الوضع العارض والمؤقت (precarity*) للشباب: ريادة الأعمال ليست حلاً
“لقد دُفعَ شباب اليوم إلى حالة عارضة ومؤقتة، دون طريقة لمعرفة إن كانت انتقالية أو دائمة”.
زيجمونت باومان – الحداثة ونتائجها (2004)
في عام 2011، العام الذي خرجتْ فيه الجماهير في أنحاء العالم العربي إلى الشوارع مطالبة بالكرامة والخبز والعدالة الاجتماعية اشتهر كتاب عالم اقتصاد العمل غاي ستاندنغ Guy Standing الذي حمل عنوان “البريكاريات: الطبقة الجديدة والخطيرة". وبالرغم من أن كتاب ستاندنغ عن العمالة والحياة وسط القلق في القرن الواحد والعشرين لا يدرس الأحداث في هذه المنطقة إلا أنه يتحدث بوضوح أكبر عن واقعٍ يعيشه كثيرٌ من الشبان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر من “تقرير التنمية البشرية العربية” الذي انتُظرَ طويلاً.
إن مصطلح “بريكاريات” هو حاصل جمع كلمتي بريكاريتي precarity وبروليتاريا proletariat، ويُستخدم لوصف مجموعة من الناس في المجتمع يعيشون، بحسب ستاندنغ، وضعاً يتسم بالقلق والانحراف والاستلاب والغضب. وبالرغم من أن هذا الوضع هو واقع يواجهه الرجال والنساء من جميع الأعمار إلا أن ستاندنغ يشدد على آثار هذا الوضع لدى الشباب بخاصة.
كان تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2016، الذي صدر بعد ست سنوات من نشوب الانتفاضات العربية، أول تقرير مخصص للشباب (بين عمر 15 و29) منذ أن بدأ في 2002. ويركز التقرير على البطالة والردْكلة والمشاركة لدى الشباب. ويشير بشكل متكرر إلى المنتدى العالمي للشباب والسلام والأمن الذي رعتْه الأمم المتحدة سنة 2015 في الأردن حول دور الشباب في بناء السلام والمشاكل التي يتعرضون لها، مما قاد إلى اعتماد مجلس الأمن بالأغلبية للقرار 2250 "الذي يعترف بتهديد الاستقرار والتنمية الناجم عن ارتفاع الردكلة بين الشبان"، ويدعو إلى تمثيل أوسع لهم.
يقطع تقرير التنمية العربية شوطاً طويلاً في الاعتراف بمشكلة اللاجئين وخاصة النساء والأطفال، وفي التشديد على أشكال اللامساواة بين الجنسين والإقرار بدور الشبان في انتفاضات 2010\\2011. وعلى أي حال، لا يطرح التقرير أسئلة على مشروع التنمية النيوليبرالي الذي أسهم في المعاناة وعدم الاستقرار وزاد من اللامساواة في المنطقة لعقود، ولا يلقي الضوء عليه.
ويعتمد التقرير لغةً تستند إلى السوق حول تمكين الشباب وخيارات الحياة تعود إلى التسعينيات، ويقوم على نحو جوهري باستخلاص مفهوم "القوة" من مفهوم "التمكين". إن المصطلح مشبع بفرضية الاعتماد على النفس، وأن الشبان قادرون على تولي المسؤولية عن حياتهم وأن يصبحوا وكلاء فاعلين للتغيير بصرف النظر عن العوائق البنيوية.
يقلل مؤلفو الدراسة من أهمية القوة الجمعية الممكنة لدى "الشباب" من خلال استخدام مصطلحي "شبان" "وجماهير شابة" على نحو متبادل. لكنهم لا يقومون بالتمييز بين "شخص شاب"، فرد في عمر معين دون علاقة محددة بالتاريخ، و مصطلح "الشبان" الذي يشير إلى حالة اجتماعية جماعية شبيهة بالطبقة الاجتماعية أو الإثنية، والتي تحتل موقعاً مميزاً في بنى القوة والسيرورات التاريخية. وتقول الرسالة الموجهة إلى الشبان إنهم يجب أن يجمعوا بعضهم معاً، ويصيروا أكثر اعتماداً على الذات ويتولوا مسؤولية حياتهم. إن هذا التأطير المشوِّه للتمكين يعزز نموذج تنمية يشجّع الشبان على قطع روابطهم الجمعية ك "شبان" ومواجهة المستقبل كأفراد متنافسين.
يدعم التقرير السياسات التربوية والاقتصادية التي تسهم في ما يُدعى تنمية يقودها السوق، ويركز على ريادة الأعمال وفرص العمل والتعليم في سياق “يسوده السلام والأمن". إن توصيات السياسة، على أي حال، لا تتواشج مع الوقائع الاجتماعية. لنأخذ التعليم كمثال:
"إن التغلب على فشل النظام التعليمي يجب أن يكون أولوية لصانعي السياسة والمربين الذين يجب أن يعملوا من أجل تحقيق توافق جيد بين إنتاج المؤسسات التعليمية ومطالب سوق العمل. سيتضمن هذا مسحاً لتوزيع عدد الطلاب المسجلين في مختلف المواضيع والمهارات والتخصصات والترقيات في التعليم التقني ومراجعة للمناهج لتعزيز مهارات حل المشكلة، والقدرة على ريادة الأعمال والإدارة وقيمة العمل للحساب الخاص”. (ص 184)
ما هي مطالب سوق العمل التي يجب أن تلبيها المدارس والجامعات؟ حالياً يفضل السوق عملاً مرناً ورخيصاً وقصير الأمد. بالإضافة إلى ذلك تُحول الأتمتة والذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي العمل البشري بشكل مستمر. وما نعرفه جيداً هو أن السوق يحتاج إلى شبان يتمتعون بالطاقة وراغبين بأن يتدربوا ويتطوعوا ويعملوا لساعات طويلة، ويعملوا عن بعد، ويتعلموا مهارات جديدة باستمرار، وليست لديهم مطالب تتعلق بالفوائد وأمان العمل.
تلعب المدارس والجامعات دوراً لا يُنكر في تدريب قوة عمل في أزمنتنا التي تتغير بسرعة لكن دور التعليم يجب ألا يقتصر على إنتاج عمال فحسب. يجب أن يبني التعليم "مجتمعاً جيداً" على حد تعبير أرسطو. ما نوع التعليم المطلوب لبناء مجتمع يستطيع أعضاؤه أن يتوقعوا حياة فيها كرامة ودخل جيد وعدالة؟ لقد قام التكنوقراطيون وعلماء اقتصاد التنمية بتجريد التعليم منهجياً من إمكانياته الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية. إن داعمي سياسات تعليمية مسخرة للسوق يزدرون الطرق التي تستطيع بها المدارس والجامعات أن تعزز التضامن الاجتماعي وتغذي العدد الكبير المتنوع من المواهب والقدرات البشرية. ولا يريدون أن تكون المؤسسات التعليمية أمكنة لتطوير الروابط بين خطوط الاختلاف، حيث يستطيع الناس أن يفكروا ويعملوا معاً للعثور على حلول إبداعية للتحديات الضخمة التي تفرضها الحياة المعاصرة. بدلاً من ذلك، إن جماعة سياسة التيار الرئيسي، التي تركز بهوس على المردود والاختبار والمكافآت قصيرة الأمد، قامت بتقديم فكرتها الأكبر: ريادة الأعمال لدى الشباب.
[الرئيس اوباما والمدير التنفيذي لفايسبوك مارك زوكربرغ وثلاثة رجال ونساء أعمال شباب في حلقة ضمن قمة الأعمال العالمية التي عقدت في 22- 24 حزيران 2016 في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا في الولايات المتحدة. مصدر الصورة GES]
من غير الواضح ما النسبة من المائة مليون، الذين بين سن الخامسة عشرة والتاسعة عشرة في العالم العربي (أي ثلث السكان)، التي من المفترض أن تصبح رواد أعمال يعملون لحسابهم الخاص. ويذكّرنا هذا التوجه بما حدث في أواخر الثمانينيات، حين وحدت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية جهودها على نطاق واسع لتعزيز التمويل المصغر من أجل تخفيف البؤس. وبعد أكثر من ثلاثة عقود من التجريب وجمع المعطيات أشارت الأدلة بشكل قاطع إلى حقيقة أن التمويل المصغر لم يعالج الفقر وكان "مصيدة خطيرة" و"كارثة" لكثيرين. ولا يمكن لجيل الدخل المؤقت أن يكون بديلاً للعمل المستقر والحماية الاجتماعية.
وعلى نحو مشابه، تكثر الأدلة التي تشير إلى أن ريادة الأعمال لدى الشبان، بينما تفيد قلة على المدى القصير إلا أنه من المرجح أكثر أن تقود الشباب إلى مصيدة الديون. ونعرف من أزمة ديون الطلبة في الولايات المتحدة وأوربا أن الديون تولّد لدى الشبان شعوراً أكبر باليأس وعدم الأمان.
إن صفحات التقرير مبهّرة بأمثلة عن قصص النجاح، والحلم بأن أي رائد أعمال عربي يمكن أن يكون ستيف جوبز التالي. وبالرغم من أن دافع الشبان وطموحهم صفتان إيجابيتان إلا أنه من الظلم والخداع بث أسطورة أن أي شخص لديه فكرة ومثابرة وتصميم يمكن أن يكون رائد أعمال.
كتبت عالمة الاقتصاد ماريانا مازوكاتو Mariana Mazzucato بشكل موسع عن كيف أن شركات في "الاقتصاد الجديد" مثل آبل وغوغل وأخرى غيرها،"التي تحب أن تصور نفسها كقلب ريادة الأعمال في أمريكا، ركبت بنجاح موجة الاستثمارات الممولة من الحكومة الأمريكية”. إن “الإنترنت” و”الجي بي إس” و”الشاشات التي تعمل باللمس” و”سيري” هي من بين "الأعمال الناشئة" التي استفادت من التمويل الحكومي الأميركي العالي. وإذا كانت الحكومات وشركات الأعمال العربية جدية حول ريادة أعمال الشباب فينبغي عليها أن تقدم موارد وتعثر على مؤسسات لتوجيه ودعم المواهب الشابة وألا تقود الشبان إلى طريق الاستدانة والديون المنهكة.
إذا أصغينا واحترمنا وأخذنا على محمل الجد أصوات الشباب التي تعالت منذ ست سنوات أثناء الانتفاضات العربية والتي تتواصل اليوم، سنفهم أن هذه الأفكار عن تنمية الشباب الغارقة في نموذج رأسمالية مالية، غير صالحة، ولا يمكن أن يستمر العمل كالمعتاد.
حان الوقت كي نحشد القوى بشكل حقيقي وكي نفكر ونضع سياسات وبرامج تدعم الشباب في صراعاتهم الجمعية. إن السياسات الاجتماعية يجب أن تساعد الشبان على الوصول إلى طريق الفرصة والأمن والكرامة لا أن تتركهم على طريق غير آمن يؤدي إلى التهلكة.
-
إن مصطلح precarity يعني هنا أن الشباب يعيشون وجوداً عارضاً مؤقتاً يفتقر لإمكانية التنبؤ ولأمن الوظيفة، ويفتقر للسعادة المادية أو النفسية. إن الطبقة الاجتماعية التي تعيش هذا الوضع سُميت “البريكاريات” أو الذين يعيشون حالة عارضة مؤقتة.
[للنسخة الإنجليزية اضغط/ي هنا. نشر المقال لأول مرة بالإنجليزية على موقع "مدى مصر". ترجمه أسامة إسبر لـ "جدلية"]