطن وطالعة غنوة "البلوز"
يا غنوة طالعة من شهيق الموت وصرخة الحياة
كوني براح
رغم الليالي العوج
شيلي بكا الزنوج .. وآهة الجراح
وكوني عاصفة رياح .. وموج
فنجده حتى في انشغاله بالبعد الصوتي الموسيقي لا يزال يربطه بمحمولات تاريخية واجتماعية ترتبط بمعاناة الشعوب. موسيقى وغناء الشعوب بالنسبة له هما ديوان ذاكرتها وتأريخ كفاحها وأناشيد ثورتها. وحين يكتب حجاب عن الثورة، فإن هذا الشاعر الذي دخل السجن في عهد عبد الناصر بتهمة انضمامه لتنظيم شيوعي ماوي، لا يستطيع أن يكف عن الحلم بثورة تغمر كل بلاد العالم كالطوفان الذي صار لزاما أن يأتي ليطهر الأرض من طغاتها ومن عبيدها معا. فالطغاة والعبيد معا هما شرطا استمرار الاستبداد الذي يقاومه الأحرار بالثورة. ثورية سيد حجاب ليست ثورية رومانسية تسبغ تعاطفا وإشفاقا مجانيا على الخانعين الممتثلين للظلم لأن خنوعهم وامتثالهم للظلم هو ما يحمي استمرارية منظومة الظلم والاستبداد.
جاي الطوفان ..أمواج ورا أمواج
من هارلم السمرا وضفاف السين وقلب باريس
ومن اليونان والصين وبغداد الرشيد وبراج
شُبّان..صبايا خُضر ..متحمسين
فُرادى أو أزواج
جماعات وأفواج جايه ورا أفواج
من آسيا من أفريقيا..وبلاد اللاتين لامريكان
قاريين بريخت ولوركا..ويآمنوا بنبي جبران
شايلين رايات المجد للإنسان
خليفة الرحمن
قلوب لا يغويها دهب ولا جاه
ولا تتنفض م الخوف من الكرباج
جايين وحالفين ياخدوا تارنا
وتار عبيد الرومان
.....
نلقى الشعوب بتنول...وتاخد حقها المستحق
من اللي يستاهلوا الغرق والحرق
من حرّموا عالخلق قولة لأ
.......
والعمر -وإن طال- يا طوال العمر
ما يدومش لا للبيض ولا للسمر
وبكرة كل المستخبي يبان
وتفوقوا من سكر الليالي الحمر
على الطوفان جاي في الميعاد غضبان
قاصدكو بالذات..عارف العنوان
يامرحبا...و..
والله زمان يا طوفان