لا تتساوى الجدران في العظمة والشهرة. المثال الأعرق قدَّمه شيه هوانغ دي، الإمبراطور الذي شُيّد في حقبة حكمه سورُ الصين. أرفق هذا التشييد بمأثرةٍ تاريخية أخرى هي إحراق الكتب، ليستهلَّ الإمبراطورُ باسمه فجرَ التاريخ ويكونَ الأولَ في كل مضمار، مانعاً كلمة "موت" من التداول، معاملاً تلك البلاد الشاسعة في الشرق كأنها حديقةُ قصرٍ من قصوره، آمراً بتمتين الحدود الشمالية للإمبراطورية في وجه البرابرة، فسُيّجت الحدود بسورٍ شاهق بطيء البناء، وظهرهُ طريقٌ معبَّد تحرسه الأبراج.
الكتب تصون الماضي، والعمارة ترنو إلى المستقبل. آنذاك، كان المجتاحون والمتسلّلون المحتمَلون في الصين هم المغول والتتار الذين حوّل السورُ العظيم وجهةَ حملاتهم ومذابحِ غزواتهم إلى الغرب (غرب ليس إلا شرقَ غربٍ آخر). يُرى السورُ من على سطح القمر، وأوّل مَن رآه نيل أرمسترونغ الذي ردّدت الشائعات اعتناقَهُ للإسلام بعد عودته إلى كوكبنا، حين سمع في شوارع القاهرة صوتاً ذكّره بما سمعه حين مشى على تراب القمر الذي لا ينقل هواؤه أية نأمة. لم يكن ذلك الصوت إلا الآذان.
الجدران أيضاً تتحوّل إلى إشاعات أحياناً وتُنسى، كتلك الجدران اللامرئية المطبقة حول المدن والقرى المحاصرة في الحروب الصغيرة التي تجتاح الأرض. صينُ هذا العصر صدّرتْ حيطاناً رخيصة مسبقة الصنع إلى جهات المعمورة الأربع، وقد تُرصَّع أحياناً بشظايا من زجاجات الخمور، حتى حول منازل المتديّنين الذين يُعلون أسيجتهم مخافةَ المتلصصين. في الوقت الراهن تُجترح حلولٌ كثيرة للمآسي، كجدار الحلّ بين بلغاريا وتركيا، أو بين اليونان ودول البلقان، أو أسوار الأسلاك الشائكة المسلَّحة بكاميرات مراقبة بين سلوفينيا والمجر، أو الجدار الإلكتروني بين السعودية والعراق، أو يُوعَد بتوطيد السور الفاصل بين المكسيك والولايات المتحدة، وكلُّها جدران لا تُرى من القمر، ولا تثير الفضول، وليس لمعظمها من الشهرة أيُّ نصيب، شأنها شأنُ المنازل في عشوائيات حلب أو دير الزور أو تعز.
قالت إحدى الناطقات الرسميات باسم واحدةٍ من الهيئات التي تُعنى باللاجئين في العالم إن "جدران القانون امتداد للطبيعة"، ولنا العبثُ بهذه الاستعارة وإطالتها لتصبح نهراً متعدّد الضفاف، فالحدود قد خُلقت لتُلهِم الناس كذلك، لتحثَّهم على التفكير بالحرية والسفر، وتدفعهم إلى اقتحام المخاطر وتعلِّمهم تجاوزَ الصعاب. وراء جدران لا آذان لها، أو خلف جدران عملاقة صارت آذاناً، يتهامس العابرون والمقيمون، الغرباء عن الأمكنة والمستقرُّون فيها والفارّون من الكوارث، ويجترّ الإعلامُ استعاراتِ الحرية وكسر الخوف، فتختلط المجازاتُ بالوقائع: انهار جدارُ الصمت ليعلو صمتٌ جديد شاهق، وتحطّم جدار الخوف ليعلو سورُ الرعب ويمتلئ بالشوك سياجُ الكآبات.
الأقدار لا تعرف العدل. الجدران لا تتساوى بمصائرها في العظمة والشهرة. جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين لا يضاهي جدارَ برلين، وحصار المدن السورية الصغيرة ليس حصار طروادة. تحولت سوريا إلى مكان خيالي تتبدّدُ فيه الأمكنة مثل بلاد أين لدى السهروردي. نعلم أن الأسطورتين المؤسستين لحضارات أوروبا آتيتان من الإلياذة والأوديسة، أي الحياة كحرب والحياة كرحلة محفوفة بالمشقّات والأخطار. قُدّم السوريون كممثلين جدد لأوديسة الهاربين من جهنم الحرب إلى فراديس أوروبا، وتحولت سوريا إلى كناية مفتوحة عن الجحيم: ناسُ سوريا وحجارةُ بيوتهم هم وقود جهنّمهم، مثلما كان الأفارقةُ السُّود فحْمَ الجحيم في عظاتِ المبشّرين الأوروبيين. الشركات العابرة للحدود وحكوماتُ أوروبا رعَتْ أيضاً هذه الجحيم السورية، وساهمت في صناعتها وسهرَتْ على حراستها، إذ لا بد من جحيم لتتوازنَ فكرة الفردوس الأرضي وتُحسَدَ وتُشتهى.
الفردوس كلمة فارسية تعني الحديقة المسوّرة، ولا بد للحديقة من أسيجة أفعوانية لرسم تخومها وترسيخ الإحساس بالأمان وعدم انتهاك أحدٍ لقدسية الممتلكات، حتى لو تمّت المجازفة بقَلبِ الفردوس إلى سجن؛ لا بد من جدران لصدّ الغزاة والدُّخلاء والشياطين والهمج والمجرمين وتجّار المخدّرات الصغار (مثلما صدّ سورُ الصين التتارَ فدمّروا بغداد واسودّ نهرُ دجلة بحبر مكتباتها الغريقة)؛ لا بد من لجم اللاجئين المشبوهين المتسرّبين من الشقوق والثغرات أو من تحت الأسلاك الشائكة، كدمٍ أسودَ ينزّ من جراحِ الحدود ويسيلُ في كلِّ اتجاه؛ لا بد من حماية الفردوس- الحديقة، والذود عن جماله وضجر أهله، حتى لو جُنّدت فواكه "البيو" ضد لحوم "الحلال"، حتى لو حُوربتِ الصورُ بالصور، لتقاتل النهودُ العارية ضد المجاهداتِ والحجابِ وختانِ النساء.
كم مِن شاعرٍ كتب بالإنكليزية رأى في البحر جداراً؟ بريطانيا التي حمتها الطبيعة حباها اللهُ جداراً مائياً عظيماً يطوّقها، موفِّراً عليها تشييد جدران دميمة باهظة التكاليف، واقفاً في وجه الذين يتطلّعون إليها من "الأدغال" في مخيم كاليه، وقد أعجزهم المشي على الماء. على جدران هذا العالم، بين الفردوس الذي يتداعى والجحيم التي تتسع، كم من همبتي دمبتي يقيم ويتنزّه ملقياً المواعظ، متفلسفاً مترنّحاً، محذّراً مُسوّفاً، متخوّفاً مشمئزاً؟
(نسخةٌ أولى من هذا النص قُرئت ارتجالاً ضمن ملتقى Papers الذي نظّمته مؤسسة العمارة في مركز البربيكان، لندن، حزيران 2016. سيصدر النص ضمن كتاب شهادات خاصة من فنانين وفاعلين ثقافيين مستقّلين أعدّته مؤسسة "اتجاهات-ثقافة مستقلة").