تصادف هذا العام ذكرى مرور ستين عامًا على إقالة حكومة سليمان النابلسي، أي في العاشر من نيسان عام 1957. مرّ الأردن خلال هذه العقود الستة بتحولات سياسية كبرى ساهمت بشكل مباشر في خلق النسق السياسي في البلاد وتشكيله. ومن خلال تتبع النسق السياسي، يمكن لنا أن نجيب على سؤال تعثر التحول الديمقراطي، الذي حاول الكثيرون الإجابة عليه دون التطرق للعنصر الأهم وهو بنية السلطة وعلاقاتها وارتباطاتها، فوقعوا في فخ الخطابات الثقافوية العنصرية التي كثيرًا ما تتحدث عن ما يسمى «الاستثناء العربي» في هذا السياق، وتعزو هذا «الاستثناء» إلى «الإسلام» حينًا، وإلى «الثقافة العربية» و«الشخصية العربية» أحيانًا أخرى.
في هذا المقال الذي سينشر في جزأين، أحاجج بأن هناك ثلاثة مفاصل تاريخية فتحت الطريق لمسارات ديمقراطية كان من الممكن البناء عليها للتأسيس لحياة سياسية ديمقراطية في الأردن، تحديدًا فيما يتعلق بتوسيع المشاركة السياسية في إدارة البلاد، بدلًا من احتكارها من قبل شخص أو عائلة أو طبقة سياسية. هذه المفاصل الثلاث كان أولها حكومة النابلسي عام 1956، وثانيها هبّة نيسان عام 1989، وثالثها حراك عام 2011. وسيناقش هذا الجزء المفصل الأول، فيما يناقش الجزء الثاني المفصلين الآخرين.
في هذه المنعطفات التاريخية الثلاثة، أُجبرت السلطة على تقديم تنازلات سياسية على إثر حراك اجتماعي-سياسي أدى إلى فتح الطريق لمسار ديمقراطي كان من الممكن البناء عليه لو لم تنقلب السلطة نفسها عليه وتقطع الطريق أمامه. وقد تساعدنا هذه القراءة في أن نبرهن على أن السلطة، التي لطالما تمسكت بفكرة استعمارية مفادها أن «لا ديمقراطية دون نضوج ديمقراطي»، هي المعطل الأول لأي «نضوج ديمقراطي»، والعائق الأكبر تجاه التحول الوطني الديمقراطي الذي ناضل الأردنيون والأردنيات من أجله منذ عشرينيات القرن الماضي.
نشوء الحركة الوطنية
كثيرًا ما يتم التأريخ للحركة الوطنية الأردنية بدءًا من وحدة الضفتين عام 1950. وعند الحديث عن حكومة سليمان النابلسي، كثيرًا ما يربط السياسيون السياق التاريخي للحكومة بالحدث نفسه باعتباره نقطة البداية التي تأسست عليها الحياة السياسية في البلاد. لكننا في الحقيقة نستطيع، عبر تتبع المسار السياسي- التاريخي السابق لهذه الحكومة، أن نبرهن أمرين: أولًا، أن النضال الديمقراطي الأردني المُطالب بتأسيس حياة سياسية تقوم على صياغة شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم والانتقال بها من بنية إلى بنية، بدأ منذ المجلس التشريعي الأول لإمارة شرق الأردن عام 1929. وثانيًا، أن ما يسمى اليوم بأسس وقواعد التمثيل السياسي فرضَها وصاغها وأسسّ لها -قبل أن تهيمن عليها السلطة- الطرف المتهم دومًا بأنه غير واعٍ سياسيًا، وغير ناضج ديمقراطيًا.
تعتبر المعاهدة الأردنية – البريطانية التي فرضتها سلطات الانتداب البريطاني عام 1928 مدخلًا مهمًا لفهم بدايات تشكل الحياة السياسية في البلاد. فقد كان مسعى سلطات الانتداب في الموافقة على تأسيس المجلس التشريعي هو التصديق على المعاهدة الأردنية – البريطانية التي تضمنت في بنودها وجوب تصديقها من قبل المجالس البرلمانية في كلا البلدين.
أدركت القوى الوطنية المعارضة رغبة الاستعمار البريطاني في تأسيس مؤسسات تمثيلية شكلية لتحقيق مصالحه، وترافق ذلك مع قلق العديد من الفئات الاجتماعية من الفلاحين والبدو من فكرة تأسيس دولة مركزية قد تهدد نمط حياتهم بأكمله وتفرض عليهم نمط حياة جديد يترافق مع مزيد من الالتزامات المالية، كالضرائب وغيرها.
تشير الباحثة ميسون عبيدات في كتابها «التطور السياسي لشرق الأردن في عهد الإمارة» إلى وقوف الأردنيين ضد ما أسمته «مهزلة» بريطانيا في إظهار شرق الأردن بمظهر الدولة المستقلة، من خلال الموافقة على صدور القانون الأساسي وإجراء انتخابات المجلس التشريعي الأول بعد صدور المعاهدة. تؤكد الباحثة أن معارضة الأردنيين لهذا المسعى كانت قائمة على رفضهم «أن تبنى الحياة الدستورية على ضوء المعاهدة التي جاءت في جميع بنودها لخدمة مصالح السلطة المنتدبة»، وهو ما يتعارض مع أسس القواعد والأصول الدستورية، حيث تبنى المعاهدات على الدساتير، وليس العكس.
ردًا على ذلك، دعت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الأول لمقاطعة انتخابات المجلس التشريعي الأول، وعلى إثر ذلك قاطع العديد من أهالي الكرك وعمان ومادبا والسلط والرمثا التسجيل للانتخابات. وحاولت الحكومة بشتى الوسائل الضغط على الأهالي للتسجيل، فبحسب عبيدات، تشير وثائق مديرية مادبا إلى العديد من العرائض التي قدمتها بعض عشائر مادبا احتجاجًا على التضليل الذي مارسته الحكومة من خلال الجهة المسؤولة عن التسجيل، إذ سعت إلى إقناع الأهالي بأن الهدف من التسجيل للانتخابات هو تقديم قروض من المصرف الزراعي وتأجيل دفع الأموال الأميرية. بالإضافة إلى هذا، أعفت الحكومة أهالي الكرك من ضريبة الأراضي والمسقفات وبدلات الطرق والأعشار، مقابل التسجيل للانتخابات. كما عوقبت معان بضمها انتخابيًا إلى الكرك وحرمانها من أن تكون دائرة انتخابية مستقلة، بسبب مقاطعتها الانتخابات، وبقيت على هذا الحال لسنوات عديدة.
من المهم الإشارة إلى أن اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني لم ترفض فكرة تأسيس مجالس تمثيلية من حيث المبدأ، بل أن الرفض كان لهذا الشكل من المؤسسات التي تسعى القوى الاستعمارية إلى السيطرة على البلاد من خلالها. لذلك، عند تتبع خطاب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني ومطالبه نرى بوضوح أن اللجنة كانت تناضل على جبهتين، جبهة فرض وجبهة رفض؛ جبهة فرض أسس التمثيل السياسي الديمقراطي، حيث أعلنت «أن كل انتخاب للنيابة العامة يقع في شرق الأردن على غير قواعد التمثيل النيابي الصحيح وعلى أساس عدم مسؤولية الحكومة أمام المجلس النيابي لا يعتبر انتخابًا ممثلًا لإرادة الأمة وسيادتها القومية»، وجبهة رفض الاستعمار البريطاني المتمثل بالمعاهدة، حيث أكدت في إحدى بياناتها الموجه لأهالي شرق الأردن على «عدم الاعتراف بمشروعية الحكم الأجنبي، ونسيان الدماء التي بذلها العرب (..) أي عار يلحقنا أعظم من عار تسليم بلادنا لقمة سائغة للمطامع الاستعمارية وأن نخدع أنفسنا ونسمي الاستعباد انتدابًا والتحكم الأجنبي المطلق دستورًا وحرية واستقلالًا؟ (…) أيها المجلسيون [نسبة إلى أعضاء المجلس التشريعي الأول] برهنوا للعالم أجمع أن الأردني حكوميًا أو شعبيًا هو رجل شريف وأنه أسمى عقلًا من أن تخدعه الحيلة الاستعمارية والأحاييل الأجنبية».
كانت رغبة السلطة الاستعمارية والمحلية تشكيل مجلس طيع يمثل مصالحها ويمكن السيطرة عليه، لذلك لم يكن المجلس كله منتخبًا، بل كان قرابة ثلث مقاعده محجوزًا لأعضاء الحكومة، وكانت رئاسة المجلس تذهب تلقائيا لرئيس الحكومة. لكن رغم ذلك، استطاعت المعارضة أن تؤثر سياسيًا على الأعضاء المنتخبين من أجل الوقوف في وجه المطامع الاستعمارية والتأسيس لحياة ديمقراطية تقوم على المصالح الوطنية العليا للأردنيين.
يؤكد الباحث خليل الحجاج في كتابه «التطور التاريخي للحياة التشريعية والنيابية الأردنية» أن مطالب المعارضة داخل المجلس التشريعي الأول جاءت متوافقة تمامًا مع مطالب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني التي تتلخص باستقلال البلاد ودستورية حكومتها على الوجه الأمثل. فقد رفض أعضاء المجلس المنتخبين المصادقة على المعاهدة وطالبوا بتعديلها تعديلًا جوهريًا، وأبدت الحكومة عجزها عن تعديل المعاهدة قبل تصديقها، وهددت بريطانيا بإعادة البلاد تحت سيطرتها المباشرة أو ضمها لفلسطين وإدخالها ضمن وعد بلفور إذا لم يتم المصادقة على المعاهدة، وهذا ما أقر به الأمير عبد الله صراحة أمام المجلس التشريعي. ومع وجود أعضاء الحكومة في المجلس وعلى إثر تلك التهديدات، صادق المجلس على المعاهدة التي أصبح تعديلها أو إلغائها لاحقًا مطلبًا وطنيًا تبنته الحركة الوطنية الأردنية الناشئة.
ناضلت الحركة الوطنية من أجل انتزاع أكبر قدر ممكن من الصلاحيات للتأسيس لحياة سياسية تقوم على القطع مع الاستعمار وبناء المؤسسات الوطنية الديمقراطية. وانعكس خطابها على مطالب أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين. إذ طالب المجلس التشريعي الأول بتشكيل حكومة دستورية تكون مسؤولة أمام مجلس يتمتع بصلاحيات رقابية وتشريعية، بدلًا من مجلس تشريعي ذي مهمات استشارية. كما طالب المجلس التشريعي الأول بتعديل صيغة قسم الولاء، والاستغناء عن الموظفين غير الأردنيين، ورفض إنشاء محكمة يرأسها ضابطان، أحدهما يمثل الحكومة البريطانية والآخر يمثل الحكومة الفرنسية، لحل الخلافات الناشئة بين عشائر شرقي الأردن وسوريا وجبل الدروز. وطالب المجلس بأحقية النظر في المعاهدات وتصديقها أو رفضها، إلى جانب أحقية تصديق القوانين. ورفض المجلس التصديق على ملحق الموازنة الذي تقدمت به الحكومة بعد أن كانت قد أنفقت ما احتوى عليه من مخصصات، وعلى إثر ذلك حلّ الأمير عبد الله المجلس التشريعي الأول قبل أن يكمل مدته الدستورية.
إن الهدف من هذه الإضاءات التاريخية هو البرهنة على أن ما يسمى بقواعد وأسس التمثيل السياسي والبرلماني -التي هيمنت عليها السلطة اليوم وحولتها إلى أدوات لخدمتها- تم انتزاعها انتزاعًا من السلطة الاستعمارية والمحلية على مراحل متفرقة، بدأت بالمجلس التشريعي الأول، وتطورت لاحقًا مع تطور الحركة الوطنية. فالمعارضة لم تُمنح أي شي بالمجان، بل عالعكس، كانت مضطرةً إلى الضغط باستمرار وخوض معارك لنيل حتى أصغر الأمور. ومن الأمثلة على ذلك، رفضُ المجلس التشريعي الأول النظر في الأعمال الموكلة إليه بعد أن رفضت الحكومة منح أعضائه الحصانة البرلمانية.
شهد المجلس التشريعي الثاني بقيادة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني حالة نضوج واعية بفكرة أن تطور الحياة السياسية في ظل الاستعمار ما هو إلا ضرب من الخيال. فقد طالب المجلس في بداية انعقاده بتعديل أكثر من عشر مواد رئيسية في المعاهدة، ركزت في مجملها على استقلال البلاد. وطالبت المعارضة في الوقت نفسه، من خلال المجلس، بتعديل الدستور لمنح المجلس سلطته التشريعية كاملة، منفصلة عن الحكومة من جهة، وعن وزارة العدلية التي أخذت تشارك المجلس في سن التشريعات القانونية من جهة أخرى. على إثر ذلك، طالب المجلس بالفصل بين السلطات الثلاث، تحديدًا بعد أن أصدرت الحكومة نظامًا يخوّل الأمير منح السلطة القضائية لكبار الموظفين، والتصرف بتركات وأموال الرعايا البريطانيين. وأسقط المجلس الحكومة بعد أن توترت العلاقة بينهما لدرجة مقاطعة أعضاء المجلس المنتخبين حضور الجلسات حتى رحيل الحكومة، مما اضطر الأمير عبد الله إقالة حكومة عبد الله سراج بتاريخ 18 تشرين أول 1933.
من الملاحظ من هذا العرض أن الفاعلين في العمل السياسي الناشئ مع تأسيس الإمارة كانوا منقسمين إلى طرفين؛ طرفٌ تمثله الحركة الوطنية الناشئة، يحارب من أجل فرض قواعد تحكم العمل السياسي، ويدرك أهمية التعاطي مع استقلال البلاد من جهة والتأسيس لحياة سياسية ديمقراطية من جهة أخرى كمهمة واحدة من المخلّ فصلها إلى مهمتين، وطرفٌ آخر ممثل بالسلطتين الاستعمارية والمحلية، يسعى إلى تعطيل الحياة السياسية والهيمنة على المؤسسات، وإفراغها من أي مضمون من أجل تحقيق مصالحها. لذلك، ليس من الصعب استنتاج أن دستور 1952 لم يكن منحة ولا حدثًا مفاجئًا معزولًا عن سياقه، بل كان نتاجًا لمسار سياسي بدأ مع تأسيس الإمارة ووصل إلى مداه مع حكومة سليمان النابلسي قبل أن تقطع السلطة طريقه.
دستور 1952 والمسار الديمقراطي الأول
بعد استقلال البلاد عام 1946 استمرت المعارضة في صياغة مطالبها، وحقق دستور 1947 أحد مطالب المعارضة السابقة عندما نزع حق رئاسة المجلس من رئيس الحكومة، وأسقط عضوية الحكومة من مجلس النواب التي كانت مقرة بموجب القانون الأساسي منذ عام 1928، دون أن يُمنح المجلس الحق في اختيار رئيس المجلس، وأعطى الملك أحقية اختيار الرئيس بالتعيين. ويقول الباحث هاني الحوراني في كتاب «تاريخ الحياة النيابية في الأردن» إن الدستور الجديد كان موضع اعتراض القوى الوطنية، خاصة بسبب «عدم نصه على المسؤولية الوزارية التي هي حجر الزاوية في النظام البرلماني، وكذلك بسبب عدم منحه ممثلي الأمة حق إبرام المعاهدات»، بالإضافة إلى إعطاء الحكومة الحق بعد موافقة الملك بإقرار مشروع الموازنة في حالة إذا لم يوافق المجلس على النظر في الموازنة. لذلك، نستطيع أن نقول أن دستور 1947 استمر في تكريس حقيقة أن وظيفة المجلس استشارية أكثر منها رقابية أو تشريعية كما كان قائمًا في فترة الإمارة.
استمرت المعارضة بتنظيم نفسها على المستوى الشعبي والسياسي بالعنوان نفسه القائم على التخلص من حكم الاستعمار وتداعياته والتأسيس لحياة سياسية ديمقراطية. ويؤكد الباحث خليل الحجاج أن المعارضة نشطت في عهد مجلس النواب الأول نشاطًا ملحوظًا، إذ ظهرت كتلة أطلقت على نفسها اسم «كتلة المعارضة المستقلة»، وبدأت نشاطها ببيان طالبت فيه بتعديل معاهدة 1946، وإلغاء الملحق العسكري من المعاهدة، وتخليص البلاد من الأحكام والامتيازات الاقتصادية التي أوجدتها ظروف الانتداب. وحرضت كتلة المعارضة المجلس على المطالبة بإلغاء كل القوانين التي تحدّ من الحريات العامة والعمل السياسي كقانون منع الجرائم، وقانون النفي والإبعاد، وقانون العقوبات المشتركة، وقانون الاجتماعات العامة (التي سُنت في عهد الإمارة من أجل قمع المعارضة). كما طالبت الكتلة بتعديل مواد معينة في الدستور، الذي لم يكن قد مضى عام على تشكيله، من أجل تقييد صلاحية السلطة التنفيذية في إصدار القوانين المؤقتة، والحد من السلطة المطلقة الممنوحة للحكومة وإخضاعها لمسؤولية المجلس.
مع وحدة الضفتين، تغيرت الخارطة الاجتماعية للبلاد إذ أن انضمام أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الفلاحين والعمال والحرفيين أدى إلى اتساع القاعدة الاجتماعية لقوى المعارضة المناضلة من أجل التحرر الوطني والديمقراطي. وترافق ذلك مع موجة السعي للتحرر من الاستعمار في العديد من الدول العربية وقيام منظومة دولية جديدة من الدول الاشتراكية. ومع مطلع الخمسينيات، تأسس كل من الحزب الشيوعي الأردني، وحزب البعث، وحزب الجبهة الوطنية، والحزب الوطني الاشتراكي بزعامة سليمان النابلسي، وحددت الحركة الوطنية مهماتها النضالية، كما يلخصها هاني الحوراني في كتاب «حكومة سليمان النابلسي» أولًا بإلغاء المعاهدة الأردنية – البريطانية لعام 1948 واستكمال البلاد استقلالها السياسي والاقتصادي من خلال الاستغناء عن المعونة المالية البريطانية. ثانيًا، إقرار دستور ديمقراطي يحدّ من امتيازات السلطة التنفيذية ويؤكد المسؤولية الوزارية أمام المجلس النيابي ويضمن للقضاء سلطته واستقلاله. وثالثًا، إلغاء القوانين المقيدة للحريات، كقانون الدفاع وغيره من الأنظمة والتعليمات العرفية.
تمثلت أحزاب المعارضة تمثيلًا واسعًا في مجلس البرلمان الثاني، وفرضت مطالبها داخل أروقة المجلس، وكان على رأسها تعديل الدستور الذي أصبح مطلبًا عامًا أجمع عليه كل أعضاء مجلس النواب والأعيان باستثناء ثلاثة أعضاء من مجلس الأعيان. إذ رفض المجلس المصادقة على موازنة 1951 ردًا على رفض الحكومة تعديل الدستور، وعلى إثر ذلك حلّ الملك عبد الله المجلس الثاني. لكن مع استمرار الضغط لمطلب تعديل الدستور، استجابت السلطة السياسية، وأقر مجلس النواب الأردني الثالث -الذي تم انتخابه بعد بضعة شهور من حلّ سابقه- عام 1952 دستورًا وُصف بالتقدمي.
مع إقرار دستور عام 1952، دخلت البلاد مسارًا ديمقراطيًا ناضل الأردنيون من أجل الوصول له منذ توقيع المعاهدة الأردنية – البريطانية عام 1928. تضمن هذا المسار إقرار مجموعة من القوانين المنظمة لحقوق العمال والنقابات المهنية والأحزاب السياسية والبلديات والمطبوعات. واستعادت البلاد قدرًا كبيرًا من الحريات السياسية والعامة. ومع معركة إسقاط حلف بغداد وتعريب الجيش وطرد كلوب باشا، قويت المعارضة ونظمت نفسها وزادت شعبيتها، وجاءت حكومة سليمان النابلسي كنتاج لهذا المسار الديمقراطي الأول الذي فرضه الأردنيون على السلطة للانتقال بإدارة البلاد من مرحلة إلى أخرى.
أتت حكومة سليمان النابلسي كتجسيد سياسي للمطالب التاريخية التي ناضلت الحركة الوطنية الأردنية لتحقيقها منذ تأسيس الإمارة. حيث هدفت منذ اليوم الأول إلى إرساء قواعد الحياة الديمقراطية النيابية الدستورية، وتثبيت فكرة العمل الحزبي كأساس للحياة السياسية، والقطع مع الاستعمار من خلال إلغاء المعاهدة الأردنية – البريطانية، واستبدال المعونة البريطانية بمعونة عربية، واعتبار قضية فلسطين قضية العرب الأولى. وحازت الحكومة على ثقة المجلس النيابي بأغلبية 39 من 40 صوتًا، حيث عارضها نائب وحيد هو النائب أحمد الداعور، ممثل حزب التحرير الإسلامي.
انقلاب القصر
خلال الأشهر الست التي شكلت عمر هذه الحكومة البرلمانية، شهدت المنطقة والأردن أحداثًا وتغيراتٍ سياسية مهمة، بدءًا من العدوان الثلاثي على مصر، مرورًا بإنهاء المعاهدة الأردنية – البريطانية، وصولًا إلى مشروع آيزنهاور الذي طرحته الولايات المتحدة تحت ما يسمى بسياسة «ملء الفراغ» الناجم عن انسحاب بريطانيا من المنطقة.
وفي موازاة فترة المفاوضات على إنهاء المعاهدة الأردنية – البريطانية، كان الصراع السياسي الدستوري بين القصر والحكومة يتفاقم شيئًا فشيئًا. إذ ساهم مشروع آيزنهاور، الذي رفع شعار «محاربة الشيوعية»، في زيادة حدة الخلاف بين الحكومة والقصر. ورافق ذلك توجه الحكومة نحو فتح علاقات مع الاتحاد السوفياتي. إذ يشير السفير البريطاني في تقرير رفعه إلى الحكومة البريطانية، كما هو مذكور في كتاب «الأردن في الوثائق السرية البريطانية» لماهر عثمان، إلى أن «الأزمة الحالية سببها التنافس بين الملك والحكومة على الاستحواذ على العربة القومية، وكذلك الخلاف بينهما على الموقف الذي يجب أن يتخذه الأردن تجاه نظرية آيزنهاور».
بحسب كتاب عثمان، طلب الملك الحسين مرارًا من حكومة سليمان النابلسي الوقوف ضد ما اعتبره مدًا شيوعيًا في الأردن، والضغط على صحيفة الحزب الشيوعي، «الجماهير»، لتكف عن مهاجمة بريطانيا. لكن النابلسي، في المقابل، عبّر في أكثر من مناسبة عن اعتقاده بأن الشيوعية ليست خطرًا على الأردن.
ألقى الخلاف السياسي بظلاله على مبدأ الولاية العامة للحكومة. ففي بيان كان من المفترض أن ينشر في الصحف، يتضمن نية الحكومة الاستقالة، يذكر السفير البريطاني أن البيان جاء فيه أن الحكومة، التي تتمتع بثقة الشعب، واجهت في الفترة الأخيرة مصاعب جمة في ممارسة وظائفها الدستورية، ومنها على سبيل المثال إرسال بهجت التلهوني، رئيس الديوان الملكي حينها، إلى دمشق والقاهرة والرياض، حاملًا رسائل لم تستشر الحكومة بشأنها.
كانت جلسة مجلس الوزراء في التاسع من نيسان عام 1957 القشة الأخيرة بين القصر والحكومة، بعد أن أصدرت الحكومة مجموعة من القرارات، منها إحالة عدد من كبار موظفي الدولة -الموالين للقصر- إلى التقاعد، منهم مدير الأمن العام اللواء بهجت طبارة، وتعين اللواء محمد المعايطة مديرًا جديدا للأمن العام، وإجراء تنقلات وتعديلات في الجهاز الحكومي. اعترض القصر على تلك الإجراءات، وعلى إثر ذلك، أبلغ الملك في اليوم التالي الحكومة بقرار إقالتها.
تحرك الملك سريعًا لتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة النابلسي، فطلب من حسين الخالدي أن يشكّل الحكومة، لكنه أخفق في تشكيل حكومة مقبولة لكل من الملك والأحزاب السياسية. ثم كلّف الملك عبد الحليم النمر، نائب النابلسي في رئاسة الحزب الوطني الاشتراكي، لكنه أخفق في ذلك أيضًا، بعد أن اشترط حزبه أن تضم الحكومة الجديدة كل من عبد الله الريماوي وشفيق ارشيدات، اللذين كانا وزيرين في الحكومة السابقة، ولم يوافق الملك على ذلك.
وبعد أن أخفق أيضًا سعيد المفتي في تشكيل حكومة جديدة، اتفق الملك مع الأحزاب في 15 نيسان على أن يشكّل الخالدي حكومة يكون سليمان النابلسي وزير خارجيتها. بعد أسبوع من تشكيل الحكومة، عقدت الأحزاب اليسارية مؤتمرًا وطنيًا في نابلس شارك فيه 23 نائبًا من البرلمان، وأعلنوا سحب الثقة من حكومة الخالدي ودعوا الشعب الأردني إلى الإضراب في 24 نيسان، كما يشير ماهر عثمان.
على إثر الإضراب والمظاهرات التي عمّت الضفتين، بالاضافة الى سحب الأحزاب ثقتها من الحكومة، قدّم حسين الخالدي مساء ذلك اليوم استقالة حكومته التي لم تكمل الأسبوعين، ليقرر الملك تكليف إبراهيم هاشم بتشكيل حكومة جديدة دون الرجوع إلى البرلمان لأخذ ثقته. بدورها، أعلنت حكومة هاشم الأحكام العرفية واتخذت مجموعة من القرارات، منها تعيين حاكم عسكري عام، عيّن بدوره ستة حكام عسكريين على كافة مناطق المملكة، وحلّ كافة الأحزاب السياسية والاتحادات والنقابات المهنية والعمالية، بالإضافة إلى تجميد أعمال دورة مجلس النواب الحالي، مع استبعاد عدد كبير من أعضائه الذين كانت لهم ارتباطات حزبية، وهو ما أدى إلى تغيير بنية المجلس تغييرًا جذريًا.
بإقالة حكومة سليمان النابلسي، قطعت السلطة المسار الديمقراطي الأول، وتعطلت الحياة الدستورية والسياسية بالمجمل، وضعفت سلطة البرلمان حتى تحول إلى مؤسسة شكلية، قبل أن يحل بالكامل على إثر حرب 1967، مع فرض الأحكام العرفية التي استمرت وترافق معها سنّ مجموعة كبيرة من القوانين الاستثنائية، وتسربت مفاهيم الأحكام العرفية إلى القوانين العادية ومُنع العمل الحزبي.
باعتقادي، لم يكن من الممكن إقالة حكومة سليمان النابلسي دون أن يلحقها هذا الكم الكبير من القمع الذي مارسته السلطة السياسية. فقرار الإقالة كان بمثابة انقلاب على مسار تحوّل ديمقراطي التفت حوله قوى وأحزاب سياسية وفئات شعبية كثيرة، لذا كان من الصعب تمريره دون فرض الأحكام العرفية وتشديد القبضة الأمنية إلى أبعد حد ممكن.
بذلك، أسس هذا القطع التاريخي لمرحلة جديدة تمت فيها شيطنة الحزبيين واعتقالهم ومنعهم من العمل في مؤسسات الدولة، وفُصل الكثيرون من أعمالهم، واتُهموا بالعمالة للأجنبي وبأنهم «أعداء للدين والوطن»، ولجأت الأحزاب إلى العمل السري، الذي انعكس هذا بدوره انعكاسًا مباشرًا على مفهوم العمل الحزبي والنقابي في البلاد، وما زالت آثاره موجودة حتى يومنا هذا.
[يعاد نشر هذة المقال ضمن اتفاقية تعاون مع مجلة "حبر"]