مع توقيع اتفاق القاهرة "اتفاق غزة أريحا" في أيار/ مايو 1994، بين قوة الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبدء عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة المحتل بعد أسابيع من الاتفاق، بدأ حزب السلطة "حركة فتح " بفرض نفوذه على معظم الحيز العام الفلسطيني. وكان الهم الأول للقيادة الفلسطينية "الجديدة" بزعامة الراحل ياسر عرفات هو إعادة إنشاء وتشكيل الحقل السياسي الفلسطيني والهيمنة عليه، بعد تراجع تأثير قيادة المنظمة في الشارع الفلسطيني لصالح حركة المقاومة الإسلامية "حماس" خلال السنوات الأخيرة للانتفاضة الفلسطينية الأولى.
كانت السلطة الفلسطينية منذ اللحظات الأولى لقيامها، وبعد سنوات من العنف الثوري الذي تخلل الانتفاضة الأولى، تدرك أن مهمة السيطرة على الحيز العام والعمل السياسي في مناطق نفوذها، لن يكتب لها النجاح إن اكتفت بخلق قوة أمنية كبيرة تحتكر العنف، فسعت بشكل محموم إلى تبني سياسة تعينها على إنجاح هذه المهمة، إذ أسست نظاماً يقوم على توزيع الموارد التي تمتلكها السلطة لاستمالة القوى والتشكيلات الاجتماعية والسياسية من جهة، وإقصاء بعضها من جهة ثانية.
حركة فتح التي أصبحت تسمي نفسها "أم الجماهير" امتلكت أدوات الحكم والتوظيف في السلطة الجديدة، ما جعلها تسيطر على زمام الأمور وجعل الالتفاف حولها أكثر من غيرها، إضافة للالتفاف الناتج عن تعزيز عرفات للعشائرية ومنح العائلات نفوذا وامتيازات مقابل عملها السياسي والاجتماعي لصالح حركة فتح.
انشغلت فتح تباعًا في إدارة أجهزة السلطة والعمل على مأسسة العمل الأمني بحيث أصبح الأمن هو المعنى الوحيد للسياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بعدها بسنوات اشتعلت انتفاضة الأقصى الثانية في أيلول/ سبتمبر 2000، مما أدى إلى فتح المجال العام مرة ثانية أمام حركات الإسلام السياسي للتحرر من القبضة الأمنية لأجهزة السلطة ومحاولة إيجاد مساحة أوسع لها في الساحتين السياسية والاجتماعية. كانت وقتها مؤسسات السلطة الفلسطينية تزداد فسادًا يومًا بعد يوم، فعملت حركة حماس لتكون بديلًا اجتماعيًا عن مؤسسات فتح والمنظمة، عزز من ذلك فوزها في الانتخابات التشريعية بأكثرية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني (76 من أصل 132) في كانون الثاني/ يناير 2006 حيث اعتبر هذا الفوز علامة فارقة في الالتفاف الشعبي حول حركة حماس ورفضًا عند بعضهم لسياسات حركة فتح التي غلب عليها الواسطة في التعامل مع المواطنين، والفساد في إدارة الملفات المختلفة. فما هي الطرق التي تتخذها حماس لاستقطاب الأفراد إليها ؟
الاستقطاب لحركة حماس
اختلفت الأساليب التي تتبعها حركة حماس لاستقطاب المجتمع الفلسطيني على مدار ثلاثين عامًا من نشأتها، فبعد أن كان انضمام أحدهم إلى الحركة أمرًا صعبًا كونها حركة مغلقة يجب أن يمر "الأخ" فيها بمراحل مختلفة كان يغلب عليها الطابع السري؛ بسبب الخوف من قبضة الاحتلال الأمنية وملاحقة أجهزة السلطة لهم بعد ذلك، لكن لا شيء يبقى على حاله، فالتغيير السياسي في السلطة أدى إلى رفع الخناق حول أنشطة حركة حماس، خاصة بعد سيطرة الحركة على المقرات الأمنية في قطاع غزة ومؤسسات السلطة المختلفة بعد الأحداث في حزيران/ يونيو 2007، حيث منح حماس العمل في كل المساحات براحة كاملة، وغطاء حكومي يصل إلى حد الدعم في أوقات كثيرة.
المسجد كحيز للعمل العام
يعتبر المسجد أهم المساحات التي تستخدمها حركة حماس في استقطاب الشباب إليها ليصبحوا مؤيدين أو أعضاء داخل الحركة، إذ تنشط الحركة في المساجد مثل جميع الأحزاب المنبثقة من رحم جماعة الإخوان المسلمين في العالم.
استخدمت حركة حماس المسجد كحيز لتمرير أفكارها إلى الشباب منذ انطلاقتها في غزة، فالمسجد يعتبر بديلًا مقبولًا اجتماعيًا ودينيا في ظل مجتمع يغلب عليه التدين، فإلى جانب أنه مكانًا لأداء العبادات صار مكانًا أساسيًا للأنشطة المختلفة، بداية بالدينية ومرورًا بالرياضية والاجتماعية وكذلك الأنشطة التعليمية، فعلى سبيل المثال تجد ساحة المسجد امتلأت بحلقات تحفيظ القرآن الكريم في الفترة بين صلاتي المغرب والعشاء، ويحرص خطيب الجمعة على حث الناس على إرسال أبنائهم لحلقات تحفيظ القرآن، كذلك يوفر المسجد مساحة رياضية لأبناء الحي الذين لا يجدوا مكانًا يحتضن شغفهم الرياضي، ففي أغلب المساجد يوجد مكان للعبة تنس الطاولة وفريق لكرة القدم يلعب أفراده مرة كل أسبوع بعد عصر صلاة الجمعة في أقرب ساحة مدرسة أو أرض فارغة. ومع اقتراب موعد الامتحانات النهائية في المدارس يتم الإعلان داخل المسجد عن دروس تقوية للطلاب وحل نماذج للاختبارات في مكتبة المسجد يشرف عليها معلمين من "شباب المسجد" أو المحسوبين على حركة حماس.
هذه الأنشطة تزداد فعالياتها في الإجازات الصيفية والمناسبات الدينية والاجتماعية، في الصيف مثلا تحرص "أسرة المسجد" – وهي لجنة مكونة من كبار رواد المسجد وواجهة حركة حماس في الحي- على أن تقوم اللجان المختلفة داخل المسجد بأنشطة صيفية، تبدأ من إقامة دوريات رياضية أو مسابقات ثقافية وتنتهي بالأنشطة البحرية على شاطئ بحر غزة الذي يعتبر قريب عن أبعد نقطة عنه في المدينة الواقعة على ساحل المتوسط، في الصيف مثلا اعتاد الكثير من شباب المساجد على الذهاب للبحر بعد صلاة فجر الجمعة للسباحة وتناول طعام الفطور على الشاطئ، يشارك فيها كل من يحب المشاركة.
إذا ما جُمِّعت هذه التفاصيل والأنشطة الصغيرة في لوحة واسعة، تبرز نظرة مختلفة في مخيلة الشخص المستهدف بقصد أو بغير قصد حول الدور المهم الذي يقوم به المسجد في ملئ الفراغات الغير متوفر في بالأغلب في الأحياء البسيطة وداخل المخيمات، هكذا يصبح المسجد هو البديل الأفضل الذي يجب أن يقصده الطالب، وهنا طرف الخيط في الدخول إلى عالم حماس.
بعد أن يشارك الشاب الصغير في كل هذه الأنشطة ويشعر أنه المسجد يمنحه دور ما، يبدأ في السعي أكثر للحصول على أدوار جديدة كرجل وعنصر فاعل، ويكون مبايعة جماعة الإخوان المسلمين وعضويته في حركة حماس أحدها.
الجانب الاجتماعي عند حماس
لعبت حماس دورًا كبيرًا في التكافل الاجتماعي من خلال جمعياتها الاجتماعية المنتشرة في محافظات غزة الخمسة، إذ تقوم على كفالة الأيتام ومساعدة الأسر المحتاجة وتوفير مشاريع عمل صغيرة للفقراء في الأحياء والمخيمات، تزداد ذروة هذا العمل الاجتماعي في المناسبات كشهر رمضان وعيد الأضحى وموسم بداية المدارس وفصل الشتاء من خلال لجان الزكاة الموجودة في كل مسجد ومنطقة ومحافظة، كذلك ساعدت الزيارات الاجتماعية التي تقوم بها اللجنة الاجتماعية التابعة للمسجد والتي تكون غالبا مكونة من مشايخ الحارة وكبارها، يقومون بزيارة المرضى من أهل الحي، ومشاركتهم في حفلات الأفراح وكذلك مواساتهم عند الموت، كذلك اهتمام الحركة بالطلاب المتفوقين في الحي من خلال تكريمهم عند التفوق في المدرسة، لدرجة أن بعض الأمهات يلمن أبنائهن بسبب عدم تفوقهم وتكريمهم في "حفل التكريم في المسجد".
هذا الاهتمام الذي تبديه الحركة لقضايا الناس الاجتماعية، والوقوف بجانبهم – حتى وإن كانوا لا ينتمون إليها- جعلها مقبولة اجتماعية وحاضرة في كل المناسبات التي تخص المواطن البسيط. الأمر الذي ساهم على حرص بعض الفقراء و المهمشين اجتماعيًا على جعل الأبواب مفتوحة بينهم وبين الحركة ممثلة بِـ "أسرة المسجد".
حماس لم تستقطب الأفراد عبر التركيز على ما تسميه إسناد المجتمع، بل نجحت في استقطاب عائلات بأكملها، لاسيما البسيطة، التي لم تستفيد من حركة فتح خلال العشر سنوات الأخيرة، نتيجة عدم عملها في غزة بشكل فاعل.
إعلام حماس يدخل كل بيت في غزة
لا يخفى على أحد في قطاع غزة أن حركة حماس تعتبر الرائدة من بين التنظيمات الفلسطينية في استخدام المساحات الإعلامية بأشكالها المختلفة لتوصيل رؤيتها، بدءً من جرافيتي شعارات المقاومة على الجدران، وانتهاءً بوسائل التواصل الاجتماعي، في المناسبات الدينية والوطنية وذكرى انطلاقة الحركة تملأ شعارات حماس جدران قطاع غزة من تهنئة بالعيد أو نعي لشهيد أو تهنئة بخروج أسير من سجون الاحتلال.
كما أن هناك مجلة "صوت المرابطين" التي تعلق على الحائط الخلفي في المسجد، والتي تعرض أخبار الأسبوع من وجهة نظر الحركة وتحليلها. و في سيارات الأجرة تصل رؤية الحركة من خلال الإذاعات المحلية التابعة لها والتي تعتبر إذاعة صوت الأقصى أبرزها ومن أكثر الإذاعات المحلية استماعًا في القطاع. كذلك فضائية الأقصى التابعة لحماس والتي راحت في تطوير أدائها الإعلامي والانتقال من مخاطبة الداخل إلى مخاطبة الداخل والخارج.
في السنوات الأخيرة وبعد اجتياح منصات التواصل الاجتماعي لكل بيت لعبت الحركة دورًا أساسيًا في نشر أفكارها عبر منصات التواصل المختلفة، حماس موجودة الآن بحسابات رسمية على تويتر وإنستغرام وفيسبوك كذلك قيادتها تغرد على تويتر ويتلقى الإعلام التصريحات من حساباتهم الرسمية. هذا الإدراك لأهمية وسائل التواصل الاجتماعي مر بمراحل متعددة عند حركة حماس وأفرادها إلى أن وصل إلى هذا الحال، فبعد أن كانت تقول أن هذه المنصات جزءًا من أدوات الجوسسة الإسرائيلية وحرمّتها في مرة من المرات، أدركت الحركة مدى أهمية هذه المنصات في نشر أفكارها.
الحركة تدعم أيضاً منصات إخبارية كبيرة تنتهج سياسات تحريرية مختلفة، لكنها تروج لرؤية الحركة لأغلب القضايا، وتملك دائرة إعلام تراقب كافة هذه المنصات التي تنشر بتماهي شبه كامل الأفكار ذاتها.
يبدو أن الحركة التي تطور الأداء الإعلامي لها، وتخاطب كل فلسطيني في غزة بطريقته، بداية من النداء عبر مكبرات الصوت في المساجد، وصولاً لمنصة مثل " انستغرام" منحها الوصول والتأثير في شرائح واسعة.
حماس كحركة مقاومة
إن الإعجاب الذي يملأ عيون الطلاب في قطاع غزة أثناء نظرهم لكتائب القسام يتطور معهم إلى أن يصل لسعيهم للالتحاق بالحركة ثم إرتداء الزي العسكري للكتائب.
مخيمات طلائع التحرير التي تنظمها كتائب القسام الجناح العسكري لحماس استقطبت في السنوات الثلاث الماضية عشرات آلاف الطلاب، إذ كشف ذلك عن اتخاذ الغزيين المقاومة كهوية أكثر من كونها خيار خاصة بعد الحروب الثلاثة التي تصدت فيها الكتائب إلى جانب فصائل أخرى للاحتلال، ما ولد شعور لدى أهالي هؤلاء اليافعين بضرورة الموافقة على تواجد أبنائهم الذين لم يتجاوزا 18 عاما في هذه المخيمات ليتلقوا تدريبات على أيدي الكتائب التي تحظى بتأييد أغلب أهالي القطاع، حتى خصوم حماس سياسياً، وأولئك الناقمين على أداء حماس في إدارة شؤون القطاع.
الكتلة الإسلامية .. الدور الأكبر
يعتبر العمل الطلابي داخل المؤسسات التعليمية الفلسطينية في قطاع غزة هدفًا للكثير من الحركات الطلابية، كان على رأسها الشبيبة الفتحاوية (فتح) والكتلة الإسلامية (حماس) وجبهة العمل الطلابي (جبهة شعبية) و الرابطة الإسلامية (الجهاد الاسلامي)، إلى أن طفى أداء الكتلة الإسلامية على سطح العمل الطلابي بعد 2007 عقب سيطرة حماس على القطاع، ما منحها حرية العمل، إضافة للكثير من الإمكانيات المادية والبشرية، سخرتها لخدمة طلاب المدارس والجامعات.
تلعب الكتلة الإسلامية دورًا فاعلًا في استقطاب الطلاب في المدارس والجامعات داخل قطاع غزة، حيث تتوزع هرميًا في محافظات قطاع غزة، ويوجد مجموعة من الطلاب يمثلونها في كل مدرسة وجامعة، ينتقسم هؤلاء إلى لجان (ثقافية، دعوية، إعلامية، رياضية) وتتوزع عليهم مهام مختلفة، تقوم اللجنة الثقافية بالاهتمام بالجانب التعليمي للطلاب من حيث توزيع الكراسات الدراسية ونماذج الامتحانات وإجراء المسابقات وتنظيم إذاعة مدرسة أو مهرجانات في المناسبات داخل المدارس والجامعات، اللجنة الدعوية تقوم بعمل دروس دينية بالتنسيق مع مشايخ معروفين أو مدرسو الجامعات ومتابعة الطلاب "الغير ملتزمين" دينيًّا واتباع خطة دعوية لهم تنقسم أدوارها بين المدرسة أو الجامعة ويكمل الدور الآخر اللجنة الدعوية في أقرب مسجد يتبعه الطالب المستقطب بناء على توصية من متبع الكتلة الإسلامية في المدرسة.
أما اللجنة الرياضية فتقتصر مهامها على إجراء المسابقات الرياضية داخل الجامعة أو المدرسة، كدوري كرة القدم و الطاولة وألعاب الفيديو "البلايستيشن"، تتم التصفيات داخل المدرسة ثم تنتقل إلى المحافظة ختامًا بدوري باسم القطاع ككل، هذه الأنشطة جميعها تقوم اللجنة الإعلامية بالترويج لها بين الطلاب وفي مساحات الإعلان المختلفة سواءً منشورات ورقية أو عبر تعليق أخبار الأنشطة في الأماكن المخصصة لمثل هذه الأخبار، كذلك تقوم اللجنة الإعلامية بالعمل على الإعلان عن الأنشطة والفعاليات المستمرة.
كل هذا الدور التكاملي في خدمة الطلاب وتقديم المساعدات لهم في ظل عدم وجود منافس آخر حقيقي أو ضعف الأداء من التكتلات الطلابية الأخرى إذا ما قورن بأداء الكتلة الإسلامية يجعل منها لاعبًا يكاد يكون وحيدًا في ملعب الطلاب الواسع. مما يشكل عنصرًا إضافيًا في التأثير على تفكير الطلاب وتقريبهم أكثر من عناصر الحركة في المدرسة أو الجامعة، إذا أضيف إليه المتابعة المستمرة بعد انتهاء الدوام من قبل المعنيين في المسجد أو من خلال مخيمات صيفية، ليتشكل عبر الوقت وعي جديد لدى شريحة الطلاب حول حركة حماس مما يؤدي في نهاية الأمر إلى جعل المعارض مؤيد والمؤيد منتمي والمنتمي عنصر فاعل.