ميغل آنخل أستورياس (١٨٩٩- ١٩٧٤)
وُلد الشاعر والروائي الغواتيمالي ميغل آنخل أستورياس في مدينة غواتيمالا في عام ١٨٩٩، وهناك قضى سنواته الخمس الأولى قبل أن ينتقل للسكن في بيت أجداده في مدينة سَلمة، قضاء باخا ڤيرا باز، حيث نشأ و نمت علاقته مع الأرض و الريف وسكان أمريكا الوسطى الأصليين ، شعوب المايا.
بعد عودتة ِلمدينة غَواتيمالا العاصمة في عام ١٩٠٨إِلتحق أستورياس بكلية الحقوق وأصدر بحثاً بعنوان "المشكلة الإجتماعية للهنود" وقد مثّلت باكورة أعماله الأكاديمية هذه بداية مسيرته الأدبية والسياسية والحقوقية واهتمامِه الخاص بقضايا شعوب المايا وتاريخ حضارتهم القديمة قبل غزو الإِستعمار الإسباني. في عام ١٩٢٢، وبالتحديد بعد سنتين من نهاية حكم الدكتاتور مانويل إسترادا كابريرا الذي حكم غواتيمالا بين السنوات ١٨٩٨- ١٩٢٠، شارك أستورياس في تأسيس الجامعة الشعبية لغواتيمالا التي ساهمت في إِنتشار التعليم العام والمجاني وفتح المجال أمام أبناء الطبقات المُستضعفة والُمهَمشة الذين لم يستطيعوا الإِلتحاق بالجامعة الوطنية.
في سنة ١٩٢٣ سافر أستورياس إلى أوروبا لأول مرة ومكث هناك عشر سنوات قضى معظمها في باريس حيث درس القانون في جامعة السوربون قبل أن ينتقل لدراسة الأنثروبولوجيا تحت إشراف الباحث في علوم الدين جورج راينود مُترجم كتاب المايا المقدس "البوبويل ڤوه" (Popol Vuh) لِلفرنسية. في سنة ١٩٣٠ قام أستورياس بإصدار نسخة أدبية لهذا الكتاب بالإسبانية بعنوان "أساطير من غواتيمالا". تضمّن الكتاب حكايات من التاريخ الشفوي والمصوّر لشعوب المايا في أمريكا الوسطى بالإضافة إلى أيقونات ونصوص رمزية من كتبها المقدّسة نَقلها أستورياس بإسلوبٍ سردي شعري وحصل على جائزة سيلا مونسيجير المخصصة لأفضل الأعمال الأدبية من أمريكا اللاتينية في باريس في سنة ١٩٣٢. برزت في هذا الكتاب نماذج قديمة ومعاصرة لشخصية الهندي إبن شعوب المايا الذي شكّل ظهوره إسترداداً روائياً ومحاولةً لإعادة كتابة تاريخ أمريكا الوسطى بشكل خاص واللاتينية بشكل عام من منظور أنثروبولوجي ماركسي يسعى لأِيصال صوت سكانها الأصليين.
أثناء وجوده في باريس عمل أستورياس محرراً صحفياً وكتب في العديد من الصحف الصادرة في غواتيمالا وأمريكا اللاتينية. سافر كذلك في أنحاء أوروبا الغربية وزار اليونان وفلسطين ومصر. وقد صدرت مجموعة من قصائده الشعرية من هذه الرحلات في الجزء الأول من ديوان أعماله المختارة في عام ١٩٦٤. تسعى هذه الترجمة من الإسبانية لِقصائده التي كتبها عن زيارته لفلسطين في عام ١٩٣٢والتي ظهرت تحت عنوان "الأرض المقدّسة" إلى تعريف القارئ العربي/ القارئة العربية بِنبذة من شعر أستورياس وأسلوبه المتميّز الذي يدمج ما بين الغرائبية الباروكية والغُموض المقصود في الصور الشعرية واللغوية. هذا الأسلوب الكتابي المرُكب هو دلالة واضحة على تأثر أستورياس بالتنّوع اللفظي لِلُغات المايا المحكية التي سمعها في غواتيمالا ونهج الحركات السريالية والدادائية التي عاصرها. ويرى العديد من النقاد أن هذا التزامن التاريخي والجغرافي في أسلوب أستورياس هو ميزة خاصة إِنفردت بها أعماله بسبب تواجده الأدبي المحوري بين أوروبا وأمريكا اللاتينية وتواصله الدائم مع الحركات الفنية الطليعية في كلا القارتين في بداية القرن العشرين.
شكلت عودة أستورياس إلى غواتيمالا في عام ١٩٣٣ مفصلاً تاريخياً في حياته الأدبية والسياسية. في مدينة غواتيمالا العاصمة أسس "صحيفة على الهواء" (Diario del Aire)، أول مجلة مسموعة في راديو غواتيمالا ، وقام بإِدراتها لمدة أحد عشر عاماً ، إِنتصرت خلالها الثورة الشعبية ضد خورخيه أوبيكو (١٩٣١-١٩٤٤). بعد ذلك إِنتقل للعمل السياسي وشغل منصب المندوب الثقافي لغواتيمالا في المكسيك والسلڤادور والأرجنتين حيث كتب روايته الشهيرة "رجال الذرة" في عام ١٩٤٩. تناول أستورياس في هذه الرواية النضال السياسي للسكان الأصليين وتصديهم لِلممارسات الإِحتقارية ضدهم وتسخيرهم كمُزارعين يعملون في أراضيهم المسلوبة. حاول أستورياس، في إطار روائي تاريخي، سرد واقع شعوب المايا في غواتيمالا إبان الإستقلال وسِلسلة الإِنقلابات والدكتاتوريات التي تلته وقام بتحّديث أساطير المايا مجدداً وتسليط الضوء على رمزية الذرة المقدسّة الُمستوحاه من كتاب "البوبويل ڤوه".
بعد الإِنقلاب الذي دبرته وَكالة الإِستخبارات الأمريكية المركزية في غواتيمالا في عام ١٩٥٤ ووصول الدكتاتور بجابكو أربينز غوزمان للحكم أتخذ أستورياس الأرجنتين منفى له وبقي فيها حتى عام ١٩٦٢. بالإضافة إلى القصص و الأعمال الشعرية والمسرحية والدراسات الإجتماعية والتاريخية التي كتبها هناك صدرت له الطبعة الثانية من رواية "السيّد الرئيس". نُشرت هذه الرواية أولا في المكسيك في عام ١٩٤٦. كتب أستورياس الرواية أثناء إقامته في باريس إلا أنه لم يتمّكن من نشرها آنذاك بسبب حظر الرقابة في غواتيمالا والتي منعت نشرها بحجة سخريتها الموجهة ضد شخصية الدكتاتور إسترادا كابريرا وحكمه المستبّد مع أنّ الرواية تتحلى بِسردية تجريدية ولا تذكر أسماء أشخاص أو أماكن معيّنة.
حصل أستورياس على جوائز كثيرة لإِعماله المختلفة أهمها جائزة لينين للسلام في عام ١٩٦٦ وجائزة نوبل للأدب في عام ١٩٦٧. تُوفي في مدريد عام ١٩٧٤ تاركاً إرثاً غنياً في الشعر والقصة والرواية السياسية ونماذج متعددة في الكتابة عن السكان الأصليين عُرفت لاحقاً باسم "الأدب عن السكان الأصليين" (literatura indigenista) وهو تيار أدبي لا يخلو من الِإستشراق النبيل شَغل الكثير من المؤرخين والمدارس النقدية في أمريكا اللاتينية منذ نهاية القرن التاسع عشر لأَسباب عدّة أهمها كشفه النقاب عن محو الأصول الهندية وتاريخ حضارات أمريكا الوسطى واللاتينية ما قبل الإستعمار وتسليط الضوء على قضايا سكانها الأصليين وإشكالية مواطنتهم المضطهدة في الدول القومية الحديثة التي نشأت بعد حروب الِإستقلال مع إسبانيا. رافق أيضاً هذا التيار ثَورات السكان الأصليين ومُطالبتهم بحقوق سياسية وثقافية في أنحاء القارة ، وخصوصاً المكسيك وغواتيمالا وبيرو وبوليڤيا والإكوادور منذ بداية القرن العشرين ، وساهم كذلك في تقنين الواقعية السحرية التي صارت البصمة العالمية لأدب أمريكا اللاتينية والسِمة السائدة لأعمال جيل الستينيات على وجه الخصوص وفي مقدمتها رواية جابريل غارسيا ماركيز الشهيرة "مائة عام من العزلة".
من الجدير بالذكر أنّ العثور على قصائد أستورياس عن زِيارته الوحيدة لفلسطين تم بالصدفة خلال بحث إِستقصائي عن قصيدة له بعنوان "المنفى" قرأتها الُمترجمة لأول مرة في ولاية تشياباس في جنوب المكسيك في شتاء ٢٠١٠ خلال رحلة بحثية عن أدب المايا المعاصر ، ولرُبما في هذه المصادفة النادرة دعوة لِإستكشاف جذور علاقة تاريخية بين المكسيك وفلسطين لا بد من توثيقها
ورِعايتها.
ميغل آنخل أستورياس - الأرض المقدّسة
(أعمال مختارة ١٩٢٩-١٩٣٢)
القُدس
أسوار جرباء تعلو أبدانها بثرٌ من المتسوّلين
يقشّرون الزغب عن الظلّ
ظلّ أبيض تكسوه الأظافر،
ظلّ مزيّف بدم بارد شفّاف كزهر الزيتون
يجري في عروق جافة من النسيان
دون جراحٍ تُرى إلى البحر الميت.
***
كنيسة القيامة
جسدُ النبي معلق في الهواء
مغسولاً بلعابِ حجاج طائفيين
يصرخون ويتعاركون دفاعاً
عن حقهم في بيتٍ ليس لهم؛
الكلمات ، في هذه الأثناء، تأكله
كما تَأكل الديدان الحيّة الألسن الميّتة .
***
بيت لحم
يملأ حنك البؤبؤ
كرائحة ضأن مشوي
إنه الضوء الشَريد ، في السابق أشّدُ وِحدة
في تحاور العسل والكستناء والماء
في بيوت غير مسقوفة لرُعاةٍ،
السماءُ قطيعٌ من الغيوم.
***
السور
مُشبعين برطوبةٍ من النخّاع وحتى العظام
وبدموعٍ مالحةٍ حتى الأوتار
وبجنونٍ حتى الشَعر
رجالٌ ونساءٌ يستغيثون من هذا الرحم للألمِ الإنساني
(رثاءٌ، صُراخٌ، ملابسٌ رَثةٌ)
برموزٍ إلى ما لا نهاية.
***
مسجدُ عمر
ظلُ نسيمٍ أزرق وضوءٌ رملي
جِمالٌ من الرموش، الصحراء…
الهواءُ، كلماتٌ عربيةٌ وحكاياتٌ،
الأقدام لغاتٌ والسجاداتُ دخانٌ.
السماءٌ نيرةٌ
كساقية
تُدير طاحونةِ الفقاعات هذه.
***
شعفاط
مرآة في مواجهة مرآة
هذه الخطوات الألف من جبل الزيتون وإلى صهيون
سَتكفي الإنسانية
التي عبرت أمام الموتِ، وهي نائمة.
معرضُ تماثيلٍ من الرمادِ
سيُدشِنه الله في اليوم الأخير.
***
طبرية
في هذه البحيرة الزرقاء حيث
تحلقُ طيور ودودة
وعلى المياه تسري
إنعكاسات شمسٍ
تُضاعِف خُطى قدميها
المعمّدتين بنهر الأردن.
القواربُ ترقص كأسنانِ مقَلقَلة
في لثةِ كفر ناحوم العجوزة.
***
أريحا
تفيض السهول بالرمالِ فتتسلقُ الجِبال
لتغدو سماءً صخريةً. أسوار أريحا
تَهبِطُ كالغيومِ على البحر الميت
فتغدو المدينةُ ريحاً وأشواكاً
ورود عمياء باكية.
***
السامرة
بستانٌ تتساقطُ عليه الملائكةُ كالمطرِ. ظلُ
جفونٍ مُتدليةٍ. بِغالٌ تحت ظلِ النخيلِ.
ثِقلُ وردةٍ فرَّت منها النداوة والأريج.
الماءُ بكاءُ العَطشِ،
يَشرَبهُ القادمون هنا.
***
شكر خاص: هذه الترجمة هي نِتاج مجهودٍ جماعي عابر للقارات إِعتمد بالأساس على ملاحظات قيّمة وإِقتراحات لِتعديلات لغوية وفنية في مسودات عدة راجعها كل من دانيال خيل بنو أمية (إسبانيا ) وجين بيل ڤييادا (الولايات المتّحدة) وشادي روحانا (المكسيك) وغدير أبو سنينة (نيكارغوا) وإبراهيم مهّوي (الولايات المتّحدة). تتقدم المُترجمة بجزيل الشكر لجميعهم فرداً فرداً وتتحمل المسؤولية التامة عن احتمال ورود أخطاء في الترجمة المنشورة هنا.
المراجع:
Asturias, Miguel Angel. Obras Escogidas. Madrid: Aguilar, 1961. Print
.
Castelpoggi, Atilio Jorge. Miguel Angel Asturias. Buenos Aires: Editorial "La Mandrágora", Clásicos Del Siglo XX, 1961. Print
.
Cornejo Polar, Antonio. La novela indigenista : Una desgarrada conciencia de la historia. Lima, Pontificia Universidad Católica Del Perú, 1980. Print
.
Liano, Dante. “Reivindicación de Miguel Ángel Asturias”. Centroamericana 24.2 (2014): 117-136. Print.