قبل محمود درويش لم يكن هناك ما يمكن أن يدعى جديا بالأدب فلسطيني. كانت هناك محاولات. لكنها لم تبلغ حد تشكيل هوية لذاتها. كان هناك إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وأبو سلمى، كما كان هناك السكاكيني ووديع البستاني، واضع أساس الشعر الوطني في فلسطين. وكان غير هؤلاء أيضا. لكن يمكن القول أنهم كانوا جميعا مجرد بدايات لمن سيأتي بعدهم، أي لمحمود درويش. وهي بدايات فلسطينية لأنها خارجة من فلسطين فقط، وليس لأنها ذات هوية خاصة هي هوية فلسطينية.
محمود هو من خلق الهوية الفلسطينية في الحقل الأدبي. خلق موضوعاتها، وخلق لغتها.
لقد خلق الأدب الفلسطيني في الواقع. أوجده.
وبذا ساهم كفرد في خلق الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة. بل إنه ربما ما من كاتب واحد أسهم في صياغة هوية شعب بكامله كما فعل محمود درويش. لم يحصل مثل هذا مع أي هوية عربية حديثة. لم يحصل أن شاعرا أسهم، بهذا القدر، في تشكيل هوية. كان هذا امتيازا خاصا بمحمود.
ويكاد المرء يقول أن ما فعله بخصوص تشكيل الهوية يوازي بشكل ما فعل منظمة التحرير ذاتها. وبهذا المعنى فهو الوحيد الذي يمكن أن يقارن بياسر عرفات مثلا، بل ولعله من حيث عمق تأثيره يتفوق عليه. لم يكن درويش صنيعة المنظمة. هو والمنظمة ولدا في وقت واحد. وسارا معا. وهي كانت بحاجة إليه أكثر من حاجته إليها.
غير أن محمود لم يكن يكتفي بالطبع أن يكون شاعرا فلسطينيا. كان هذا أقل بكثير من طموحه. كانت لغته العربية تدفع به إلى أن يرث امرأ القيس والمتنبي وأن يبتلعهما إن أمكنه. فالشاعر لغته قبل جنسيته. "أنا لغتي" يقول درويش. وليس لدي من شك في أنه أسهم بما يكفي في تكوين الهوية الثقافية العربية الحديثة أيضا. هناك خلاف حول حجم دوره بهذا الخصوص. لكنه بالتأكيد يقف في الصف الأول من منتجي الثقافة العرب.
وإذا كان محمود مؤسس الهوية الأدبية الفلسطينية، فكل شاعر فلسطيني تأثر بمحمود درويش. حتى الشعراء الذين جاءوا قبله طالهم تأثيره. فنحن ننظر إليهم الآن في السياق الذي وضعه محمود درويش، لا خارج هذا السياق. في السياق الذي وضعنا فيه جميعا. محمود خلق إطارا وُضعوا هم كعناصر في داخله. وحين نفسرهم، فإنما نفسرهم من داخل هذا السياق.
أما الذين جاءوا بعده أو كانوا معه، فلا أحد هرب منهم من تأثيره أبدا. لا أحد. طرق التأثير اختلفت لكن التأثير كان ساحقا. وأنا واحد من الشعراء الذين أتوا بعد درويش بفترة. وكان شعري، وبوعي كامل، محاولة للابتعاد عن درويش وعن لغته واستعاراته وإيقاعاته. كل كلمة سادت في شعر درويش كانت بالنسبة لي كلمة لا يجوز لي استعمالها. لن تجد في دواويني الأربعة أو الخمسة الأولى زيتونا ولا برتقالا ولا ياسمينا. فتلك أشجار درويش ولا يجوز لي أن أقف في ظلالها. وسوف تجد عندي بديلا لها أشجار أرطى وأراك وأثل. لن تجد في شعري يافا ولا حيفا ولا الكرمل. تلك مدن درويش وليست مدني. هو من (اخترعها). هو من جعل الكرمل كرملا، ولا يجوز لي أن أصعد كرمله. لن تجد لدي عصافير دوري ولا حساسين ولا سنونو. تلك طيور درويش لا طيوري. لن تجد عندي غزلانا ولا أيائل. فهذه طرائد درويش لا طرائدي. عندي في شعري جمال وكلاب وحمير وحش وضباع وغير ذلك.
كل كلمة شاعت في قصائد درويش كانت مثل قنبلة لا يجوز لي أن أقترب منها. فكل ما يستخدمه درويش يصير له. يختمه بخاتمه. وأنا لا أريد أن أستخدم كلمات ختمت بختم درويش. وحتى حين يصادف أن تجد حصانا في شعري، فهو حصان يحاول بكل طاقته، عامدا متعمدا، أن ينفي أي علاقة له بأحصنة درويش التي زرعها الغجر على وترين.
هكذا حددتُ مساري الشعري تحت الضغط السلبي لمحمود درويش. وكلمة السلبي هنا تعني المعاكس. وهو ما يعني أنني تأثرت به من الزاوية الأخرى. تأثرت به عبر الهروب من عوالمه. وهذا تأثر يوازي تأثر المشابهة والتقليد. لقد أرغمني أن أبحث عن طرق أخرى مختلفة عن طريقة. لقد اكتسح الطريق كله، فكان علي أن أبتعد باحثا عن طرق أخرى ومسارب أخرى. لقد أرغمني على البحث عن طرق أخرى.
نموذجي الشعري كان يذهب عكس نموذجه. كان يتجنب نموذجه. ومن تضطر اضطرارا إلى معاكسته، فقد أسهم في خلقك وفي خلق نموذجك بشكل أو آخر.
لا أدري الأسباب الأعمق التي جعلتني غير قادر على أن أكون قريبا من نموذج درويش الشعري. ربما كان مزاجي الشخصي لا يتوافق مع اللهجة التراجيدية لمحمود في قمته السبعينية. لم أكن أحتمل الأبطال التراجيدين. لم يكن (أحمد العربي) ولا (أوديسيوس) من أقربائي. كان مزاجي أقرب إلى أناس الظل. إلى شخص يسير على شاطئ البحر مع كلبه، لا إلى أوديسيوس جوال ومتوهج كالنار. يعني: ربما كان جذر ابتعادي عن نموذج درويش يكمن في مبناي النفسي الذي ورثته وراثة، أو على الأقل لم أتحكم في وجوده.
في ما بعد عاند محمود نفسه، وعاكسها. أعاد صياغة ذاته وشعره تحت ضربات اليأس، وتحت ضربات الشوق. تحول شعره. سرت فيه مياه أخرى، بعيدة الغور. لقد كان قادرا على أن يتغير ويتجدد. قليلون هم الشعراء الذين يظلون قادرين على تجديد أنفسهم عند بلوغ الستين. الستين سن موت الشعر عند الغالبية. درويش نجا من هذا القانون. في الستين صار شعره أكثر صفاء. وكل هذا عائد إلى شكه ويقظته. كان الخوف من الهذر والتكرار يسيطر عليه. وكان مصمما على أن يتجنب هذا المصير. لذا كان يقرأ ويقرأ. يقرأ شعر الشباب وشعر الكهول. شعر المعروفين وشعر المجهولين. يقرأ المترجم وغير المترجم. كان يرسل مجساته إلى كل اتجاه، لكي يظل على صلة بالحقيقية الشعرية حوله وفي العالم.
وعندما قرر أن أعمل معه في (الكرمل) استدعاني وقال لي: أعرف موقفك من شعري، لكنني أحب أن أعمل مع من يختلف معي. وكان هذا يشير إلى حادثة قديمة قلت فيها في إحدى المقابلات في جريدة القدس العربي: (محمود درويش شاعر كبير، لكنني لا أحب شعره).
وكان هذا تعبيرا عن صفائه، وصفاء أعماقه.
آسف لأنني أكتب هنا عن نفسي في سياق تذكر محمود، لكن عذري أن هذا يأتي في سياق الحديث عن تأثيره الساحق علينا جميعا.