رامي العاشق: " دمشق - دمشقي تحديدًا، ذهبت بلا عودة، ذهبت دون ان أعرفها جيدًا، أو تعرفني، ودون أن أبحث فيها وفي سحرها بلا نوم ولا تعب، دمشق ندمي، وذاكرتي التي بدأت أخسرها، وهي أكثر ما يؤلمني."
حوار: إيزيس نصير
رامي العاشق، شاعر وكاتب وصحافي فلسطيني سوري، من مخيّم اليرموك في العاصمة السورية دمشق، يعيش في ألمانيا حيث يرأس تحرير صحيفة أبواب "أول صحيفة عربية في ألمانيا" منذ ديسمبر 2015 ، يكتب الشعر بالفصحى والمحكيّة، وله ثلاثة كتب صدرت: "سيرًا على الأحلام، 2014 عمّان، دار الأيام"، "مذ لم أمت، 2016، بيروت، بيت المواطن"، و"لابس تياب السفر، 2017، رام الله، الدار الأهلية للنشر والتوزيع ومؤسسة القطّان". خرج العاشق من سوريا عام 2012 إلى الأردن لاجئًا، وتم احتجازه على الحدود لأنه فلسطيني، هرب من الحجز وظل متخفيًا في عمّان لمدة عامين قبل أن يحصل على حماية الحكومة الألمانية بعد استضافته من قبل مؤسسة هاينرش بول الألمانية في منحة أدبية، في كولونيا، حيث يعيش العاشق، التقينا مؤخراً وكان الحوار التالي:
1. كيف بدأت الكتابة؟
بدأ حبي للغة العربية يتأسس بشكله اللاواعي مبكرًا. أحببتُ الشعر وقواعد اللغة العربية، وكان عقلي يختار بعناية ما يريد أن يحفظ، وما يريد أن ينسى، كانت درجاتي في المدرسة عاليةا في مادة اللغة العربيّة. لا أعرف حقيقة إن كان ثمّة شيء “بالجينات” أم لا، لكنني أعرف أن في العائلة بين أعمامي شاعرين وعددًا لا بأس به من خريجي اللغة العربية. لا أذكر تمامًا متى كانت أول قصيدة كتبتها، إلّا أنني أذكر أنني في الصف السابع (13 سنة) كنت أكتب قصائد غزلية موزونة، أعطيها لأصدقائي المقربين ليعطوها لحبيباتهم على أنهم مؤلفوها، أما الطلاب الآخرون الذين ليسوا من أصدقائي المقربين فكنت أبيعهم القصيدة بيعًا. بالتأكيد أنا أقول عنها اليوم قصائد من باب السخرية، فهي تجارب طفولية سخيفة لا تستحق الذكر، قصّة التجارة بالشعر هي الطريفة فقط.
تجربتي اليوم تطورت بفضل الوقت، القراءة والبحث، لم يعد مقبولاً بالنسبة إليّ أي نوع من الاستسهال أو المراهقة في العمل الإبداعي، أصدرت ثلاثة كتب وهذا يحمّلني مسؤولية ليست بالسهلة على الإطلاق.
2. على ماذا تركز في أعمالك؟
على الشعر، هكذا ببساطة، فأنا أعتبر الشعر غاية لا وسيلة، أنا أبحث عن الشعر، أستشعر الكون والموجودات من حولي بشعرية، أكتب الشعر بأشكال مختلفة، أضعه في النثر، في شعر التفعيلة، في شعر المحكية، في النص الهارب من التسميات، أي نصّ ليس فيه شعر لا أعترف به، حتى لو كان حوارًا صحافيًا كنت فيه المحاوِر أو المحاوَر.
غالبًا ما أبدأ النص من منظور ذاتي، أي يمكن وصف النصوص التي أكتبها بأنها نصوص ذاتية، ولكنها وإن بدأت كذلك فهي لا تنتهي كذلك، النص لديّ يحمل حمولة معرفيّة وتاريخية وثقافية، ويتأثر بالمكان والزمان والشخصيّات ويتجاوزني ليبني عوالمه الخاصة، إنه يشبهني بشكل ما، لكنه ليس أنا، هو كيان منفصل بحد ذاته.
يشكّل بناء النص عندي أمرًا غاية في الحساسية، لقد خسرنا كل شيء، بيوتنا، أوطاننا، ذكرياتنا، عائلاتنا، حتى أنفسنا بشكل أو بآخر، لم نعد نحن الأشخاصَ ذاتهم، ما جرى معنا يفعل أكثر من ذلك، إلّا أننا نجونا، أو ربّما لم ننج، لكننا خسرنا كلّ شيء، وأنا لم يبق لديّ سوى ما أكتب، لغتي ونصّي وقصيدتي هي كل ما أملك، لم أنشر كتابًا أو قصيدة واحدة في الصحف في دمشق. عمّان، بيروت، رام الله، مدن تدور حول دمشق لكنها لا تطالها، ربّما ستظل هذه حسرة في قلبي إلى أن أموت.
3. بأي أسلوب تكتب وكيف ينعكس ذلك على المواضيع التي تركز عليها؟
لا يوجد أسلوب محدد، هذه تقنيات تحددها فكرة النص ولغته، بعض الأفكار تتطلب أن يكون النص نثريًا، بعضها يمكن أن تكون قصيدة التفعيلة خيارًا مناسبًا له، بعضها تعبّر عنه اللغة المحكية بشكل أفضل، بعضها يجمع كلّ ذلك، صنعة الإبداع تطلب أن يستعمل المبدع تقنيات إبداعيّة مختلفة، يجمع التناقضات، يستعمل التكثيف في الكتابة عن أشياء، والسرد في مواضع أخرى، انسيابيّة الوزن قد لا تناسب قاربًا مطاطيًا ترتطم به أمواج هائجة وعشوائية، ربما يكون النثر هنا أفضل، بينما موسيقا الحبّ تعطيها موسيقا النص محاكاة قد تكون أفضل، القالب ليس غاية، الإبداع هو الغاية، الذي يجعل الكاتب كاتبًا، الشاعر شاعرًا، والمبدع مبدعًا هو أن يقول ما لا يقوله الآخرون.
كتبي الثلاثة كانت بأنواع شعرية مختلفة، الأول "سيرًا على الأحلام" 2014، عمّان "دار الأيام للنشر والتوزيع" كان شعرًا بالفصحى ينتمي إلى قصيدة التفعيلة. الثاني "مذ لم أمت" 2016، بيروت "دار بيت المواطن للنشر والتوزيع" كان نصوصًا نثريّة، الثالث "لابس تياب السفر" 2017 رام الله – عمّان "الدار الأهلية للنشر والتوزيع" كان شعرًا بالمحكية. هذه ثلاث تجارب مختلفة، لا تشبه إحداها الأخرى على الإطلاق.
4. لنتحدث إذن عن هذه التجارب، ما هي فحوى كتبك الثلاثة؟
حين قامت الثورة السورية، كنتُ أحاول خلق ثورتي الشخصيّة، التي لم تكن المظاهرات وحدها تكفيها، ذهبتُ لكتابة الأغنية الثوريّة، ورغم النجاح الذي حققته الأغنيات التي كتبتها، إلّا أن ذلك لم يكن بالضبط ما أبحث عنه، في عام 2014، وبعد نزوحي إلى الأردن، حيث عشتُ متخفيًّا لعامين بعد أن هربت من الاحتجاز على الحدود بتهمة "فلسطيني"، نشرت مجموعتي الأولى "سيرًا على الأحلام"، ولكنني لم أنجُ من تأثير الثورة، فكانت القصائد توثّق قصص شهداء أو معتقلين، مناطق أو مدن، وكان الإهداء لقائمة طويلة من ثلاث صفحات بأسماء شهداء ومعتقلين أصدقاء. شعريًا لم أعد راضٍ عن هذه المجموعة، كما بالضرورة على ما نشر بعدها، إلّا أنني أعتزّ بهم جميعًا، ولكن الكتاب بمجرد طباعته، يقف أمامي بشكله الورقي، ويقول لي: "أنا أفضل ما أنجزت"، أقول: "ليس بعد"، وهكذا، بعد سيرًا على الأحلام، انتظرت قليلاً، كنتُ أبحث عن شيء مختلف، صار لدي مخطوط جديد عنوانه "لم ينتبه أحد لموتك" لم أنشره بعد، وكلاهما ينتمي إلى شعر التفعيلة، مع فارق شعري وإبداعي شاهق، إلّا أنني خبّأته، ولا أعلم متى سأنشره، في الوقت ذاته، كنت أكتب قصيدة المحكيّة بشكل مستمر، علمتُ عن جائزة القطان في رام الله، سألتهم إن كانوا يقبلون شعر المحكيّة، فأجابوا بعدم الممانعة، وتقدّمت ولم أكن متوقعًا شيئًا، حصل المخطوط "لابس تياب السفر" على إشادة وتوصية بالنشر من لجنة التحكيم ونشر في العام 2017. قبل أن يرى "لابس تياب السفر" النور، كنت قد لجأتُ بين العامين 2014-2016 إلى النص النثري، الذي يتحرر من القالب، والذي يجمع عدة أنواع أديبة مع بعضها، وكنت أنشر هذه النصوص في الصحف، فجأة حدث شيء ما، فقررت جمع النصوص، كانت تستحق أن تنشر في كتاب، كنت أرى فيها نفسي أهرب من الشعر وأجد مكانًا أكثر رحابة، وأقل إغراء، كنت أقول: "أنا أكتب النثر، لا داعٍ لأن أكتبه على شكل قصيدة، هذا الشكل لا يضيف أيّة قيمة للنص، الشعر في الداخل". وبالفعل، صدر الكتاب "مذ لم أمت" بنصوصه السبعة عشر، وقد يكون هذا الكتاب الأحبّ إلى قلبي، لأنه مختلف عن شعريّة القصيدة التي أكتبها، مختلف بشعريّته عن الشعر، وعن النثر، وعن ما هو جاهز في قالب، لذلك سميتها "نصوصًا" تحتمل التسمية، فلتسمّها ما شئت.
5. من يقرأ نتاجك، يدرك كم تشغلك ثنائيّة الوطن والمنفى، إلى متى ستظلّ هذه الثنائية حاضرة في ما تكتب؟
حين كنتُ في دمشق، لم يكن الوطن كمفهوم حاضرًا في أسئلتي كما كان الله، الكون، والحقيقة حاضرين، ولكنني حين خرجت، بدأت الأسئلة تواجهني، حتّى لو تهرّبت منها، فلسطين مثلاً، لم أكن أعرف عنها سوى شعارات خطابيّة ساذجة، وسرديّة مملّة حملتها العائلة في رحلة نزوحها، أما سوريا، فكانت المكان الذي أريد أن أخرج منه بأسرع وقت حتّى أهرب من الخدمة العسكريّة، ومن سيطرة المجتمع والسلطة على أنفاسي، كلاهما لم تكونا تعنيان لي أي شيء بمعنى الوطن. حين نزحتُ، اختلف الأمر، بدأت أرى الناس تسافر إلى فلسطين وتأتي منها، شكّل هذه صدمة بالنسبة إلي، إذ كانت فلسطين أبعد من الكواكب كلها، لم أرَ فلسطينيًّا واحدًا قادمًا من هناك في حياتي قبل الأردن، لقائي بالفلسطينيين هناك، صفع أسئلة في وجهي لم أكن أعيرها أي اهتمام. أسئلة عن الهوية، العدو، الوطن، الانتماء، والملجأ، أمّا سوريا، دمشق تحديدًا، فكانت ندمًا خالصًا، عاشقةً ساحرةً أهملتُها، وكنزًا سقط في البحر، دمشق-دمشقي تحديدًا، ذهبت بلا عودة، ذهبت دون ان أعرفها جيدًا، أو تعرفني، ودون أن أبحث فيها وفي سحرها بلا نوم ولا تعب، دمشق ندمي، وذاكرتي التي بدأت أخسرها، وهي أكثر ما يؤلمني.
6. بماذا يخصّ العاشق قراء جدليّة؟
قصيدة: من حسن حظ الحرب:
من حسن حظ الحرب
من حُسنِ حظِّ الحربِ
أنّي لم أقلْ ما كانَ..
وجهي، والرّصاصةُ
لم أقلْ مثلاً:
فقدتُ حقيبتي!..
عينايَ طائرتان هاربتان من لونِ البلادِ
لِلَونِ عينيها..
طحينٌ كلُّ هذي الأرضِ
تخبزُنا،
صغارٌ يرفعون الحزنَ من تحت الترابِ،
ودميةٌ.. لم تنجُ -مع أصحابها- من رحلةٍ كانت تشيرُ إلى السماءِ ولم تكن إلّا .......
دماءٌ..
لمْ تُرَ،
الملحُ، الظلالُ، حجارةٌ،
كفٌّ تربِّتُ فوق كِتْفِ قذيفةٍ فشِلَتْ بتلوينِ المكانِ،
جنازةٌ لم تبلغِ الحفّارَ،
طائرةٌ تغربلُ، ثم تُهدينا وثائقَ للحياةِ
صبيّةٌ كانت تهروِل كي تراهُ، وما أتى!
ويدٌ تعدّ أصابع التلويحِ
ثمّ تذوبُ في الإسفلتِ..
حاناتٌ تُمِدّ بلاطَها بالخمر كي ينسى..
مساءً..
بين من ماتوا ومن ماتوا
سألتُ رماد منزلنا عن الصورِ القديمةِ
كيف أثبتُ أنني قد كنتُ أشقرَ؟
أنّني قد كنتُ طفلاً في زمانٍ أو مكانٍ ما؟
سألتُ ظلال منزلنا عن الجرَسِ الصغير وصوتِهِ
واسمٍ غريبٍ للغريب أبي،
ولي..
لفضول من ظنّوه إسمًا مستعارًا،
عن نوافذَ لم تكُن إلّا على الأمواتِ مُشرِفةً تقود لمقبرةْ!
وأعودُ أسألهُ
عن الأحياءِ في دُرجِ الخزانةِ،
والأحاديثِ التي غابت بموسيقا النهايةِ،
عن يدِ الباب التي سقطتْ وظلّتْ حاضرةْ
خشبٌ وعينٌ ساحرةْ
ما ظلّ من سحرِ الحكايةِ أيّ شيءٍ
بين "ما قد كنتُ يومًا"، والحقيقةِ
ضاعَ توثيقُ الحكايةِ
ربّما، عدَلَ الزمانُ عن الخطيئة
كنتُ مختلفًا بعينينِ
السماءُ تقول: "في ذكراهِما وطني"
وكنتُ بلا قصائدَ أو بلادٍ
كنتُ..
كنتُ..
وكنتُ لا أدري حقيقةَ أن لا ماضٍ بلا صورٍ
سألتُ حطامَ منزلنا:
قديمًا، كيف كانَ الناسُ يحتفلونَ بالذكرى؟
أجابَ بقطعةٍ سقطتْ من الأعلى عليّ،
نجوتُ!
رقصتُ محتفلاً بخيبةِ قابض الأرواحِ!
غادرتُ المكانَ
سرقتُ محفظةً لشخصٍ ما تمزّقَ
صورتانِ لهُ وللنسيانِ غارقتانِ بالرملِ
الدماءُ تقول لي:
بين الظهيرةِ والمساءِ أضاءَ وجهٌ في البعيدِ يقولُ:
قبّلني..
فقبّلَ صورةَ النسيانِ
وانكسَر المكانُ..
لهُ وللنسيانِ، للصورِ الفقيرةِ،
للوجوه الغائباتِ عن المكانِ،
لصورتينِ توثقانِ خريفَ عشقٍ،
للزمانِ وملحِ عائلةٍ تجاهلها النداءُ
ولم يؤرخْها المصوّرُ،
للملابسِ حينَ ترمى بين تفضيلٍ وتفضيلٍ على أمل اللقاءِ،
وللقاءِ،
وللملامحِ حين تبسم للمرايا بانتظار هديّة،
للنارِ حينَ تغضُّ من طرْفِ الحريقِ،
لخوفِ صاحبةِ الجلالةِ من كلابِ الحاكم المسعورِ،
للنسيانِ، والذكرى،
لتحديقِ القتيل بعينِ خالقِهِ،
ولله الذي في بيتهِ المنهارِ،
لي..
ولنا وللموتى وللأحياء
لم أقلِ الحقيقةَ!
لمْ أقُلْ: إنّي نجوتُ
لأنني لم أنجُ!
لكنّي كذلك لم أمُتْ!
خللٌ بتوزيعِ القذائفِ
عافَني حيًا
وحيدًا مثل هذي الحرب
مسكونًا بأشلائي
وليس هناك من -كالحرب- يلعنني!
نظرتُ إلى مكانٍ كانَ قبلَ خرافةِ الزمن القصيرِ هنا!
فوجدتُ تفسيرًا لشيءٍ ما هناك!
فربّما..
قد أخطأ الطيار في نوعِ القذيفةِ
أو تعمّد أن يخلّيني لوحدي
ربّما حطّت على يدهِ يدٌ سوداءُ
فانضغط الزنادُ
وربّما قد رنّ هاتفُهُ، فأخفقَ
ربّما لعبت شظيّةُ حظّيَ الدورَ الأخير من الحكايةِ
ربّما ما كان يعرفني
كذلك ربّما، قد كان يعرفني
سرحتُ
فربّما قد مرّ عصفورٌ وأنقذني
وأنقذَ نفسَهُ من كلّ تعقيدِ الحياةِ
وربّما ألقى المكانُ بنفسهِ
لأظلّ حيًا أو أسافرَ
لا المكان ولا أنا
لا البيتُ
لا الطيّارُ
لا صوتُ القذيفةِ
لا القذيفةُ
لا الحقيبةُ
لا الجدارُ
ولا الظلالُ
ولا الموسيقا
لا اليدُ، الجرسُ، الطلاء، خزانةُ الأحياءِ، مقبرةُ النوافذِ، لا اسمنا،
لا البيتُ
لا الصورُ القديمةُ
لا أحدْ!
كنّا جميعًا في زمانٍ أو مكانٍ ما هناكَ
ولم نكن!
فإذن، لحسن الحظّ
أن قصيدتي كُتبتْ على مهلٍ
نجوتُ كما نجَتْ
ولسوء حظّ الحربِ
أنّي لم أمُتْ!