الثورات الناجحة في التاريخ هي الثورات التي تغير الانسان وليس فقط انظمة الحكم. والثورات التنويريّة يمكن أن تُسمّى كذلك لأنها لا تُطيح بنظام حكم بقدر ما تُطيح بعقلية وثقافة سلطويّة مُنتشرة في المجتمع. ومن هذا المنظور يمكن القول بان النتائج الثقافية للثورات العربية الحالية لا يمكن رؤيتها بوضوح إذا ركّزنا أنظارنا فقط على الحراك السياسي في مرحلة الثورة وما بعدها، وهو حراك تمثله بشكل أساسي الديناميكيات الحزبيّه والعقليّات الدستوريّة. امّا إنجازات الثورة في ثقافة المجتمع فلا يمكن رؤيتها بوضوح إلا بعد سنوات عديدة من الثورة، وذلك لأن الثقافة تتغيّر بأساليب تختلف عن أساليب تغيير السياسات والأنظمة، و لأن التغيير الثقافي هو في نهاية المطاف تغيير لعقل ولرؤية للعالم، وليس فقط لأساليب حكم الدولة أو تقنييّات أدارة المجتمع.
ثورات الربيع العربي قد تبدو لنا كحركات سياسية هائلة، ولكنّها لم تبرز من حركات سياسية منظّمة ولم تفتح هذه الثورات المجال لقيادة أو لتنظيم أو لحزب أو حتّى لرمز ثوري ليُمثّل أو يقود الثورة بأكملها. فقد إعتمدت هذه الثورات بشكل أساسي على الحس العفوي كمصدر أساسي لنظرية الثورة وعلى خفّة الحركة كاسلوب أساسي لممارسة الثورة. من هنا يمكن القول بأن الثورات العربية أستلهمت نظرية وأسلوب الثورة من مصدر قريب منها ألا وهو الثقافة الشعبية العامة. على العموم ليس هناك دلائل على أن الكثير من الثوار كان لهم إطّلاع عميق قبل الثورة على النظريات الليبرالية مثلاً أو الفكر الماركسي أو اللاسلطوي أو ما يُعرف عادةً بالأناركية ويُترجم خطأ كفوضوية (أو حتى الإسلامي بشكله السياسي.)
ورغم ذلك أبرزت الثورات العربية أفكاراً وممارسات هي من صميم الليبرالية من ناحية واللاسلطوية من ناحية اُخرى، وكأنها كانت على معرفة عميقة ومباشرة وعفوية بأهم تيّارات الفلسفة السياسية الحديثة. السؤال إذن: من أين أتت هذة المعرفة الثورية الجاهزة؟ وإذا كان الجواب هو أنّها أتت من ثقافة شعبية موجودة وليس من مشروع سابق للثورة لأدلجة الجماهير بشكل أو بأخر، فكيف نُفسّر إذن أن هذه الثقافة نفسها لم تُنتج مثل هذه الثورات من قبل، بل كيف أن الثقافة الشعبية نفسها بدت في مرحلة ما قبل الثورة وكأنها عماد الديكتاتورية والسلطوية في الدولة والمجتمع؟
أود أن اركز في هذه المداخلة على جوانب اللاسلطوية في ثقافة الثورة وذلك لأن هذه الجوانب يتم في العادة تجاهلها في مرحلة ما بعد الثورة حين يتعلّق السؤال بطبيعة السلطة الآتية. حينئذ يستمر الفكر اللاسلطوي في الحياة كما كان دائماً خارج السلطة السياسية وكمصدر للتكوين التاريخي للمجتمع المدني ولأعطاْئه نوعاً من الأستقلالية عن الدولة. وللتدليل على مركزية الاتجاهات اللاسلطوية في الثقافة العامة أود أن أذكر مثالاً بسيطاً ولكن شديد الأهمية من الناحية التاريخية ألا وهو الفرق الذي كان حتى فترة وجيزة واضحاً، كما نعرف من الأعمال التاريخية للدكتور طريف الخالدي، بين "السياسة" كعلم للسلطة و"الشريعة" كعلم للحياة العامة يتكون من خصائص لاسلطوية قد تبدو الآن شبة منسيّة. حيث أن "السياسة" قد برزت تاريخياً، وبالتحديد إبتداءاً من القرن الثالث للهجرة، كعلم لأدارة الدولة، وكان هذا العلم منذ البداية مُميزاً بشكل واضح عن الشريعة، والتي لهذا السبب يمكن النظر إليها كعلم مستقل لأدارة الحياة اليومية، مشتملةً على المعاملات والعبادات. والفرق بين مجالي السياسة والشريعة كان واضحاً حتى بروز الدولة الحديثة في العالم العربي، إذ كان علم السياسة يُمثّل الأهتمامات السلطوية للحكام بينما كان علم الشريعة يُمثّل ديناميكيات لاسلطوية ولم تكن قادرة على السيطرة على بعضها البعض في مجتمع متغاير. وهذه الحقيقة تبدوا أكثر وضوحاً أذا أخذنا بعين الأعتبار ثلاث خصائص تاريخية للشريعة والتي جعلت من الشريعة تعبيراً شبة مثالي عن الثقافة اللاسلطوية. هذه الخصائص هي أولاً القبول بتعددية مذاهب الشريعة وليس الأصرار على وحدتها، وثانياً القبول بامكانية وجود التناقضات ضمن الشريعة كما هو واضح من إمكانية وجود فتاوي متناقضة بين طبقة العلماء في ذات الزمان وعلى أعلى المستويات، وبدون أن يُشكّل هذا التناقض سبباً لحرب ضروس، وثالثاً بلورة الشريعة تاريخياً ليس من طرف مشرّعي الدولة ولكن من طبقة قريبة للشارع وهي طبقة العلماء والذين دائماً اعتبروا، كما يُذكّرنا شاه ولي الله، أن المجتمع هو مسؤلييتهم المباشرة. كلّ هذه الخصائص تُميز الشريعة تاريخياً كمشروع لاسلطوي عظيم لأنه كان مبنياً على فرضية ضرورة إنشاء ثقافة شعبية علمية ومقبولة بشكل طوعي ومتغاير وبدون فرض سلطوي من قبل الدولة، والتي كان همّها الأساسي بأي حال تطوير علوم الحكم والأدارة وهي علوم لم يكن لها أي علاقة بالشريعة. فكما نعلم أن القوانين الأدارية التي سنّها السلطان محمد الفاتح أو سليمان، مثلاً، لم تعتمد إطلاقاً على الشريعة بل لم يدّع هذا أي من هؤلاء الحكام. وإذا عرفنا هذا التاريخ يمكن لنا أن نفهم كيف أن الشريعة يمكن أن تتحول إلى نظام سلطوي مستبد إذا تم تحويلها إلى قوانين للدولة، إذ أن الشريعة تفقد بهذا التحويل الخصائص التاريخية التي أتى ذكرها، وتتحو ل بذلك من مصدر للثقافة اللاسلطوية إلى عماد للاستبداد ولتعزيز سلطة الدولة على المجتمع.
أردت ذكر مثال الشريعة ليس لأن لها أي علاقة بالربيع العربي، ولكن كنموذج لمصدر تاريخي للوعي الاجتماعي وللثقافة العامة يتمتّع بخصائص لاسلطوية عندما يوظّف كعلم يومي للحياة الأجتماعية، وبخصائص سلطوية بحتة عندما يوظف كأداة بيد الدولة لأدارة المجتمع. ومن هنا يمكن لنا أن نفهم أن الثقافة الشعبية تحمل في طيّاتها معرفة سلطوية ولاسلطوية في الوقت نفسه. ولذلك من الممكن أن نفهم كيف أن ثورة تُنادي بالحرية قد تبرز أحياناً من ذات المصادر الثقافية التي قد تُنتج قمعاً واستبداداً في فترات أُخرى. ولذلك فأن أهم مشاريع الثورة كما أعتقد هو ليس إنشاء دولة تحكم المجتمع بشكل أفضل، ولكن تعزيز الاستقلالية الذاتية للمجتمع عن الدولة، إذ في هذة الحالة تتوفر فرص أكبر للثقافة الشعبية لتطوير مفاهيمها اللاسلطوية وتجنب تحويلها الى مجرد أدوات فكرية لسلطة دولة ما بعد الثورة على المجتمع.
أود فيما يلي تلخيص ما أعتقد أنها أهم المفاهيم اللاسلطوية التي ظهرت بوضوح في الربيع العربي كأدوات فكرية أساسية للثورات، مُركّزاً على تلك المفاهيم التي لها علاقة مباشرة بالثقافة الشعبية من ناحية وباطروحات الفلسفة اللاسلطوية من ناحية أُخرى. وهناك بالتحديد ثلاثة مفاهيم تُمثّل أشد العلاقة بين هذه الثقافة وتلك الفلسفة. فأولها مفهوم بساطة الحقيقة، وثانيها مفهوم الثورة كممارسات حوارية، وثالثها مفهوم "الشعب" مُجرّداً من أي تمثيل أو قيادة.
- • بساطة الحقيقة: كل من تتبع مسيرات الثورات العربية لا يلاحظ بساطتها التنظيمية أو سلاسة شعاراتها فحسب ولكن كيف أن هذه الظواهر مرتبطة بعفوية شاملة للثورة ككل، فكأنه كان هناك إتفاق شعبي شامل للقيام بثورة. ولكن ظهور هذا "الأتفاق" الى السطح لم يكن بسبب وجود أي اتفاق فعلي قبل الثورة، ولكن لأن الثورة بدت كأنها الحقيقة بعينها، الحقيقة التي يعرفها كل من يراها على الفور. ومن الصعب تفسير سيكولوجية ثورة غير مُنظّمة إذا لم نأخذ بعين الأعتبار عامل إنقشاع الغيب الجاثم على صدر زمان ما قبل الثورة وبروز واضح لرؤيا تبدو نقيضاً كاملاً لذلك الغيب، وهي ظاهرة تبدو كظهور مفاجيء لحقيقة يؤمن بها مُراقبها على الفور، كأنها "فلق الصبح" في سيرة الوحي النبوي. ففي آخر رسالة قبل إستشهاده في جمعة الغضب يقول الفنان أحمد بسيوني أنة لم يبق أمامنا إلا خطوة بسيطة جداً للإطاحة بالنظام، مُسجلاً بذلك رسالة كان من المستحيل سماعها أو قولها أو قبولها بأي شكل قبل الثورة بيوم. هذه الرؤيا لا تبرز كنتيجة لتحليل علمي وطويل ومتأنّي، ولكن كظهور مُفاجيء لإحتمال كان كل تحليل موضوعي قبل الثورة بيوم يقول أنه كان بعيداً أشد البعد.
هناك إذاً علاقة بين الظهور المفاجيء للأماني والأيمان ببساطة الأشياء. وهذا الإيمان تُعززه اللحظة الثورية لأن الثورة ذاتها تبدوا كتعبير منطقي لهذه الحقيقة. فقد سمعت مقولة من أحد المعتصمين في ميدان التحرير في الأيام الأولى من الثورة، بأن حكمة الله رأت أن يقوم بالثورة الناس البسطاء (على حد تعبيره)، لأن قدرة ومشيئة الله تبرز في هذة الحالة بشكل طبيعي كقدرة ومشيئة الناس البسطاء وليس كتنفيذ لأرادة إنسانية اُخرى. ورغم أن هذه الأطروحة تأخذ منحى قد يبدو دينيّاً ولكنها لا تُسيّس الدين، إذ أن هذا المشارك في الثورة لم يكن مهتماً بأية حركات منظمة سواء دينيّة كانت أم غير دينيّة. حكمة الله كما تُفسّر في هذه الحالة لا تعتمد على أي سلطة اُخرى خارج الأنسان، وتبرز في التاريخ بشكل مباشر في عفوية ثورة شاملة تعبّر عن إرادة شاملة، والتي تكون شاملة بقدر ما تكون مبنيّة على إكتشاف مُلهم، كأنه الوحي، لبساطة الأشياء التي تُنظم نفسها بنفسها بدون إحتياج لأي سلطة من خارجها.
- • الثورة كحوار: أكثر ما نرى من الثورات هي مواقعها الكبرى، كالمسيرات والمجازر وأحتلال الميادين والمدن ولحظات المد والتراجع والتحدّي والحسم وما إلى ذلك. ولكن في هذا الخضم ننسى أحياناً أن الثورة هي في الواقع عملية طويلة، وأن أغلب الوقت الثوري يستغرق في نقاشات وحوارات مستفيضة لا يسجّلها احد. وهذا ينطبق حتى على الثورات السريعة المسار نسبيّاً كالثورة المصرية، فكل من تواجد في ميدان التحرير مثلاً من أواخر يناير وحتّى سقوط حكومة أحمد شفيق في الثالث من مارس، قضى معظم الوقت في حوارات مع من كان متواجداً حوله. وأهميّة هذه الملاحظة تكمن في أن الثورة، وخاصّةً ثورة غير مُنظّمة وبدون قيادة، تحتاج إلى إكتشاف ذاتها بذاتها. الحوار المتواصل واللامحدود كان سبيل الثورة إلى اكتشاف أهداف الثورة والتعرّف على الكمّ الهائل من الطاقات التي لم يرها أحد من قبل والتي بدت في زمان الثورة وكأنها كانت مُخبّأة طيلة الوقت تحت حجاب تسمية "الشعب"، والذي كان مجرد إسم لمُسمّى غامض بل مشكوك بهويته قبل الثورة. والمهم في الحوار لم يكن الوصول إلى أي نتيجة بذاتها بل وجود جو تحاوري شامل يمكن من خلاله إكتشاف قدرات الذات و مواهب الآخر وتجربة جدلية الأفكار. وهذا الجو بدا لي ولغيري أهم من أي إستنتاج قد نصل أو لا نصل إليه، لأن الأمور المعروفةً في زمان الثورة هي مضمون ما يتكلم به أهل الثورة وليس نتيجة الثورة. ذلك لأن حوار الثورة يمشي على وتيرة الثورة ومعها، أما نتيجة الثورة فتبقي غير مضمونة بل ربما غير معروفة إلى أن نصل إليها.
الطبيعة الحوارية للثورات العربية تتعلق بشكل مباشر بعفوية هذه الثورات، إذ مع غياب القيادة والإرشاد الفوقي يُصبح المناخ التحاوري بوصلة الثورة. ومن هنا يُمكن القول بأن الثورات العربية هي ثورات براغماتيّة في المحصّلة النهائية رغم إنها أيضاً راديكاليّة. وهذا المزيج النادر بين ممارسة واقعية وعملية من جهة وأهداف جذرية من جهة أخرى لا يمكن الوصول إليه بدون مناخ تحاوري شامل ومستمر يساعد الثورة على إكتشاف إمكانيّاتها وآفاقها وأهدافها. وهذه الإكتشافات تصبح فيما بعد جزء من هوية الثورة، فالثورات العفوية تحصل على هويتها بعد أن تبدأ في المسير وليس قبل. براغماتيّة الثورة إذاً تتلخص في أنّ الثورة لا يدعو إليها أحد قبل أن تقوم، وانما تتحول من مسيرة إلى ثورة بعد أن تبدأ في المسير الذي تكتشف من خلاله حقيقتها كثورة. فالثورة المصرية التي تُسمّى الآن بثورة 25 يناير بدت كثورة بالفعل يوم 28 يناير. وبعد تبيان هويتها كثورة تصبح هذه الحركة جذرية الأهداف من خلال المناخ التحاوري في الميادين، والذي يُكتشف من خلاله أن الأهداف الجذرية قد أضحت أهدافاً واقعيّة، وأن الثورات العربية، وبالتحديد من خلال أسلوبها العفوي واللاسلطوي، هي في النهاية أنسب الأساليب لحلّ تناقض قديم بين الواقعية والجذرية.
- • "شعب بلا قيادة": تُفهم الفلسفة اللاسلطوية أحياناً بشكل خاطيء كأنها دعوة للفوضى، بل أن الترجمة العربية المعتادة للأناركية هي "الفوضى" رغم أن المفهوم الأساسي للأناركية هي أنها نوع من النظام الإجتماعي الذي لا يعتمد على السلطة ويستمد صيرورته من التقاليد الإجتماعية التي يتم الإتفاق عليها بشكل طوعي وبراغماتي. ومن هذا المفهوم تعني "الأناركيّة" نظاماً ولكن بدون سلطة، أي "لاسلطوية" (وليس فوضى). وهناك الكثير من التعابير والمفاهيم والتقاليد في الثقافة الشعبية، مثلاً تقاليد مؤسسات الحرفيين في مصر حتى آواخر القرن التاسع عشر، والتي عبّرت تاريخيّاً عن لاسلطوية تنظيمية تلقائيّة وبديهية في مجتمعاتنا التي كانت في الواقع بعيدة في حياتها اليومية عن سلطة الدولة. ومع بروز الدولة الحديثة برز معها مفهوم سلطوى مناسب لها، ألا وهو "الشعب". فالدولة الحديثة تستمد أو تدّعي أنها تستمد سلطتها من الشعب، وقد أصبح هذا الإدعاء شاملاً لكل الدول الحديثة بما فيها الدول الديكتاتورية التي لا تستشير شعبها بأي أمر من أمور الحكم. والغريب في هذا المفهوم الحديث أن كلمة "الشعب" أضحت كأنها كلمة مفهومة وذات معنى بديهي، رغم أنها تعبير مُجرّد وغالباً غير محسوس، يختزل كمّاً هائلاً من الفوارق الفردية والطبقية والمهنية والدينية والفكرية والأسلوبحياتية وما غيرها من الفوارق الطبيعية في حياة أي "شعب". ورغم ذلك لم يكن هناك مفرّ من إستخدام هذا التعبير المُجرّد في لحظات فاصلة من التاريخ الحديث، وخاصّة تلك اللحظات التي تطلّبت وحدة الإرادة مثل النضال ضد الإستعمار ثم الغزو الصهيوني الذي ما زال مستمرّاً. فحجم "الشعب" وحجم القدرات المطلوبة منه يعتمد على حجم التهديد الذي يواجهه، ولذلك برز مفهوم "الشعب" في العالم العربي الحديث كأداة مقاومة لتهديد خارجي، ولذلك بقي "الشعب" مفهوماً دفاعياً حتى مرحلة الربيع العربي. وأعني بهذا أن تعبير "الشعب" كان غالباً يعبر عن مطالب لإستعادة حقوق مسلوبة من المجتمع ككل، أكثر مما كان يعبر عن حق المجتمع في السيادة على الدولة.
ومع بداية الربيع العربي تحوّل مفهوم "الشعب" من الدفاع الى الهجوم، إذ أن الثورات العربية كلها بنت شرعيتها على أساس أنها تنفيذ لإرادة الشعب، وتأكيد على مبدأ الشعب كمصدر لأي شرعية، وفوق كل ذلك على الأيمان التلقائي بأن الشعب يقوم الآن بدوره كأداة فعل في صنع التاريخ مباشرة، ولا ينتظر أي عامل آخر ليقوم بهذا الفعل بالنيابة عنه، سواء كان هذا العامل قائداً تاريخيّاً أم حزباً أم دولة عظمى. واعتقد أن هذا التحول يُمثّل أوضح التعبيرات في التاريخ العربي الحديث عن إستمرارية المفاهيم اللاسلطوية في المجتمع رغم عقود من الإستبداد والأنظمة الحديثة التي كان همّها الأساسي محو أي ذكرى لاسلطوية في التراث الاجتماعي، وإفراغ المجتمع المدني من أي إستقلالية، وتحويل المجتمع ككل إلى مزرعة تحصدها الدولة لصالحها ولكن بأسم الشعب.
ولذلك فأن الربيع العربي يُمثّل لحظة فارقة نادرٌ مثيلها ليس فقط في التاريخ العربي الحديث بل في التاريخ الحديث ككل. فمثلاً إذا أردنا مقارنة الثورات العربية بالثورة الايرانية قبل ثلاثة عقود ونيف—وهي آخر ثورة شعبية كُبرى في محيط المنطقة قبل الربيع العربي (إذا إستثنينا الإنتفاضة السودانية الفريدة ضد نظام النميري في منتصف الثمانينات)—نجد إختلافاً كبيراً في مفهوم قيادة الثورة. فرغم أن الثورة الإيرانية كانت ثورة شعبية بكل معنى، فقد كان لها كذلك صفة إشتركت فيها مع غالب الثورات الشعبية في العصر الحديث، ألا وهي أهمية وجود قيادة واضحة تُمثّل عزم الشعب ووحدتة ضد الطغيان. ولذلك كانت مسألة سلطة الثورة واضحة في حالة الثورة الإيرانية بشكل لا يمكن مقارنته بأي من الثورات العربية، والتي لم يكن لأي منها بديل جاهز ومتفق علية بشكل عام لإستلام سلطة الدولة بعد إنهيار النظام القديم. (إلى حد ما يمكننا هنا إستثناء ليبيا حيث تطلّبت ظروف الحرب والتهديد الشامل للمدن نوعاً أعلى من التنسيق والإتفاق، والذي بقي ضمن أدنى حدود الضرورة ولا يقارن بشبة الإجماع في ايران الثورة على قيادة الخميني وبدون أي ظروف حرب تتطلّب التنسيق بين الثوار والإتفاق على نوع من الهيكلية التنظيمية).
بالمقارنة تقدم ثورات تونس ومصر النموذج الأكثر وضوحاً عن مفهوم شعب يقوم بثورة وينفّذ إرادته بإسقاط النظام ولكن دون أن يفتح أي مجال خلال هذا الصراع الملحمي لبروز قيادة ثورية لتكون جاهزة لإستلام زمام السلطة بعد سقوط النظام. ولذلك نرى أن هذه الثورات تعتمد في النهاية لإكمال الثورة على جزء نظيف نسبيّاً من صلب النظام القديم، كالمجلس العسكري في مصر أو الإنتقال الدستوري النادر في تاريخ الثورات في تونس. وهذه الظاهرة تبدو واضحة في ليبيا كذلك، إذ يتكوّن المجلس الوطني الإنتقالي إلى حد كبير من مسؤولين ذوي مناصب رفيعة في النظام القديم. في أي من الأحوال، لا نرى في أي من الثورات العربية أية ملامح لظاهرة ثورية قيادية مثل الإمام الخميني، ناهيك عن ذكر الثورات اليسارية أو القومية طوال القرن العشرين فيما كان يُعرف بالعالم الثالث، والتي إرتبطت دائماً بقيادات تاريخية واضحة المعالم والهوية، زودت كل منها ثورتها بوحدة رمز وآلية تمثيلية وتنظيمية بدت حتى الآن من بديهيات أي عمل ثوري.
الربيع العربي إذاً أطاح بالبديهيات السلطوية للفكر الثوري الكلاسيكي، وأوضح كيف أنه من الممكن مقارعة وهزيمة سلطة هرمية مُسلّحة حتى الأسنان بحركة شعبية لا تُحرّكها أية سلطة. هنا من المهم أن نتذكر كيف أن هذا الشعب الذي يريد الآن إسقاط النظام بنفسه، بدا كامل الإستعداد في فترات تاريخية مضت لتخويل سلطة مُحددة لتقوم بالعمل التاريخي الثوري المطلوب بأسم الشعب وموافقته وبالنيابة عنه. فحزب الوفد حظي بهذا الدور بعد ثورة 1919 وجمال عبد الناصر قام به فيما بعد، وحاول قادة عرب آخرون تقليد هذا المنهج فيما بعد، ولكن بدون درجة عالية من النجاح المضطّرد. ويمكن لذلك القول بأن عبد الناصر كان أسطع وبالتالي آخر رمز أو تجسيد ممكن لمفهوم "الشعب" في العالم العربي. وعندما وصل النموذج الناصري إلى طريق مسدود في العالم العربي، برز مثال الخميني في مكان قريب كرمز وتجسيد موحّد لذات الفكرة، أي سلطة الشعب ممثلة بقائد تاريخي يسترد للشعب حقوقة المسلوبة ويشرح للشعب سرّ الثورة التي لا تتم إلا بحكمة قائدها، لأن الشعب لا يُمثّل إرادته مباشرة بل يمثّلها من يملك دفّة ثورته.
من هذا السياق التاريخي يمكننا إذن أن نقول بأن الربيع العربي قد أعاد لمفهوم "الشعب" سلاسته اللاسلطوية، أو بألاحرى عرّف "الشعب" من جديد بشكل لاسلطوي بحت، لأن الذاكرة لم تنس. فكما نعرف وكما عرفنا يمكن للشعب أن يقبل بديكتاتورية تحكم باسم الشعب وتُسمّي نفسها "ثورة"، كما يمكن للشعب أن يقوم بثورة تحت قيادة واضحة المعالم وتكون جاهزة لإستلام السلطة فوراً من النظام البائس، لتقوم بإنشاء إستبداد أشدّ رسوخاً لأنة يكون في هذة الحالة إستبداد باسم ثورة حقيقية. ولكننا رأينا كل هذه التجارب في القرن المنصرم، مما يدفعنا الى القول بأن ذاكرة تاريخية قد تكونت وقامت بعملها، ألا وهو إضافة ملخّص دروس التجارب الثورية الماضية الى الثقافة الشعبية. والدليل شبة المباشر على وجود هذه الذاكرة بالشكل الذي أجزمه هنا هي أن "الشعب" يحاول الآن أن يقاوم كل إغراءات القيادة أو حتى التنظيم الموحّد، رغم المنافع الأدارية الكثيرة والمعروفة لمثل هذا التوحيد. إذ أن تاريخ السلطوية بأسم الشعب قد أصبح جزء من ذاكرته السلبية وبالتالي جزء مما تشك به ثقافتة العامة بشكل عفوي.