يومُ الأعزل= 1440 دقيقة صمت.
دقائقُ... للحِداد، الذي فقدَ جلالَ معناه وهيبةَ رمزيته لكثرةِ ما استهلكتُه مشاعرُ تالفةٌ، غير أنه طقس يصعبُ على الأعزل أن يتخلى عنه، فقَصُرَ حتى أصبح كصلاةِ المسافر.
دقائقُ... للتأمل، الذي لم يعد مُجدياً، فكلّ العبارات التي كان يرددها كمفتاحٍ لحل الطلّسم تحولتْ طلاسمَ وأقفالاً تحتاج هي نفسها إلى مفاتيحَ لم يتلفها الصدأ.
دقائقُ... لسماع أغنياتٍ كان يسمعها في صباه، لكنها الآن لم تعد صالحةً حتى للبكاء، فسرعانَ ما يملّ الإصغاء إليها ويغلق أسماعه مفضلاً طنين ناموس الصمت. مرةً حاولَ الأعزلُ أن يجرّبَ صوته في الغناء، فعوى.
دقائقُ... للحلم، وهنا لابد من توضيحِ أمرٍ مهم في حياة الأعزل وأحلامه، فقد أدركَ من خلال تجاربه الصمتية بأن الأحلام الجميلة قد تتحقق في لحظةٍ يكون هو في غنىً عنها، أو أنها تتحقق بعد فوات الأوان وهذا ما يفتح البابَ على الندم، وللندم دقائقُ في يوم الأعزل، ولكن متى كان الندم ذا نفع؟ خاصة وأن الأعزل لا يندم على ماضٍ بل ندمه على ما هو آتٍ لا يأتي، لذا فالأعزل يحلم أحلاماً لن تتحقق، لن تتحقق أبداً، أما أحلامه المؤجلة والتي فرضتها ألعابه الطفولية فقد تعبتْ ونامتْ، وليس الأعزل بالحماقةِ التي تدفعه لإيقاظها، فقد أدركَ بخبرتهِ العميقة أنه من الأفضل أن يتغافل عنها حتى النسيان. هكذا هو واقعيٌّ جداً، يتشبث بأحلام لن تتحقق أبداً.
دقائقُ... للضحك، فالأعزل يروي لنفسه نكاتٍ أحياناً، ليست النكات التي سمعها قبل عزلته، إذ أصبحت مُرةً وقديمة، بل هو ساخرٌ متمرس لا يفلتُ من شراكه كائن أو جماد. يسخر بدءاً من النملة التي أنهكها السعي، إلى الخالق الذي لم يفِ بعهدِ عزلتهِ فارتكبَ الكثيرَ الكثيرَ من الحماقات.
دقائقُ... لاختبار الذاكرة. يُخرجُ الأعزلُ كائناتهِ وينهال عليها بالجَلْدِ، لا ترويضاً بل تطهير للنفسِ من أدران الماضي العالقة كالجَربِ، كمن يقضم أظافره ساهياً، متلذذاً بمشهد الدم وهو يسيل على أصابعه بسلاّمياتها المتحفزة لخنق الفراغ.
دقائقُ... لاجتراح معجزة. قد يقترحُ الأعزلُ وجوداً غير وجودهِ، لا حدودَ ولا حواجزَ تمنعه، هو حرّ، الأشياء كلها ملك يمينه. يعيدُ الوجودَ إلى عناصره الخالقة فلا يجد غير عدمٍ ملفّقٍ لا يقنع غير الهشيم. مرةً حاولَ أن يخلقَ بديلاً عنه، فكان شرطياً، قادَهُ إلى برج مراقبةٍ، زوّده بقنينةِ عرقٍ وأغنيةٍ عراقية، وتركه هناك. مرةً فكّرَ بالطيران فقدَّ إيكاروساً من حجرِ حدسه وريش الذاكرة، وحينما همّ بالطيران وجدَ الفضاء أضيقَ من خرمِ إبرةٍ، والشمس! حتى الشمس التي لا يكاد يراها في عزلته الصقيعية قد تحولتْ إلى جحيمٍ أذابتْ الحجر.
دقائقُ... للتفكير في كيفية انقاذ الصمت من جنون الصمت. هنا يتذكر تجربةً لا يعرف أين قرأها، وربما رواها أحد ضحايا التعذيب في سجون ذلك البلد البعيد الذي هو الآخر كانت له دقائق خاصة في يوم الأعزل، ولكنه أقلع عن ذلك بعد أن انتفت الحاجة للتفكير فيه، فذلك البلد لم يعد له من وجود على خارطة شعورِ الأعزل. يقول الراوي (أعني ضحية التعذيب في ذلك البلد الذي لم يعد موجوداً) بأن جلاديه قد وضعوه في مستنقع من النفايات والبول والبراز أياماً ولياليَ كي يجبروه على الاعتراف، وقد اكتشف هو ورفاقه طريقةً للتغلب على الغثيان الذي تسببه الروائح الكريهة، فكانوا يرفعون أصواتهم بالصراخ والأغاني (الأغاني الثورية بالتأكيد، التي لم يعد لها الآن من وجود). هكذا اهتدى الأعزل إلى طريقةٍ لإنقاذ الصمت من جنون الصمت، ولكن قد تنفع هذه الطريقة لأعزل في صحراء أو غابة، فكيف به وهو يعيش في الزحام، وعليه أن يتبعَ قانونَ القطيع الذي لم يدرك حاجة الأعزل للصراخ؟ هنا تتفتقُ عبقرية الأعزل، فالأعزلُ مبدعٌ كبير والحاجة أم الاختراع (كما يقال)، وبحكم نرجسيته فقد أدركَ حكمةً، خطها على جدران عزلته: (كلما اتسع الزحام ضاقت الأنا)، لذا فقد استطاع أن يكتشفَ صراخاً صامتاً ينقذه من غثيان الصمت ويحمي حنجرته المعطلة عن العمل من التمزق.
دقائقُ... للمشاكسة. الأعزلُ مشاكسٌ بالفطرة، خبيثٌ وإنْ أظهرَ الترفعَ والعفة، حتى قبل عزلته، كان إذا رأى صبياً يركض، حاولَ عرقلته ليحول دون وصوله للغاية، مدعياً البراءة أو البَلَه. في عزلتهِ استنفد كل وسائله للمشاكسة، ولم يبقَ سوى العزلة نفسها، فعلى الرغم من مقتهِ الشديد للغوغاء، إلا أنه خرجَ مرةً في مظاهرةٍ للدفاعِ عن الحيتان. حملَ لافتةً كتبَ عليها "لهم عزلتهم ولنا عزلتنا".
دقائقُ... لإصلاحِ الخلل. يظنُّ الأعزلُ بأنّ خللاً ما في الطبيعة، فثمةَ أشياء موجودة هنا كان ينبغي أن تكونَ هناك والعكسُ صحيح، وثمةَ أشياء موجودة هنا وهناك كان ينبغي ألا توجد أصلاً، وثمةَ أشياء تبحثُ عن وجودٍ لها، وثمةَ أشياء أخرى لا وجود لها إطلاقاً. يضعُ الأشياءَ كلها في كيسٍ، ويسحبُ شيئا شيئاً ويضعه في المكان (المناسب!) هنا أو هناك، حتى يُتمَّ لعبته. يتطلعُ إلى الأشياء بتمعنٍ فيرى أن ثمةَ خللاً ما، لايزال موجوداً...
دقائقُ... للثورة. في البدء كان الأعزلُ يفكرُ في أحوال الناس، لكنّه ذو نزعةٍ قيادية، نرجسيّ يرى وجهه في النار، لذا فهو قائدُ ثوراتٍ مقموعة، جنرالٌ لا يرى في الأرضِ غير خارطةٍ يقلّبُ أقطارَها بعصاهُ ويضحك، غير أن للعزلة مقاماتٍ يرتقيها الأعزلُ. ها هو يرفعُ عصاه فيرتفعُ صمتُ صمتهِ أوركسترا تعزفُ مارشاتٍ أو انفجاراتِ أغوارٍ عميقة.
دقائقُ... للّعب، لكن الأعزل لا تستهوية أية لعبة سوى النرد، فهو لاعب بارع، ولا خصم له غير الله. لا يُفرحه الفوز ولا تؤلمه الخسارة، ولكي يُخرج العزلة من عزلتها يشاهد في بعض الأحيان التلفزيونَ، ويتابع مباراة لكرة القدم أو نزالَ ملاكمة، فيدركُ حينذاك جمال العزلة وفتنة الدائرة، كزوجٍ نافرٍ يعود إلى أحضان زوجته (هه، الأعزل دعيٌّ وكاذبٌ أحياناً).
دقائقُ... للشكوى. الأعزلُ لا يشكو أو يتذمر، بل هو يكره الشكوى ويعتبرها ضعفاً ودناءةَ نفس، ولكنه إنْ شكا فأنه يشكو من ضيق الوقت وكثرة المهمات.
دقائق... للاّشيء. ينفخ الأعزلُ لامعناه في صلصال العدم فيكون كائنات عدمية. يستوي على عرشِ عزلته، ويصغي إلى كائناته وهي تسبّح باسم خالقها في جنة العزلة.
نعم.. نعم، هناك أمور يومية لا بد للأعزلِ أن يقوم بها كالأكل أو الذهاب لقضاء الحاجة، فالمهمة الأولى شاقة جداً ولكن تخففُ من مشقتها المهمة الثانية، التي هي من أجمل دقائق الأعزل، فهي دقائق جميلة جدا حيث الهدوء سيد الموقف، وهي كالدقائق الفاصلة بين قذيفة وأخرى بالنسبة إلى جندي يقف متحفزاً خلف الساتر الأمامي.
قد يسأل سائل وهو محق طبعاً: "ألا ينام الأعزل؟"
"بلى، ولكنه ينام بكوابيسَ مفتوحةٍ".
* * *
ملاحظة لقارئ بطران: هذا نصّ كتبَه رجلٌ ضالعٌ في العزلة، مشتتُ الفكر، فإذا وجدتَ فيه شيئاً من الغموض، العبث، اليأس، السودواية، المازوخية ...إلخ، فأن هذهِ المفردات هي مفردات أساسية في معجم الأعزل، بل هي أبجدية لغته، وتذكرْ أن لغة الأعزل صامتة.
ملاحظة لقارئ خبيث: بلى، الأعزلُ شهوانيّ، يتعرقُ شبقاً، وثنيّ ذو خيال خصبٍ في تجسيد آلهاتٍ للفتنةِ، يقولنّ للمستحيلِ كنْ فيكون... ولأن الأعزلَ عاشقُ نفسه، فلا تعرف الغيرةُ طريقاً إليه، وهذا أحد الأسباب التي تجعل الأعزلَ مترفعاً على الخلقِ، ساخراً من ضآلة أرواحهم وضحالة عقولهم، لكنْ.. يقول الأعزلُ (لمنْ يقول؟): جسدي شخصٌ ثانٍ إنْ رغبتُ في مصاحبته اختفى، وإنْ رغبَ في مصاحبتي رغبتُ عنه وتعاليتُ عليه.
ملاحظة لقارئ أعزل: هذا نصّ مفتوح بإمكانك أن تضيف إليه ما تراه مناسباً، أو غير مناسب، فيومُ الأعزلِ كما تعلم = 1440 دقيقة صمت، ولابد من ملء الفراغاتِ باكتشافاتٍ جديدة تلائمُ روحَ العصر ومتطلبات الحداثة، وتذكرْ بأن الأعزلَ المشار إليه في هذا النص قد جردته الأسبابُ من أسلحته، فاختارَ العزلة بمحض إرادته، ولن يتنازل عن حرية اختياره مهما كان الثمن.
خاتمة: قد يجرّبُ الأعزلُ الانتحارَ، وهو فكرةٌ تراوده دائماً، لكنه يتراجع في اللحظات الأخيرة، ليس خوفاً، بل لأنه يستمتعُ بفكرةِ السيرِ على شفا الهاوية مغمض العينين ليحيا موته، ويعرفُ جيداً أن الموتَ نهايةُ الحياة، ولا يريد لهذه اللعبة أن تنتهي، فهي بكلّ مساوئها لعبةٌ مُسلية ولا تخلو من جمالية تستحق البقاء.
24/2/2010
• هذا النص أرسله الروائي والشاعر حميد العقابي الى مجلة "نثر" الفصلية التي يرأس تحريرها الشاعر صفاء خلف، ويدير تحريرها الشاعر عمر الجفّال في تموز 2011، كمساهمة منه في احدى ملفات المجلة التي توقفت عن الصدور حينها بسبب الضائقة المالية، ولم تنشر.