ماكس أوب
1
كنّا في الباص منحشرين كما لو في علب السردين. كان ذلك الرجل قذراً للغاية. وكانت رائحته كريهة، وخصوصاً رائحة قدميه. أؤكد لكم، يا سادة، أنه لم يكن هناك من طريقة لتحمل رائحة قدميه. علاوة على ذلك كان قمصيه متسخاً جداً، وقبة القميص سوداء كالفحم. كان ينظر إلي. لقد كان قميئاً ومقرفاً. أردت أن أغير مكان جلوسي، ولعلكم لن تصدقوا ذلك، إلا أن ذلك الرجل لحقني!
كانت رائحة القمامة نفسها تفوح منه، وبدا لي فمه عشاً للصراصير. ربما دفعتهُ بشكلٍ قوي، ولكنهم لن يحملوني مسؤولية أن عجلات الباص قد دعسته.
2
كان ذلك الفنان سيئاً للغاية، سيئاً إلى درجة أن ما من أحد رآه إلا وتمنى- وأنا متأكد من هذا- أن يقتله. ولكن في اللحظة نفسها التي تمنيتُ فيها أن أقتله، وقع من السقف شيءٌ على رأسه، كسر له عنقه.
هكذا قضيت بقية حياتي وأنا أحمل وزر قتله.
3
كنا على حافة الرصيف ننتظر الإشارة الخضراء لكي نعبر الشارع. السيارات تعبر مسرعة واحدة تلو الأخرى وقد بدت أضواؤها ملتصقة بعضها ببعض. لم يكلفني الأمر إلا أن أدفشها قليلاً فقط.
كنا متزوجين منذ أكثر من اثني عشر عاماً. لم يكن لهذه السنوات أية قيمة.
4
أحرقني بشدة بسيجارته. أعرف أنه لم يفعل ذلك عن قصد، ولكنني شعرت بألم لا يطاق. لقد أحرقني وآلمني، فغضبت وقتلته. أنا أيضاً لم أفعل ذلك عن قصد، ولكنني كنت أحمل قنينة في يدي.
5
أنا أستاذ مدرسة. أعمل في مهنة التدريس في المدرسة الإبتدائية "زاك" من أكثر من عشرة أعوام. نجح كثير من الطلاب الذين علّمتهم: أعتقد أنني أستاذ جيد. على الأقل اعتقدت ذلك إلى أن تعرفت على بانشيتو كونريراس. لم يكن يحسب لي أي حساب، كما أنه لم يتعلم شيئاً أبداً: ببساطة لأنه لا يريد أن يتعلم. لم تنفع معه العقوبات، لا الأخلاقية ولا الجسدية. كان ينظر إليّ بوقاحة. حاولت معه بكل الطرق: ترجيّته، عاقبته، ضربته، لا فائدة. حتى أن رفاقه الطلاب بدأوا يسخرون مني. فقدت هيبتي في الصف. وضيّق عليّ عيشي وحرمني النوم والأكل إلى حد أنني في ذلك اليوم لم أستطع أن أتحمل أكثر من ذلك. وكي يكون عبرة لغيره شنقته على جذع شجرة في باحة المدرسة.
6
كانت هذه المرة السابعة التي طلب مني فيها نسخ الرسالة نفسها. أنا حاصلة على دبلوم بدرجة امتياز. طلب مني نسخها مرة من أجل وضع نقطة مكان الفاصلة، وأخرى من أجل تغيير كلمة "ربما" ليضع مكانها "لعل"، وثالثة لأنه نسي وضع الشدة على حرف ما، ورابعة لأنه خطر له أن يضيف مقطعاً جديداً، وخامسة لا أتذكر السبب بالضبط، ولكن هذه هي المرة السابعة التي أعيد فيها كتابة هذه الرسالة. وهكذا بعد أن انتهيت من كتابة الرسالة أخذتها إليه، نظر إليّ بالعينين المنافقتين لمدير الإدارة وقال: "انظري يا سيدة....". لم أدعه يكمل كلامه. لا بدَّ من احترام الموظفين أكثر.
7
كان غبياً. كنت قد أعطيته العنوان ثلاث مرات وشرحت له طريقة الوصول بكل وضوح. لقد كانت سهلة للغاية. لم يكن عليه إلا أن يقطع الشارع ويدخل البناء الرابع. ارتبك في المرات الثلاث التي أعاد فيها العنوان. رسمت له خريطة واضحة، وبقي ينظر إلي بوجهه الغبي قائلاً:
- لا أعرف.
في كل مرة كنت أشرح فيها طريقة الوصول كان يهز كتيفيه ويقول لا يعرف. كان لا بدّ من قتله. وهكذا فعلت. أخطأت أم لم أخطئ، هذه مسألة أخرى.
8
قتلته لأن رأسي كان يؤلمني.
لم يتوقف عن الحديث عن أشياء لا تهمني لا من قريب ولا من بعيد، وحتى لو كانت تهمني. رحت أنظر إلى الساعة لعله يسكت. نظرت ست مرات إلى الساعة ولكنه كان وقحاً ولم يقم لي أي اعتبار وتابع الثرثرة.
أعتقد أن الحكم سيكون مخففا إذا أُخذ هذا بعين الاعتبار.
الجبل
عندما خرج خوان للتنزه في ريف القرية صبيحة ذلك اليوم الهادئ، لم يجد الجبل. وجد مكانه سهلاً واسعاً وجميلاً. كان المنظر بديعاً سيما أنّ الشمس قد بدأت لتوها بالشروق.
لطالما كان ذلك الجبل موجوداً في القرية، ومحفوراً في ذاكرة سكانها. كان مخروطي الشكل وأسود ومتسخاً وهائل الحجم وبلا فائدة غير أنه اختفى تماماً مع صبيحة ذلك اليوم.
بدا الأمر مناسباً لخوان. أخيراً حدث الشيء الذي كان من الواجب حدوثه والذي، بطبيعة الحال، ينسجم مع أفكاره.
- لقد قلتُ لكِ ذلك. قال خوان لزوجته.
- معك حق. الآن نستطيع الوصول بشكل أسرع إلى بيت أختي.
الصندل
لا يستطيع الرجال، من كثرة المشي، ولعدم امتلاكهم للأجنحة، أن يبقوا حفاة الأقدام، لذلك فهم يغطون أقدامهم من جيف الحيوانات الميتة، وهو ما يعرف بالأحذية: لا بدَّ من القول إنها تقي، بشكل من الأشكال، من الماء والوحل.
أرسل الصليب الأحمر إلى المخيم ما يقارب الخمسمئة زوج من الصنادل لكي يتم توزيعها على المقيمين فيه؛ إنها نوع من الأحذية القماشية وهي أفضل من لا شيء. لقد كانت متراكمة لديهم في المستودعات من يدري لماذا؟!.
طلب العجوز إيلوي بينتو، وهو أعرج، تجاوز السبعين من عمره، من الحارس الشاب زوجاً من الصنادل ليرتديه. فجعلوه يكنس ويغسل وقالوا له تعال غداً وستحصل على الصندل. راح المشهد نفسه يتكرر على مدى ثمانية أيام. العجوز، وقد تعب من الأمر، طلب الصندل من الشخص المساعد.
- ولماذا تريد الصندل، ايه؟ ولا تريد أن تعمل. وتريد تناول الطعام، نعم تريد أن تأكل، أليس كذلك؟ لكي تأكل تكون على رأس القائمة.
سكت العجوز وراح ينظر إلى رجليه الملفوفيتن بخرق بالية، وببطء، رفع رأسه عالياً. فنظر إليه المساعد وبصق في وجه قائلاً:
- لا بدّ أن ضميرك مرتاح الآن، أيه؟ أليس هذا ما تقوله؟ إذاً انتعل ضميرك في رجليك.
[الترجمة عن الأسبانية: جعفر العلوني]
*ماكس أوب Max Aub 1903-1972)): كاتب إسباني، ولد في باريس. شارك في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين. اضطر إلى مغادرة إسبانيا حيث عاش في باريس في مخيمات اللجوء، ليتمكن بعدها من مغادرة فرنسا مروراً بالجزائر، لينتهي به المطاف في المكسيك، حيث حصل على الجنسية. شارك بنشاط في الحياة الثقافية. له العديد من الأعمال الأدبية التي تضمنت المسرح والترجمة والشعر والقصة القصيرة. نذكر من أعماله المتنوعة على سبيل المثال لا الحصر: في القصة "جرائم نموذجية"، "النوايا الحسنة"؛ في الشعر، "القصائد اليومية" و"أنطولوجية الشعر المكسيكي"؛ وفي المسرح، "كوميديا لا تنتهي".