أمبرتو سابا، المجلَّد الأوَّل
Umberto Saba (1883-1957)
أُمبرتو سابا في سطور:
أمبرتو سابا، الاسمُ المستعارُ لأمبرتو بولي، وُلِدَ في إصطاجانكو (تْريِيْستِه) في 9 آذار/ مارس 1883، لأبٍ من عائلةٍ بندقيَّةٍ نبيلة، كان يعمل وكيلاً تجاريَّاً، وأمٍّ يهوديَّةٍ من إصطاجانكو، هي حفيدة الشَّاعر والمؤرِّخ صموئيل ديفيد لوتزاتو، وقد اعتنق والدُه اليهوديَّة لأجل هذا الزَّواج، ومع ذلك هجرته زوجته عندما وُلِد أمبرتو، فعاش هذا طفولةً حزينة بسبب غياب الأب، وقد أمضى السَّنوات الثَّلاث الأولى من طفولته مع مربِّيةٍ سولفانيَّةٍ تُدعى "بيبَّا ساباز" كانت قد فقدت ابنها فسكبت حبَّها وحنانها في أمبرتو الذي اختار اسمه المستعار "سابا" من كنيتها تكريماً لها، والكلمة تعني بالعبريَّة "الجَد"، وقد شكَّلتْ استعادةُ أمِّه له وهو في عمر الثَّلاث سنوات الصَّدمة الأولى في حياته. في سنة 1903 انتقل إلى "بيزا" ليدرسَ في جامعتها، فتابعَ في البداية محاضراتٍ في الأدب الإيطاليِّ، غير أنَّه ما لبث أن تخلَّى عن ذلك لكي يتمكَّن من حضور دروسٍ في علم الآثار، وفي اللغتين الألمانيَّة واللاتينيَّة. في صيف عام 1904 سقط فريسةً لحالةٍ من الإحباط الشَّديد إثرَ خلافٍ مع صديقٍ له، فعاد إلى إصطاجانكو، وراحَ يكتب القصائد وبعض المقالات لصحفٍ محلِّيَّة. في سنة 1911 نشرَ على نفقته الخاصَّة مجموعته الشِّعريَّة الأولى "أشعار"، تلتها في 1912 مجموعته الثَّانية "بِعينيَّ" التي غيَّر عنوانها لاحقاً إلى "إصطاجانكو وامرأة". في أيَّار/ مايو 1913 انتقل مع العائلة إلى مدينة بولونيا، وفي شباط/ فبراير 1914 انتقلوا إلى ميلانو. عند اندلاع الحرب العالميَّة الأولى استُدعيَ إلى الخدمة، أوَّلاً في حقلٍ للجنود النِّمساويِّين السُّجناء ببلدة "كاسالمادْجورِه"، ومن ثمَّ طبَّاعاً في مكتبٍ عسكريٍّ، وأخيراً، في عام 1917، كفاحصٍ للأخشاب في حقلٍ لصناعة الطَّائرات. وتعود إلى تلك الفترة قراءته لأعمال نيتشه واشتداد حدَّة الأزمات النَّفسيَّة عليه والتي انتهت بإدخاله، في عام 1918، إلى المشفى العسكريِّ بميلانو. عند انتهاء الحرب العالميَّة الأولى عاد إلى إصطاجانكو، ليُصدِرَ سنة 1922 الطَّبعة الأولى من "ديوان شِعر غنائي" الذي ضمَّ كلَّ إنتاجه الشِّعريِّ حتَّى ذلك التَّاريخ. عانى بين 1929 و1931 من أزمةٍ عصبيَّةٍ أقسى من سابقاتها. في عام 1938، قبل وقتٍ قصيرٍ من اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية، ومع صدور القوانين العنصريَّة من قِبَل النِّظام الفاشي آنذاك، اضطرَّ إلى الهجرة مع أسرتِهِ إلى فرنسا. عاد إلى إيطاليا في نهاية عام 1939، فلجأ أوَّلاً إلى روما، حيث حاولَ أونغارِتِّي عبثاً مساعدتَهُ، ليعودَ مرَّةً أخرى إلى إصطاجانكو، ولكنَّه أُرغِمَ على الهرب مع زوجته وطفلته في خريف 1943، ليختبئوا في فلورنسا، وهناك نشأت صداقةٌ قويَّة بينه وبين مونتالِه، كما صدرت له في تلك الفترة مجموعةٌ شعريَّة بعنوان "أشياء أخيرة"، وقد أضيفت فيما بعد إلى الطَّبعة الجديدة من "ديوان شعرٍ غنائي" الصَّادرة في تورينو سنة 1945.
* * *
في سنوات ما بعد الحرب، عاش سابا لتسعةِ أشهرٍ في روما، ومِن ثمَّ في ميلانو التي أقام فيها لمدَّة عشر سنواتٍ تقريباً، تخلَّلتها بعض الزِّيارات إلى إصطاجانكو. في تلك المرحلة تعاون مع صحيفة "إلْ كورييرِه دِلَّا سِيرا"، ونشرَ المجموعة الأولى من شذراتِه بعنوان "أقصر الطُّرُق". في سنة 1946 تقاسمَ مع "سيلفيو ميكِلِّلي" الفوز بجائزة فيارِدْجُو عن فئة قصيدة ما بعد الحرب، تلتها في سنة 1951 جائزة "أكاديميَّة لينسيان"، وجائزة "تاورمينا"، بينما منحته جامعة روما "لا سابيينتزا" الدكتوراه الفخريَّة سنة 1953. بعد أن نالَ سابا شهرةً واسعةً تحوَّلَ إلى الكاثوليكيَّة، وتعمَّدَ، ولكنَّ زواجه لم يتم تحويله إلى الكنيسة بذريعة غياب الاستعداد الكافي. في عام 1955، مُتعَباً ومريضاً، وفوق ذلك مُضطرِباً لعدم استقرار حالة زوجته الصِّحِّيَّة، دخل إلى إحدى المصحَّات في مدينة "غوريتسيا"، ولم يغادرها إلَّا لحضور جنازة زوجته الحبيبة، التي توفِّيت في الخامس والعشرين من تشرين الثَّاني/ نوفمبر 1956. بعد تسعة أشهرٍ من ذلك، في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس 1957 توفِّي سابا.
* * *
لتسليط الضَّوء على السِّمات الرئيسة لقصيدة سابا، يمكن الرُّجوع إلى النَّصِّ النَّثريِّ الذي كتبه في إصطاجانكو سنة 1912، بعنوان "ما يتعيَّن على الشُّعراء فِعلُه". في هذه الصَّفحات ذكر سابا بإيجازٍ ما ينبغي أن تكون عليه القصيدة، وهو أن تكون قصيدةً قادرةً على التَّعبير بصدقٍ ومن غير مُغالاةٍ عن الحالة الوجوديَّة للإنسان، لتكونَ تمثيلاً للواقعِ اليوميِّ، لا لواقعٍ خارجٍ عن المألوف. وقد ترتَّب على موقفه ذاك بعض النَّتائج الهامَّة على مستوى مضمون القصيدة، مثلما على مستوى شكلِها. على الشَّاعر، في رأي سابا، أن يكون وفيَّاً لروحِه الخاصَّة، ومن هنا تتجلَّى قصيدته، قصيدة سابا، باعتبارها سبراً داخليَّاً مستمرَّاً، وبحثاً متواصلاً في الوعي. من وجهة النَّظر هذه، من المهم أيضاً عدم إغفال العلاقة بين سابا والتَّحليل النَّفسي، تلك العلاقة التي جعلت من قصيدته أداةً لتوضيحِ الذَّات، ولفهمِ الجروح النَّفسيَّة الدَّاخليَّة والصِّراعات التي تمزِّق شخصيَّة الإنسان، وللكشفِ عن أصولِ العصابِ فيه. هكذا، تعرضُ لنا قصيدةُ سابا واقعَ البشرِ جميعاً وأحوالَ أيَّامهم كلِّها، فهي تتحدَّث عن إصطاجانكو، بمقاهيها وشوارعها وأشجارها وبحرها، وتصفُ شخصيَّاتٍ متواضعةً وحيواناتٍ مُستأنَسة. غير أنَّ تلك البساطة والارتباط بالواقع اليوميِّ ينبغي ألَّا يدفعان إلى التَّفكير بأنَّها قصيدةٌ موضوعيَّةٌ مُجرَّدةٌ عن الغرض، فسابا في النِّهاية يصبُّ فيها همومَه الدَّاخليَّة، ويمكن القول إنَّ لغة سابا الشِّعريَّة لغةٌ بسيطةٌ ومألوفة، تميل إلى البُنى التَّقليديَّة مقارنةً بالقصيدة الحرَّة التي جاءت بها الحركة "المستقبليَّة".
النُّصوص:
[من مجموعة "ديوانُ شِعرٍ غنائيٌّ (1900-1954)" الصَّادر سنة 1961]
I. من المجلَّد الأوَّل
[من "قصائد المراهقة والشَّباب (1900-1907)"]
أغنيةٌ قصيرة
وحيداً كنتُ على حافَّةِ البحر،
في مسقطِ رأسيَ البحريِّ الأزرق،
أفكِّرُ فيكِ يا حُبِّي،
يا حُبِّيَ الذي هجَرَني لِيَصطاف.
كانت ساعةَ غُروبٍ، وفي البحر
توشكُ أن تغطسَ نجمةُ الذَّهب:
موجةً إثْرَ موجةٍ جدولٌ ذهبيٌّ
كان يُرَى وهو يبرُق.
من بين الجبالِ في السَّماء فِلْقَةُ
قمرٍ أبيضَ كانت تولَدُ؛
معَ القمرِ كانت تُرَى على المياه
فضَّتُه التي ترتجف.
*
تأمُّلٌ
يتلاشى الفيروزيُّ في زُرقةٍ ملأى
بالنُّجوم. أجلسُ عندَ النَّافذة، وأنظر.
أنظرُ وأُصغي؛ ففي هذا تكمنُ
كلُّ قوَّتي: في أن أنظرَ وأُصغي.
القمرُ لم يولَدْ بَعْدُ، سيولَدُ
عمَّا قليل. هي ذي نوافذُ لا حصرَ لها
لبيوتٍ كبيرةٍ مُتعانِقةٍ أهْلُوها وادِعون
قد فُتِحَتِ اليومَ. وفي داخلي حقيقةٌ
تولَدُ، عذبةُ التَّرديد، تبثُّ الفرحَ
في نفوسِ المُصْغِين، فرَحاً بكلِّ شيء.
قليلاً في الحقيقةِ، أيُّها الإنسان، ما تقدِّرُ الأشياءَ
حقَّ قدْرِها. مصباحُكَ، سريرُكَ، بيتُكَ
تبدو قليلةً في نظرِك، تبدو أشياء
لا قيمة لها، أنتَ الذي ما إن وُلِدْتَ حتَّى
كانت النَّارُ، وكان المهدُ وغطاؤه
لكي تنام، وكانت كذلك الأغنية.
لكن كم مِن ألَمٍ مُبرِّحٍ كان قبل ذلك، وكم مِنَ الزَّمنِ
مرَّ منذ أوَّلِ أسلافِك، قبلَ أن ينهضَ
وسطَ وحيشِ البراري كوخٌ وزريبة؛
قبلَ أن يصيرَ الصَّوتُ تهويدةً
لأجلِ الطِّفل، وكلمةً لأجلِ الحبيب.
كم مِن ألفيَّاتٍ مِنَ الآلام، أيُّها الإنسان، لَزِمَتْ ليتكوَّنَ
شيءٌ واحدٌ من الأشياء الصَّغيرة التي تمتلكُها،
وتستخدمُها، ولا تراها؛ وقلبُكَ لا يرتعشُ لها،
لا ترتعشُ يداك؛
سُدىً يبدو لكَ
التَّبصُّرُ في ذلك، فالأشياءُ عندَك
قليلةُ الشَّأن، تماماً كالأوساخِ التي ترميها؛
لكن إذا كان الجوهرُ نفسُه بلا قيمةٍ في نظرِك
فلا غرْوَ ألَّا يساوي القليلُ شيئاً عندَك.
ها قد وُلِدَ القمرُ فإذا بالنُّجوم التي في السَّماء
تأفلُ. ضياءٌ أصفرُ
انطفأ هناك، مُرسِلاً دُخانَه. اللحنُ
بدأ. ديكٌ
صَدَحَ؛ أجابتْهُ ديوكٌ أخرى هنا وهناك.
*
[من "قصائد عسكريَّة (1908)"]
في السِّجن
رفيقانِ لي يُكابدان معي الألمَ
نفسَه، كأنَّنا ضوارٍ عَلِقتْ في شَرَك.
الحشرات التي تجعل من عروقي وليمةً لها،
والهواجس السَّوداء، أطردُها معاً.
"لو أنَّك تعلم أيَّ حياةٍ أعيش!
لا يعيشُها كلبٌ مطوَّقٌ بالسَّلاسل.
أشربُ الماءَ وأنامُ على لوحِ التَّعذيب
في زنازين العقاب الثلاث عشرة".
تلك حالُ الأوَّل؛ وهوَ ذا في النَّوم يغوص.
أغنيةٌ كانت قد أخذتْهُ
أسيراً، قبلَ أن يُصبحَ جنديَّاً.
الآخرُ هو أيضاً على الضِّفَّةِ المقابلةِ
نائمٌ، ولا يبدو أنَّ أحلامَه من العذوبةِ في شيء.
أتخيَّلُ المسيحَ بين قاطعَي الطَّريق.
*
مسيرٌ ليليٌّ
معَ مِشكاواتِ زمنِ الحرب يغذُّون
السَّيرَ؛ على القمرِ حجابٌ رقيقٌ؛ وفي السَّماء
تتوهَّجُ ساطعةً كلُّ النُّجومِ.
أوه، أطفئوا تلك الأنوار، أيُّها الرِّجالُ، في الأرض!
قريباً منَّا، في البحرِ، فضَّةُ الصَّقيعِ
ترتعشُ، وتَتْبَعُنا. سُكارى من النُّعاس، مُنهَكين
من التَّشكِّي والغناء، جنودُ المشاةِ
يعودون تحتَ سماءٍ برَّاقة،
على طولِ الخليجِ الذي يذكِّرُني بخليجٍ
وُلِدْتُ فيهِ، خليجٍ كلَّما هبطَ الليلُ حملَ إليَّ
بسمتَكِ الحزينة، وأنفاسَ وجهِك.
هكذا أهتدي مِن حولي إلى الجمالِ
المتروكِ كلَّما أتيتُ هذا المكانَ لأتمشَّى، ولأعثرَ
على ما ضاعَ مِن نعاساتِ الطُّفولة.
*
[من "منزلٌ وحقل (1909-1910)"]
الشُّجَيرة
الطَّقسُ ماطرٌ اليومَ.
النَّهارُ يبدو مساءً،
الرَّبيعُ يبدو
خريفاً، وريحٌ قويَّةٌ تجتاحُ
الشُّجيرةَ التي تبقى - ولا يبدو ذلك عليها - متماسكةً؛
تبدو بين النَّبْتِ صبيَّةً فارعةً جدَّاً
قياساً بعمرِها الأخضرِ الغضِّ.
تنظرين إليها، فتُشفِقين
على كلِّ تلك الأزهار النَّاصعة التي تقتلِعُها
رياحُ البورا(1)؛ فاكهةٌ هيَ،
مُرَبَّياتٌ حلوةٌ هيَ
تلك الأزهار التي بين الحشائشِ تسقطُ
قرباناً للشِّتاء. فتتوجَّعُ لها أمومتُكِ
الشَّاسعة.
*
العَنْزَة
تحدَّثتُ معَ عَنْزَة.
وحيدةً كانت في المرجِ، ومقيَّدة.
مُتخمةً بالعشبِ، مُبتلَّةً
من المطر، تثغو.
ثغاؤها الرَّتيبُ كان متآخياً
مع ألمي. وكنتُ أجيبُها، من باب
الهزْلِ أوَّلاً، ومِن ثَمَّ لأنَّ الألمَ أبديٌّ،
له صوتٌ، ولا يتبدَّل.
هذا الصَّوتُ هو نفسُهُ الذي
يئنُّ في قلب عَنْزَةٍ مُستوحدة.
في قلبِ عَنْزَةٍ ساميَّةُ الوجهِ(2)
تئنُّ متشكِّيةً كلُّ الآلام الأخرى،
كلُّ الكائناتِ الأُخَر.
*
[من "إصطاجانكو وامرأة(3) (1910-1912)"]
الشَّاعر
للشَّاعر أيضاً أيَّامُه
المعدودة،
كحالِ جميعِ البشر؛ ولكنْ كم هي،
كم هيَ مُختلفة!
ساعاتُ النَّهار والفصولُ الأربعة،
أكانتْ أقلَّ إشماساً أم أكثرَ عَصْفاً،
هي التَّسليةُ والصُّحبةُ
المغايرةُ أبداً لِهُياماتِه التي لا
تتبدَّل أبداً؛ وتلك الأشياءُ الصَّغيرة التي يفعلُها
حين يصحو إنَّما هي أحداثُ نهارهِ
الكبرى؛ غبطتُهُ تصحو حالما يصحو.
فوق كلِّ منظرٍ يُبهجُهُ هذا المنظرُ، منظرُ
الضِّياءاتِ المعاكسة، تُبهجُهُ الصَّباحاتُ العذبة
الملأى بالحياة
مثلَ حكايةٍ خرافيَّةٍ طويلة،
حيث الزُّرقة والعاصفة لا يدومان إلَّا قليلاً،
وتتعاقبُ الرُّسُلُ رُسُلُ السَّرَّاءِ
والضَّرَّاء.
مع حُمرةِ المساءِ يعود،
ومع تقلُّبِ الغيمِ تتقلَّبُ ألوانُ
غبطتِه،
إذا لم يتقلَّب قلبُه.
للشَّاعر أيضاً أيَّامُه
المعدودة،
كحالِ جميعِ البشر؛ ولكنْ كم هي،
كم هيَ مغبوطة!
*
الظَّهيرة
في تمظهُراتِ هذه الظَّهيرة
الفائقةِ الجمال، أوجعتْني أطوارُ الخريفِ
الأولى؛ الصَّوتُ المنذِرُ
للفصلِ الذي يوقِظُ النَّدَمَ في النُّفوس،
فتنطلقُ الآهاتُ بلا حدٍّ ولا نهاية.
السَّماءُ زرقاءُ كأوَّلِ سماءٍ
قبَّبَها اللهُ فوق الأرضِ الطَّازجة،
والبحرُ، المطوَّبُ للتَّوِّ، مرآةٌ
مجلوَّة لزرقةِ تلك السَّماء بأسْرِها.
وُرَيقاتٌ قليلةٌ على الأشجار لهنَّ خضرةُ
ألوانٍ مائيَّةٍ رشقَها الأطفال،
ولِأخرى حُمرةُ وَجْدٍ أو هُيام.
بيتٌ وحَقلة، هما الكونُ برمَّتِه، كونٌ
خُلِقَ لِتَوِّه؛ آسِرٌ حدَّ الكآبة،
مُفرِطُ البهاءِ حيالَ العَين، وزائل.
مَن يرتَحْ في بطالتِهِ، ويُصغِ،
يسمعِ الوعيدَ الثَّقيل، يسمعِ الصَّوتَ
الصَّادرَ من الأشياءِ وعُمْقِها؛
من الآمالِ الأولى التي خيَّبَها،
ومن المبدأ الذي تطمسُهُ الخاتمة.
*
[من "القُنوطُ الهادئ (1913-1915)"]
مشهدٌ هِضابيٌّ
ما عساني أرى خلف الهضبةِ المنعزلة
إذ يدنو منِّي الرَّبيعُ هكذا؟
تتحدَّرُ قليلاً هنا، ثمَّ بالكادِ تعاودُ الصُّعودَ،
وبلا مبالاةٍ تلجُ البحرَ هناك.
ثمَّةَ تلالٌ ترتاحُ على أكتافِها المستديرةِ
وخواصرِها الرَّحيبة غماماتٌ بيضاءُ آسِرة؛
ولكنَّ هذا التَّلَّ محضُ امتدادٍ خطِّيٍّ:
كأنَّه ظهرُ غلامٍ فارعِ القامة.
بيوتٌ متناثرةٌ، وبضعةُ حشودٍ مُبهَمة؛
وعندَ حاجب المرتَفَع تزرقُّ
ركائزُ الكُرُوم؛ نافذةٌ صغيرةٌ
تبرُقُ، وتؤجُّ بكلِّ كيانِها الشَّمسُ. في الخلف،
كما البحرُ عندَ شطٍّ مُنعزِل،
تُرَى عينُ اللهِ، المُطلَقُ.
*
القطيعُ
أيُّها القطيعُ، أنتَ الذي تعبرُ
الضَّاحيةَ المغبرَّةَ في المساء؛ وتتركُ لي أنا الممتنُّ
رائحةَ الرَّوثِ من ورائك؛ وأمامَكَ دربٌ طويلٌ
لتقطعَهُ بين هِياجِ العرباتِ وجلجلةِ
قضبانِ التِّرام، حيث الحياةُ تمضي على عَجَلٍ،
ما أجمل استبطاءَكَ واستغراقكَ في ذاتِك!
أيُّها القطيعُ الذي أحببتهُ منذ طفولتي الضَّائعة،
لأجلكَ أكثرَ حدَّةً تصيرُ أوجاعُ قلبي؛
ويخطرُ لي، لا أدري لماذا، أن أجثوَ راكعاً؛
لا أدري لماذا، ولكن لعلِّي لمحتُ، في مجموعِ صوفِكَ
المتكتِّلِ معاً، أنا وحدي، شيئاً مقدَّساً،
شيئاً تليداً، ويستحقُّ التَّبجيل.
أنتَ الذي يسوقكَ شيخٌ مَشَّاءٌ مترنِّح؛
لكَ الله، يا شعبَ الصَّحراء.
*
[من "أشياء خفيفة وشريدة (1920)"]
حكايةٌ صغيرة
أنتِ الغيمةُ، أنا الرِّيحُ؛
حيثُ أشاءُ أحملُكِ؛
أنقِّلُكِ هنا وهناك على صفحةِ السَّماء،
ولا أمنحُكِ أيَّةَ هُدنة.
إلى خلف الجبال تمضي لتنامَ في المساء
الغيومُ الواهنة.
وأنتِ في سريركِ كلُّ النُّعاساتِ لكِ مُعَدَّة
تحتَ الدُّثُرِ البيضاء.
*
الوداع
دونَ وداعاتٍ تركتِني ودونَ دُموع؛
أينبغي أن أحزنَ لذلك؟
لأنَّه كان لديكِ الكثير من القُبَل لأجلي،
لم يكن لديكِ وقتٌ للبكاء.
بلى، بعضُ عهودِ الحُبِّ تدومُ
دوامَ الحياةِ وأكثر.
أعرفُ حُبَّاً دامَ شهراً،
وحبَّاً حقيقيَّاً كان.
*
[من "شوكة العِشق (1920)"]
7
أيُّ نشوةٍ تملَّكَتْني بين اليقظةِ والمنام
هذا الصَّباح!
كنتُ رجلاً ما أزال، وكنتُ المدى البحريَّ
الحُرَّ واللامتناهي.
البحرَ إيَّاهُ بهَدْآتِهِ المذهَّبة وآفاقهِ
القصيَّةِ كُنتُه.
في الأعماق التي لا تستطيعُ عينٌ بلوغَها
ولا حتَّى مِسبَرٌ،
ليس ثمَّة إلَّا حصاةٌ لأجلي، شيءٌ
لا قيمة له.
لأجلها وحدها يرتعشُ ويضحكُ
الشَّاسعُ الأزرق.
*
12
عذوبةٌ تفوق حدودَ البشر
أعلمُ أنَّها ستُغمِضُ عينيكِ الجميلتين
مثلَ الموت.
لو أنَّ كلَّ عُصاراتِ الرَّبيع
دخلتْ في أليافِ جذعيَ الهرِم،
لتجعله يُزهرُ مرَّةً أخرى،
لَمَا عوفِيتُ مثلما أُعافَى حين أنظرُ
إليكِ فقط، حين أمتلكُكِ بقربي،
وأتتبَّعُ كلَّ لفتةٍ منكِ، كلَّ حالٍ مِن
أحوالِ كينونتِك، وأصغرَ فِعلٍ مِن فِعالِك.
فإذا لم تكوني بقربي، إذا ما مررت ببالي
وأنا في عزلتي العالية، أشدَّ استعاراً
تتلوَّى في عروقي
فكرةُ الجسد، الحدسُ النَّذيرُ بتلك
العذوبةِ المُكرِبة،
التي أعلم أنَّها ستُغمضُ عينيكِ الجميلتين
مثلَ الموت.
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]
الحواشي كما وضعها المترجم:
1- البورا: رياحٌ شماليَّةٌ شرقيَّةٌ شديدةُ البرودة تهبُّ على منطقة البحر الأدرياتيكي.
2- نسبةً إلى سام أحد أولاد نوح؛ جنسٌ ساميٌّ.
3- إصطاجانكو: بالإيطاليَّة "تْرِييْسْتِه"، مدينةٌ وميناءٌ في شمال شرق إيطاليا، وهي عاصمة لإقليم فريولي فينيتسيا جوليا الذَّاتي الحُكم، وردَ ذِكرُها في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" باسم إصطاجانكو.