عبّر الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي كما في الإعلام عن صدمتهم لقيام السلطة الفلسطينية بإصدار قرار يمنع رواية "جريمة في رام الله" للكاتب الفلسطيني يحيى عباد. وصدر بيان من عدد من المثقفين والكتاب العرب والفلسطينيين يطالب بوقف المنع والاعتذار.
بداية، عندما قرأت الخبر استوقفني عنوان البيان الذي نشرته و"كالة معا" نقلاً عن مكتب النائب العام، المستشار أحمد براك. في العنوان تتبنى الوكالة، المقربة من السلطة، البيان كحكم و"حقيقة" دون وضع الاقتباسات أو الفصل بين ما تنقله وبين ما يدّعيه مكتب المستشار. فالوكالة قررت أن الرواية "مخلة بالآداب والأخلاق العامة." حيث يتحدث العنوان عن أن "النائب العام يصدر قراراً بضبط رواية مخلة بالآداب والأخلاق العامة".
يدّعي البيان، وهنا يتم اقتباس مكتب المستشار، أن لم الرواية من الأسواق جاء حفاظاً على المواطن "حيث تحتوي الرواية على مصطلحات مخلة بالحياء والأخلاق والآداب العامة، والتي من شأنها المساس بالمواطن ولا سيما القاصرين والأطفال حماية لهم ورقابة من الانحراف". بغض النظر عن صحّة هذا الكلام، فيمكن فرض بيع الرواية للكبار فقط! دون الحاجة لمنعها. لأن كل هؤلاء الذين يدعي المستشار حمايتهم يمكنهم، بضربات الحاسوب الدخول إلى الإنترنت وتنزيل الرواية مجاناً. بل إن ما حدث هو ما أدى للفت انتباههم للبحث عنها وقراءتها، ولولا ذلك لما انتبه لها غير قلة. طبعاً لا يغفل البيان المتاجرة بحرية التعبير وأن المنع يأتي دون أن "يتنافى ذلك مع حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب القانون".
والسؤال الذي حيّرني هو لماذا تهتم السلطة الفلسطينية التي لا سلطة فعلية لها في فلسطين بالتجوال على المكتبات ولم نسخ الرواية واستدعاء كل من الناشر والموزع والكاتب للتحقيق. التحقيق بماذا؟ تخيّلت رجال السلطة يدورون على المكاتب والمحلات لمصادرة نسخ الرواية. وكان لا بد من التساؤل أين هي السلطة عندما تستمر إسرائيل بمصادرة الأراضي وهدم البيوت والاستمرار في الاعتقالات الإدارية وبناء المستوطنات، ستة آلاف منها خلال الأيام العشرة الأخيرة؟ نعم تمكنت السلطة من إصدار قرار في مجلس الأمن في شهر ديسمبر/ كانون الأول الأخير. لكن القرار يبقى حبراً على ورق كما أنه بلا فاعلية حيث لم يتم تبنيه تحت البند السابع. ورأينا كيف صادقت حكومة الاحتلال الإسرائيلي على بناء أكثر من ستة آلاف وحدة سكنية جديدة خلال الأسبوعين الأخيرين. وفوق كل هذا هناك القتل المستمر للفلسطينيين وحصار غزة ومسرحية "إعادة إعمارها" الذي تستفيد منه بالدرجة الأولى شركات إسرائيلية وبعض المستفيدين في السلطة الفلسطينية. لماذا تترك السلطة الفلسطينية، الحريصة على الثقافة، القدس دون مسارح ودون أي عناية أو متابعة، غريقة ووحيدة هي وأهلها في قبضة الاحتلال والمخدرات والإسلام السياسي؟ ولماذا تستدعي السلطة العديد من الأسرى المحررين للتحقيق معهم بعد الإفراج عنهم من سجون الاحتلال؟ ولماذا أغرقت الشعب الفلسطيني بهذا الكم من الديون ولم تنتج اقتصاداً بديلاً خلال العشرين سنة الماضية؟ ولماذا تركت اللاجئين الفلسطينيين، الذين قتلتهم الحرب في سوريا لوحدهم دون حتى مطالبة رمزية ومحاولة إحراج إسرائيل دولياً ورفع قضيتهم للسماح لهم بالعودة ولو لجزء من فلسطين؟ هذه السلطة التي لا تمتلك سيادة حقيقية على أراضي فلسطين المحتلة عام 1967 ، ولا على شبر من أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 والتي غاب الحديث، حتى الرمزي، عنها بشكل كامل. وكأنها غير موجودة. هذه السلطة، التي لا شرعية ولا هيبة لها، والتي وظيفتها الوحيدة هي إعطاء الاحتلال شرعيته وتصريف أموره، هي نفسها السلطة التي ترى أنه يحق لها مصادرة كتاب، كما فعلت بالسابق مع "قول يا طير" باسم الحرص على الأخلاق!
لا بد من الإشارة إلى البيان التضامني الذي صدر ووقع عليه المئات تضامناً مع الكاتب. على الرغم من تضامني مع الناشر والموزع والكاتب فإن البيان جاء هزيلاً ويعكس حالة البؤس التي وصلنا إليها وضيق الأفق. وليس المقصود المساس بمن كتب البيان، لكن لا بد من الإشارة إلى الهفوات فيه والفرصة الضائعة. يتحدث البيان عن المنع وكأنه حدث على المريخ دون الإشارة إلى السياق العام وهو أن فلسطين تخضع لاستعمار استيطاني وأن المنع صدر من قبل سلطة فلسطينية مستفيدة ومتعاونة مع الاحتلال. كان لا بد كذلك من الإشارة إلى السياق الأوسع في المنطقة: المتعلق بالرقابة المتغوّلة وملاحقة الكتاب والنشطاء في دول عربية عديدة، من بينهم فلسطينيون كالشاعر الفلسطيني أشرف فياض في السعودية، وكتاب آخرون في مصر وبلاد أخرى من المحيط إلى الخليج دون استثناء. صحيح أن سياق كل واحدة من تلك الملاحقات وحالات المنع مختلف، لكنها جميعا تأتي من سلطات غير شرعية، باختلاف ظروفها، تمارس المنع التعسفي ضد الكتاب والنشطاء والتحقيق معهم بحجج مختلفة، معظمها تستخدم خطاب الأخلاق والحياء لمغازلة وإرضاء التيارات المحافظة ولإلهاء المواطنين عن الجرائم الحقيقية التي تقترف كل يوم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والتي لا تخدش حياء السلطات.
هل كثير أن يتوقّع المرء خطاباً أكثر نضجاً واتساقاً ينظر إلى الأمور في سياقها وتشابكاتها الأوسع ويربط هذه الظواهر ببعضها البعض؟