زينات صدقي فنانة تشكيليّة مهووسة بفنها وعاشقة لجمال الجسد الأنثوي العاري، أما لولا صدقي فمنقبة محافظة قليلة الكلام ومتزوجة من رجل متدين جداً .. زينات تجد في لولي الموديل الأنسب للوحتها القادمة نظراً لوجهها الجميل وجسمها الرائع الفتان. ولكن لولي ترفض أن تُرسم بدون البرقع والنقاب، فهي مخلصة لزوجها الغيور المتدين، فتقترح زينات عليها فكرة فنية متميزة وهي أن تكون الصورة بعنوان "الملاك المُحجَّب".
بعدها بلحظات، تظهر لولي بالنقاب لكن شبه عارية وتنزل الكاميرا من أعلي لأسفل من النقاب إلى
استعراض جسم لولي الرائع ثم تظهر زينات سعيدة وهي ترسم اللوحة.
تترك زينات الريشة والألوان وتعطي لولي "الملاك المحجب" سيجارة لحين عودتها للتسلية. ويدخل زوج زينات ليرى هذا الجسد المثير العاري ويُعجب بجماله وتتوالي الأحداث من لحظة الإغواء التي دبرتها يد
القدر.
تلك أحداث أحد مشاهد فيلم "شارع البهلوان" من إخراج صلاح أبو سيف عام 1949، والذي ألفه الكاتب
المجهول عبد الحيلم مرسي الذي أقتصر نشاطه الفني خلال فترة الإربعينيات.
في حواراتنا النخبوية المتعالية أو في حديثنا العادي نستخدم بكثافة تعبير "الازدواج" أو "الازدواجية" لكل ما يتبدى لنا غير متناسق أو متناغم، فنقول استسهالا "تصرفات فلان متناقضة لأنه مزدوج" وفي السياسة "إن الحزب الفلاني مزدوج في خطابه" أو "الرئيس مزدوج في تحالفاته." فالازدواج تعبير نخبوي / شعبوي يستخدمه الجميع في حديثهم اليومي ويصفون بعضهم البعض بدون أي تحليل أو محاولة للإقتراب من دواخل النفوس.
الأديان و الأساطير القديمة بصفة عامة رسّخت ثنائيّة الخير والشر وبرغم إعترافها في معظم الأحيان أن الإنسان الخيّر قد يفعل الشر والعكس صحيح، لكننا في نفس الوقت نرفض فكرة أن يكون إنساناً على الجانبين فالإنسان بالنسبة لنا إما بار أو شرير - من أهل الجنة أو من أهل النار.
والأديان الإبراهيميّة بشكل خاص تؤسس لرفضها لشخصية تسميها "المرائي" أو "المنافق" الذي يُظهر أنه متدين وعفيف وخيّر ويخفي حقيقة فساده ويتم الحكم عليه من أهل الدين بكونه إزدواجي.
ورغم ذلك يتحفنا صلب الدين نفسه ببعض الحالات التي يبارك فيها بعض أنواع النفاق والكذب للوصول لأهداف أسمى -من وجهة نظره- كالحصول علي منافع للأمة الدينية وإصلاح حالها بآليات الخداع والتدليس، أو الوصول للمال والسلطة لأحد أبناء الدين، ويضع لذلك عنواناً "التقية". ويتهم العلمانيون والمنتقدون للدين هؤلاء، بالازدواج وبأنهم مراؤون ومنافقون، مستخدمين تعابير دينية.
الثقافة السينمائية في كثير من الأحيان لا تقل تسطيحاً في تصورها للشخصيات المزدوجة والتي تكون شريرة بالضرورة او نموذج سيء، بل يبالغ التصور السينمائي الشهير لمزدوجي الشخصية أو المصابين بالفصام النفسي حيث يقوم البطل أو البطلة بأفعال متناقضة ومتعارضة في شخصيتين وحيايتين متوازيتين ويتمتع المشاهد بهذه الصور المبسطة للعالم والإنسان.
متي نستطيع أن نتخلص من ذلك المصطلح "الازدواج" الذي يظهر كمقولة عميقة، ولكنه يوقع بنا في فخاخ التبسيط والتسطيح؟ متي نتوقف عن وصف الماء بالماء فنعقد حاجبينا ونقول عن شخص يقوم بفعلين أو قولين غير متسقين أنه مزدوج وكأننا نقول حكمة الزمان مكتفيين بإتهام الأفراد والجماعات دون تحليل أبعد، أو محاولة لفهم الثنائيات والمتعددات المتجاورة داخل النفس الانسانية وسلوكها وبالتالي نعيق قدرتنا في نقد الذات وفهم الآخر.
عن الله والكارينا والفيزون
في مصر التجاورات السلوكيّة غير المتسقة عند مستهلكي الدين دائماً مصدر سخرية. ولا توجد محاولة متأنيّة لفهم من نطلق عليهم إزدواجيين. فالمرأة المصريّة في المدن كمستهلكة للدين برغم تبنيها للحجاب بشكل أساسي والنقاب بشكل أقل، اشتهرت بتبنيها لموضات مثيرة خلال السنوات السابقة وأصبحت فكرة الفتاة المنقبة أو المحجبة المثيرة اللعوب فيتش (رمز له شحنة جنسية) شعبي.
المرأة المصرية (وفي هذه الحالة المسلمة) دائماً ما ينظر لها كمفعول به، فحين تبنّت الحجاب وقبلت بها كفريضة دينية وحين تبنّت الموضات الليبرالية -إن جاز التعبير- فقد كانت أيضا غير فاعلة، وطالبها بعض أبناء" الليبرالية والدين "معاً بالإختيار مما بين الاقواس كما يطلب المعلم من الطالب في إمتحان آخر العام، حيث ممنوع تجاور هذان النوعان من الأزياء، وإلا سقطت فيما اسموه الازدواج، وأدعوا التجاور مثير للإشمئزاز لمجرد أنه لا يتماشي مع مرجع واحد ولا يمثل نمط معروف.
قد تؤدي القراءة الأولى لما حاولت أن تفعله المرأة المصرية بالجمع بين الحجاب والملابس الشفافة / الضيقة / الكاشفة للجسم علي أنها محاولة للتوفيق بين الدين والدنيا، فهي تسعى أن تكون مطيعة للإله وأوامره الذي يمكن إرضاءه بغطاء للرأس، ومحاولة البحث عن الجمال والحرية كمساحة للتنفس. و بصورة سلوكية بعيدة عن الأزياء فهي تقبل أن تصلي وتصوم من جهة وتقيم علاقات خاصة أو مفتوحة من جهة أخرى، لأنها ترغب في إرضاء السلطة الاجتماعية والدينية للوصول للجنة وترغب في إرضاء جسمها وشعورها بالأنوثة والإنسانية بإقامة علاقة عاطفية أيا كان شكلها. فالسلوك هنا يظهر برجماتي، فهي تسكت الله ورجاله بقطعة القماش هذه وبعض الطقوس البسيطة وتتطلق العنان لجسدها و نفسها وأنوثتها.
وهناك قراءة ثانية عن أن المرأة هنا متذبذبة بين العالمين، حائرة ومقهورة تارة ترضي هذا وتارة ترضي ذاك، و هي في شعور بالذنب والخوف دائم لأن الله غاضب منها وسينتقم من أنوثتها، ولأنها حزينة علي موت أنوثتها خلف تلك الاقمشة والقيود.
ولكن أدعيّ أن هناك قراءة أبعد لكننا نميل لإنكارها لأنها صادمة. فبعض الحالات تكون الجمع بين الحجاب والأزياء المتحررة صارخ وملفت إلي أقصي درجة والجمع بين السلوكيات الدين والدنيا يكون فجاً، وتصبح قراءات التوفيق والقهر غير كافية لفهم المشهد، فالسلوك يحمل ببساطة في طياته إعلان عن كراهية ومحاولات للتمرد وتحطيم المقدس. فقطعة القماش ذات المدلول الإلهي تربطها المرأة المصرية عنوة بالإغواء وتفجر الأنوثة والرغبة وبإطلاق حرية الجسد، فهى بتجاور الاثنان تُعطي كل إشارات أحتقار المقدس و تضع المقدس في حجمه الطبيعي الضئيل والتافه أمام الجسد والحرية والأنوثة. فلا مانع عندها أن تمارس العشق مع محبوبها بالحجاب والنقاب، مستمتعة بتلك اللحظة بالذات في اللاوعي حينا، وفي الوعي حينا آخر، ليسقط المقدس كصنم ويتفتت على فراشها وهي ضاحكة وثابتة وقوية.
وهذه القراءة قادرة على إحتواء القراءات الأخرى. فبالرغم من كراهية المقدس ورفضه وأحتقاره، تسعى برجماتيا وتناور السلطة للخروج بأقل الخسائر. يصيبها الخوف تارة وتعتريها مشاعر الذنب تارة أخرى. تسعى لسماع صوتها الداخلي المفقود ولا تستقبل أذنها سوى خطابات السلطة بأنواعها وآخرها خطاب السلطة الثقافية بأنها مزدوجة. لكنها لا تهتم بهذا الأخير، كما أنها لا تهتم إن كان الحجاب من آل سعود أم من السماء، و لا يشغلها إن كان الفيزون عربيٌ عريق أم هو تصدير لثقافات ما بعد الإحتلال الغربية، لأن كل المنتجات معظمها غير أصلي، و"مضروب"، كله "صيني" وقابل للكسر بسهولة ولا يعيش طويلا كما أدركت من خبرتها وذهابها اليومي للأسواق.
عن مطبخ الدين و الإشارات الأخرى
عادة ما يُتهم منتجي أو مروجي الدين، أو كما يسميهم البعض رجاله، خاصة الأكثر قوة وشهرة وسلطة بالازدواج، وذلك بسبب السلوكيات المنافية للدين التي تصدر عنهم من فساد مالي وسعي للنفوذ السياسي والمجتمعي فوق القانون والإنفتاح الجنسي المقنن وغير المقنن. و يباري بعض المخلصين القلائل للدين لمحاولات إخفاء تلك المعلومات وتكذيبها.
آخرون يؤكدون أن هؤلاء فسدوا عن صحيح الدين وأغوتهم الدنيا والشيطان. ولكن هنا كرجال دين آخرين في مكان ما غير معلوم، ربما في بلاد لم نزرها أو في غياهب التاريخ القديم، الذي لم يكن لدينا الحظ الكافي لنحيا فيه.
بينما تجد هؤلاء العمالقة من منتجي الدين قلما يجتهدوا لتفنيد تلك الحقائق عن أنفسهم بل يتباروا في الفساد أكثر وأكثر. ولهذا أيضا قراءات ليبرالية ويسارية متعددة أشهرها أن الدين بالأساس تم بناءه كوسيلة للقوة والسلطة والنفوذ على أيدي جماعات تسعي للسيطرة والتحكم والمال وأن رجال الدين بالأساس ساعين للسلطة والنفوذ. وهذا التفسير ليس عار من الصحة ولكنه يعجز عن فهم أسباب عدم إخفاء هؤلاء لسياراتهم الفارهة وغناهم الفاحش، القراءة قاصرة عن شرح اظهارهم فسادهم المالي وتواطؤهم مع السلطة من أجل المصالح، بل و احيانا يظهروا بغرائبية علاقتهم الماجنة - من وجه نظر الدين المحافظ- ويمارسون علاقات جنسية مفتوحة علناً وفي أماكن عامة ويتزوجون الراقصات. وهذا يجعل التحليل "العلماني" غير كافي لتفسير ما يحدث.
إن الدخول في مطبخ الدين مغامرة غير محسوبة، فأن تكون منتِج للروحانيات والمقدسات ووكيلا للسماء علي الأرض وخليفة لرب العزة، ينكشف أمامك ليس فقط فساد المطبخ الديني وتحكم الأهواء في عمليات الإنتاج، ولكن الصدمة تكون في سهولة إنتاج المقدس وأعتماده أولا أسباب مادية ونوايا ومنافع بشرية وثانياً أعتماده الصدف والعشوائية.
هذا الإكتشاف يضرب صميم فكرة الأصل والجذور، لأنك تختبر الحالة الاولى التي عاشها مؤسسو الدين فيموت أمامك سحر الاسطورة، فتقديس الناس لما تقوله وتفعله يزيد من تعميق الكشف وتصبح أمام حقيقة لا مفر منها. لذا فكبار منتجين الدين تتفاقم لديهم تلك الازمة وتلح عليهم حالة من رفض للمقدس وأحتقاره، فتكون تلك اللحظات التي يعلنوا فيها فسادهم بشكل بين لاواعي وواعي، بمثابة إشارات يعلنون فيها مشاعر الكراهية والرفض مما يؤدي بالضرورة لأن ينفر مستقبلو تلك الإشارات من مستهلكي الدين من الدين ومقدساته.
ولذا يصبح أصحاب الدعوات من مستهلكي الدين المخلصين التي تطالب رجال الدين بأن يلتزموا موقع القدوة في موقف صعب، فهي لا جدوى منها لأن تلك الإشارات تكون رغما عنهم نابعة من جرح عميق وغضب غير محتمل بل وتظهر كلحظة صدق غير مقصودة للجماهير المخدوعة.
أما العلمانيون والليبراليون واليساريون الذين دائماً وأبداً يتباروا في الحديث عن فساد رجال دين بالاساليب المباشرة و الهجومية فهم يشوشون على تلك الرسالة الصادقة ألا تصل لمستقبليها، كمن يقاومون البشارة المفرحة .فهؤلاء الذين ينعتون عمالقة الدين بالازدواج لا يمهدون لحوار مجتمعي بل لثرثرة.
وستظل الثرثرة حول الازدواج التي تمنعنا من التفكير مستمرة إلى أن أن نشطب هذا المصطلح الذي استهلكناه حتي انتهت صلاحيته وخرجت رائحته الكريهة من مطبخنا الثقافي.