"ُأريدُ مُوتاً مُقنعاً"
حميد العقابي
كان ذاك صيف عام 2010، وكنت قد غادرت إلى العشرينات من عمري تواً، أرسل إليّ بريد الكتروني وأخبرني أنه في دمشق، وحدّد موعداً سريعاً لنلتقي غداً، وسألني إن كان يناسبني، أجبته على الفور بأنه مناسب، وأني سأنتظره في مقهى الروضة على طاولة "أبو حالوب" مختار العراقيين، أو سفيرهم كما يسميّه الشاعر العراقي محمد مظلوم.
كان حميد العقابي يزور دمشق صيف كل عام تقريباً فقرينته سوريّة. إلا أنه بمعزل عن هذا، كان يحب دمشق كثيراً وهو الواسع المعرفة بتنوع مناطقها وفيها له أصدقاء كثر. وفي المدينة الشاميّة يبدو العقابي أقلّ عزلة من "فايله" الدنماركيّة التي تبعد عن كوبنهاغن نحو 250 كم، والتي سكنها منذ ذهب لاجئاً إلى أوروبا أواسط ثمانينات القرن الماضي، مارّاً بمتاعب ومغامرات جمّة، ستصبح فيما بعد زاداً لكتاباته في الشِّعر والسرد.
في الليلة التي سبقت اللقاء كان نومي خفيفاً، بقيت أفكّر كيف أتصرّف معه، ظننته إنساناً حادّ الطباع ويبلل لسانه بالشتائم. كانت روايته "الضلع" قد تركت هذا الانطباع لديّ، فكيف يمكن أن يكون كاتباً كتب فصلاً كاملاً عن طرق ووضعيّات ممارسة العادة السريّة؟ وكيف يكون الشجاع في آرائه، وهو الذي لا يوفّر نقداً لظاهرة ثقافيّة إلا أشبعها تحليلاً... لا بد أن يكون حادّ اللسان كمخيلته، كنت أردد.
كنت تعرّفت إلى كتاباته منذ خمسة أعوام مضت عبر كتاب ضمّ خمسة شعراء عراقيين، لم أدرك حينها أن بعضهم سيكون صديقاً ومعلّماً. كانا هما حميد العقابي ومحمد مظلوم على وجه التحديد اللذان ستتعدى أواصر الصداقة معهما إلى خارج الكتب، حيث كنا نتواصل في "الجات مسنجر" قبل أن يدخل "الفيسبوك" إلى حياتنا.
في الطريق إلى المقهى كنت اختلق سيناريوات عديدة للمجابهة. عندما وصلت، كان حميد قد وصل قبلي. هادئاً وصامتاً. كنت أسأله بفضولي عن الكثير، ويكتفي بالإجابة عن القليل. بدا مختلفاً، إذ لا يهمّه التقسيم العشري للأجيال الشعريّة العراقيّة، والتي تبدو كخارطة طريق لكلّ من يهتمّ بالشعر العراقي، ولا تهمّه أيضاً النميمة الثقافيّة. وسرعان ما أدار الدفّة وأخذ هو من يسأل وأنا أجيب. حتّى جاء الشاعر وسام هاشم، وصار حميد مستمعاً، يسأل عن معلومة أو شخص لا يعرفه ويعود إلى صمته.
كانت تلك المرّة الأولى والأخيرة التي التقيت بها حميد، لكني سأتواصل معه فيما بعد، أستشيره في نص، أطلب رأيه في موقف، وأشكو له الكثير. "أخرج عمر" يظل يردّد كلّما تأزم الوضع، وحين صارت بغداد ودمشق في دائرة النار المستعرة، صار يكتفي بالخوف عليّ وعلى محمّد مظلوم، وهو العليم بعلاقتنا التي وطّدتها محبّته. وسط كل هذا كنت ألاحق ما ينشره حميد من كتب بين داريّ "الجمل" في بيروت و"ميزوبوتاميا" في بغداد، وبدا غزير النشر في الآونة الأخيرة، وصار من الصعب ملاحقة كل ما ينشر، لكني كنت مهتمّاً بجمع أعماله، حتّى إذا لم يتح الوقت لقراءتها جميعها.
لكن إذا ما كان حميد شخصاً عاديّاً عندما التقيته، أي أنه لا يمتلك كاريزما سحريّة والحدّة التي تصورت، فإنه كاتب استثنائي، وتبدو الكتابة عن أعماله معقدّة. إذ لم يكن العقابي سهلاً، كان يتنقّل بين الكتابة بسرعة رهيبة، من الشِّعر (موزون، نثر، هايكو)، إلى القصّة، ومن ثمّ الرواية، والتي بدورها تبدو أكثر تعقيداً. فحميد العقابي ينتقل من السيرة الذاتية في "أصغي إلى رمادي"، إلى الأدب السياسي في روايتيّ "الفئران"، ومطوّلته "القلادة" آخر ما نشر عام 2016 بسلاسة سردية لا تخفى.
في هذه الرواية الأخيرة لصاحبها يستعير العقابي سيرة محمد بن عبد الله، الرسول، ليجعله كائناً تنزع القداسة عنه وعن كل من حوله من أصحاب وأقارب. هنا يعود العقابي إلى ماركسيّته التي ظل يعلنها حتّى مماته. يحيل التاريخ بطريقة روائية بارعة إلى حركة الاقتصاد وتأثيره في تشكيل المجتمع، وهي الرواية التي ظلّ العقابي يكتبها بعد سنوات طويلة من البحث والتقصّي، ويبدو أن موضوعها الشائك لم يجعلها تحظى باهتمام الصحافة والنقّاد في عصر الطوائف والإسلام السياسي الذي يهيمن على السلطة في المنطقة اليوم.
أما وهو القادم من الشِّعر، فقد ذهب العقابي إلى القصّة القصيرة، وهو مرتبكاً في بعض الأحيان في تجنيس ما يكتب فنشر بعض نصوصه على أنها شعراً، لكنه عدل فيما بعد وكأنه أعاد اكتشافها ليعيد ولادتها تحت عباءة القصص. ظل العقابي يجرّب قليلاً في برزخ القصّة وسرعان ما شدّ رحاله إلى "السيرة الذاتية" في "أصغي إلى رمادي" والتي جلبت له الأذى بعد أن تبرأت منه عائلته في الجنوب العراقي بسبب حديثه عن والده وجدّه اللذان يعانيان خوف مفرط، وسطوة والدته على المنزل. وفي سيرته لا يمكن نسيان الجدّة (القابلة) شَمعة التي حوّل حكايات الحيّ عنها، والخيال الذي أحاطها، إلى شخصيّة خرافيّة، إلا أن العقابي يؤكد أنّها موجودة، ولم يستعمل سوى خيال الناس ولغة مرنة لكتابتها.
وبعد هذه السيرة الذاتية المكتنزة التي صدرت في عام 2002 صارت الرواية واحدة من محطّات العقابي التي استطاع الترحال فيها كثيراً، وبدت كتابتها مؤنساً له في مغتربه الأوروبي. هكذا ستأتي "الضلع" ذات الشخصيّات المأزومة والمهزومة، تعاني ارتياب الموت والوحدة. تستمني وتصيّر التاريخ حاضراً. تحضر نساء التاريخ والميثولوجيا لمضاجعتها، يموت بعضها منتحراً أو وحيداً في دار العجزة. ويخلق أحد أبطالها من النورس صديقاً، بعد أن يكون ندّاً ومحتقراً له، لكن القارئ سيتعاطف معه في نهاية الأمر تماشياً مع حال البطل الذي يريد أي شيء يبدّد وحدته.
وما يلبث أن يعود العقابي في "الفئران" ليوثّق سيرة بلاد مختطفة على يد جلاّد. بلاد بلا اسم. سكّانها يتحولون إلى فئران تجارب، تنزع عنهم أسمائهم ويمنحون أسماء حيوانات. يفقدون كرامتهم، وينسون أنسيّتهم. رواية سياسية بامتياز، يسيطر بها متجبّر على المجتمع ويحوّل أفراده إلى عديمي قيمة، وبلا ثقافة رفض. يحيلهم إلى متخلّفين يعانون من انحطاط القيم، حسب تعبير العقابي.
وفي الشِّعر أيضاً كان العقابي منذ بداياته يخبئ سارداً داخله، فغالبيّة قصائده تنطوي على قصّة وشخوص. أمكنة مشرّعة على الخيال: فهنا مكان مهندس بإمكان الخيال تأثيثه، وهناك مكان قد يكون متخيّلاً، جنّة أو جحيم، مدينة خياليّة أو أخرى موجودة. ظل المكان ميزة أساسيّة في شعر العقابي، ذاك الشعر المقتصد بكلماته والغنّي بصوره، والمتخم بالإحالات.
والقصيدة لدى العقابي حرّة تماماً ومتخففّة من أعباء الصنعة. عفويّة رغم عمقها. أحياناً يوغل في تلغزيها، وأحياناً أخرى تبدو طيّعة وسهلة، بل ومباشرة. كان لاعباً ماهراً مع الشّعر الذي يسمّيه "ابنة كلب" مشبّهاً إياه بامرأة تلعب بأعصاب الرجل، إذ تجيء فجأة أو لا تجيء. والعقابي هنا يظلّ ينتظر، يتشاغل عنها بالسرد الذي يسمّيه "الزوجة" وهي المتواجدة، قد يصعب إرضائها أو تزعل، بيد أنّها لا تتركه وحيداً بل ويسهل العيش إلى جانبها.
وهناك "دجلة" التي ظلّت تحضر في قصائد العقابي دون كلل. تارة بوصفها ابنته، وأخرى بوصفها النهر الذي سمّى العقابي ابنته باسمه والذي ولد على مقربة منه في محافظة واسط عام 1956.. وهكذا صار على القارئ أن يدقّق أكثر كلما مرّ اسم دجلة والذي غالباً ما يلجأ العقابي إلى تأنيثه.
منذ نشر روايته الأولى "أصغي إلى رمادي" ظنّ زملاؤه أنه غادر الشِّعر إلى غير رجعة، غير أنّ ذاك محض وهم وهو الذي يحضر الشِّعر زخماً في رواياته. وحتّى في أيّامه الأخيرة لم يكف العقابي عن كتابة الشعر، نجده منشور بغزارة على صفحته في "فيسبوك" أو في ديوانه الأخير "القطار"، وقد ازداد تماسكاً وأخذت كلماته بالاقتصاد أكثر فأكثر. بيد أن العقابي في آخر أيامه الشعرية بدا مغادراً لقصيدة النثر مكتفياً بالتفعيلة التي لطالما كانت بالنسبة له مكاناً رحباً للكتابة، إذ تظلّ تستهويه لعبة القوافي التي أخذ يخفّفها حتّى بدت الموسيقى داخل القصيدة كموال جنوبي منفلت.
وبموازاة أعماله الأدبيّة، تظلّ صفحة العقابي على فيسبوك ملجئّاً للحائرين من الشباب وسط فوضى الآراء، ففي الوقت الذي يصمت فيه غالبيّة الكتّاب عن إبداء آرائهم خوفاً من التهديد، أو خشيّة من إثارة القرّاء، يصرّ العقابي على إصدار آراء في السياسة أو المجتمع أو الثقافة مختلفة وعميقة، على هذا الأساس، سيتعرّض للمثقفين الذي يلمعّون صورة السلطات، فضلاً عن أولئك المهوّنين من أهميّة القضيّة الفلسطينية.
الحال، فلا يبدو غريباً أن يكون من رثا العقابي قرّائه الشبّان، الذين يلاحقون كتبه المتلاحقة، ومنشوراته على "الفيسبوك" أكثر من الوسط الثقافي الذي لم يدخر العقابي جهداً في نقده وتوجيه اللوم إليه في مماحكة السلطات، كل السلطات، أو الصمت على أفعالها.
وما يجعل رحيل العقابي عن عمر ناهز 61 عاما خسارة كبيرة، هو نضجه وغزارة نتاجه في العقدين الأخيرين اللذين أنتج فيهما أهم أعماله، وهو الذي كان يعد بأعمال جديدة. كان يضع لمسات أخيرة على روايات عدّة ودواوين شعريّة، عسى أن ترى النور، حتّى ولو كانت غير مكتملة، بعد موته غير المُقنِع.