قبل عشر سنوات وفي واحد من الصباحات الخريفية الكئيبة أبلغني أحدهم بأنّي قد حصلت على موطن جديد. قال بأنّ مدينة صغيرة تُدعى آلتا، ترتفع بمقدار 65 متراً عن سطح البحر وتقع في عنق النرويج على الخارطة ستكون موطني ومحط رحالي. كنت يومذاك ضيفاً على محطة استقبال اللاجئين في العاصمة النرويجية أوسلو مع عشرات العراقيين الفارّين من الموت هناك. وكنا نتقاسم العيش في غرف ضيقة، تحوي كل واحدة منها ستة أشخاص يتناثرون على أسرّة خشبية مزدوجة. في الطابق العلوي للسرير المخصص لي كان ينام كاكا ميروان، الشاب الكوردي الوسيم الذي كاد يفقد حياته بسبب قُبلة رسمها على فم فتاته خلف سياج البيت. ورغم أنها قُبلة خائفة، يقول ميروان، إلا أنها جعلت منه شخصاً مشرداً ومهدداً بالقتل من قبل رجال القبيلة!
أنا وميروان وثمانية آخرون بُلّغنا في ذلك الصباح من قبل موظف المحطة بأنّ المدينة التي ستأوينا فيما يلي تُدعى آلتا وأنّ علينا تجهيز أمتعتنا من أجل السفر إلى هناك. متاع اللاجئ زهيد بالضرورة؛ لحاف ووسادة مع أدوات مطبخ يستلمها في يومه الأول في محطة اللاجئين. جهّزنا الأمتعة على عجالة وودعنا رفاقنا الذين لم يزالوا بانتظار توزيعهم على المدن، ثم اصطففنا في طابور أمام الباص الحكومي مثل أسرى حرب. أوصلنا الباص برفقة أحد موظفي المحطة إلى مطار غاردمون شمال العاصمة أوسلو. سألت الموظف بلغة رديئة حينذاك عن موقع آلتا: "ڤور آر آلتا؟" فردّ مبتسماً: "هيَلت نور." وأشار بيده نحو الأعلى لأفهم بأنها في أقصى أقصى الشمال. وصلنا المطار مبكرين وكان لزاماً علينا، بحسب موظف المحطة، أن نجلس أمام البوابة رقم D45 كي لا تفوتنا الطائرة كما يجري مع الكثير من اللاجئين الفوضويين. كانت اللوحة الضوئية الصغيرة في أعلى البوابة تشير إلى أن درجة الحرارة في آلتا هي الصفر المئوي، وكان صاحبي يسألني بين الفينة والأخرى عن المدينة: "تتوقع آلتا تطلع حلوة؟" كنت أجيبه بأنها جنة، أو لا بد أن تكون كذلك، فالمسؤولون يعرفون بأننا فارّون من الجحيم، ومن يفر من الجحيم لا بد أن يصل الجنة يوماً.
استغرقت الرحلة نحو "الجنة" ساعتين وخمسين دقيقة، رأيت خلالها الشمس والقمر متقابلين في السماء ذات الوقت. كانت الطائرة قد بدأت بالهبوط وطلب الكابتن ربط الأحزمة، بينما كنت منشغلاً بالنظر الى آلتا من خلال النافذة. لقد بدت جنة بكل ما للجنة من متخيَّل، بالنسبة لي على الأقل، فأنا ومنذ أن دلقتني أمي إلى الدنيا لم أرَ جبالاً رمادية يكسو قممها الثلج إلا في أفلام الكارتون؛ مغامرات نيلز تحديداً. كانت جبال آلتا الشاهقة تحيط ببحيرات زرقاء صافية مثل عيون الفتيات النرويجيات، بينما خيوط الشمس تغازل الماء بخجل. في الأعلى يسير منطاد ملون، لا شك أنّ في بطنه حبيبَين يتبادلان قُبلةً آمنة. كنت أتابع بشغف ذلك المنطاد الجميل وأحلم في صعوده ذات يوم، حتى أنّي أخذت أرسم في ذهني سيناريو العروج، لولا أنّ ميروان لكزني في خاصرتي معلّقاً على ما يرى: "خرا بْعَرْزَك كاكا أزهر، هاي صُدگ جنة!" فرددت ممازحاً: "جنّتيَش؟! كردستان أحلى." فميروان يعشق كردستان حد الثمالة.
هبطت الطائرة في مطار آلتا الصغير وكان بانتظارنا السيد أُولاف، الموظف المسؤول عن شؤون اللاجئين الجدد في المدينة. كان برفقته شخص ذو سحنة شرقية قدّم نفسه على أنه مترجم للغات العربية والكردية والفارسية. رافقناهما إلى المكتب لتلقي اللوائح والقوانين هناك، ثم قاما بتفريقنا على محال سكنانا. كانت الصدمة حين أخبرنا السيد أولاف بأنه ينبغي علينا توديع الشمس بعد أسبوعين تقريباً، إذ أن السنة تقسم في مدينة آلتا إلى قسمين لا ثالث لهما، ستة أشهر نهار وستة ليل، لكنّ الغريب في الأمر أنّ السيّد أُولاف كان يخبرنا بذلك وهو يبتسم، وحين سأله أحد الرفقاء عن السر وراء ذلك، أجاب بأننا سنعتاد على الطبيعة مع الوقت وسيُمسي الأمر مسلياً.
في بيت خشبي كبير يغفو على ضفاف بحيرة صغيرة أمسيت أتقاسم الحياة مع عشرة لاجئين غرباء. منهم من كان قادماً من الكونغو، ومنهم من إيران، ومنهم من جمهورية الأنغوشيتا، ومنهم من الكوسوفو. لم يكن فيهم عراقي سواي، أنا وميروان الذي لا يمل من الحديث عن معشوقتَيه؛ كردستان وخانزاد، صاحبة القُبلة التي أهدرت دمه. كنا نتشارك غرفة صغيرة في الطابق العلوي من البيت والأحاديث لا تنقطع حتى الصباح. كنا نطلّ، بين الأحاديث، من خلال النافذة على الثلج وهو يندف بسخاء فوق المدينة ويلبسها ثوباً ناصع البياض. أما درجة الحرارة فكان المقياس المعلق على النافذة يشير إلى الثامنة والثلاثين تحت الصفر. الظلام والثلج يغلفان المدينة بلا رحمة ولستة أشهر كاملات. كنا، ولغلاء أجور النقل وبُعد خط الباص عن محل السكن، نذهب إلى مدرسة تعلم اللغة سيراً على الأقدام. انزلقت في اليوم الأول لي في المدرسة وكُسرت يدي. ما زلت أتذكر الأمر جيداً وكأنّ شريطاً سينمائياً يمر أمام عيني؛ كان الطريق زلقاً وكان علينا الصعود نحو الجادة الرئيسة، حذّرني كاكا ميروان من رفع القدم كثيراً أثناء المسير على الثلج لكني لم أستجب فانزلقت وكُسرت يدي.
المدينة باردة وظلماء والعيش فيها، بالنسبة لمثلي، أمر شبه مستحيل. غير أنّي، وبعد خمسين يوماً، بدأت أشعر بحميمية غريبة تجاهها. بصراحة، لا أدري وما زلت لا أدري ما السبب! ربما يتعلق الأمر بالأمان الذي شعرت فيه هناك، أو أن روح المغامرة قد تلبّستني كالعادة، فأنا القادم من مدينة تسوط أشعة الشمس فيها ظهورنا مثل جلّاد ساديّ، بات لزاماً عليّ العيش في مدينة تشبه الفريزر! يزيد الطين بِلّة أنّ عدد سكانها لا يزيد على العشرين ألف نسمة وليس فيها من مكان للترفيه سوى حلبات التزلج وسباق الكلاب وهي تجرّ العربات فوق الثلج! يا لها من مغامرة!
تعلّمت التزلّج، إي والله، وصرت كل يوم بعد الانتهاء من درس اللغة أسير مسافة ٣كم تقريباً للوصول إلى حلبة كبيرة منجمدة، أرتدي العدّة وأبدأ بنقل أقدامي على الجليد بحذر. كنت أشعر بالسعادة مثل طفل شرع تواً في تعلم المشي. ابتسمت لي الأقدار إذ ذاك على غير عادتها وساقت لي شابّة آلتويّة "نسبةً إلى آلتا" تجيد الرقص بخفة على الجليد. أخذت بيدي وأعانتني على تلك المهمة الشاقة فصرت عاشقاً لحلبة التزلج، مرتاداً لها كل يوم. ليس حلبة التزلج فحسب بل المدينة بكل ما يكتنفها من ظلام وبرد، صارت معشوقتي. أنهيت كورس اللغة بعد أن أمسيت قادراً على التفاهم ورافقت تونيا، راقصة الجليد تلك، فأرشدتني إلى دروب المدينة وخباياها. لقد أرتني مشهد السماء الملونة فيما يُسمى بظاهرة الشفق القطبي. كنت أراقب بدهشة ذلك الضياء الأخضر الذي يبرق في الأفق ثم يليه الأزرق والبنفسجي وهكذا. لوحة الألوان تلك جعلتني أعشق آلتا. رحلات التخييم في الجبال وسط الثلج كانت هي الأخرى درساً مفيداً علّمني كيف أكتشف جمال الطبيعة الخفي. رأيت شمس منتصف الليل من أبعد نقطة في النرويج، كان جرفاً صخرياً تنتهي عنده اليابسة يُدعى رأس الشمال، جعله النرويجيون، على بساطته، معلماً سياحياً وبنوا فوقه مقهى ومطعماً ومكتباً للبريد. ذهبت هناك برفقة تونيا وميروان، شربنا القهوة وزرنا شاخصاً أنيقاً تعتليه كرة حديدية كبيرة تشبه تلك الكرة الأرضية التي نتعلم منها أسماء المدن في درس الجغرافية. حضرت سباق الكلاب بعد ذلك وهي تجر عربات التزلج وصفّقت لكلبِ انجمد شارباه من شدة البرد. لقد اقتربت من الطبيعة بقساوتها مثل دب قطبي لا يكترث لفترات السبات.
وبعدما انقضت أشهر الظلام الستة جاء الصيف بضيائه المبهر، فخلعت آلتا ثوبها الأبيض حينذاك وارتدت ثوباً ملوناً يطغي عليه الأخضر والأصفر. لقد أنعمت عليها الطبيعة بوردة صفراء تشبه النرجس غير أنها بلا رائحة. ليس الأمر غريباً فالورد في أوربا عديم الرائحة عادةً. كانت ساعات النهار الأربعة والعشرون تنعش الروح، والشمس لا تفارق السماء. ذات ليلة خرجنا، نحن سكنة بيت اللاجئين، نلعب الكرة خلف المنزل بعد منتصف الليل بساعتين، فليس في المدينة ليل. لقد أغرانا الضياء بلعب الكرة، لكنّ سيارة الشرطة جاءت بعد نصف ساعة ومنعتنا من اللعب بداعي منع إزعاج الجيران، علماً بأنّ ليس لنا غير جارِ عجوز يقطن وحيداً في منزله. يبدو أننا قد نغّصنا عليه منامه فاشتكانا إلى الشرطة.. نستاهل.
أدمنت لعب الكرة هناك وكأنّي لم ألعبها من قبل، امتلكت سنّارة ومارست صيد السلمون بسعادة بالغة. اشتريت دراجة هوائية مستعملة ورافقت تونيا في رحلات إلى الغابة، كان يحضرنا الشيطان فيها مشكوراً. حفظت المدينة شبراً شبراً بغاباتها ودروبها وأحيائها المتناثرة. وفي النهاية ثبت لديّ صدق ما قاله السيد أُولاف بأننا سنعتاد على الطبيعة مع الوقت وسيمسي الأمر مسليّاً. نعم، مسلياً كان العيش في آلتا، يتحول المرء فيه إلى كائن فصليّ يجيد التحايل على الطبيعة والعيش معها بسلام. وبعد ثلاثة أعوام سعيدة هناك، هبطت نحو الجنوب للدراسة والعمل، غير أنّي ما زلت كائناً فصلياً، أرتدي الملابس الثقيلة شتاءً وألعب في الصيف كرةَ منتصف الليل.