نُشِر هذا الحوار الذي أجراه سنان أنطون مع مظفّر النوّاب في «مجلة الدراسات العربية» (العدد ٢، خريف ١٩٩٦، ص. ٣-٢٦) بنسختها الورقيّة. وتعيد «جدليّة» نشره هنا بأجزاء مع المقدّمة.
[بعد الأمسية الشعرية التي أحياها مظفّر النواب في جامعة جورجتاون في ١٩ أيار، ١٩٩٦ والتي ساهمت «مجلة الدراسات العربيّة» بالتحضير لها، وكان لي شرف تقديمه فيها، كان الشاعر يقف خارج القاعة يتلقّى التهاني من الجمهور. وقبل أن أقترب منه لأفاتحة بإمكانيّة إجراء حوار معه، طلب منّي أحد اللاجئين العراقيّين الذين قدموا من معسكر رفحة في السعوديّة ، من الذين يعيشون في واشنطن، أن أسأل النوّاب إذا كان يمانع في أن يلتقط صورة معه. وسألته تلقائياً لماذا لا يسأله هو مباشرة، فارتسمت على وجهه ابتسامة وقال: «ما أعرف. أرجوك!» وتذكّرت كيف شعرت أنا نفسي بالرهبة أول مرة التقيت فيها بالنوّاب قبل عام في بوسطن. بعد أن التقطت لهما الصورة، شكرني الرجل وقال: «إنت تعرف شگد نحبّه». عندما حدّثت النوّاب عن المجلة وعن رغبتي بإجراء حوار معه، قال بعراقيّة صميمة: «إي، ليش لا؟».
واتفقنا أن يكون الحوار يوم ٢٢ أيار، ١٩٩٦، في دار مضيفه، السيد محي الدين الخطيب، في ضواحي واشنطن. في طريقي إلى اللقاء، قلّبت الأسئلة التي سهرت أفكّر بها وغمرني الشعور الذي يكتسحني حين أكون في طريقي إلى موعد عشق. هذا هو التفسير الوحيد. كلام كثير وأسئلة أكثر وشعور بالرهبة. أحسست أنّني أحمل معي حب الكثيرين ممن كان يجمعني حب مظفر بهم. تذكّرت كيف كنّا نتبادل شرائط أشعاره بالسر في كليّة الآداب بجامعة بغداد. وكيف كنّا نجتمع في بيت أحد الأصدقاء لنستمع إلى «وتريّات ليلية». كنا نتسكّع في شوارع بغداد ليلاً ونحن نردد مقاطع حفظناها عن دون قصد، ولكن عن حب. تذكّرت، أيضاً، واحدة من الجلسات الشعرية لمهرجان المربد عام ١٩٨٩. كانت الفنّانة نضال الأشقر تلقي كولاجاً شعرياً جمعت فيه عدة نصوص من شعراء كثيرين. وحين ألقت مقطعاً من إحدى قصائد مظفّر، وشعره كان ممنوعاً في العراق، تهشّم الصمت السائد وأخذ الجميع يهمس ويهمهم: مظفّر! تذكّرت صديقي البصري، إحسان، الذي كان دائماً يردّد مع مظفّر: «أين البصرة؟ أين البصرة؟ بوصلتي تزعم عدّة بصرات.» وكيف أنني عشقت البصرة من شعر السياب والنواب ولم أرها قط. وكيف أردّد كل يوم بصوتٍ عال: «في تلك الساعة، حين تكون الأشياء بكاءً مطلق.»
تذكّرت كيف أن جريدة «الثورة»، الناطقة بلسان حزب البعث، قامت بنشر قصيدة «الأساطيل» قبل أسابيع من حرب الخليج (١٩٩١) مرفقة بصورة النواب. وكانت تلك أول مرة نتعرف فيها في الداخل على تقاطيع وجهه ونربطها بصوته.
حين قابلته في بوسطن قبل سنة فوجئت بأن الشاعر الذي يتفجّر غضباً في قصائده هادئ هدوء الطفل ويقطر رقّة حين يتكلّم.
ما أغرب هذا العصر؟ المرة الوحيدة التي يتسنى لي فيها أن أحضر أمسية يلقي فيه مظفر شعره، أو أن أحظى بفرصة إجراء حوار معه، ليست في بغداد أو البصرة، بل في واشنطن، على بعد نصف ساعة من البنتاغون؟
بالرغم من متاعبه الصحيّة كان مظفّر كريماً معي بوقته. دار الحوار ونحن نتناول الباگلِةّ ونشرب الشاي في فطور عراقيّ وكان مظفّر يرتدي بلوزة عليها اسم أحد فرق كرة القدم الأمريكيّة. استرسل مجيباً على بعض الأسئلة، ولم يعجبه واحد أو أكثر فاعتذر عن الإجابة. وكأي لقاء عشق، مر الموعد بسرعة قاسية. تبادلنا بعض الأحاديث والطرف قبل أن أودّعه وبي عطش وأسئلة كثيرة. س أ]
***
س: يحفظ الناس شعرك عن ظهر قلب، لكن تفاصيل حياتك مجهولة لدى الغالبية العظمى. هل يمكن أن تتحدّث عن تكوينك، شاعراً وإنساناً؟ ما هي الأشياء التي أثّرت عليك منذ الصغر؟
مظفّر النوّاب: القضايا التي أثرتها يصعب الحديث عنها بإسهاب، ربما باختصار. هناك شيء أساسي وهو تاريخ العائلة. خرجت العائلة من الجزيرة إلى العراق، وفي أيام اضطهاد العبّاسيين رحلت إلى منطقة كشمير في الهند وحكمت جانباً من المنطقة. بعدئذ، بعد دخول البريطانيين، كانت هناك مقاومة وتم نفيهم. وخيروهم فعادوا إلى العراق لوجود العتبات المقدّسة ولأنهم قدموا من العراق أصلاً. فمنذ الصغر ونحن نسمع عن هذا التاريخ: الانتقال والرحيل والنفي. وجئنا نحن لنكمل (يضحك). طبعاً، كل هذا له تأثير. وكان هناك كره للبريطانيين بالذات. ومما يقال أيضاً إنّه طلب منهم المشاركة في بداية تشكيل السلطة ورفضوا. وهناك طقس يقام سنوياً هو مواكب كربلاء وعاشوراء. كانت هذه المواكب تأتي إلى البيت. كنا نمتلك بيتين كبيرين، بيت جدي وبيت أخيه، مفتوحين على بعضهما البعض وكانت هناك أبواب ضخمة. . .
س: في أي منطقة في بغداد؟
م ن: في الكرخ، مقابل سراي بغداد والساعة. فكانت المواكب تأتي وتدخل البيت بمشاعلها والخيل وماء الزهر والأعلام والسلاسل التي يضربون أنفسهم بها. كنت صغيراً وقسم من هذا لا أعيه لكنه يحكى أمامي. والقسم الأخير أعيه بشكل ضبابي. فمنذ البداية كان هناك تأثير للعطور وماء الزهر. كان بيتاً شرقياً والطوابق العليا مليئة بالنساء. لا ترى حولك إلا كتلاً سوداء. وعيون ودموع، طبعاً، وبكاء. وفي الداخل الألوان والأعلام والصناجات التي يضربوها. وكانوا يقومون بتمثيل معركة كربلاء. ويقولون لي أيضاً إنّه كان هناك طفل يقتل في المعركة وهو عبد الله الرضيع، وكنت أنا الشبيه وكانوا ينزلونني لأمثل دوره. طبعاً لا أتذكّر لأنني كنت طفلاً صغيراً. لكن هذه الأشياء لعبت، بشكل غير واع، دوراً أساسياً في التلوين والإيقاع والشعر، أو فلنقل التنغيم، تنغيم الإنسان وموسقته. إلى جانب هذا، هناك جو خاص في العائلة. كانت العوائل مغلقة عادة. في طفولتي، مثلاً، لم يكونوا يسمحون لي بالخروج من البيت إلا للذهاب إلى المدرسة. كانوا يخافون علينا. كان أصدقاؤنا يأتون إلى البيت ليلعبوا معنا وكان البيت ضخماً جداً. وكان عدد كبير من أفراد العائلة يجتمع كل أسبوعين في سهرة. فيعزف واحد على القانون وآخر على العود وآخر على الكمان. كانت هناك أصوات جميلة جداً في العائلة، سواء نسائية أو رجالية وكانوا يغنّون.
س: أقرباؤك كانوا يعزفون على هذه الآلات؟
م ن: نعم، جدي كان يعزف على القانون والبيانو، والوالدة كانت تعزف على البيانو، ووالدي على العود، وخالي على الكمان. فكل هذا لعب دوراً. جدي لوالدي شاعر بالعربية وبالفارسية. وهناك تركيبة عاطفية حادة في العائلة. هناك الكثير من الحوادث التي تدلّل على هذه الحدّة العاطفيّة. فمثلاً عندما كنت أسافر داخل العراق في سفرة طلّابية إلى مناطق الشمال مثلاً، كانت الوالدة تودعنا وهي تبكي، ونعود وهي تبكي. يظهر إن المرء يرث هذا بتركيبه العصبي.
س: ما هو تسلسلك بين الإخوة والأخوات؟
م ن: الأول. ثم كان بيتنا على دجلة وكانت هناك المسنّاية، وهي الشرفة، وتدخل في دجلة وفي وقت الفيضان يحيط بها الماء من الجهتين وهي ممتدة داخل النهر وكبيرة. وأذكر صوت الهدير والفيضان. كانت هناك عدة حوادث غرق في المنطقة. أذكر صورة الأم التي تظل تنتظر ابنها الغريق طوال الليل وتظل تندب. كانت هناك شموع أيضاً. هذه صورة مبكرة في ذهني. تجلس في الشريعة التي غرق فيها ابنها وينتظرون أن تطفو الجثة. . . إلخ، فهو جو مشحون جداً. لا يستطيع المرء أن ينام. كل هذا أعطاني مساحة. لأن بيتنا كان وحده داخل النهر ولم يكن أمامه أي بناء. هذا، كما أعتقد، لعب دوراً أيضاً، فهو يعطي مساحات واسعة للكتابة وما شابه. الساعة التي أمام بيتنا، ساعة بغداد، لعبت دورها أيضاً. ما زالت دقاتها في أذني. من الصعب أن ينساها المرء. لديها خصوصية معينة. ولأن السراي أمامنا كانت بعض الأحداث السياسية تقع هناك. عندما قتل ياسين الهاشمي، مثلاً، قتل في السراي وسمعنا صوت الطلقات. كان البيت ملتقى لكثير من الناس. هناك صالونان، واحد صيفي والاخر شتوي. كانا مليئين بالتحفيات واللوحات من أماكن عديدة في العالم. وكان عدد من السفراء يزورون البيت. مثلاً هناك هدايا من السفير الروسي ومن أماكن أخرى. كانت هناك أنواع من المنحوتات العاجية والكثير من التحفيات الهندية التي يظهر أنهم جاؤوا بها معهم عندما عادوا. فهذا كله، كلون ورسم، أثّر علي بشكل كبير. عندما كنت أعود من المدرسة كان والدي يطلب مني أن أقرأ له الأناشيد وهو يعزف العود. فكوّن لي أذناً مدوزنة. الآن لا أعود إلى التفعيلات الشعريّة والعروض. بل أكتب على السليقة. درسنا العروض طبعاً، لكنّي لم أكن أحب الدرس. كنت أهرب منه. هذا جزء من المكوّنات الأولى.
س: متى بدأت عندك الكلمة أو الشعر؟
م ن: واالله مبكراً. في الطفولة، باللهجة العاميّة وبسبب «السبايات» تكوّن الإيقاع. وهناك الأعياد الموجودة في المنطقة. فالذي يدوّر دولاب الهواء يغني والذي يمرجح الأطفال يغنّي والذي يبيع «جقجه قدر» يغنّي
س: متى بدأت تكتب الشعر، بالعاميّة أو بالفصحى؟ متى أحسست أنك شاعر أو أيقنت بأنك تريد أن تكون شاعراً؟
م ن: لا أذكر بالضبط. لكنّي أذكر أن جدّي لوالدي كان يجلسني في حضنه وكان شكله يشبه طاغور بلحيته البيضاء، كان يقرأ لي. من أول ما حفظته منه مثلاً: «لا تسقني كأس الحياة بذلّة/بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل/كأس الحياة بذلّة كجهنّم/وجهنّم بالعزّ أفضل منزل». هذه حفظتها منه. كان يطلب منّي أن أردّد وراءه. بالإضافة إلى القرّاء في عزاء الحسين والقصة والملحمة. كل هذا لعب دوره في تركيبتي، وخصوصاً القصة نفسها، أي المقتل. الجو الدرامي الذي فتحت عيني عليه لم يكن جواً عادياً. في المدرسة الابتدائية بدأت بكتابات بسيطة وهي بدأت بحادثة. عندما كنت صغيراً كنت خجولاً جداً وبقيت كذلك إلى أيام الجامعة. وكان أصعب شيء بالنسبة لي هو أن أدخل الفصل إذا كان المدرّس قد وصل. ربّما هذا بسبب جو البيت. كان المدرسون كلهم يعرفون الوالد. درس الإنشاء كان آخر درس والمدرس، اسمه حميدي، وكان من تكريت. كان يعرف أنني قوي بالإنشاء فكان يسمح لي بالذهاب إلى البيت. كنت أفرح لأنني أذهب إلى البيت قبل بقية الطلاب. نحن كنا صغاراً وكان هناك طلاب شرسون. مثلاً طلاب الصف السادس كانوا رجالاً بشوارب وكنا نخاف منهم. ذات مرة تغير الجدول وأصبح درس النحو آخر درس. طبعاً الكل كان نعساناً وكان أكثر ما يربكني هو أن يطلب مني المدرس أن أقف وأقول أو أعمل شيئاً. كنت أخجل كثيراً. كان درساً للقواعد وكنا ندرس الإعراب. كان ذلك في الصف الثالث الابتدائي وكان هناك الشطر الأول من بيت شعر هو: قضينا ليلة في حفل عرس. فقال لي المدرس: قم يا نوّاب. وارتبكت فعلاً. قال لي: إذا ما أكملت النصف الثاني لهذا البيت سأسمح لك بالعودة إلى بيتكم. لا أدري لماذا فعل ذلك. وأنا، لا لأني أعرف الشعر جيداً، ولكن لارتباكي وخجلي ولأني أردت التخلّص من الموقف بسرعة، قلت بدون تفكير: كأنّا نجلس بقرص شمس. بهت المدرّس وأنهى الدرس قائلاً للطلاب: اجلسوا. ونزل إلى المدير ودقّوا الجرس وجمعوا المدرسة كلّها. أنا كنت خائفاً من صف واحد فقط، فتصّور الموقف مع المدرسة كلها. تكلّم المدرس مع المدير وقال له إن الوزن مضبوط والقافية كذلك. وهناك ضوء في العرس وكذلك في الشمس. طبعاً أنا كنت مرتبكاً ولم أفهم ما كان يقوله. أعطوني هدية هي عبارة عن مجموعة كتب من مكتبة المدرسة. بعد أن ذهبت إلى البيت أصبح في ذهني أن الشعر سهل وليس صعباً. فبدأت أكتب وكان المدرّس يشجعني.
س: في أي مدرسة كنت؟
م ن: الفيصليّة الابتدائية. ثم تنمّت هذه المسألة في المتوسطة والثانوية. لم يكن الصف كبيراً مثل الآن. كان عدد الطلاب صغيراً فكان لدى المدرس الوقت للاعتناء بالطالب وكتاباته. وكانوا يهتمون بالطالب إذا كانت لديه إمكانية. الآن لا يهتمون كثيراً.
س: متى وكيف بدأ عندك الوعي السياسي؟
م ن: كما قلت لك، الجو العائلي كان فيه كلام كثير عن النفي وعن الإنكليز. أول مشاركة لي كانت في وثبة كانون ١٩٤٨ ضد معاهدة بورتسموث. كنا طلاباً في المتوسطة وخرجنا في مظاهرات. لم نكن نفهم معنى المعاهدة. لكننا كنا نخرج مع الكبار الذين كانوا في المقدمة. هم كانوا يحدثوننا عن الموضوع. طبعاً أهلي كانوا يخافون علي كثيراً وكنت أسبب لهم الكثير من المشاكل. كنت أهرب من المدرسة للمشاركة في المظاهرات. وكانوا يبحثون عني في المخافر والمستشفيات خوفاً من أن أكون قد أصبت. كان بيتنا في الكرخ التي كانت مكاناً لانطلاق المظاهرات. بعد الانتفاضة كانت هناك انتخابات لاتحاد الطلبة. وانتخبت، ليس لأني واع سياسياً، بل لأنني كنت هادئاً وساكتاً. فكنت أحضر الاجتماعات وأناقش. وهكذاً تنمى عندي الجو السياسي. طبعاً كان الاتجاه قومياً آنذاك. يعني حزب الاستقلال. . . صديق شنشل ومحمد مهدي كبة. وأغلقت الحكومة المدرسة لكي لا تخرج المظاهرات فبدأنا نجتمع في بيتنا. ولم يكن والدي يقول شيئاً. كان قد ترك لي حرية التصرف. أما أمي فكنت تخاف كثيراً. وكان عندي صديق أو إثنان يأتيان معي إلى البيت وكنا نلعب وندرس معاً. وفي أحد الاجتماعات في اتحاد الطلبة قيل هناك إثنان أو ثلاثة من الشيوعيين في المدرسة وبأننا يجب أن نضربهم. فاستغربت أنا وسألت: لماذا نضربهم؟ فقالوا هؤلاء شيوعيون كفّار. كان هناك شخص من عائلة الفكيكي في الاتحاد وكذلك حارث طه الراوي ولا أذكر البقية. سألت عن هولاء الشيوعيين فإذا بأحدهم من الذين يدرسون معي في البيت وكان صديقاً عزيزاً. فكنت ضد أن نضربهم وهم مثلنا طلاب وطنيون. كلمت والدي عن الموضوع فقال: دعك من اتحاد الطلبة وضارب ومضروب. فانسحبت. وفي إحدي المرات زرنا مقر حزب الاستقلال عندما كنا صغاراً. تحدّث إلينا صديق شنشل وكان حديثة غريباً بالنسبة لي ولم أستسغ جوه.
س: متى ارتبطت بالحزب الشيوعي؟
م ن: في كلية الآداب في الجامعة. كنا أول دورة في دار المعلمين وكان فيها جو يساري. وكان القبول، بخلاف استثناءات معينة، تحدده لجنة فيها اتجاه طائفي. حاولوا أن يكوّنوا كلية لأولاد الذوات يكون فيها طابع طائفي معيّن. أبناء العوائل كانوا شيوعيين ويساريين. ولم نكن نعرف بشيئ اسمه حزب البعث. عند إعلان الأحكام العرفية سنة ١٩٥٢ خرجنا في مظاهرات. كانت كليتنا في باب المعظم أمام كلية الملكة عالية للبنات. وكانت كلية الهندسة بالقرب منها. انشق عن المظاهرة خمسة أو ستة برددون شعار: وحدة، حرية، اشتراكية. تلك كانت أول مرة نسمع فيها بالبعثيين. هم انشقوا عن المظاهرة لأن عددهم كان ضئيلاً جداً. لم يكن لديهم أي نفوذ في عموم الكليّات. من البعثيين الذين كانوا معنا وأصبحوا فيما بعد من القادة: ستار الدوري، وهو الآن في صفوف المعارضة في لندن. وكذلك حامد حمادي، وزير الإعلام حالياً. علي صالح السعدي كان في كلية التجارة وكنت أعرفه من خلال النضال الطلابي. في تلك الفترة تمت مفاتحتي وطرح على موضوع الانتماء إلى الحزب الشيوعي. فاعتذرت منهم لأنني لم أكن أمتلك الوقت الكافي للتفرغ بسبب الدراسة وأشياء أخرى. لكننا كنا نشارك وأحياناً أكثر من الملتزمين.
وفي ١٩٥٦ عملوا دورتين للضباط الاحتياط وكانت حجة لإبعادنا عن بغداد. واحدة كانت في السعدية للمفصولين الذين أنهوا الكليات ولم يتعينوا. المجموعة الثانية، غير المتخرجين، أخذوهم إلى الشعيبة. كان الوضع متوتراً داخل بغداد، خصوصاً أثناء أحداث مصر وضرب بورسعيد. تعرفت على الكثيرين، طبعاً، ومنهم صلاح خالص وإيراهيم كبة ويوسف العاني ويوسف الدرة، وكان علي صالح السعدي معنا أيضاً. كانت هناك فعاليات كثيرة ضمن الدورة: مسرح وغناء وغيرها. قام أحد الضباط بضرب أحد رفاقنا لأنه تأخر على التدريب فأعلنّا الإضراب داخل الجيش. وكانت عقوبة الإضراب الإعدام. أضربنا داخل الثكنات ليومين أو ثلاثة فتوتّر الجو وطوقوا المعسكر وأخذوا حوالي عشرين منّا إلى بغداد لمحاكمتهم عسكرياً. حكموا عليهم بين خمس إلى عشرين سنة وكان يوسف العاني من بينهم. لكن نوري السعيد أطلق سراحهم بعد أربعة أشهر. كانت مسألة تخويف. فخرّجونا دون أن نصبح ضباطاً إلا أن الدورة كانت مفيدة لأنني تعرفت على أناس كثيرين. وكان عبد السلام عارف وماجد محمد أمين وعدد من ضباط الثورة قد درّسونا فيها. كنا نسمع بوجود نوع من التململ في المعسكرات القريبة منا. فهذا ينمّي وعياً جيداً من خلال الاحتكاك بين البعثيين والشيوعيين. كان هناك تعاون في تلك الفترة ضد السلطة. وهناك كانت أول موافقة على الانتماء إلى الحزب الشيوعي (أثناء الدورة). وبسرعة أصبحت عضواً في لجنة المثقفين وكان فيها أسماء أصبحت معروفة. لكن اجتماعاتها كانت متباعدة. مرة كل أربعة أو خمسة زشهر. وكان الجو مكهرباً، كما قلت، بسبب أحداث مصر. فبعد ثورة يوليو كان الجو في العراق يغلي. وعند إعلان الوحدة مع سوريا كان الإعلام يسمع بوضوح وكانوا يقبضون على كل من يستمع إلى صوت العرب ويحكمون عليه بستة أشهر. وألقي القبض علي في تلك الفترة عدة مرات ولنشاطات مختلفة. وكانوا يوقفوننا عدة أيام، خصوصاً في الكاظمية. كانت لديهم أسماء معينة وكانوا يلقون القبض علينا كلما تكون هناك مناسبة. فمثلاً عندما جاء سليمان ديميريل جاءوا وأخذونا. وكلما كان حلف بغداد يجتمع كنا نستعد لأننا كنا نعرف بأننا سنؤخذ إلى الموقف في الكاظمية. تعرفت في الموقف على كبابجية وأصبحوا أصدقائي. وأحدهم، وكان اسمه حميد وهو من عفج، قتل أيام ثورة تمّوز. ومن التضحيات أثناء ثورة تموز أيضاً السيد لطيف الوردي. كان هناك جهاز خاص لتصفيتهم. كانت مدينة الكاظمية تكاد تكون مقفلة للشيوعيين. هناك أحداث يصعب الحديث عنها بسبب التفاصيل. مثلاً السيد لطيف الوردي لم يكن شيوعياً. كان رجل دين يلبس عمامة ويقرأ عزاء الحسين. واعتقل زوج ابنته لمشاركته في نشاط ما ولم يكن شيوعياً هو الآخر. وكونّا لجنة في المدينة وكنت أنا ممثلاً للحزب وفاتحناهم. كانوا كبار السن لكنهم كانوا يتعاطفون مع الشيوعيين. وفاتحنا السيد لطيف وكان مستعداً للتعاون. كان ودوداً جداً ولديه وعي عال، رغم أنه متدين. قد يكون في موكب متنقلاً من عزاء إلى آخر، وحين كان يلاقينا كان يوقف العزاء كله ويسلم علينا. قتل وهو في طريقه إلى صلاة الفجر. عندما جاءوا به إلى المستشفى وأرادوا أن يعطوه الماء. رفض وقال: أموت عطشاناً كجدي الحسين. كان رجلاً متديناً لكنه شعر أن هناك قضية عادلة ويجب الدفاع عنها. شيوعيون أم لا، لم يكن يهم. بعكس التزمّت الموجود الآن. وكانت هناك رحابة صدر. الماشطة، مثلاً كان رجل دين ولكنه كان من «أنصار السلام». . . الشبيبي. . . إلخ. هذا كله أثر علي. وكانت هناك أيضاً لقاءات بيتية لعدد من الأدباء وتحصل نقاشات وهذا مهم أيضاً. وهذا الطابع انتهى الآن. سهرات تجمع شعراء وأطباء ورسامين مع زوجاتهم. مثلاً سلمان شكر، عازف العود، وخالد الرحال وبلند الحيدري وأنا. وكان الحديث يدور من زوايا عديدة وهذا يعطيك مخيلة أكبر. لقد قضي علي هذا كله. كان هناك تركيبة معينة في العراق وأريد لها أن تدمّر. قرأت مقالة في جريدة بريطانية منذ زمن تتحدث عن وجود جناحين للوطن العربي فيهما تماسك وهما العراق والسودان وقد قصصنا أجنة العراق. السودان نكّلوا به أيضاً ولكن لم يكن التنكيل دموياً. تاريخ العراق دموي. السودانيون مسالمون لكن البلد تحول إلى حجيم. هناك فئة كبيرة من المثقفين في البلدين. في العراق أكثر، ربما بسبب الإمكانيات المادية والعمق التاريخي من حيث تطور الحركات الثورية.
س: كيف ترى إلى تجربة السجن؟
م ن:بمقدار ما هي غنية فهي مريرة جداً لأنها سلسلة حرمانات. بالرغم من وجود رفاقك وأصدقائك معك، إلا أن الناس يختلفون. هناك عقليات مختلفة وهناك من هو ضيق الأفق ويتخاصم من أجل لحمة. كنا نأكل سوية ويكون هو واع سياسياً لكنه يختلف معك من أجل قطعة لحم. فلا يمكن أن تتحمل هذا الجو. وأنت مجبر أن تكون مع أناس لا تريد أن تراهم. قد تتحمله في الحياة العادية ولكن في السجن هو معك على مدار الساعة. حرمان لأنك لا تختار ما تأكله وتشربه. حرمان جنسي أيضاً فأنت بين أربعة جدران في الصحراء.
س: أنت تتحدث عن سجن «نگرة السلمان»
م ن: نعم.
س: ومتى دخلت السجن أول مرة؟
م ن: أول مرة تم توقيفي فيها كانت أيام نوري السعيد. داهموا البيت ووجدوا نشرات حول الانتفاضة فأخذوني إلى مديرية الأمن العامة. كنت خائفاً لأنني كنت أعيش في بيتنا في جو عناية رهيب لكوني الإبن الأول. وكنت أسمع عن التعذيب. كان معي إثنان من كبار الشيوعيين في التوقيف. أحدهم شامل النهر هو الآن في لندن. لم يضربونني فقد كانوا يعرفون عائلتي. سألوني: لماذا أنت شيوعي وأنت من عائلة غنيّة؟ كانت محاضرة.. وفي المرة الثانية كان ناجي العطية في الغرفة ورأيت والدي. فقال لي العطية: ما الذي أتى بك إلى الشيوعية وأهلك عندهم خيول تتنافس في الريسز (السباق) وأموالكم ما شاء الله؟ فقال لأبي: تكلّم معه. فقال أبي: هذه حياته وهو الذي يقرّر، كان موقفه جيداً جداً. فقال له: خذ ابنك واذهب. كانت القضايا تحل ببساطة.
يمكن قراءة الجزء الثاني هنا