أُمبرتو سابا، المجلَّد الثَّالث Umberto Saba (1883-1957)
أُمبرتو سابا في سطور:
أمبرتو سابا، الاسمُ المستعارُ لأمبرتو بولي، وُلِدَ في إصطاجانكو (تْريِيْستِه) في 9 آذار/ مارس 1883، لأبٍ من عائلةٍ بندقيَّةٍ نبيلة، كان يعمل وكيلاً تجاريَّاً، وأمٍّ يهوديَّةٍ من إصطاجانكو، هي حفيدة الشَّاعر والمؤرِّخ صموئيل ديفيد لوتزاتو، وقد اعتنق والدُه اليهوديَّة لأجل هذا الزَّواج، ومع ذلك هجرته زوجته عندما وُلِد أمبرتو، فعاش هذا طفولةً حزينة بسبب غياب الأب، وقد أمضى السَّنوات الثَّلاث الأولى من طفولته مع مربِّيةٍ سولفانيَّةٍ تُدعى "بيبَّا ساباز" كانت قد فقدت ابنها فسكبت حبَّها وحنانها في أمبرتو الذي اختار اسمه المستعار "سابا" من كنيتها تكريماً لها، والكلمة تعني بالعبريَّة "الجَد"، وقد شكَّلتْ استعادةُ أمِّه له وهو في عمر الثَّلاث سنوات الصَّدمة الأولى في حياته. في سنة 1903 انتقل إلى "بيزا" ليدرسَ في جامعتها، فتابعَ في البداية محاضراتٍ في الأدب الإيطاليِّ، غير أنَّه ما لبث أن تخلَّى عن ذلك لكي يتمكَّن من حضور دروسٍ في علم الآثار، وفي اللغتين الألمانيَّة واللاتينيَّة. في صيف عام 1904 سقط فريسةً لحالةٍ من الإحباط الشَّديد إثرَ خلافٍ مع صديقٍ له، فعاد إلى إصطاجانكو، وراحَ يكتب القصائد وبعض المقالات لصحفٍ محلِّيَّة. في سنة 1911 نشرَ على نفقته الخاصَّة مجموعته الشِّعريَّة الأولى "أشعار"، تلتها في 1912 مجموعته الثَّانية "بِعينيَّ" التي غيَّر عنوانها لاحقاً إلى "إصطاجانكو وامرأة". في أيَّار/ مايو 1913 انتقل مع العائلة إلى مدينة بولونيا، وفي شباط/ فبراير 1914 انتقلوا إلى ميلانو. عند اندلاع الحرب العالميَّة الأولى استُدعيَ إلى الخدمة، أوَّلاً في حقلٍ للجنود النِّمساويِّين السُّجناء ببلدة "كاسالمادْجورِه"، ومن ثمَّ طبَّاعاً في مكتبٍ عسكريٍّ، وأخيراً، في عام 1917، كفاحصٍ للأخشاب في حقلٍ لصناعة الطَّائرات. وتعود إلى تلك الفترة قراءته لأعمال نيتشه واشتداد حدَّة الأزمات النَّفسيَّة عليه والتي انتهت بإدخاله، في عام 1918، إلى المشفى العسكريِّ بميلانو. عند انتهاء الحرب العالميَّة الأولى عاد إلى إصطاجانكو، ليُصدِرَ سنة 1922 الطَّبعة الأولى من "ديوان شِعر غنائي" الذي ضمَّ كلَّ إنتاجه الشِّعريِّ حتَّى ذلك التَّاريخ. عانى بين 1929 و1931 من أزمةٍ عصبيَّةٍ أقسى من سابقاتها. في عام 1938، قبل وقتٍ قصيرٍ من اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية، ومع صدور القوانين العنصريَّة من قِبَل النِّظام الفاشي آنذاك، اضطرَّ إلى الهجرة مع أسرتِهِ إلى فرنسا. عاد إلى إيطاليا في نهاية عام 1939، فلجأ أوَّلاً إلى روما، حيث حاولَ أونغارِتِّي عبثاً مساعدتَهُ، ليعودَ مرَّةً أخرى إلى إصطاجانكو، ولكنَّه أُرغِمَ على الهرب مع زوجته وطفلته في خريف 1943، ليختبئوا في فلورنسا، وهناك نشأت صداقةٌ قويَّة بينه وبين مونتالِه، كما صدرت له في تلك الفترة مجموعةٌ شعريَّة بعنوان "أشياء أخيرة"، وقد أضيفت فيما بعد إلى الطَّبعة الجديدة من "ديوان شعرٍ غنائي" الصَّادرة في تورينو سنة 1945.
* * *
في سنوات ما بعد الحرب، عاش سابا لتسعةِ أشهرٍ في روما، ومِن ثمَّ في ميلانو التي أقام فيها لمدَّة عشر سنواتٍ تقريباً، تخلَّلتها بعض الزِّيارات إلى إصطاجانكو. في تلك المرحلة تعاون مع صحيفة "إلْ كورييرِه دِلَّا سِيرا"، ونشرَ المجموعة الأولى من شذراتِه بعنوان "أقصر الطُّرُق". في سنة 1946 تقاسمَ مع "سيلفيو ميكِلِّلي" الفوز بجائزة فيارِدْجُو عن فئة قصيدة ما بعد الحرب، تلتها في سنة 1951 جائزة "أكاديميَّة لينسيان"، وجائزة "تاورمينا"، بينما منحته جامعة روما "لا سابيينتزا" الدكتوراه الفخريَّة سنة 1953. بعد أن نالَ سابا شهرةً واسعةً تحوَّلَ إلى الكاثوليكيَّة، وتعمَّدَ، ولكنَّ زواجه لم يتم تحويله إلى الكنيسة بذريعة غياب الاستعداد الكافي. في عام 1955، مُتعَباً ومريضاً، وفوق ذلك مُضطرِباً لعدم استقرار حالة زوجته الصِّحِّيَّة، دخل إلى إحدى المصحَّات في مدينة "غوريتسيا"، ولم يغادرها إلَّا لحضور جنازة زوجته الحبيبة، التي توفِّيت في الخامس والعشرين من تشرين الثَّاني/ نوفمبر 1956. بعد تسعة أشهرٍ من ذلك، في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس 1957 توفِّي سابا.
* * *
لتسليط الضَّوء على السِّمات الرئيسة لقصيدة سابا، يمكن الرُّجوع إلى النَّصِّ النَّثريِّ الذي كتبه في إصطاجانكو سنة 1912، بعنوان "ما يتعيَّن على الشُّعراء فِعلُه". في هذه الصَّفحات ذكر سابا بإيجازٍ ما ينبغي أن تكون عليه القصيدة، وهو أن تكون قصيدةً قادرةً على التَّعبير بصدقٍ ومن غير مُغالاةٍ عن الحالة الوجوديَّة للإنسان، لتكونَ تمثيلاً للواقعِ اليوميِّ، لا لواقعٍ خارجٍ عن المألوف. وقد ترتَّب على موقفه ذاك بعض النَّتائج الهامَّة على مستوى مضمون القصيدة، مثلما على مستوى شكلِها. على الشَّاعر، في رأي سابا، أن يكون وفيَّاً لروحِه الخاصَّة، ومن هنا تتجلَّى قصيدته، قصيدة سابا، باعتبارها سبراً داخليَّاً مستمرَّاً، وبحثاً متواصلاً في الوعي. من وجهة النَّظر هذه، من المهم أيضاً عدم إغفال العلاقة بين سابا والتَّحليل النَّفسي، تلك العلاقة التي جعلت من قصيدته أداةً لتوضيحِ الذَّات، ولفهمِ الجروح النَّفسيَّة الدَّاخليَّة والصِّراعات التي تمزِّق شخصيَّة الإنسان، وللكشفِ عن أصولِ العصابِ فيه. هكذا، تعرضُ لنا قصيدةُ سابا واقعَ البشرِ جميعاً وأحوالَ أيَّامهم كلِّها، فهي تتحدَّث عن إصطاجانكو، بمقاهيها وشوارعها وأشجارها وبحرها، وتصفُ شخصيَّاتٍ متواضعةً وحيواناتٍ مُستأنَسة. غير أنَّ تلك البساطة والارتباط بالواقع اليوميِّ ينبغي ألَّا يدفعان إلى التَّفكير بأنَّها قصيدةٌ موضوعيَّةٌ مُجرَّدةٌ عن الغرض، فسابا في النِّهاية يصبُّ فيها همومَه الدَّاخليَّة، ويمكن القول إنَّ لغة سابا الشِّعريَّة لغةٌ بسيطةٌ ومألوفة، تميل إلى البُنى التَّقليديَّة مقارنةً بالقصيدة الحرَّة التي جاءت بها الحركة "المستقبليَّة".
النُّصوص:
[من مجموعة "ديوانُ شِعرٍ غنائيٌّ (1900-1954)" الصَّادر سنة 1961]
II. من المجلَّد الثَّالث
[من "كلمات (1933-1934)"]
كلمات
أيَّتها الكلمات،
التي عِبرها نظرَ مِن قبلُ قلبُ الإنسان
- عارياً وذاهلاً - في مرآة الأصول؛ أبحثُ عن ركنٍ
في هذا العالم، عن الواحةِ الملائمة
لأغسلكِ بدموعي
من الرِّياء الذي يُعميكِ. وَلْيَذُبْ إذَّاكَ
من حرارةِ دمعي ذلك الرُّكامُ،
رُكامُ الذِّكرياتِ المخيفة، كما يذوبُ الثَّلجُ في الشَّمس.
*
رماد
أيُّها الرَّماد،
يا رمادَ الأشياء المَيْتة، والآثام الضَّائعة،
والملامساتِ الفائقةِ الوصفِ، والآهاتِ
البكماء؛
شُوَاظٌ
مُشعٌّ منكَ يحاصرُني فيما أنا،
مِن هجْسٍ إلى هجْسٍ، أقتربُ من عتباتِ
النُّعاس؛
وفي النُّعاس،
في ظلالِ اللُّحمةِ الحنون الوالهة
التي توشِّجُ الطِّفلَ بالأمِّ، وفيكَ أيُّها الرَّماد
أنصهر.
الكربُ
يتربَّصُ على الأبواب، وأنا أنزعُ سلاحَه. كأنِّي
مباركٌ على طريق الفردوس،
أصعدُ أدراجاً، أقف على بابٍ
كنتُ أدقُّ عليه في أزمانٍ خلتْ. الزَّمن
تنحَّى فجأةً.
أشعرُ،
وأنا في ثياب وروحِ تلك اللحظة الآفلة،
أنَّني في بريق صاعقة؛ على قلبي
تنقضُّ الآن نشوةٌ دُواريَّةٌ
كأنَّها قفلةُ الختام.
ولكنَّني لا أصرخ.
صامتاً
أغادرُ الظِّلالَ إلى الملكوت الشَّاسع.
*
شتاء
إنَّه الليل، شتاءٌ عاصفٌ. ترفعين
السَّتائر قليلاً، وتنظرين. يرتعشُ
شعرُكِ الوحشيُّ، والغبطةُ
توسِّعُ فجأةً عينيكِ السَّوداوَين؛
فذلك الذي رأيتِهِ - وهو صورةٌ
عن نهاية العالم - يريحُ
أعمقَ أعماقِ قلبِك، يدفِّئه ويلطِّفه.
هو ذا رجلٌ يجازف في الخروجِ إلى بحيرةٍ
مِن جليد، تحت عمود إنارةٍ مائل.
*
[من "آخرُ الأشياء (1935-1943)"]
بدايةُ صَيف
أيُّها الألم، أين أنت؟ ههنا لا أراك؛
وكلُّ مظهرٍ الآنَ مُخالفٌ لك. الشَّمسُ
تذهِّبُ المدينة، وتبرُق في البحر.
عرباتٌ من كلِّ صنفٍ على الشَّاطئ
تطوف حاملةً شيئاً ما أو أحداً ما.
كلُّ شيءٍ يتحرَّك مغتبطاً، وكأنَّ
كلَّ شيءٍ بكينونتِهِ محبور.
*
نافذة
إنَّه الخواء
خواءُ السَّماء فوق آجُرٍّ بلون
المطهَر. وراءَه، الخطُّ
الأصليُّ للتِّلال؛ وفي الأسفلِ صَعْدَةٌ
يحطُّ نحوَها الحمامُ الهابطُ
من واجهة المسرح؛ تلوِّحُ بخضرتِها
شجرةٌ يغذِّيها ترابٌ طفيف؛
[وثمَّة] تماثيلُ تحملُ على قياثرها طيوراً،
وأطفالٌ يركضون مُطلِقين
صيحاتٍ مُتنافرة.
*
بلَّورٌ مشروخ
كلُّ شيءٍ يتحرَّك ضدَّك. الزَّوبعةُ،
المصابيحُ التي تنطفئ، البيتُ
القديمُ الذي يهتزُّ من هبَّةِ ريحٍ ومع ذلك تحبُّه
لأنَّه مأوى آلامك، وآمالك
الخائبة، ومسرَّاتٍ قليلةٍ عشتَها.
أنتَ الذي ترى البقاءَ إنكاراً للقدرِ
ورفضاً لحقيقةِ الأشياء.
هاكَ،
صوتُ انشراخ البلَّورِ يُدينُك.
*
[من "متوسِّطيَّات (1945-1948)"]
قصيدةٌ متوسِّطيَّة
أتخيَّلُ بحراً بعيداً، مرسىً، ممرَّاتٍ
خبيئةً في مدينةٍ بحريَّةٍ كنتُ فيها يوماً،
واليومَ أنا هنا، أرفعُ إلى الآلهةِ
كفَّيْ متضرِّعٍ، مبتهلاً ألَّا
تُنزِلَ بي عذابَ نصرِها الأخير
(ولكنَّ القلبَ، لعذوبتِه، بالكادِ يتماسك)؛
أتخيَّلُ سِيَرانةً شاجنة
- قُبَلاً وانتشاءاتٍ وهذيانات-؛ أتخيَّلُ أُوليسَ
ينهض هناكَ من سريرٍ حزين.
*
الحُب
أقولُ لك وداعاً فيما أفتِّش عنكَ أيُّها الحبُّ،
فهكذا شاءَ زمني الرَّماديُّ أن يكون.
أوه، فيكَ كان ظلُّ الأرضِ والشَّمس،
وقلبُ طفلٍ لا قلبَ له.
*
أُولِيس
في ابتداء شبابي أبحرتُ
على طول شواطئ دَلْماسِيَة. جُزرٌ صغيرةٌ
كانت تبرزُ لِماماً فوق الموج، مغطَّاةً
بطحالبَ زلقةٍ، تتلألأ في الشَّمس
كقطَعٍ من الزُّمرُّد، عليها
قلَّما يحطُّ طائرٌ بحثاً عن فريسة. كانت إذا محاها
المدُّ والليلُ، فتحَ النُّوتيُّون الأشرعة
عكسَ الرِّياح، لنبقى بعيدين عنها،
حَذَرَ الجنوح. مملكتي اليومَ تلك الأرضُ،
أرضُ اللاأحد. المرسى
يضيءُ للآخرين مصابيحَه؛ وأنا لا تني تدفعني
إلى عرضِ البحارِ روحيَ الجامحة،
وشَغَفٌ بحبِّ الحياة مُوجِعٌ.
*
[من "طيور- قصائد أشبَهُ بحكاية (1948-1951)"]
طيورٌ
الزُّمرةُ
المجنَّحةُ التي بها أهيمُ - وما أكثرَ عديدَها في العالَم!-
المتنوِّعةُ الطِّباعِ والعادات، والمنتشيةُ بالحياة،
تستفيقُ الآنَ وتغنِّي.
*
شُحرور
أما يزال موجوداً ذلك العالَمُ الذي ما فتِئتُ
أعود إليه في الحلمِ؛ الذي في الحلمِ يرجُّ جوانحي رجَّاً؟
حتماً ما يزال. وقد كان في جُلِّهِ يدورُ
حول أمِّي وطائرِ شُحرور.
هيَ، بالكادِ أراها. أشَدُّ اتِّضاحاً ذلك الأسودُ
والأصفرُ لكائنٍ مُنتشٍ يُلقي
بسقسقاتِه السَّلامَ (هكذا كنتُ أظنُّ)
عليَّ، وأنا مُقبِلٌ على الدَّرب. أمِّي
تجلسُ، مُنهكَةً، في المطبخ. تقطِّعُ اللحمَ
لأجله وحدَه (هكذا كان يظنُّ)
ولأجل عشائي. ما من
مشهدٍ أو صوتٍ قد يهيِّجُه مثلَ هذا.
بين طفلٍ في قفصٍ وآكلِ حشراتٍ
ينتهشُ اليرقات بمخالبه،
في ذلك البيت، في ذلك العالَم البعيد،
كان ثمَّة حبٌّ. كان ثمَّة سوءُ فهمٍ، كذلك.
*
هُنيهةٌ
الطُّيورُ على النَّافذة، والدَّفَّتان
مُوارَبتان: نسائمُ طفولةٍ وصيفٍ
تعلِّلُ قلبي. أحقَّاً لي من العمرِ ما أعرفُ
من السِّنين؟ أم فقط عَشْرٌ؟ ماذا
نفعتني التَّجربة؟ لا شيءَ، سوى أن أحيا
قانعاً بالأشياء الصَّغيرةِ التي معها
عشتُ مضطربَ الخاطرِ يوماً.
*
حلم
أن أضعَ الحيوانات الأشدَّ غرابةً معاً
(أقصد التي لا يشبه أحدُها الآخرَ) وأكتبَ،
وحيداً وفي صُحبتِها، حكايةً ما.
ذلك هو حلمُ حكمتي
الأخيرة. وهو، كسائرِ الأحلامِ، فارغٌ.
*
حواريَّة
هو
سيقولون عنِّي، عندما أصبحُ في قبري:
كان فقيراً مُسِنَّاً قانطاً ووحيداً.
غنَّى كما يغنِّي العندليب.
هيَ
لستَ عندليباً؛ بل شحروراً.
شكيمةُ غنائك تشتدُّ في المساء؛ ولا أحد في مُكْنَتِه
أن ينتزع من منقارك بذرةَ الصَّنوبر.
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]