اليوم وقد بدأت مرحلة التغيير في العالم العربي بسقوط الأنظمة الدكتاتورية واحداً تلو الآخر، يجدر بنا التوقف مليا واعتبار مانريد أن نراه في المستقبل القريب وعلى المدى البعيد من تغييرات جوهرية في أنظمة حكمنا وفي ترتيب مجتمعاتنا وفي علاقاتنا ببعضنا البعض لكي نحقق المأمول من عدالة ومساواة أمام القانون وتوفير الحريات كافة لكل الناس سواسية. وما هذه بالأهداف الخيالية، وإنما هي أهم مايلزمنا لكي تستعيد مجتمعاتنا عافيتها بعد الضيم الذي لحقها لأكثر من نصف قرن من أنظمة القهر والاستغلال ولكي تنهض من كبوتها وتواكب مسيرة العالم وتشارك بها فاعلة ومنفعلة بالقدر نفسه، بعدما قضت وقتاً طويلاً وهي تراقب العالم عن بعد منفعلة بأحداثه بدون تفاعل معها أو تأثير عليها حتى فيما يخص شؤونها هي نفسها.
في هذه المسيرة إلى الحرية هناك العديد من المواضيع التي ينبغي طرحها على بساط البحث والنقاش: نراجع مواقفنا منها ونعمق فهمنا لها ونصحح أخطاءنا تجاهها ونعبد الطريق لمواقف أفضل منها. ولعل واحدة من أهم المسائل في العالم العربي الذي يثور اليوم هي علاقة الأكثرية المسلمة بالأقلية المسيحية وبغيرها من الأقليات التي تشكل مكونات أساسية وأصيلة في بلادنا وفي هويتنا القومية وفي تعريف أوطاننا ومجتمعاتنا وانتمائنا وصيرورتنا.
لاخلاف على أن هناك مشكلة متأصلة في العلاقة بين الفرعين المسلم والمسيحي في دولنا العربية تعود بأصولها إلى التركيبة الدينية لدول ماقبل الحداثة حيث عومل المسيحيون وغيرهم من الأقليات الدينية كذميين، أي كمعاهدين مسالمين ومحميين وغير مسلمين في دولة إسلامية أساساً. ولاخلاف أيضاً على أن هذه العلاقة قد شابها المزيد من الخلل في العقود القليلة الماضية تحت وطأة التطورات السلبية التي عاشها العالم العربي بدءاً من زرع دولة إسرائيل المتمسحة بالدين في قلبه ومروراً بصعود الأنظمة العسكرية الصارمة والفاسدة إلى سدة الحكم في عدد غير قليل من الدول العربية ووصولاً إلى ترهلها على كراسي الحكم وتوحشها في الدفاع عن مكتسباتها غير المشروعة باستخدامها للكثير من الوسائل القمعية بما فيها إذكاء النار على العلاقات المتوترة بين الأغلبيات والأقليات في بلادها، وانتهاءاً بتدخلات إسرائيل والغرب المكشوفة والمستورة التي تلعب على الوتر الأضعف في مجتمعاتنا العربية وحتى بمناورات الجيران الآخرين مثل إيران وتركيا الذين لا يعادلون إسرائيل بغياً بالطبع ولكن لهم مصالحهم وسياساتهم التي يمكن ألا تتوافق ومصالح وسياسات العرب
. وبلغت الأمور ذروتها بظهور المنظمات الإسلامية المتشددة، من سلفية وجهادية وتلك التي لايعرف لها مبدأ، واتخاذها من العنف ضد الأقليات أسلوباً في التعريف بنفسها وتوصيل رسالتها. وقد حاول الخطاب العربي العام، الشعبي منه والرسمي، التخفيف من حدة المشكلة المتفاقمة أو تحويل الأنظار عنها بالتفتيش عن أسباب خارجية بدلاً من النبش في الأساس الباطل للعلاقة بين الأكثرية والأقلية كما نشأت في عهود الدول الدينية في الماضي وكما تطورت في ظل الدولة العربية القومية الحديثة.
هذا على الأقل ما يلمسه أي مراقب لردود الأفعال الرسمية والشعبية على سلسلة الاعتداءات على الكنائس التي شهدته مصر وعراق وفلسطين الاحتلال وغيرها من الدول العربية في السنين القليلة الماضية، والتي بلغت منعطفاً خطيراً هذا الأسبوع في الصدامات الدامية التي شهدتها قاهرة مابعد الثورة بين الجيش المكلف بحماية مبنى التلفزيون الرسمي ومجموعات حاشدة من الأقباط ومساندوهم من نشطاء المجتمع المدني الذين كانوا يتظاهرون احتجاجاً على تدمير كنيسة في محافظة أسوان والتي راح ضحيتها أكثر من ٢٧ قتيلاً و٣٠٠ جريح. حظيت هذه العمليات الإجرامية بكل معنى الكلمة بالعديد من ردود الفعل المحلية والعالمية التي تباينت في شدتها وفي تعاطفها مع الضحايا وفي تحليلها لمسببات التفجير والقتل وهوية فاعليهم. ولكن متابع ردود الفعل العربية لهذه الجريمة لا بد وأن يلاحظ بأن بعض المعلقين، خاصة المشايخ الملتحين على الانترنت، مازال يستعمل مصطلحات قروسطية مهينة لوصف المواطنين العرب المسيحيين مثل "الصليبيين" و"الكفار." ولابد لهذا المراقب أن يلاحظ أيضاً أن غالبية المعلقين، حتى أولئك الذين لايدّعون مرجعية دينية، مازالوا يعتمدون على الأسلوب التقليدي الممجوج في النفي والتشكيك وتوجيه أصابع الإتهام إلى قوى خارجية عدوة تسعى لتدمير البلاد أو لتشويه سمعة الإسلام. قليلون منهم هم من حاولوا فهم دوافع الجريمة ومسبباتها من خلال التركيز على السياق المحلي وعلى سلسلة الاعتداءات على الكنائس وعلى المواطنين الأقباط التي حفلت بها الأنباء في السنوات الأخيرة. والأقل هم من انتبهوا إلى أن المبرر الرئيس خلف هذه الاعتداءات نابع من اضمحلال مفاهيم الحقوق المدنية في العالم العربي وتقهقرها في تأطير علاقة الأفراد ببعضهم البعض وبالحكومة والنظام، بحيث أنه يمكن لجماعة ما سلب جماعة أخرى حقوقها المدنية من دون كثير احتجاج من المجموع أو من الدولة، أو حتى من دون أن ينتبه أحد إلى هذه الحالة النشاز في العلاقات الوطنية في الدولة الحديثة.
الاتجاهات الثلاثة للتعليق
:
أكثر التصريحات إثارة للانتباه هي تلك التي تأتي من منظّري نظام الحكم السابق والحالي في مصر (ولو أن تصريحاتهم لا تختلف كثيراً لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون عن ممثلي الأنظمة العربية الأخرى في تعاملهم مع أقلياتهم المسيحية وغيرها). فهم قد أصروا على أن الدولة لاعلاقة لها بهذه التفجيرات وأنها لاتتحمل أي مسؤولية تجاه أي مظهر من مظاهر الجرائم التي ترتكب بحق الأقلية المسيحية تحت أسماع وأنظار أجهزة الأمن البطاشة التي لا يخفاها خافية في العادة. بل وقد أدعى بعض ممثلي النظام أن الدولة قد قامت بكل مايمكنها لحماية الأقلية المسيحية. بل إنها قد منحت المسيحيين الكثير من الامتيازات في الآونة الأخيرة، مما يجعل أي انتقاد بحقها فيما يخص هذه التفجيرات مغرضاً. وقد عمد بعض ممثلي النظام المصري من أرفع مستوى إلى رفض أي تلميح إلى أن إسلامية الدولة وأجهزتها وتماديها في التعبير عن هذه الأسلمة في كل مناحي الحياة وفي الإعلام وفي السياسة وفي التعيينات الحكومية وفي تركيبة الجيش تدلل على أن الدولة نفسها قد اتخذت موقفاً منحازاً ضد المسيحيين الأقباط وغيرهم من الأقليات الدينية. ولعل لهذا الموقف الحكومي أثر مباشر في ضعف إدانة الجمهور بشكل عام للجرائم التي ارتكبت وزالت ترتكب بحق المسيحيين، بل وربما في تشجيع الفئة المتطرفة على أخذ زمام المبادرة والقيام بجرائم ترويع ضد المسيحيين
.
أما الفريق الثاني من المعلقين، فهم أصحاب نظرية المؤامرة. وهم بغالبيتهم بالطبع يشيرون إلى إسرائيل على أنها المستفيد الأول الممكن من هذه الجرائم. وهم في هذا على حق طبعاً، فإسرائيل هي الدولة التي أدخلت إلى المنطقة مفهوم الدولة الدينية أو الدولة القائمة على أساس ديني والمحتكرة حصراً لأبناء ديانة واحدة، اليهودية. وإسرائيل هي الدولة القائمة على التوسع على حساب أراضي الغير وهي بالتالي بحاجة لإضعاف هذا الغير، أي محيطها العربي. فهي إذاً بحاجة لزعزعة الاستقرار في الدول العربية لإضعافها من جهة وللسعي لتفكيكها من جهة أخرى بحيث تتحول المنطقة العربية المحيطة بإسرائيل إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة والضعيفة القائمة على أساس مذهبي أو ديني أو عرقي مما يؤمن لإسرائيل المحيط الملائم لسيادتها وسيطرتها. وبما أن جرائم الكراهية ضد المسيحيين (وغيرها من جرائم الكراهية ضد المذاهب الأخرى في بلاد أخرى كالجرائم ضد السنة والشيعة واليزيديين في العراق) تمهد الطريق لزعزعة كيان الدولة نفسه، فمن الممكن جداً أن يكون لإسرائيل دور في هذا المجال. ولو أن إثبات هذا الدور مازال صعباً عملياً بما أن أياً من أجهزة التحقيق والأمن العربية لم تتمكن من اكتشاف صلة إسرائيلية في أي من جرائم الكراهية في الفترة الأخيرة، على عكس ماحصل في قضية لاڤون عام ١٩٥٣-١٩٥٤ مثلاً عندما دس الموساد عملاء له لتفجير أهداف مدنية في مصر بهدف تخريب العلاقات بين مصر عبد الناصر وبريطانيا والولايات المتحدة، ولكنهم اكتشفوا وحوكموا وعوقبوا على الرغم من الضغوط الشديدة التي تعرضت لها الحكومة المصرية.
يحاول بعض أصحاب نظرية المؤامرة الآخرين توسيع دائرة الاتهام لتشمل أكثر من إسرائيل. فهناك من يتهم الولايات المتحدة أو السي آي أي بشكل خاص بالضلوع في هذه الجرائم. وهناك من يتهم إيران، أو تحالف شيطاني مريب بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة، وربما أيضاً بعض أجهزة الأمن العربية، التي تعمل بتنسيق إجرامي ما لضرب الاستقرار العربي. والغالبية طبعاً أصبحت اليوم ترى في اتهام "القاعدة" خير وسيلة لتجنب المسؤولية بما أن هذه المنظمة الإرهابية عالمية المدى هلامية الشكل بحيث أنه يمكن إلصاق أي تهمة بها. أما كيف ينفذ هؤلاء المجرمون مخططاتهم، فهناك من يرى أن إسرائيل تستخدم عملاءها في الموساد الذين يتغلغلون في المجتمعات العربية وينفذون جرائمهم إما مباشرة، كما حصل في محاولة إغتيال خالد مشعل قائد الجناح السياسي لحركة حماس عام ١٩٩٧، أو عن طريق عملاء محليين من الشباب المغرر بهم أو العاطلين عن العمل أو الغاضبين لسبب أو لآخر لتنفيذ الجرائم كما حصل في العديد من من التفجيرات الانتحارية في العراق والأردن ومصر وغيرها. طبعاً يتناسى هؤلاء المعلقون أن المنفذين، وإن كانوا شباباً مسلمين غرر بهم، هم من أبناء البلد، وأنهم يقترفون جرائمهم ضد أبناء بلدهم هم. أي أنه بالإضافة للمشكلة الأولى التي تتمثل في ضعف أنظمة الأمن في العالم العربي بحيث أنه يمكن لكل مخطط مخرب اختراقها، هناك مشكلة أعمق في أن المجتمع ينتج أفراداً على استعداد لقتل مواطنيهم مهما كانت الأسباب أو الدوافع. والمشكلة هذه لاتكمن في المؤامرات التي تحاك ضد الوطن من قبل أعدائه الخارجيين المتربصين، وإنما في استعداد بعض من أبناء الوطن، تحت تأثير دعاية مضللة أو اعتقاد خاطئ أو صحيح أو أي عذر من الأعذار لايهم حقيقة، لقتل بعض من أبناء الوطن نفسه.
طبعاً أن تكون الحجة، التي تلاقي قبولاً في كثير من الأوساط الشعبية، بأن هؤلاء المواطنين الذين يقتلون لالسبب إلا لدينهم المختلف، يستحقون مايلاقونه إما كأفراد لأنهم "كفار" أو "صليبيون،" أو كمجموعة لأن انتمائهم للوطن مشكوك به بحكم كونهم من دين مغاير لدين الأغلبية المسلمة، كما حصل عندما تساءل المراقب العام للأخوان المسلمين الأسبق عن وجاهة تجنيد الشباب الأقباط في الجيش المصري مشككاً بذلك من صحة انتمائهم لمصر، فهذا أمر وأدهى. فبالاضافة لكون رسائل كهذه خاطئة أصلاً ومحرضة على الكراهية والإجرام، فهي في دولة حديثة غير مقبولة على الإطلاق، بل ويجب أن يعاقب مرتكبوها وفق القانون: قانون المواطنة واحترام حرية المواطن وصون حياته ومكافحة جرائم الكراهية التي ترتكبها فئة من المواطنين ضد فئة أخرى بدعوى الاختلاف والتعارض والتخالف. وهذا يعيدنا إلى النقطة التي طرحناها بدءاً، أي مسؤولية الدولة وأجهزتها القانونية في مراقبة دعوات الكراهية وعقاب مرتكبيها وأولئك الذين يستخدمون رسائل كراهية عرقية أو دينية، إن حقاً وإن باطلاً، في تنفيذ جرائم ضد الغير داخل الوطن أو خارجه وفقاً لمسؤولية الحكومة والقضاء والأجهزة التشريعية نفسها في الدولة الحديثة (وهو الأساس الذي تدعي كل دولنا العربية المعاصرة الانتماء إليه بغض النظر عن مدى التزامها به).
ثم نأتي إلى ثالث وأكبر مجموعة من المعلقين، وأكثرهم إثارة للجدل من وجهة نظرنا، أولئك الذين سندعوهم، مع إدراكنا لأطياف الاختلاف بينهم، بالمعتذرين الإسلاميين. يجتمع كلهم على الإصرار بأن "الإسلام" بريء من هذه الجرائم كلها إطلاقاً، بما فيها تلك التي ترتكبها جماعات "إرهابية" تعمل من المغرب إلى أفغانستان وحتى إندونيسيا باسم "الإسلام." وهم يدللون على براءة "الإسلام" بالإشارة إلى القواعد الشرعية التي تحرم قتل النفس إلا بالحق وتحرم البغي على أهل الكتاب المسالمين، وكذلك بتذكر السوابق التاريخية المستقاة من سنة الرسول وسيرة حياته وتعامله وصحابته مع أتباع الديانتين السماويتين أو من حقيقة أن الأقليات الدينية عاشت في ظل أنظمة الحكم الإسلامية لقرون مصانة ومحمية. هذا الدفاع إشكالي على أكثر من صعيد. أول هذه الإشكاليات هي الإشكالية التمثيلية: فكيف لنا أن نقبل تأكيد بعض المسلمين على أن الإسلام بريء من الجرائم ضد المسيحيين ونحن نرى مسلمين آخرين، المجرمين أنفسهم، وهم يؤكدون أنهم يعملون وفق تعاليم الإسلام، وكلا الفريقين يستشهد بأيات قرآنية ومبادئ فقهية متفق عليها؟ من له الحق فعلاً، من ضمن المنظور الفقهي الإسلامي، بادعاء تمثيل وجهة نظر "الإسلام" بالمطلق، وكلا الفريقين يدعي ذلك، في ظل انعدام أي سلطة دينية أو فقهية عليا، على الأقل ضمن إطار الإسلام السني، مثل الكنيسة أو الإمام لدى العديد من طوائف الشيعة، يحتكم إليها كل المسلمين السنة ويتقيدون بمواقفها وآرائها وقوانينها؟ بل من له الحق، حتى من وجهة نظر الإسلام السني الرسمي، بتمثيل الإسلام بالمطلق والعالم الإسلامي السني كما نرى يعج بمئات المفسرين والمؤولين وأصحاب المذاهب والمدارس الفقهية التي تتخالف على أمور كبيرة وصغيرة، أولها وأهمها طبعاً هو تمثيل الإسلام الحق، أوالأقرب إلى الحق؟ هذا الخلاف لم يزل قائماً منذ نهاية الخلافة الراشدية في بداية القرن السابع الميلادي، حين اختلف المسلمون على من يحكمهم وبأي سلطة ومن يتكلم باسمهم. وقد ازداد الخلاف تفرعاً على مر القرون وتجاوز الإشكال الأساسي عمن يحق له حكم المسلمين لكي يتغلغل في العديد من المسائل الخلافية الأخرى التي مازالت تنخر في جسد الإسلام السني اليوم.
هذا على صعيد حق التمثيل. أما على الصعيد التاريخي، فالدفاع الاعتذاري الإسلامي يلاقي أيضاً العديد من الصعوبات في التأكيد على براءة "الإسلام" من اضطهاد المسيحيين أو أصحاب الديانات السماوية الأخرى (ونحن لانحدد من هم هنا حيث أن الصابئة، وهم الفئة الثالثة المذكورة في القرآن على أنهم من أهل الإيمان، قد بقوا خارج أي تحديد دقيق في التاريخ الإسلامي وتغير تعريفهم حسب الزمن والمكان اللذين أثير فيهما التساؤل عن هويتهم). صحيح أن دولة الإسلام الرسمي التي اعتمدت الإسلام كأساس لسياساتها وقوانينها قد عاملت أتباع الديانات السماوية في الأراضي التي فتحها المسلمون معاملة جيدة على الغالب، خاصة إذا ماقارنا معاملة المسلمين للمغايرين في الدين بمعاملة الثقافات القروسطية الأخرى، وبشكل خاص ثقافات الأوروپيين المسيحيين، الذين لم يجدوا حلاً لاستمرار دولهم الدينية سوى بالقضاء على الآخر المغاير، وأحياناً بطرق همجية ودموية. وصحيح أيضاً أن العديد من المجموعات الدينية المغايرة، من مسيحيين ويهود وحتى هندوس وبوذيين، قد عاشت في ظل حكم إسلامي لقرون طويلة، وأن بعضها قد ازدهر في ظل الحكم الإسلامي في فترات مختلفة. يكفي أن نتأمل استمرار وجود أقليات مسيحية ويهودية، ومن ديانات أخرى، في بلاد مثل سورية ومصر والعراق واليمن بعد ١٥٠٠ سنة من مجيء الإسلام كدليل على قبول إسلامي واضح وصريح بالآخر في دولته الإسلامية (ولو أن في اختفاء الأقليات من بلاد أخرى وبشكل خاص من جزيرة العرب وشمال أفريقيا دليل على وجود اتجاه معاكس). ولكننا أيضاً نجد في مصادرنا التاريخية الإسلامية روايات كثيرة عن اضطهاد رسمي وشعبي للأقليات المسيحية واليهودية، خاصة في فترات الصراع مع الغازي الصليبي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ولكن أيضاً في فترات لم يقدم فيها التهديد الخارجي أي مبرر لاضطهاد داخلي، كما في فترات متقطعة في الدولة المملوكية أو حتى في الفترة العثمانية. ونحن نجد أحياناً هبات شعبية تؤججها حوادث مفتعلة تؤدي إلى اضطهاد شديد للمسيحيين من قبل الغوغاء المسلمين والسلطة في الآن نفسه، خاصة حينما تجد السلطة نفسها مدفوعة لمسايرة رأي الأغلبية. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك أيضاً في الفترتين المملوكية والعثمانية في العالم العربي، ولكن أيضاً في الفترات المبكرة عندما كانت الخلافة لم تزل حصراً على أبناء قريش من أمويين وعباسين وفاطميين.
الدولة الحديثة والمواطنة
ولكن تلك كانت فترات ماقبل الحداثة وماقبل نشوء وتطور مفاهيم الدولة الحديثة من أمة ومواطنة وانتماء، حين كانت الدول تتحدد بانتماءاتها الدينية وكان الحكام يمثلون أولاً وقبل كل شيء الدين الذي يعتنقونه ويفترض فيهم حمايته وأتباعه والعمل وفق قواعده وقوانينه. في تلك العهود أظهر الحكام المسلمون قدراً أكبر من الحنكة أو من التسامح مع رعاياهم غير المسلمين مما أظهره حكام أوروپا المسيحييون. ولكن الأمر اختلف في الدولة الحديثة. فقد أصبح الرعايا مواطنين، لهم حقوقهم المدنية والقانونية التي أصبحت الأساس الدستوري لعلاقة الحاكم بالمحكوم ولعلاقة المحكومين ببعضهم البعض. وأصبحت الدولة الحديثة هي المسؤولة عن صون تلك الحقوق المدنية ومعاملة كل المواطنين بمساواة تامة بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم أو عرقهم طالما أنهم مواطنون يتمتعون بنفس الحقوق والواجبات.
ولم يعد للدولة حق تفضيل مجموعة على أخرى أو دين على آخر في التعامل مع المواطنين بغض النظر عن توزع هؤلاء المواطنين بين أكثرية وأقليات أو بين أجناس وقبائل مختلفة. أو هكذا على الأقل تطور مفهوم الدولة الحديثة في أوروپا عصر الأنوار وتبلور على شكل مفاهيم ومبادئ أسست لكل الدول الحديثة اليوم، بما فيها التي قامت في البلدان العربية والإسلامية بعد زوال الاستعمار. هذه الدول العربية الحديثة قد وقعت بمجملها على ميثاق الأمم المتحدة وعلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهما وثيقتان تعتمدان اعتماداً كلياً على المساواة في الحقوق بين الأفراد في أي مجتمع. أي أن هذه الدول ملزمة بأحكام هاتين الوثيقتين اللتين وقعت عليهما، إن لم يكن لديها ضمن دساتيرها وشرائعها مايؤسس لمساواة تامة بين المواطنين. ولاتقف مسؤولية الدولة الحديثة هنا، حيث أنه لا حق أيضاً لفرد أو لمجموعة من الأفراد باضطهاد أو التمييز ضد فرد آخر أو مجموعة أخرى من مواطنيهم بسبب الدين أو العرق أو المذهب أو اللون. والدولة نفسها مسؤولة عن تطبيق هذا المنع. فالأفراد والمجموعات تمارس تمييزاً عنصرياً لأسباب مختلفة بعضها متجذر ومن الصعب إزالته بدون كبير مجهود أو بدون استخدام العنف، ولايمكن لأي سلطة قانونية بالحقيقة، من منع هذا النوع من التمييز، أو على أقل تقدير لايمكن لأي سلطة قانونية من الإطلاع على دواخل الناس ومنعهم من التفكير بطريقة عنصرية أو شوفينية. ولكن الدولة مسؤولة قانونياً عن منع هذه التمييز من الخروج من مجال الاعتقاد أو التفكير إلى مجال التطبيق. وهي أيضاً مطالبة بمكافحة أي خطاب غوغائي يعتمد على التمييز أو التفريق بين المواطنين عن طريق الدعاية وعن طريق مناهج التعليم التي يفترض فيها أن تعلم الناشئة مبادئ المواطنة والمساواة والقانون.
هذا هو البعد الغائب حقاً في النقاش الجاري اليوم في العالم العربي حول التمييز ضد المسيحيين. فالنقاش بأغلبه يتركز على نفي مسؤولية الإسلام عن ذلك التمييز وعلى الإلحاح على ضرورة العودة إلى مبادئ التسامح الإسلامي الأصيل في التعامل مع المسيحيين. وهذا كله، وإن كان مرغوباً به إسلامياً في سبيل العودة إلى البعد الإنساني في الدين الإسلامي، يغطي على النقاش المطلوب إثارته حقاً في إطار الدولة الحديثة، دولة المواطنة الحقة التي نروم كلنا نهوضها على أشلاء الدكتاتوريات التي تنهار تباعاً. ففي الدولة الحديثة لامكان للتسامح بدلاً من المساواة أمام القانون، والتعادل في الحقوق والواجبات، وتعامل الدولة مع المواطنين بالتساوي بغض النظر عن خلفيتهم الدينية أو العرقية أو الطبقية. ولا أظن أن أي موضوع آخر أكثر أهمية اليوم من موضوع تساوي المواطنين أمام القانون في الدولة الحديثة، المساواة الحقة، حيث لاتميز لمسلم على مسيحي، ولا لأبيض على أسود، ولالغني على فقير في التمتع بحقوقهم والقيام بواجباتهم كمواطنين شركاء في إقامة الدولة الديمقراطية التي نطمح إليها وفي المحافظة عليها من كل معتدٍ أو محتكر.