جدلية: كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
علي عبد الأمير: لطالما درست الموسيقى العراقية والعربية والغربية، وسبقني إلى ذلك نقاد وباحثون، بوصفها علامات صوتية، إلى حين إتصالي بمنهج يقول ان موسيقى أي عصر وأغنياته، كما يصفها الناقد سيمون فريث، أصبحت من الدلائل المعتمدة لتأشير مستوى الوعي الإجتماعي، ومثل هذه المهمة "السوسيولوجية " يتعمق في توضيحها فريث عبر كتاب" الفن في موسيقى البوب " الصادر 1987 عن دار "ميثوين" بلندن ونيويورك، وكتبه بالاشتراك مع هيوارد هورني.
ذلك كان في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وهو ما وقعت في أسره تماما، فتعرفت من خلاله بعمق على تجارب الغناء والموسيقى المغايرة فكريا للقيم السائدة غربيا وعربيا، حتى بدأت بقراءة لملامح "ثقافية- إجتماعية" في أنغام العراق المعاصر، وتحديدا منذ إكتمال العناصر الفنية لتلك الأنغام في أربعينيات القرن الماضي حتى اليوم، وفي حين لا تبدو هذه القراءة متطابقة في نهجها مع ما ذهب إليه سيمون فريث الا انها ليست بعيدة عنه، وان كانت تبدو هكذا على الاقل، لجهة كونها قراءة عراقية، ولجهة ان هذا المعنى أصبح بتأثير مخفف، مع تحول الموسيقى المعاصرة، ونقدها إجتماعيا بالتالي، الى واحدة من علامات الإتصال الثقافي الكوني في الربع الأخير من القرن العشرين.
جدلية: ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
علي عبد الأمير: الكتاب محاولة في تأصيل منهج نقدي يتعاطى مع الأنغام بوصفها ملمحا إجتماعيا، وليس مجرد علامة صوتية معقدة في تركيب عناصرها الفنية، انه كتاب يقرأ الأغنية والموسيقى بوصفهما "باروميتر" الوعي الإجتماعي والثقافي للفترة التي انتجتهما.
وإنطلاقا من ان ملامح الحداثة في العراق ومؤشرات إنفتاح الحياة الفكرية والسياسية والثقافية على العصر، قد بدأت فعليا مع أربعينيات القرن الماضي، فان الكتاب يبدأ قراءته للنتاج النغمي العراقي خلال ذلك العقد، ليتوقف عند عقد الخمسينات الهائل بنتائجه وظواهره الموسيقية والغنائية، دارسا لأشكال واساليب نغمية، وأصواتا وملحنين، ثم متوقفا عند عقد الستينيات الذي شهد نهاية شكل الغناء المديني، وبدء مرحلة يسميها المؤلف، "الغناء الحالم" الذي استغرق عقد السبعينيات بالكامل وظلت أصداؤه حاضرة الى اليوم، وجاء بأشكال لحنية ونصوصا غنائية عكست لحظة إجتماعية وثقافية عراقية جادة، عناها التداخل الإجتماعي والفكري والثقافي في نسيج بدا "حالما" وغير واقعي، بل انه قد صنع قسريا نتيجة توجه سياسي ضاغط، ليتفكك بقوة على وقع طبول القمع الفكري في العامين 1978-1979 ثم وقع طبول الحرب في الثمانينات. ومع دخول البلاد في مرحلة الحصارات الداخلية والخارجية، أمكننا تلمس ملامح التراجع الفني في النتاج النغمي العراقي، ضمن سياق، أطلقت عليه عنوان "الموسيقى العراقية في نهايات القرن العشرين". والسياق ذاته، إمتد كفعل إجتماعي- ثقافي في النتاج النغمي العراقي وصولا الى يومنا هذا، دون ان نغفل بحث تجارب لافتة ظلت تشع وسط حياة كابية الأنوار الفكرية والثقافية
جدلية: ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
علي عبد الأمير: ان تقرأ نحو سبعة عقود، تبدو فعليا زمنا حقيقيا للموسيقى العراقية المعاصرة، أمر يستحق التنبه الى أكثر من جانب، كي يبدو البحث في موضعه الصحيح، توصيفا ومنهجا. فالمعني بـ"الموسيقى العراقية" في هذا الكتاب، هو النتاج النغمي الذي عرفته الدولة العراقية المعاصرة، وتحديدا لسنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، حتى العقد الأول من قرننا الحالي، فضلا عن كونه معنيا، (ليس انكارا ولا إهمالا)، بالنتاج النغمي (موسيقى وأغنيات)، الذي أخذ مداه في العراق- العربي، إنطلاقا من ان المؤلف، لم يشأ ان يخوض في بحث نتاج نغمي كردي، او تركماني، او كلدو-آشوري، لا يبدو على معرفة "دقيقة" بجوانبه الفنية واحالاته الإجتماعية، لكن هذا لا يعني غياب، أثر موسيقيين وملحنين وغياب، من هذه الأصول الإجتماعية والثقافية والنغمية الحية، عن متن الكتاب وموضوعته، لا سيما ان "هوية وطنية" عراقية كانت مع دخول واعد للبلاد الى الحداثة، هي السائدة والفاعلة، ما جعل تلك الأصول تنسج وجودها بهدوء وانسجام مع الأصول الآخرى، فستجد ان كثيرا من أصحاب التجارب البارزة في نغم بلاد الرافدين المعاصر، هم من تلك المرجعيات القومية والثقافية والإجتماعية "غير العربية"، وحاضرون بقوة في فصول الكتاب وجوهر فكرته.
كما ان من الضرورة الاشارة الى ان الكتاب ليس توثيقا تاريخيا، ولا رصدا ببلوغرافيا او إرشيفيا للنتاج الغنائي والموسيقي المعاصر في العراق، فان القارئ قد لا يجد قراءات مفصلة، أو حتى ذكر لأسماء وتجارب يراها صاحبة نغم معين، حيث ان البحث ذهب الى رصد الظواهر التي عنت بمحمولات إجتماعية، وكشفت عن تحولات ذوقية في الأداء والتلقي، وتحديدا موضوعات تتعلق برصد ملامح الحداثة في الحياة الموسيقية العراقية ونكوصها 1940-2015، بوصفها دلالات إجتماعية.
وقبل كل هذه التحديات، كان الوصول إلى ناشر عربي يؤمن بفكرة الكتاب ومداه الزمني الواسع وحجمه (نحو 560 صفحة) حتى مع عدم معرفته بالمؤلف، وهو ما فعله الناشر خالد الناصري صاحب "دار المتوسط".
جدلية: كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
علي عبد الأمير: لا هو في موقع البحث الإجتماعي المحض، ولا هو متوافق كليا مع منهج النقد الموسيقي التقليدي. هكذا جاء الكتاب إنطلاقا كقراءة حديثة للنغم العراقي المعاصر، أحسب انني اجتهدت فيها، حتى مع كثير مما قد تلاقيه تلك القراءة من أهل الموسيقى والغناء، لا سيما انهم عرفوا الموسيقى بوصفها دلالة صوتية، ولم يعهدوا تحليلا إجتماعيا- ثقافيا لها.مثلما قد يعترض عليه باحثو علم الإجتماع والفكر السياسي، فهو ليس متمثلا لمسارهم البحثي الأكاديمي على أهميته ودقته.
جدلية: ماهو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
علي عبد الأمير: جاء نوع من العرفان الشخصي لروحية البلاد التي هذبتني وعلمتني وعذبتني أيضا، وهو كتاب في نقد الموسيقى، إن شئتم، بعد كتاب "فصول في الموسيقى الغربية المعاصرة"، بغداد 1990، و"إشراق – بحث في التجربة الموسيقية والإنسانية لنصير شمّه" القاهرة 2014، وبعد أربعة كتب شعرية كان آخرها ما أصدرته قبل أيام، "الطائر على شراع الألم"، في نسخة اليكترونية يمكن تنزيلها مجانا عبر موقعي الشخصي.
فضلا عن كتابي "حنين بغدادي" عمّان 2012، والذي تابعته "جدلية" وأظهرت جوانبه بوصفها أكثر من نوستالجيا، اذ هي محاولة في ترسيخ ملامح إنسانية عميقة للمكان البغدادي وثقافته تتعرض منذ عقدين تحديدا لمحاولات من المحو التام.
جدلية: من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
علي عبد الأمير: جمهور الدراسات الثقافية غير التقليدية، جمهور النقد الثقافي إن شئت، فهو بنية نقدية للسائد فكريا وفنيا موسيقيا في الثقافة العراقية، ونقد للقيم السائدة فكريا وسياسيا واجتماعيا. الإنطباعات الأولية التي خصني بها مقتنو الكتاب من جيل جديد في العراق غير مأسور بالصور التقليدية للثقافة العراقية، أكدت ان صبري ودأبي في انجاز الكتاب، طوال خمسة أعوام من البحث والمراجعة والإستماع والتدقيق، وصل إلى مشارف ما أجتهد من أجله.
جدلية: ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
علي عبد الأمير: من سيقرأ كتاب " رقصة الفستان الأحمر الأخيرة" سيلاحظ غياب النتاج الموسيقي الغربي (الكلاسيكي منه او المعاصر)، كما برعت فيه أسماء وتجارب عراقية، ذلك إنني قصدت تأجيل بحث ذلك الى كتاب آخر، يرصد فيه ذلك الآندراج الثقافي والروحي لموسيقيين عراقيين قاربوا الأنغام الغربية منذ باخ وصولا الى الروك.
وثمة كتاب آخر بعنوان "بورتريهات غير مرئية لبغداد" وهو يعني بجو ثقافي – اجتماعي في العاصمة العراقية ساد خلال عقود، ولم يتعرفه السرديات المعروفة عن الثقافة العراقية.
"معهد الفنون الجميلة": بدايات عصر التنوير العراقي
تميزت العقود الأولى من بناء الدولة العراقية المعاصرة، بمبدأ صحيح سارت عليه التجارب الإنسانية الناجحة، الا وهو إعتماد مبدأ تراكم التجارب العملية، الواحدة تلو الآخرى، وليس القطيعة معها، كما في النهج الذي اعتمدته حكومات العراق الجمهوري منذ العام 1958 حتى اليوم، إذ ان كل حكومة كانت تنسف البناء الطبيعي الذي انجزته ما قبلها، بدعوى انها الصواب وما قبلها هو الخطأ التام، وبالتالي ضاعت جهود تأسيسية في أغلب ميادين الحياة التي تشكل حياة البلاد وأهلها.
واعتمادا على منهج إغناء المعرفة عبر تراكم التجارب، أسست الحكومة العراقية (وزارة المعارف آنذاك)، وتحديدا في أوائل شهر كانون الثاني من عام 1936، معهداً فنياً هو "معهد الموسيقى"، الذي يرجع الفضل فيه للرائد العراقي الراحل حنا بطرس، إذ قدّم كل ما يملك من موهبة موسيقية وجهد ونشاط في تهيئة مكان ومستلزمات هذا المعهد، الذي عمل على إظهار فكرة تأسيسه الى النور، كل من الأستاذين التربويين: الدكتور متي عقراوي، والدكتور فاضل الجمالي (أبو الدبلوماسية العراقية المعاصرة، وحأمل رسالة بلاده الى العالم عبر كونه أحد الموقّعين البارزين على اعلان تأسيس منظمة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية).
في العام ذاته، وجّهت الحكومة العراقية، دعوة إلى الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر، الذي إعتمد على ما أنجزه، الفنان بطرس في أقامة صرح فني وتربوي هو الأول من نوعه في المنطقة.
وتشكلت الهيئة التدريسية الأولى لـ"معهد الموسيقى" من الاساتذة:
*الشريف محيي الدين حيدر مديراً للمعهد ومدرساً لآلة العود والفيولونسيل (الجلو).
* حنا بطرس معاوناً للمدير ومدرّساً للالات الهوائية.
*ماركو ثيجي وجوليان هرتز (رومانيا) لآلة البيانو.
*نوبار ملخصيان (أرمني من تركيا) لتدريس آلة القانون.
*انيس جميل سعيد (فرنسي من أصل تركي) للكمان الغربي.
*ساندو آلبو (من رومانيا) للكمان.
*عبدو الطّبّاع لتدريس آلة الناي.
*علي الدرويش لتدريس آلة الناي وغناء الموشحات الآندلسية، والذي كوّن فرقة عملت في الإذاعة العراقية وكان من أشهر تلأميذه ومساعديه، الأستاذ الراحل روحي الخماش، الذي ظل أمينا على هذا النهج الموسيقي والتربوي، أكان في احيائه "فرقة الإنشاد العراقية"، أم في تدريسه الموشحات، شكلا غنائيا وفنا موسيقيا خالصا في معهد الفنون الجميلة لسنوات طوال.
اتخذ المعهد جزءاً من بنأية "نادي المعلمين" في منطقة (المربعة) في قلب بغداد النابض، حينذاك: شارع الرشيد، ليتوسع في العام 1940 عبر فتح فروع للتمثيل والرسم والنحت، وليتحول إسمه الى "معهد الفنون الجميلة". ومع الاقبال الواسع كان يضيق المعهد بدارسيه ومدرّسيه، ليتخذ مقرا جديدا في "عقد النصأرى" لفترة وجيزة، ثم بنأيات عدّة ببغداد إلى ان استقرت به الحال في عام 1946 في شارع الأمام الاعظم.
ضد القيم السائدة
ولنلاحظ هنا الجدية في دراسة الفنون، وأين؟ في بلاد كانت قيمها الإجتماعية والثقافية السائدة، تنظر بريبة الى الثقافة الجديدة، فكيف بها وهي فنون جميلة، يدرسها طلبة يتطلعون بشوق الى العصر ومواكبة أفكاره، ثم ومتى؟ في لحظة كانت فيها القيم العشائرية والدينية تخنق أي تطلع للخروج من خيمة وصأياها وسلطتها الثقيلة، بل ان تلك القيم كانت تقف بقوة ضد التعليم وحتى الأساسي منه، فكيف بدراسة الموسيقى والرسم والنحت!
ومن ملامح الجدية في الدراسة نجد:
*الدراسة لست سنوات في الفروع الشرقية، وسبع سنوات في الفروع الغربية.
*يقبل فيها خريجو الصف السادس الابتدائي على الاقل.
*في عام 1952 تأسس قسم الموسيقى والإنشاد للدراسة الصباحية (إختصاص إعداد معلمين)، لتدريس الموسيقى والأناشيد في المدارس، ومدة الدراسة فيها ثلاث سنوات بعد الدراسة المتوسطة.
ويكفي كمؤشر على حصاد تلك البدايات الجدية، ان نعرف الإسماء الرفيعة التي قدمها المعهد، لفنون العراق الجميلة، والموسيقى في مقدمتها:
- الدورة الأولى (لآلة العود) عام 1943 : تخرج فيها جميل بشير وسركيس آروش
- الدورة الثانية (لآلة العود) عام 1944 : سلمان شكر
- الدورة الثالثة (لآلة العود) عام 1945 : منير بشير
-الدورة الرابعة (لآلة العود) عام 1946 :غانم حداد و عادل أمين زكي
-الدورة الخامسة (لآلة العود) عام 1947 : سالم عبد الله ذياب، محمـد ياسين عبد القادر
-الدورة السادسة (لآلة العود) عام 1949 : يعقوب يوسف، نازك الملائكة، خليل إبراهيم، و فوزي ياسين
- في الفروع الموسيقية الآخرى تخرّج، آرام بابوخيان، آرام تاجريان، سيلفا بوغوصيان، بياتريس أوهانيسيان، حمدي محمد صالح، منير نوري الله ويردي وغيرهم.
علي عبد الامير شاعر وناقد وصحافي عراقي، عمل مراسلا للشؤون العراقية في صحيفة "الحياة" 1998-2004 ومدير تحرير الأخبار العراقية في قناة «الحرة»، وكان يعد ويقدم برنامج «سبعة أيام» عبر القناة ذاتها 2004-2010. كما أنه كان مراسلاً للعديد من الصحف والمجلات العربية إضافة إلى رئاسته تحرير مجلتي «المسلة» و«أوراق ثقافية» 1998-2003. له العديد من الأفلام والبرامج الوثائقية كتابة وتقديماً.
يقيم حالياً في أميركا، ويعمل محرراً في موقع «إرفع صوتك» – قناة الحرة.
* الناشر
إصدار: 2017
عدد الصفحات: 558 القطع الوسط
منشورات المتوسط
ميلانو / إيطاليا / العنوان البريدي