كتب فيليب روث، في "شكوى بورتنوي"، إن إسرائيل منفى اليهود. وبمقارنةٍ لا تستقيم هنا (لعل مردّها هو التكرار الغريب لمقولات تلحّ على تخوين الأكراد ووصمهم بالانفصالية وتشبيه أحلامهم في دولة مستقلة بأحلام الإسرائيليين بأرض الميعاد، والربط الملغوم بين الموساد وكردستان) رأى صديق أن كردستان العراق قد تكون منفى كذلك إذا زارها أكراد آخرون، ولن يجدوا فيها وطنهم، لن يشعروا هناك بأنهم في منازلهم أو وسط أهلهم أبداً.
ذات صيف، منذ حوالى خمسة عشر عاماً، في مقهى الكمال الدمشقي، قرأنا في الصفحة الأخيرة من الجريدة السورية "تشرين"، عموداً يتحدث كاتبه عن فيليب روث وإيزاك باشيفيز سينجر وصول بيلو الذي غطى كمراسل صحفي نكسة الـ 67، أو حرب الأيام الستة، واصفاً إياهم بأنهم "صهاينة". لم يأتِ الصحفيّ على ذكر برنار ملمود، أو إيزاك بابل الذي كنتُ أقرأه وأنا أنتظر تجديد أوراقي في دائرة الهجرة. في خرس بلادنا الموبوءة بشتى صنوف الرقابة والاشتباه والتشهير، ربما كانت ريبة صاحب العمود ستتضاعف لو علم بأن هناك أكراداً ترجموا بعضاً من أعمالِ هؤلاء الكتّاب. كنتُ في تلك الفترة قد بدأتُ بترجمة قصص سينجر، ونشرتُ اثنتين منها لاحقاً. توهّمنا أن الصحفيّ المتربّص يقصدنا تحديداً، أنا وبعض أصدقائي، فأحدنا ترجم "وداعاً كولومبوس" التي لم تجد ناشراً. كنا نضخّم أوهامنا وكأن هناك حقاً مَن يقف لنا بالمرصاد أو يعبأ بنا. ظننا أنفسنا مشبوهين لأننا فكرنا، مجرد تفكير، بالاقتراب من العدو، وكأن قراءة بعض الأعمال الأدبية بحد ذاتها تطبيعٌ يستوجب الشجب. يكاد مثل هذا الجدل الشائك المتجدّد يتعذر على الحسم والتعيين الدقيقين، وما أكثر أصداء تضخيمه، وقد تربّى كثيرون على مثل تلك الشبهات ونشأوا عليها، وكأن الصهيونية وباء معدٍ ينتقل بالقراءة. قد لا يتذكر كثيرون إن مجلة "المعرفة" السورية كانت قد نشرت في السبعينيات ترجمات عديدة عن اللغة العبرية، وإحداها رواية "غبار" لليائيل ديان (ابنة موشي ديان). للأسف، لم يدم زخم تلك الترجمات طويلاً. كنا ننقب لنهتدي إلى مثل تلك الكتب، وقد صوّرنا بعضها سرّاً، مثل قصائد عميخاي التي أعارها إيانا محمد كامل الخطيب، ورواية "حنة وميخائيل" أو "ميخائيلي" لعاموس عوز.
في ذلك الصيف نفسه، كانت قد صدرت ترجمة لقصائد بورخيس، وفي تقديمها ظهر الشاعر الأرجنتيني صهيونياً لقبوله بجائزة القدس، ولصداقته مع غِرشوم شولم. سأتخيّل مَن يقول: "شولم العلّامة في القابالا! عاموس عوز! أنسيت الضوضاء حول الترجمة العربية لروايته "قصة عن الحب والظلام"؟ ولماذا تنسى "اليسار الإسرائيلي"؟ محمود درويش نفسه انتسب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وسجن جراء ذلك، وكتب في الزنزانة قصيدة إلى أمه. ألم يعزف إدوارد سعيد على بيانو دانييل بارنبويم؟ عاموس عوز قطف الزيتون مع الفلسطينيين. ديفيد غروسمان دوّن لقاء مع عزمي بشارة في كتاب "النوم على سِلك"، وقُتل ابنه في حرب تموز 2006 وكتب رسالة مؤثرة. لمَ هذه المبالغة، وهذا التشدُّد وهذا الشطط؟ هل نسيت الهجوم على رؤوف مسعد حين كتب "في انتظار المخلص"، وعلى إيمان مرسال لأن أشعاراً لها تُرجمت في تل أبيب؟ لماذا تنسى حمزة غنايم وتؤخذ بجعجعة الفضائح الثقافية، وتتناسى أن قطر، نصيرة حماس وكفيلة بعض المعارضين السوريين، تتّسع لمكاتب إسرائيل منذ سنين؟"
وأجيب في سرّي: "ألستَ انتهازياً أو مدّعياً حين تُظهر نفسك متضامناً وكاسراً للحصار ومتفانياً ومبشّراً بالخلاص والحرية؟ يخطر لك إن هذه هي اللحظة المناسبة للمصالحة، وسط كل هذه التداعيات والانهيارات، ويا له من فوز عظيم."
هناك بالطبع كتّاب عرب يزورون معرضاً للكتاب في تل أبيب أو القدس، أو يقبلون بالحصول على موافقة إسرائيلية للدخول إلى المناطق التي تحكمها السلطة الفلسطينية، تليها زيارة مستعجلة كطواف السيّاح في ما تبقى من مدن فلسطين، بعد إذلالٍ مرجَّح من حواجز الاحتلال على المعابر والجسور. لكن أين المفرّ؟ ولماذا هذا التحامل؟ الأمثلة لا تنضب. فما الجدوى من الإتيان بمثل أمين معلوف أو زياد دويري أو صلاح الحمداني، أو حتى محسن مخمبلاف الذي جثا مصلياً أمام الجمهور في القدس بعد تصويره فيلماً حول البهائيين المعزَّزين في الجولان، المضطهدين في إيران؟ ألم يطرد أدونيس من اتحاد الكتاب العرب بعد مؤتمر غرناطة، منذ عشرين عاماً، لأنه جالس وحاور كتاباً يهوداً، أم أن ذلك حكرٌ على الساسة؟ مَن أوكل إلينا بهذه المهمة الوقحة في مراقبة الآخرين، ومَن فوَّضنا بتسقُّط تصرفاتهم وفضحهم كأننا نحن التقاة أوصياء عليهم؟"
** ** **
سُميتُ على الهضبة السورية المحتلة، وفي سجونها صنع شاعرٌ سوريّ يرفض الجنسية الإسرائيلية دفترَ مخمل أسود ليكتب قصائده، وفي تلك المرتفعات رسمت رندا مداح ونحتتْ وصوّرت أفلامها القصيرة. أليس غريباً أن يبدو مثل هذا الحق في الرفض مثالاً مضحكاً عن تخلف الآراء ورجعيتها، فتتراءى في أنظار البعض متخلّفاً غشيماً يعتنق رأياً ظنوه قد سقط بالتقادم وتلاحق الهزائم، وتبدو في أنظار آخرين موالياً لحزب الله أو مؤيداً لبشار الأسد وأتباعه ممّن ردّدوا كيف عثر المقاوِمون على مدرعات إسرائيلية في القصير ويبرود، وصوَّروا علم إسرائيل مرفوعاً في حمص البدايات، واستشاطوا حين دعا جنرال إسرائيلي إلى معالجة الجرحى السوريين واستقبال العلويين. الحرس الإسرائيليون أنفسهم قتلوا شباناً سوريين حين حاولوا اختراق الحدود التي تقسم بعضَ بلادهم عن باقي بلادهم المطحونة بالبراميل والقذائف والصواريخ. بالطبع، دفاعاً عن النفس قتلتْ إسرائيل أولئك الشبان السوريين، وشنّتِ الغارات الجوية على مفاعل نووي في دير الزور وقصفت مطار دمشق والثكنات على قاسيون.
كم من شاعر عربي رفض القراءات في مناسبات ثقافية أوروبية لأن المنظمين جمعوه بشاعر إسرائيلي؟ أحياناً، لم يكن مبعث الرفض اقتناعاً بالضرورة، وإنما خوف الشاعر العربي من الاستجواب والاعتقال وافتضاحه كخائن، عند عودته إلى بلاده. أليست فكرة الأدب بوصفه بوابة للسلام استغلالاً سياسياً؟ أتساءل كيف تستساغ هذه الترّهات وتروَّج.
أتخيل مَن يقول زاجراً: "كأن بقايا تربية حزب البعث لا تزال ترهبك، أنت المخوَّف، المخوَّن. فمثل هذا الرفض مبعثه البارانويا، أو بقاياه التي تتفشّى في المنافي والمغتربات، أم لعله القلق على أهلك الذين لا يزالون في سوريا، أو ما تبقّى منها، وأنت لا تزال تستخدم جواز سفر سورياً تتمسك به؟ لا يزال خيالك مسكوناً بفضيحة كوهين، وقد تتذكر الكتب التي تتحدث عنه، من دون أسماء مؤلفين، على البسطات في كراجات الست وتحت جسر الرئيس في دمشق؟ أم تراك تقارنه بالتائب درايفوس الذي انقسمت فرنسا بسببه؟ لا مهرب من إسرائيل ومحبّيها الخلصاء ودافعي الكفّارات في أوروبا، إنها حقيقة وأمرٌ واقع. فلِمَ إذن الهرب من ملاقاة الإسرائيليين، وإلى متى سيدوم اجتنابهم كأنهم مجذومون؟ ألم يزد هذا التحريم من جاذبيتهم؟ إنهم متغلغلون في كل مكان، وأينما اتجهت لن تستطيع أن تتفادى مصادفتهم. الطريق مسدود أمامك إن لم تقبل بهم، فلمَ تسمي القبول تملقاً أو وضاعة؟ ستبقى منبوذاً، ولن تفتح أمامك الطرقات. لا تغترّ ولا تضخم الموضوع. أنت مثلاً في باريس، فمَن سيهتمّ ومَن سيعرف إذا شاركت إسرائيلياً قراءة هنا أو هناك؟ أما حضر معارضون ملثَّمون لقاء مع وكيل الحروب المتنقّلة برنار هنري ليفي الذي لم يتورَّع عن وصف ميشيل فوكو بأنه "برنار هنري ليفي عصره"؟ على العكس، على الأقل، شاركْ برسالة مضادة. اصعد إلى المنصة واشهِرْ رفضك للصهاينة ولقّنهم درساً".
لمن الدرس؟ أتساءل. لم ألقن أحداً أي درس كي أبدأ بنفسي، على هذا النحو، وأرتكب مثل هذا المواقف التي نفتل فيها عضلات كلامنا وننفخها بالفصاحة. أي طرقات هي المقصودة، وإلى أي مستنقع!؟ من جهة أخرى، هناك هذا الرُّهاب من ملامسة أي شيء إسرائيلي، كالبرتقال أو التفاح الموسوم بلصاقات الدولة العبرية التي قد تستولي على غور الأردن. أتذكر مهرجان الفوانيس في عمّان، حيث شارف خالد مشعل على الموت اغتيالاً، كيف رقصت امرأةٌ على الحلبة نفسها التي حام عليها أدباء منتَشون، وبينهم كتّاب ممانعون، ثم تبين أن السيدة ليمونية الفستان قرمزية الحذاء مجهولةٌ ولم يدعها أحد، ولا يعرفها أحد من المدعوّين والمنظّمين، وسرعان ما عرفنا إنها إسرائيلية. أين سنذهب بذكريات تلك البلدان، حين كان اسم إسرائيل مقلقاً، ونجمة داوود شبهة محتملة قد تحطُّ عليك وتنال منك وتُخفيك وتُنهيك؟
ليست المناسبات الثقافية فرصاً تسنح وعلينا باغتنامها لتأديب غيرنا. ليس القبول بمناقشة كتاب إسرائيليين جزء من مواكبة العصر وتبدُّل الأحوال، ولا امتحانا ًفي الجرأة والشجاعة، وحمل قصب السبق الذي حمله كثيرون في ماراثون التسامح. على العكس. إن في مثل هذا الاقتراب اقتراب ضعفاء مهانين، إذ كيف لنا استبعاد الاستغلال من النوايا؟ قد يؤخذ مثل هذا القول، ضمن مؤاخذاتٍ أخرى، إلى نظرية المؤامرة. لكن المستفز في مثل هذه التسويات هو الاستضعاف والرضوخ، إذ عند أي قبول بدولةٍ كإسرائيل، أركانها الجرائم والاستعلاء والتمييز العنصري والأسلحة، أو باسترضاءِ مَن يمثّلونها، أياً كانت صفتهم، فسوف تقدم تنازلاً رخيصاً وتضاعف من التغييب، وبسبب هذا التنازل لن يحترمك مَن دعاك. سيأتيك الاحتقار من الباب نفسه الذي تخيّلتَ نسائم التكريم تهبُّ عبره على وجهك، أما عواصف الشتائم، الآتية من المناهضين للتطبيع، فستفتح أبواباً أخرى عليك وأنت تتحدث عن الأخوّة والإنسانية والقيم النبيلة المشتركة التي تحسب نفسك مدافعاً عنها. تملَّ وجوهَ بعضٍ من بناة الجسور الثقافية. الجسور التي تُرفع على عظامنا ليعبرها الذين أهانوننا ونحن نصعدها من خلفهم ثم يتوَّجون بالغار على منصة التسامح، وقد نتوَّج معهم ولكن بتيجان المصلوبين.