من الصعب التطرق للتحديات التي تواجه المرأة في مرحلة التحول الديمقراطي دون إلقاء بعض الاضاءات على الدور المتميز الذي قامت وتقوم به المرأة في الثورات العربية جنباً إلى جنب مع الرجل من أجل تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية. فقد قامت المرأة بشجاعة وابداع بدور مركزي كان محورياً في عملية الاطاحة بالأنظمة المستبدة مما رفع من سقف امالها في تحقيق المساواة والكرامة في ظل مجتمعات تسودها الحرية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. ولكن لم تلبث هذه الامال أن اصطدمت بواقع أليم اتسم بالتخلي عن المرأة في مشهد كان مألوفاً في تجربة النساء الجزائريات بعد التحرير والفلسطينيات بعد اتفاقية أوسلو وفي تجارب عديدة لنساء في دول شهدت تحولاً ديمقراطياً في بقاع مختلفة من العالم. وعلى الرغم من أن الدول العربية تتميز بالتشابه في الملامح العامة الناتجة عن الموروث الثقافي والبنية الاجتماعية والسياسية والدينية إلا أن هناك تبايناً يضفي خصوصية على تجربة كل دولة وتنعكس على طبيعة وديناميكية الحراك الديمقراطي بالإضافة إلى الاختلاف بالنسبة لظروف وواقع المرأة في هذه الدول. الحديث هنا اقليمياً بطبيعته وإن كان يسلط الضوء بالأساس على الحالة المصرية والتونسية كونهما الدولتين اللتين تشهدان مرحلة تحول ديمقراطي بعد الاطاحة بالأنظمة السابقة. وتتمثل أهمية التجربتين في أنهما سيمثلان مرجعية ويوفران دروساً مستفادة للنساء في نضالهن من أجل المساواة والحقوق في باقي الدول العربية.
ففي مصر عندما كانت الثورة في أوجها تفتح افاقاً غير محدودة للتغيير، هوجمت النساء في ميدان التحرير من قبل فئات مختلفة تشمل بعض من كانوا صناع الثورة والتغيير. كما تعرضت بعض الناشطات للاعتقال والتعذيب ولفحص العذرية بسبب مشاركتهن السياسية والمطالبة بحقوقهن. كما اسثنيت المرأة من عضوية لجنة صياغة الدستور في خطوة بددت الامال في اشراك المرأة في العملية الانتقالية وتم إلغاء نظام الكوتا من قانون الانتخابات بالاضافة إلى خفض عدد النساء في الحكومة المصرية الجديدة إلى وزيرة واحدة. يضاف إلى ذلك ما تتعرض له النساء من هجمة دينية واجتماعية تطالب المرأة بالرجوع الى البيت.
أما تونس فتمثل وضعاً مثيراً للاهتمام، فالبلد العربي الذي كان رائداً في مجال النهوض بحقوق المرأة حيث منحت المرأة الكثير من الحقوق في ظل مجلة الأحوال الشخصية لعام 1956 والذي يعتبر الأكثر تقدماً في المنطقة العربية، أصبح نضال المرأة فيه، في المرحلة الراهنة، لا يهدف تحقيق مزيد من الحقوق للمرأة بل للحفاظ على مكتسباتها القديمة في تونس ما بعد الثورة.
تونس ما بعد الثورة تميزها ديناميكية وتجاذبات متعددة أهمها ما يمكن توصيفه بالصراع بين العلمانية التي اتسمت بها الهوية التونسية منذ عقود والاسلام السياسي متمثلاً بحزب النهضة الاسلامي والتيارات المحافظة. هذه التطورات وضعت عراقيل وخلقت تحديات في طريق المرأة التونسية عليها تجاوزها بحنكة وذكاء لتصل إلى بر الأمان.
وعلى الرغم من المشهد المتناقض إلا أن تونس شهدت تطورات ايجابية وأهمها قانون الانتخابات الذي ينص على المناصفة بين النساء والرجال في لوائح الانتخابات الحزبية بالاضافة إلى إلغاء جميع التحفظات التونسية السابقة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة والمعروفة بالسيداو. جاءت هذه الانجازات في اعتقادي نتيجة لتضافر جهود الحركة النسوية والنشطاء الحقوقيين والمثقفين الذين كانوا دوماً مساندين للمرأة وحقوقها. كما كان تعيين عدد لا بأس به من هؤلاء الحقوقيين في مناصب صناعة القرار ضمن الحكومة المؤقتة والهيئات المختلفة للثورة داعماً لتحقيق هذه الانجازات لادراكهم أن المرحلة الانتقالية الحالية سيتمخض عنها موزاييك من الافكار والأيدولوجيات المختلفة التي ستحكم البلد مستقبلاً ولن يكون من السهل التنبؤ بما ستتخذه من قرارات في هذا الشأن لذلك تم الاسراع في تحصين هذه الحقوق.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال ملح: كيف يمكن أن تحرم ثورات شعبية تسعى من أجل تحقيق الحرية والمساواة، النساء من فرصة تحقيق مكتسبات في إطار عملية التغيير التي تخوضها هذه البلدان؟
إن الإجابة على هذا السؤال محيرة وتتطلب نظرة ثاقبة تحليلية لدراسة النظم والهياكل الاجتماعية والاقتصادية والدينية في هذه البلدان. إن معطيات المرحلة الحالية تشير إلى مجموعة من الإشكاليات التي قد تكون مسؤولة إلى حد ما عن هذه الحالة أذكر منها:
- دور الأنظمة السابقة التي استخدمت النهوض بحقوق المرأة وسيلة لتحسين صورة النظام على المستوى الدولي وربطت الانجازات في المجال النسوى بالسيدات الأوائل مما رسخ في اللاوعي للمواطن العادي الربط بين النظام وحقوق المرأة. أدى هذا في الكثير من الأحيان إلى المطالبة بإلغاء القوانين المتطورة التي حققت بعض الإنصاف للمرأة في كل من مصر وتونس وخصوصاً قانون الخلع في مصر. أضف إلى ذلك وجود نفور من بعض فئات المجتمع لكل ما يتعلق بالخطاب النسوي بدعوى انه خطاب مستورد من الغرب.
- توفير الثورات وما نتج عنها من الاطاحة بالأنظمة المستبدة سقفاً من الحرية أتاح الفرصة لقوى كانت مقموعة في السابق لتنشط في المجال السياسي والاجتماعي. هذه التيارات تشمل الكثير من الأفكار الدينية والاجتماعية المتشددة مما أنتج خطاباً أكثر محافظة يجد من النساء هدفاً سهلاً حيث يربط الهوية الدينية بلباس المرأة وتصرفاتها.
- في بلد مثل تونس أدت الاطاحة بنظام بن على وزوال القمع الذي لم يكن يستهدف الإسلاميين فقط بل حاول طمس المشاعر الدينية والملامح الاسلامية للمجتمع التونسي لعقود، إلى عودة المجتمع التونسي لطبيعته والتعبير عن نزعنه الدينية بحرية كأي مجتمع اخر. انعكست هذه العودة في الازدياد الملفت للنظر لعدد النساء المرتديات للحجاب ومجاهرة الناس بمواقفهم وميولهم الدينية التي كانت مكبوتة لزمن طويل. أدى ذلك إلى خلق أجواء جديدة يميزها الاختلاف في الرأي والتجاذب والصراع الفكري والأيدولوجي المتمركز حول مفهومي العلمانية والدين.
- عدم وضوح الرؤية بالنسبة للمستقبل والحاجة الماسة للأمن والامان بالاضافة الى الحاجة للاستقرار السياسي الذي يؤدي غالباً إلى مزيد من الازدهار الاقتصادي والتطور الاجتماعي.
- غياب الوضوح بالنسبة للاتجاه الفكري الذي ستسلكه الديمقراطيات الناشئة في المنطقة وذلك لغياب البوصلة القيادية ذات المرجعية الفكرية الواضحة ووجود الكثير من اللبس والضبابية السياسية والفكرية على الساحة.
أما بالنسبة للحركة النسوية في البلدين فهناك عوامل أدت وتؤدي إلى تحجيم فعاليتها في إحداث التغيير ومنها:
- أن الحركة النسوية تتهم بشكل عام بالنخبوية وعدم الانخراط الكافي بالمجتمع وخصوصاً بين النساء الأكثر ضعفاً، وفقراً وتهميشاً مما يضعف من مصداقية هذه الحركات ويقلل من نسبة المؤيدين والداعمين لها على مستوى القاعدة.
- هناك قناعة بأن المؤسسات النسوية لم تبذل الجهد الكافي لبناء التحالفات والشبكات المحلية والإقليمية والدولية الفعالة فتشتتت مجهوداتها وأخذت طابعاً فردياً ومؤسساتياً محدوداً مما أضعف من قدرتها على إحداث التغيير.
- لم تبذل الحركة النسوية الجهد المطلوب في استقطاب عناصر جديدة وشابة لصفوفها من أجل رفدها بفكر مختلف ودم جديد. أدى ذلك إلى عزوف الكثير من النشطاء والناشطات الشباب المنخرطين في الثورات عن التحالف مع الحركات النسوية وتبني مطالبها. هناك ضرورة ملحة لبناء التحالفات مع جميع أقطاب الحراك الديمقراطي والمجتمع المدني.
- ما زالت الحركات النسوية خجولة في طرح قضاياها المحورية خوفاً من ردة فعل المجتمع ولاعتبارات دينية واجتماعية. وضع هذا النهج الحركة النسوية وخصوصاً في مصر في موقع المدافع والمتهم وأجبرها على ممارسة الرقابة الذاتية وهي الان في أمس الحاجة لأن تتبنى أساليب أكثر جرأة وثباتاً في المطالبة بحقوقها من خلال تبني أدوات جديدة واستراتيجيات مبدعة تتناسب والمرحلة الانتقالية. لا يعني ذلك بالضرورة التطرف في الطرح ولكن العمل بشكل استراتيجي واعٍ يضمن حماية حقوق المرأة في ظل متغيرات جديدة.
- بالنسبة للوضع التونسي تختلف الصورة حيث يبدو أن الحركة النسوية التونسية بالاضافة الى استهدافها الممنهج من قبل تيارات تخالفها الرأي، تجد صعوبة في التأقلم مع حقيقة جديدة أفرزتها الثورة وهي أن المجتمع التونسي مجتمع متعدد الاتجاهات الفكرية وستكون هذه التيارات الفكرية المختلفة ممثلة في أي أجهزة تشريعية وتنفيذية وقضائية تتمخض عنها المرحلة الانتقالية. يستدعي ذلك تبني اليات عمل جديدة تهدف إلى إحياء العمل الميداني القاعدي ومحاولة الوصول إلى النساء المهمشات و تجنيد الدعم من مختلف الفئات المجتمعية.
خلاصة:
المرحلة القادمة غير واضحة المعالم، ولكن الواضح فيها أنها محفوفة بالتحديات والمصاعب بالنسبة للمرأة ويجب على الحركة النسوية التعاطي معها بحكمة ورؤية استراتيجية لعبورها إلى بر الأمان لضمان حقوق المرأة ومشاركتها في عملية التحول الديمقراطي كمشاركة في صنع القرار على جميع المستويات وكموضوع يدرج عند الحديث عن قضايا المرحلة الانتقالية الراهنة من انتخابات تشريعية ورئاسية، وعملية الإصلاح السياسي والقانوني وتحقيق العدالة الانتقالية بشكل يسعى لادماج المرأة بما يترتب عنه أخذ وضعها الخاص واحتياجاتها بعين الاعتبار. تحتاج الحركات النسوية أن تبني تحالفات مع التيارات الديمقراطية والتشبيك محلياً وإقليمياً ودولياً والاطلاع على تجارب نساء خاضت تجربة النضال من أجل حقوقها في مراحل التحول الديمقراطي لتبادل الخبرات والتجارب والاطلاع على الدروس المستفادة.
في النهاية تظل هناك الكثير من الأسئلة العالقة والحيرة التي لن نتمكن من الإجابة عليها في الوقت الحالي حيث أن عملية التغيير السياسي والاجتماعي ما زالت في مهدها ولن يتمكن الباحثون من إيجاد أجوبة للكثير من الأسئلة إلا بعد مرور سنوات ضرورية لإعطاء بعداً أعمق للتحليل والاستشراف.