مشدوهين، شاهد الكثيرون عناصر أمن السلطة الفلسطينية وهي تضرب محمود الأعرج، والد الشهيد باسل الأعرج، في رام الله أمام المحكمة التي كان من المفترض أن تعقد في ذلك اليوم جلسة لمحاكمة باسل وخمسة من رفاقه بتهمة حيازة أسلحة «دون الحصول على التراخيص اللازمة (..) بهدف زعزعة الأمن والاستقرار العام». بين ذراعي والد الشهيد، كان الأسير المحرر خضر عدنان الذي خاض إضرابًا عن الطعام دام 66 يومًا أنهى أسره بعد 14 شهرًا من التوقيف الإداري. وفي ذلك المشهد، يُعتدى على والد الشهيد، ويُداس رأس الأسير المحرر، قبل أن يُقاد إلى توقيف دام بضعة ساعات.
ليس منبع التفاجؤ بهذا المشهد حسن الظن بسلطة سبق لها أن أدت وظائف شبيهة، وإنما استباحة السلطة لما ظل على مر العقود ثابتًا يقارب القداسة في السياق الفلسطيني: احترام شهادة الشهيد وأسر الأسير، على اعتبار أن التضحية بالدم أو بالحرية هما أثمن ما يمكن أن يقدمه الفلسطيني لمجتمعه. لكن بعيدًا عن صيحات الاستنكار المفهومة، لم تفعل أجهزة السلطة في 12 آذار، وفي ما سبقه أو تلاه، ما هو غريب، بل كانت في أوج اتساقها مع ذاتها ووظيفتها وسبب وجودها.
لعل استشهاد باسل أضاء بوضوح غير مسبوق على شراكة السلطة في دم المقاومين الفلسطينيين. أربعة من الشبان الخمسة الذين ظلوا معتقلين مع باسل بلا تهم لخمسة أشهر في سجن بيتونيا في رام الله اعتقلتهم «إسرائيل» بعد أيام من إفراج السلطة عنهم، عقب إضراب عن الطعام دام تسعة أيام. أما باسل، فاختفى عن الأنظار إلى حين مداهمة قوة صهيونية للمنزل الذي كان فيه في على أطراف مخيم قدورة برام الله، ليشتبك معها «حتى نفذت ذخيرته». حتى تلك اللحظة، لم يكن هناك أي تأكيد واضح للرواية التي قالت بحمله السلاح، لكن استشهاده في السادس من آذار وبين يديه بندقيتا «إم ١٦» و«كارلو»، ووصيته التي وُجدت بعدها، أكّدا ما صار عنوان الفصل الأخير من حياته.
باستشهاد باسل، وقمع المظاهرة التي احتجت على محاكمته، أُغلقت حلقة من الأسئلة حول سبب اختفائه وسبب اعتقال السلطة له، بإجابات واضحة: حمل السلاح ضد «إسرائيل» أمرٌ لا تتسامح السلطة معه، وستستخدم لمنعه أدواتٍ تبدأ بقمع المظاهرات وتمتد للاعتقال والتعذيب وتنتهي بالمشاركة الاستخبارية في الاغتيال أو بالقتل نفسه.
خط الدفاع الصهيوني الأول
مساء اليوم الذي قُمعت فيه مظاهرة رام الله، خرج الناطق باسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية، اللواء عدنان الضميري، على شاشة التلفزيون الرسمي للسلطة، لينفي تورط أجهزته في اغتيال الشهيد بنقل معلومات عنه لجيش العدو، قائلًا إن تلك الأجهزة لو كانت تعلم بمكان وجود باسل لاعتقلته «لحمايته»، لائمًا من طالب بالإفراج عنه حين كان في سجون السلطة بالقول «ها قد أفرجنا عنه. تفضلوا واحموه».
لكن رئيس السلطة نفسه كذّب هذه الحجة. ففي مقابلة معه نشرت في 18 نيسان 2016، رد محمود عبّاس على سؤال حول مدى إحكام السلطة سيطرتها على الضفة الغربية بالقول إن أجهزته، وقبل أيام فحسب، «تتبعت واعتقلت ثلاثة شبان كانوا يخططون لهجوم»، مُطَمْئنًا محاوِرَته بأنه «في هذا السياق، تعاوننا الأمني مع إسرائيل فعّال».
تصريحات عباس تؤكد أنه لم تكن هناك نية للحماية أصلًا. لكن حتى لو افترضنا جدلًا وجود هذا الدافع، فالسؤال يصبح مدى قدرة أجهزة السلطة على توفير هذه الحماية فعلًا، دون أن توجه فوهات بنادقها نحو «إسرائيل».
في مثل هذه الأيام من عام 2006، اقتحمت قوات عسكرية صهيونية سجن أريحا المركزي الذي كان يقبع فيه الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، وأربعة من رفاقه، بعدما حاكمتهم السلطة بتهمة التخطيط لاغتيال وزير السياحة الصهيوني رحبعام زئيفي عام 2001. حاصرت القوة الصهيونية السجن لأكثر من 12 ساعة، وأخرجت عناصر الأمن الفلسطينيين منه مكبلين عراة، قبل أن تقتاد سعدات ورفاقه معتقلين، ليحاكموا مرة أخرى ويستكملوا أسرهم في السجون الصهيونية. ما تزال تلك الحادثة محفورة في أذهان الكثير من الفلسطينيين كأحد أبرز الأمثلة على مآلات التنسيق الأمني، وعلى أن سجون السلطة لا يمكنها حماية المقاومين من «إسرائيل» حتى لو أرادت، وهو ما لا يؤشر إليه الحال.
لا مجال في مقال واحد لتعداد الأسرى والشهداء الذين مروا -هم أو ذووهم- بسجون السلطة قبل أن ينتقلوا إلى سجون «إسرائيل» أو إلى ذمة الله، ولا لتعداد الأعمال المقاومة التي أحبطتها أجهزة السلطة. في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2015 وحدها، أجهض جهاز المخابرات الفلسطيني أكثر من 200 عملية ضد «إسرائيل»، حسبما تفاخر رئيسه، اللواء ماجد فرج. إلا أن ما يجب التذكير به دومًا هو أن هذه السياسة بدأت بوجود السلطة نفسه.
في نيسان 1995، أي بعد أقل من سنة على الولادة الفعلية لأجهزة السلطة، حكمت محكمة فلسطينية في غزة على شاب عمره 21 سنة، واسمه رائد صبحي العطار، بالسجن سنتين بتهمة حيازة أسلحة غير مرخصة (التهمة ذاتها التي يحاكم عليها باسل ورفاقه). هذا الشاب عاش ليقود عام 2006 عملية «الوهم المتبدد» التي أُسر خلالها الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، والتي حررت 1027 أسيرًا وأسيرة في صفقة تبادل «وفاء الأحرار»، قبل أن يستشهد خلال العدوان الصهيوني على غزة عام 2014، قائدًا للواء رفح في كتائب الشهيد عز الدين القسام.
إن كل ما فعلته السلطة وتفعله من قمع للمقاومين وملاحقتهم وتسليمهم وإحباط عملياتهم المحتملة، منذ تأسيسها حتى اليوم، يسعى لتكريس ما أسماه ماجد فرج سياسة «سلطة واحدة، سلاح واحد». فالسلطة تريد أن تحتكر استخدام العنف في المجتمع، كما تفعل الدول، وأن تلصق بكل من يفكر بحمل السلاح ضد العدو تهمة الزعرنة وانتهاك الشرعية.
عمليًا، ما يعنيه ذلك هو قتل أي احتمال للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية. فالسلاح «الشرعي» الوحيد هو سلاح أجهزة السلطة التي لفظت الكفاح المسلح إلى غير رجعة منذ عقود، كما يؤكد قادتها باستمرار، وإما أن نقبل بهذا الخط أو نتحمل عواقب أعمالنا. بذلك، يصبح على المقاوم المُصرّ على حمل السلاح في وجه العدو أن يصبح خارجًا عن القانون قبل أن يكون مقاومًا، ليتجسد في الشهيد باسل الأعرج ما ذكره هو نفسه من أن الثائر هو «قاطع طريق بمشروع سياسي».
قنابل العدو وأساليبه
في أعقاب مظاهرة يوم الأحد، نشرت السلطة عبر أبواقها، من وسائل إعلام وأفراد، تنويعات مختلفة على خطاب سلطوي عربي كلاسيكي. اجترّ الضميري اتهامات شبه كوميدية لرفاق الشهيد باسل وأنصاره من المتظاهرين بحمل «أجندات خارجية» وتلقي تمويل أجنبي، زادها سخريةً أنها خرجت عن الناطق باسم أجهزة أمنية تتلقى تمويلًا مباشرًا من حكومة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بشروط سياسية أوضح من الشمس، لا يخجل منها لا فارضوها ولا متلقوها. ولعل ذروة هذا الوضوح جاءت في قنابل الغاز والصوت التي أُطلقت على المتظاهرين في ذلك اليوم، والتي تبين أنها صهيونية الصنع.
في لحظة سوريالية من مقابلته المذكورة، قال الضميري إن «الأمن المتوفر عندنا لا يتوفر في سوريا أو في العراق»، معيدًا إلى الأذهان لغة عبد الفتاح السيسي وغيره، في التهديد من عواقب «الفلتان الأمني» والمجازفة بالأمن والأمان. هذا التثاقف السلطوي العربي-العربي برز كذلك في استهدافات شخصية لبعض المتظاهرات، واتهامات بـ«الإسقاط الجنسي» للمتظاهرين والمتظاهرات على حد سواء.
لعل هذه الأخيرة تذكّر كذلك بأحد أساليب العدو الصهيوني نفسه ضد المقاومة. فالتهديد بنشر خصوصيات الأسرى في السجون لِليّ أذرعهم للاعتراف على رفاقهم والوقوع في فخ العمالة كان أسلوبًا صهيونيًا معروفًا، خلال الانتفاضة الأولى على وجه الخصوص. واستخدام أبواق السلطة لهذه اللغة كان دليلًا آخر على مدى التماهي بين العدو وأجهزة سلطته الوكيلة، ليس في الهدف فحسب -إجهاض المقاومة- بل في الوسائل أيضًا.
سقف «المشروع الوطني» الرسمي
قال الضميري في تلك المقابلة الكثير مما لا يمكن وصفه إلا بالكذب الصريح: أنكر الاعتداء على والد الشهيد والشيخ خضر عدنان، وأنكر وجود محاكمة للشهيد، رغم الوثائق والفيديوهات التي أكدت ذلك كله، ولفّق ما سبق من تهم بالتمويل واتباع الأجندات دون أي سند سوى الفهلوة، فتارةً يقول أن المظاهرة قوامها من أيتام اليسار الذين «تبرّأت فصائلهم منهم»، وتارة يقول إنها صنيعة «حماس». لكن وسط كل تلك الأكاذيب، فإن تحذيره من عواقب فقدان الأمن يضيء على حقيقة أساسية.
تفهم السلطة مهمّتها الأمنية في الضفة الغربية في حدود مكافحة المخدرات والعثور على اللصوص وتنظيم حركة السير. هذه هي الخدمة الكبرى التي يمكن للسلطة تقديمها للفلسطيني الذي صار مواطنًا. أما الموت المتسلل من المستوطنة ومن المعتقل ومن حبة القمح، المسمّى «إسرائيل»، فهو خارج الحسابات حين يدور الحديث عن الأمن. لذلك، نسمع الضميري يتحدث عن استشهاد باسل دون استغراب، وكأنه قضى في فراشه أو في حادث سير، لا في اشتباك مسلح على بعد بضعة مئات الأمتار عن مقر رأس السلطة.
لم يعد محتملًا أن تتوجه بنادق السلطة نحو «إسرائيل»، في وقت رست المحاصصة الفصائلية بين الضفة وغزة، وبات فيه الحفاظ على الوضع القائم هو أولوية السلطة. في تقرير أمريكي رسمي مقدم للكونغرس نهاية عام 2016 حول مختلف أشكال الدعم الأمريكي المقدم للسلطة، يجري الحديث عن أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية «التي تلقت تدريبًا [أمريكيًا] أظهرت زيادة في الاحترافية وساعدت بشكل ملموس في تحسين سيادة القانون وتقليل مكانة المنظمات الإرهابية في مدن الضفة الغربية، رغم التحديات المستمرة». ويشير التقرير إلى أن المسؤولين الصهاينة يدعمون المساعدات الأمريكية للسلطة، مستشهدين بـ«المستويات المستقرة والمتزايدة للتنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة في الضفة»، منذ بدء برامج الدعم الأمريكي للأجهزة الأمنية.
ما تريده السلطة هو ألا يحمل الناس في الضفة السلاح. قد تفضل أن تكف «إسرائيل» عن اقتحام مناطق «أ» من الضفة بين الحين والأخير، لكن ذلك لن يدفعها لفعل شيء، سوى التلويح بتعليق التنسيق الأمني كما لوحت حين قتلت «إسرائيل» وزيرًا في حكومتها، هو الشهيد زياد أبو عين، قبل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه. بحبوحة رام الله وغيرها من فقاعات مناطق «أ» الخاضعة نظريًا لسيادة السلطة كافية لاستدامة وهم الدولة تحت الاحتلال، مقابل ملاحقة المقاومة وكتم أنفاسها بتوجيه من «إسرائيل» وتمويل من الولايات المتحدة.
تعرف السلطة أنها ليست هنا لمواجهة «إسرائيل»، بل نقيض ذلك. هي تعرف ذلك جيدًا، لذا فتهديد قدرتها على قتل المقاومة المسلحة في الضفة الغربية وفرض رؤيتها لدولة تتناسى كونها تحت الاحتلال هو تهديدٌ وجودي، يستحق أن تكشّر معه عن أنيابها أمام أبناء وبنات شعبها.
حين وصل عناصر الأمن باسل في سهل قرية عارورة شمال رام الله بعد أسبوع من اختفائه الأول، كان سلاحه بين يديه، لكنه وفّر رصاصاته لاشتباكه الأخير فجر السادس من آذار. كان باسل مؤمنًا حقًا بمجتمعه، ورافضًا للسرديات الانهزامية، حتى تلك التي تستهدف للسلطة منها. لكنني أظن أن ما منعه عن إطلاق النار على من جاؤوا لاعتقاله لم يكن حرصه على حقن الدماء فحسب، بل شيئًا لا يمكنني وصفه سوى بالطموح.
إن كانت السلطة ترى في «إسرائيل» قدرًا محتومًا لا فكاك منه سوى بانتظار رحمة «المجتمع الدولي»، وتدعو «رعاياها» لتناسي ذلك والتركيز على منجزاتها، فإن باسل أراد ما هو أكثر من هذا الموت البطيء: أن يفقأ بيده عين عدوه، وأن يخوض معه معركته الحقيقية حتى النهاية، بلا وكلاء ولا مسكّنات، مهما كان الثمن.
[يعاد نشر هذا المقال ضمن اتفاقية شراكة مع مجلة "حبر"]