حاوره: عمر الجفّال
تفضّل حميد العقابي بإرسال بعض رواياته إليّ بصيغة (pdf) أواسط عام 2010 بعد أن عجزت عن الحصول عليها بنسختها الورقيّة في دمشق، وكنت قبلها قد قرأت الكثير من شعره، وخضنا حوارات "بسيطة" عبر "الجات ماسنجر" بشأن كل كتاباته، وآرائه السياسية والاجتماعية وحتّى التاريخية التي ظلّت تستهويني إلى اليوم. وفي كانون الأول / ديسمبر عام 2010 قرّرت إجراء حوار مع العقابي، وهو ما لم يمانعه، وبدا متعاوناً جدّاً، إذ أرسلت إليه أسئلة وردّ على بعضها فنشرت جزءاً من هذا الحوار في صحيفة الصباح العراقيّة، إلا أن بعض الأسئلة (وكلّها موجهّة إليه بعلم أن إجاباتها ستنشر في الصحافة) الكثير من إجابتها هنا تنشر في "جدليّة" لأوّل مرّة.
وقد تعود بعض الأجوبة إلى أحداث قديمة، إلا أنها ما زالت تحتفظ بحرارتها، إذ أن العقابي لطالما كان -من وجهة نظري- علميّاً في آرائه. ووجهة نظره تجاه الأدب والرواية والشّعر لم تتغيّر كثيراً منذ إجراء هذا الحوار وحتّى وفاته في مغتربه الدنماركي في 4 نيسان / أبريل عام 2017.
وقد ولد حميد العقابي في مدينة الكوت جنوبي العراق عام 1956، وغادر بلاده بعد صعود الديكتاتورية في عام 1982 في رحلة شاقّة من إيران إلى سوريا ومن ثمّ إلى الدنمارك أواسط الثمانينات ليستقرّ هناك ويلتزم بعدها بالكتابة الشعريّة بعد أن كان نشر نصوصاً متفرّقة وقليلة في العراق قبل مغادرته إياه.
وقد أصدر العقابي في الشّعر عدة مجاميع شعريّة من أبرزها "أقول احترس أيها الليلك" 1986، و"بمَ التعلل؟" 1988، و"تضاريس الداخل" 1994، و"وحدي سافرت غداً" باللغة الدنماركية 1996. و"الفادن" 2005، و"صيد العنقاء" 2014، و"التيه" 2015، وأصدر مجموعة قصصية وحيدة "ثمّة أشياء أخرى" 2004، وبعدها أصدر سيرته الذاتية "أصغي إلى رمادي" 2002، وليصدر بعدها عدة روايات من أهمها "الضلع" 2008، و"أقتفي أثري" 2009، و"الفئران" 2013، و"القلادة" 2016.
- بعد ثمان مجاميع شعرية، تذهب إلى الرواية، هل "هذا زمن الرواية" كما يردّد بعض النقاد اليوم؟
لأبدأ من النصف الثاني من السؤال فأقول إن عبارة (هذا زمن الرواية ) ليس رأي النقاد، بل ربما فُرض عليهم، فأنا أرى إن الاحتكام إلى هذا الرأي دافعه "السوق" وليس الموقف النقدي، فقد ازدهر سوق الرواية في الفترة الأخيرة وتراجع سوق الشعر بشكل واضح، ولكن متى كانت "السوق" هي القيمة كي نحتكم إليها؟
أنا أرى العكس تماماً. لا أريد أن أكرر ما يردده الشعراء (وهم على حق) من حيث أن الشعر في تاريخه كله لم يكن فناً شعبوياً بل هو فن خاص جداً، يحتاج قارئه إلى ذائقة مُدربة وحساسية خاصة.
أنا أرى أن الرواية (كفن) في مرحلة احتضار، وبحاجة إلى اسعافات سريعة وإنعاش، ولا يتم هذا (في رأيي) إلا على يد الشعراء، فمأزق الرواية الآن هو وقوفها على حافة الانحدار نحو الجماهيرية وستفقد قيمتها الفنية حينما تستجيب إلى مطالب القارئ الكسول، الذي لا يقرأ إلا لكي يستدرج النوم إلى عينيه. وكما يفقد الشعر قيمته حينما يتحول إلى أغنية أو شعار سياسي ستفقد الرواية قيمتها حينما تتحول إلى مسلسل تلفزيوني (قبل عشرين سنة كنت أنظر إلى نزار قباني كشاعر مهم أما الآن وبعد أن استهلكه كاظم الساهر فأني حينما اقرأ شعره أشعر بالشفقة بسبب هذه السطحية والسذاجة).
أعود إلى موضوع الرواية وأقول إن طريقة السرد السائدة في الرواية منذ القرن الثامن عشر أصبحت مملة والزمن (السردي) زمن سلحفاتي رخو لا يتناسب مع الإيقاع السريع للحياة في عصرنا الحالي، أما ما تراه من اندفاع القراء على الرواية فهؤلاء أغلبهم من ضعاف الحصانة الفنية وسيهجرونها سريعاً لمشاهدة الافلام والمسلسلات، عندها ستخسر جمهورها بعد أن خسرت فنيتها. من هنا أقول إن الرواية بحاجة إلى تكثيف في الزمن السردي عبر التكثيف اللغوي واتساع مساحة التأويل والدلالة، وهذا ما يجيده الشاعر الحقيقي، وكذلك إلى البناء الهندسي المحكم الذي عبره ستتخلص الرواية من الإطناب والتشتت والخمول. أنا أرى أن بمقدور الشاعر المبدع كتابة رواية بمواصفات القصيدة من ناحية البناء. أتذكر هنا مقولة الشاعر الكبير محمود البريكان بأن أية كلمة في القصيدة تأتي في غير موضعها خيانة، وهذا لا ينطبق على القصيدة فقط بل على الرواية أيضا، ولو بحده الأدنى.
أما عن الشق الأول من السؤال فأقول إني كتبت النثر (قصة قصيرة جداً، قصة قصيرة، رواية) عبر الشعر. منذ طفولتي، ما جذبني إلى الشعر هو الإيقاع، لذا فقد كتبت الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة، وحينما اتسعت رؤيتي الشعرية شعرتُ بحاجة إلى الخروج من دائرة الإيقاع أو الغنائية إلى أفق أبعد فكتبت قصيدة النثر، غير أني وبعد مراجعتي لتجربتي في كتابة قصيدة النثر وجدتني أتحايل على نفسي، فقصيدة النثر عندي همها الأول البحث عن بدائل لغياب الإيقاع الذي استعضت عنه بخيط قصصي يشد بناء القصيدة (بالمناسبة أنا لا أميل إلى كتابة ما يسمى بالنص المفتوح، بل أنحاز وبتطرف إلى القصيدة ذات البناء الهندسي ووحدة المضون)، لذا فقد كان السؤال الملح هو: لم لا أكتب القصة، فبدأت بكتابة القصة القصيرة جدا وأعدتُ نشر نصوص كنت قد نشرتها كقصائد نثر في مجموعة (كمائن منتعظة) ضمن كتاب (خمسة شعراء عراقيين) فضمتها لاحقا مجموعتي القصصية (ثمة أشياء أخرى). تطور الأمر بشكل طبيعي إلى الكتابة السردية التي وجدت فيها متعة لا تقل عن متعة كتابة الشعر. نشرتُ كتابي (أصغي إلى رمادي ـ فصول في السيرة الذاتية) ثم أصدرت روايتين هما (الضلع) و(أقتفي أثري). وعندي روايتان ستصدران قريبا، إحداهما جنّستها كروايةٍ شعرية، لا مجال للحديث عن هذه الإشكالية في التجنيس قبل صدورها.
- بعد صدور روايتيك (أصغي إلى رمادي) و (الضلع) عدت إلى الشعر، لكنه هذه المرة أكثر وضوحاً ويقترب كثيراً من القصة، هل أثّر النثر على الشعر؟
لم أتوقف عن كتابة الشعر كي أعود إليه، ولكني تبرمجتُ دونما وعي مني، فصار الشعر يأتيني كصلصلة الجرس!!! (عفواً، لا يحضرني الآن تشبيه أدق من هذا)، يبدأ بالإيقاع ثم تكتب القصيدة نفسها في اللحظة التي مازلتُ أجهل كيف تأتي ومتى تأتي ولا أعرف كيف تستدرجني أو استدرجها.
نعم أثّر النثرُ على كتابتي للشعر كثيراً، حيث أني أدركتُ من خلال مزاولتي لكتابة السرد أهمية التفاصيل الصغيرة على الأرض متخلياً عن إدعاء التحليق المنفلت خارج مدار حواسيَّ الخمس، مُفرغاً قصيدتي من هوس اللعب اللغوي الفارغ والصور الذهنية المشاعة في الكتب، بل أكتب ما تلتقطه حواسي الخمس (أؤكد على العدد لأني لا أطمح لامتلاك مزيدٍ من الحواس) وما أعيشه، فما عاد شعر مثل (حاضناً سنبلة الوقت) ولا (رأسي برج نار) يستوقفني. كذلك استفدتُ من النثر في بناء قصيدتي فازدادتْ عندي صرامة بناء القصيدة من حيث التزامها بوحدة المضمون، وأظن هذا ما جعلك تظن بأني أقترب من القصة في بناء القصيدة.
- المرأة لها سطوتها في رواياتك، فسيرتك تظهر والدتك قوية، إضافة إلى شخصية (شمعة) الجدة التي لا تخاف من رجل وجاهزة لتوبيخه، هل هذه إدانة للرجل العربي الذي يظهر دائماً كمسيطر، لاسيما وأنك تعكس الأمر وتظهر المرأة أكثر سيطرة؟
هناك حقيقة لا يجرؤ الرجل (الشرقي والغربي) على الاعتراف بها، وهي أن المرأة أشد سطوة من الرجل، على الرغم من قوة عضلاته مسنوداً بكتائب من التاريخ والأساطير والأديان. صحيح أن المرأة تنتظر الرجل أن يبدأ بالاعتراف بحبه ولكن انظر إلى المرأة كيف تنظر إليه بنظرات ثابتة بينا هو يرتجف أمامها وشفتاه ترتعشان وهو ينطق كلمة (أحبك)، أو خذ مثلا آخر، مومس تقف على الرصيف وتحرك سبابتها فستجد الرجال يتساقطون أمامها كالذباب متخلين عن جبروتهم، كبرياءهم، عضلاتهم...الخ.
للمرأة جبروت سري يظهر جلياً في الصبر والحلم وكذلك في الوصل والتمنع، من حيث أن طرف حبل الوصل بيدها، ترخيه وتشده حسب مشيئتها، ولأن الرجل لا يريد أن يعترف بهذه السطوة، راح يعطيها أسماء أخرى كعزاء لهزيمته مثل الكيد ونقص العقل.
منذ طفولتي تلمستُ هذه الحقيقة إذ وجدتها واضحة في الأم والأخت والجارة، ومازلت أراها في الزوجة والحبيبة والابنة. نعم، الرجل الشرقي مدان لأنه لا يريد أن يعترف بحق ندية الآخر، ولكي يستمر في المكابرة راح يكذب وينصب نفسه دكتاتوراً، مفاخراً بنتوئه الذي يعرف أنه سيأتي اليوم الذي يعلن فيه انخذاله كرايةٍ منكسرة.
- هناك الكثير من الأسماء الروائية التي ظهرت بعد احتلال العراق عام 2003، هل ارتبط ظهور الرواية بالحدث الكبير الذي حلّ على العراق؟
حينما سقط النظام العراقي كنتُ أظن أن كنوزاً روائية وقصصية كتبها أصحابها في السر ستظهر، ولكن مع الأسف خاب ظني، فقد مرت ثمانية أعوام ولم يظهر عمل أدبي بمستوى التوقع، ماذا كان يفعل الكتاب؟ أما من أحد بينهم كان يكتب دون أن يفكر بالنشر؟ ألم يحدس أحدهم بأن هذا النظام سيزول يوماً؟ أسئلة كثيرة تطرح في هذا المجال، لذلك أنا لا أعوّل على كتاب نخرهم الخوف وتغلغل حتى إلى عزلتهم، ولكني أعوّل كثيراً على الجيل الجديد، فما حدث في العراق خلال الأربعين سنة الماضية يشكل مادة ضخمة لكتابة رواية لا تتطلب من الكاتب خيالاً واسعاً، فبمجرد أن يكتب الواقع والأحداث التي جرت ويرصد التحولات الجارية في بنية المجتمع العراقي والتحولات النفسية التي ظهرت على الفرد العراقي سينتج أعمالاً فنية متكاملة ولا تحتاج سوى لمسات فنية طفيفة. إضافة إلى ذلك أن ما جرى من أحداث مأساوية وتحولات حادة يضع مسؤولية كبيرة على عاتق الجيل الذي عاش الأحداث (ولا يزال يعيش في خضمها) لتدوينها وأرشفتها، ولي ثقة كبيرة بأن العراق بلد لا يتوقف عن انجاب المبدعين. لا تنسَ أن كاتباً من البيرو (أعني ماريو فارغاس يوسا) جاء إلى العراق بعد سقوط نظام صدام وبقي بضعة أيام ليخرج منه بكتاب مهم، فكيف الحال مع من عاش الأحداث وطحنته رحاها أربعين عاما!
- لكن هناك مشغل سردي في البصرة لكتابة الرواية، إضافة إلى أسماء بارزة في بغداد والمنافي غالبها تكتب الرواية.
بدأت تظهر على الساحة العربية مؤخراً فكرة (المشغل السردي) أو (الورشة) أو غيرها من التسميات، وهي تقليد لما يجري في الغرب. لا أعوّل كثيراً على ذلك، لأني أرى الإبداع فعلاً فردياً له بصمات مبدعه، ولكن في العراق أرى الموضوع مختلفاً بعض الشيء، فكما أشرتُ في الجواب السابق أن ما حدث في العراق خلال الأربعين عاماً، يحتاج إلى عمل مؤسسات وتجمعات لأرشفة الوقائع، فكل عراقي له قصص وروايات عاشها أو كان شاهداً عليها، لذلك أرى أن فكرة (المشغل السردي) فكرة ضرورية وإنْ لم تساهم في خلق رواية أو عمل فني بدون وجود المبدع الفرد، ولكن على الأقل تضع أمام المبدع الذي سيأتي بعد خمسين سنة خزيناً عظيماً من المعلومات والأحداث والشخصيات سينتج من خلاله أعمالا فنية كبيرة، بالمناسبة لايزال في الغرب من يمتح من أرشيف الحرب العالمية الثانية ويكتب.
لم أطلع على كل ما كتب في العراق كي أعطي حكماً، ولكني قرأت أعمالا أدبية تستحق الثناء، لكنها لاتزال دون المستوى المرجو كمّاً ونوعا، ربما بسبب الوضع غير المستقر ووضع المبدع العراقي المزري من تهميش متعمد وإهمال، كذلك ضبابية المشهد السياسي تجعل المبدع سوداوي النظرة، قلقاً، ليس أمامه فضاء واسع يجعله يتأمل باسترخاء وترو، وهذا ضروري للمبدع.
هناك استعمال فج تقليداً لـ"الواقعية السحرية" في بعض الروايات، برأيك ألا تستطيع الرواية العراقية أن تنهض بنفسها من دون الاتكاء على هذه التقنيات الكتابية، وهل للواقعية السحرية سطوة لا يستطيع أحد الفكاك منها خاصة وأن لك مشاهد في (أصغي إلى رمادي) اقتربت من هذا النمط؟
حينما سئل غابريل غارسيا ماركيز بعد صدور روايته (مائة عام من العزلة) عن مشاهد الفانطازيا أو ما سمي بعد ذلك بالواقعية السحرية، راح يؤكد على أنها ليست فانطازيا بل هي تدخل ضمن نسيج التفكير الشعبي في مدينته، وهذا (في رأيي) ينطبق أيضا على الحال في العراق، فما جرى عندنا فيه الشيء الكثير من الفانطازيا. إن اختفاء شخص في حادث غامض مثلاً قد يشكل في النص الروائي شكلاً من الفنطازيا ولكن في الواقع يحدث هذا الأمر كثيراً. أتذكر حينما كنا نتحدث عما يجري في العراق أيام نظام صدام، كان الكثير من غير العراقيين يعتبرون ما نرويه من صنع مخيلتنا أو على الأقل مبالغة.
إضافة إلى ذلك أنا أرى أن الرواية لا يكتمل نجاحها في نقل الواقع، إذ لابد من لمسات فنية شخصية، كإحداث انزياح ضروري، وفنطزة الواقع إحدى هذه الانزياحات التي ترفع فنية العمل الإبداعي، ويبقى هذا الأمر متوقفاً على قدرة الكاتب على الخلق.
لا أرى أن الواقعية السحرية دخيلة على الأدب العربي أو أنها تقنية غربية، فلا تنس أن كتاب (ألف ليلة وليلة) ظهر قبل ظهور مصطلح (الواقعية السحرية) بأكثر من ألف عام.
في (أصغي إلى رمادي) وهو كتاب سيرة ذاتية، لم أدخل ما يمكن أن يطلق عليه (الواقعية السحرية) فأنا رسمت شخصيات حقيقية مضيفاً إليها ظلالاً اعتمدتُ في رسمها على مخيال الناس وإضافاتهم للأحداث حينما يتناقلونها في ما بينهم، أو طريقتهم في القص. أنا رأيت واستمعتُ إلى إناس كثيرين لا يؤمنون بموت الزعيم عبد الكريم قاسم على الرغم من أن بينهم من رأى في التلفزيون صورة الزعيم ميتاً على الكرسي، إلا أنهم ظلوا يحلمون بعودته، بل استمعتُ إلى بعضهم يقسم بأغلظ الأيمان بأنه رآه وتحدث معه وزاره في بيته، واستمر هذا الإنكار لموت الزعيم حتى بعد مرور أكثر من عشرين عاما على مقتله.
قد نعتبر هذا ضمن الواقعية السحرية ولكن في الحقيقة هذا جزء من مخيلة الناس والتفكير الشعبي الذي تحدث عنه ماركيز.
حققت في سنوات قليلة نتاجاً روائياً كبيراً بينما بقيت في الشعر كثيراً لتنتج مجموعاتك الشعرية، هل ترى الرواية صناعة؟
كل عمل فني لا يخلو من (صناعة) أو لنقل (مهارة) أو (حرفية) يحتاجها الكاتب ولا يمكن الاستغناء عنها، فالموهبة وحدها لا تخلق عملاً فنيا ما لم يكن الكاتب ذا مهارة يكتسبها بالمران والتجربة والثقافة والمتابعة، فالفنان الفطري ذو امكانيات محدودة مهما بلغت موهبته.
إذا كانت عملية الإبداع بصورة عامة تشبه عملية التقطير فأني أرى الشعر فن تقطير المقطّر، لأن الشعر نتاج تداخل الوعي واللاوعي في لحظة لا أعرف كيف أصفها، فأنا أكتب الشعر منذ أكثر من أربعين سنة ولكني حتى الآن لا أعرف أصف هذه اللحظة التي يهجم فيها الشعر، ومازلت لم أدرك طريقة لاستدراج هذه اللحظة أو كيفية إطالة زيارتها لي. الشعر (إبنة كلب) تدمر عاشقها بالوصل والتمنع، بالدلال والغنج، بل بالاذلال أيضا. اتذكر هنا قول الفرزدق بما معناه أن قلع ضرس أحيانا يكون أهون عليه من قول بيت شعر واحد.
أما الرواية فهي زوجة قد تعذبك في فترة التعلق بها وفي فترة الخطوبة ولكن ما أن يتم زواجكما حتى تكون عاشقة مطيعة، خاصة إذا كنتَ تعشقها وتعطيها حقها.
- في الرواية العراقية الجديدة هناك بعض المحاولات لدحرجة الدين من قمّته إلى الهاوية. كيف تفسِّر هذا الأمر، هل يرتبط بالإسلام السياسي، أم ان ارتباطه بالدين مباشرة؟
لا أعتقد (حسب علمي) أن روائياً عراقياً أو عربياً تناول موضوع الدين كنص سماوي أو كعقيدة، ربما باستثناء نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا)، لأسباب معروفة منها أن الطريق إلى هذا الأمر محفوف بمخاطر كبيرة، وكذلك هناك ما يتعلق بالعملية الفنية نفسها، فالفن الروائي (على الأغلب) هو تجسيد حركة الشخصيات ومتابعة لسير الحدث في النص، وقليل من الكتاب من توغل في ذهن شخصيته، بل أنا أرى من مساوئ النص هو عرض الأفكار. إذنْ، الفكر أو الدين يظهر في النص الروائي كطقوس أو كإنعكاس لسلوك الشخصية وليس إطروحات فلسفية، وهذا ما نجده واضحاً في شخصيات روايات جان بول سارتر أو البير كامو وغيرهما (كمثال)، أما في الرواية العربية فحتى هذا الأمر لم يصل إليه الكاتب العربي بعد، فأغلب الشخصيات في الرواية العربية شخصيات يجرفها الواقع فيطغى الفعل اليومي على سلوكها.
بسبب ظهور التيارات الدينية السياسية في الواقع العربي، أصبح حضور الشخصية المتدينة في النص الروائي أمراً طبيعياً، وتجلى هذا الظهور ضمن دائرة الصراع السياسي في البلدان الإسلامية، ولأن الشخصية المتدينة تغري الكاتب في تناولها، فهي شخصية مركبة وسلوكها يقع تحت مراقبة شديدة من الكاتب لما تحمله من دلالات فكرية وأخلاقية إضافة إلى انتمائها الوطني والإنساني، لذلك أرى أن الشخصية المتدينة ستظهر بوضوح شديد في ما سيُكتب مستقبلاً، وربما ستظهر في السنوات القادمة روايات تتناول الشخصية المتدينة بجرأةٍ يحددها نجاح أو فشل الأحزاب الدينية التي بدأت الآن الاستحواذ على المشهد، وربما في حال فشلها السياسي تزداد جرعة الجرأة عند الكاتب فيذهب إلى ما هو أبعد.
[في الصورة: عمر الجفال ووسام هاشم مع الشاعر العراقي حميد العقابي]