منذ أن أجبر المصريون دكتاتورهم على الرحيل، تحوّل تمجيد "شباب الفايس بوك" إلى أحد أركان خطاب سائد جديد تبنّاه سياسيون وقيادات إعلامية كانوا في زمن ليس بالبعيد يهلّلون للحزب الوطني، في محاولة بائسة منهم لاستيعاب الموجة الثورية المستمرة.
وإذا كان هذا الخطاب يهدف إلى تحديد فترة الثورة المصرية زمنيا بـ 18 يوما وجغرافيا بميدان التحرير وقصرها طبقيا على الطبقة الوسطى القاهرية، فإنه أيضا يقدّمها على أنها انبثقت فجأة من العالم الافتراضي ضاربا عرض الحائط بسنوات من المقاومة مهّدت السبيل لها. كيف يمكن أن ننسى معركة الفلاحين ضد قانون تحرير الإيجارات الزراعية سنة 1997 وانفجار الغضب الذي عرفته مدينة المحلة في الدلتا سنة 2008، ومظاهرات التضامن مع انتقاضة الشعب الفلسطيني الثانية في أكتوبر 2000، واعتصام ميدان التحرير ضد الاحتلال الأمريكي للعراق يوم 20 مارس 2003، وتأسيس حركة "كفاية" ونقابة الضرائب العقارية المستقلة؟ كلها تحرّكات عبّرت فيها العديد من الفئات المهنية والعمرية عن رفضها لحكم مستبد فاسد تابع للقرارات الأمريكية طبّق سياسات نيوليبرالية أفقرت السواد الأعظم من الشعب.
لم يكن الفنّانون والأدباء بعيدين عن هذا الحراك السياسي، فسنة 2003 أحرج الروائي صنع الله إبراهيم المؤسسة الثقافية والأدبية برفضه جائزة المجلس الأعلى للثقافة في حضور فاروق حسني، الوزير المشهور بصلاته بالـ"عائلة المالكة"، قائلا إنه لا يمكن أن يقبل جائزة (قيمتها 100000 جنيه، أي حوالي 17000 دولار) من حكومة "لا تملك مصداقية منحها"، "تقمع شعبنا وتحمي الفساد وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء (في مصر) في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب".
هذا الموقف لم يكن غريبا من روائي تبنّت اثنان من أعماله على الأقل خطابا نقديا عن مصر زمن مبارك وشاركت بشكل فعّال في "قراءة وكتابة واقع جماعي"، على حد تعبير الناقدة سامية محرز. تروي "ذات" (دار المستقبل العربي، 1992) قصة امرأة من الطبقة الوسطى تواجه مصيرا يوميا كالحا، ضحية لبرلة اقتصادية أشعلت نار الأسعار وجعلت من حياتها اليومية عذابا أبديا وتتخلّل الرواية أجزاء من قصاصاتُ جرائد تُغرق القارئ حرفيا في تفاصيل الفساد والفوضى التي تشكّل خلفية حياة البطلة. أما "شرف" (دار الهلال، 1997)، فهي قصة شاب متّهم بقتل أجنبي حاول اغتصابه ووصفٌ لحياته في السجن : في الأيام الأولى في القسم، يتعرّض "شرف" إلى أنواع التعذيب المنهجي التي ميّزت شرطة مبارك: يعلّق عاريا في السقف ثم يتم ضربه وكهربته فينتهي به الأمر إلى الاعتراف بما يريده جلادوه.
إنّ تعذيب مواطنين أبرياء على يد ضبّاط فاسدين موضوع تعالجه عشرات الأعمال الأدبية، من "يحدث في مصر الآن" (1977) ليوسف القعيد، حيث يموت فلاح فقير ومريض أثناء احتجازه في القسم –دون أن يصف الكاتب تفاصيل المشهد- في حبكة تندّد بشكل صريح بالتحالف ما بين الشرطة والسلطة السياسية في الأرياف، إلى "زهرة البستان" لخالد اسماعيل، (دار ميريت، 2010)، التي تتناول حياة، أو بالأحرى موت، والد ووالدة الراوي بعد أن أجبرا تحت تهديد الشرطة على دفن جثة ابنهما المقتول في سجن الفيوم بعد تعرّضه لأصناف تعذيب كانت تُستخدم في التسعينيات ضد سجناء التيار الإسلامي.
لم يشتهر مشهد تعذيب في صيغته الأدبية مثلما اشتهر في "عمارة يعقوبيان" (2006). طه ابن "البوّاب" الذي لم يُسمح له بدخول أكاديمية الشرطة بسبب وظيفة أبيه، تم القبض عليه أثناء مظاهرة في جامعة القاهرة. الضابط الذي يريده أن يعترف بنشاطه السياسي في جماعة إسلامية يعذبّه ويأمر باغتصابه. وقد لقي "بست سيلر" الأسواني نجاحا باهرا (حُوّل إلى فيلم ثم مسلسل وترجم إلى أكثر من 20 لغة) بسبب وصفه المباشر لمثل هذه المشاهد الكابوسية التي أصبحت جزءا من مخيلتنا الجماعية، إلى جانب عرضه لبانوراما المشاكل الاجتماعية التي أدّت إلى الثورة (البطالة، عدم تكافؤ الفرص، ابتزاز المرأة الفقيرة جنسيا) ونقد الفساد المستشري لرجال أعمال مرتبطين بالسلطة.
لا ينتمي علاء الأسواني إلى قدامى محاربي المعارضة المصريين - عكس صنع الله إبراهيم الذي يعتبر من ممثلي ما يسمّى بـ"أدب السجون" لاستلهامه عدد من أعماله من تجربة اعتقاله أثناء حكم عبد الناصر - لكن نقده للسلطة المستبدة والفاسدة لم يقتصر على أعماله الروائية بل أنه استغل شهرته ككاتب لينشر مواقف مناهضة للحكم الديكتاتوري في مقالاته الأسبوعية. كما كان من الموقّعين على بيان جمعية فنّانين وأدباء من أجل التغيير سنة 2005 الذي ندّد بالتمديد لحسني مبارك والتوريث لابنه جمال، وهو البيان الذي حمل أيضا توقيع الروائيين محمود الورداني ومحمد البساطي والكاتبة رضوى عاشور من بين أسماء أخرى كثيرة من أجيال مختلفة.
لا تترك أعمال صنع الله إبراهيم وعلاء الأسواني مجالا كبيرا للأمل، إلا أنّ صعود "كفاية" وحركات المقاومة الاجتماعية وجد صدىً له في بعض الأعمال الأدبية والفنية، على غرار "فاصل للدهشة" لمحمد الفخراني (الدار، 2006): إحدى مظاهرات "كفاية" سنة 2005 هي فرصةُ لقاء لم يكن ليحدث خارج إطار الاحتجاجات السياسية الجديدة، بين صحفية مشاركة في الاحتجاجات وبلطجي من سكّان العشوائيات، رغم اعتدائه عليها أثناء المظاهرة نفسها. في "مترو" لمجدي الشافعي، وهو "أول كوميكس مصري"، تشارك إحدى الشخصيات، وهي صحفية كذلك، في المظاهرة نفسها، وتتعرّض أيضا للاعتداء الجنسي الذي كان أحد الأساليب التي ابتكرها الحكم لترويع المعارضات.
جعل الكتّاب أنفسهم صدىً لهذه المقاومة، من اعتصام القضاة سنة 2006 إلى مسيرات العطش لنساء احتججن ضد نقص مياه الشرب في العديد من القرى في صيف 2008. في رواية "اسطاسيا" لخيري شلبي (دار الشروق، 2010)، تبكي امرأة ابنا اغتيل على يد شبكة من الفاسدين، ورغم عدم ارتياح القرية، تنجح في كسب مساندة الراوي، المحامي وابن أحد الأعيان المهمّين في القرية. المرأة المسيحية غير المتعلّمة تجعل الأفندي المسلم يواجه شبكة فساد تضم أعضاء من عائلته، فيفضّل العدالة على التحالفات القبلية الدينية، بدعم من أمه وزوجته. هذه القصة قد تساهم في التأريخ لدور المرأة في الحركات الاجتماعية المصرية منذ ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني حتى ثورة 2011. وحتى إن كُنَّ مثل "ذات" واقعات تحت وطأة الحياة اليومية، أو مثل "بثنية" في "عمارة يعقوبيان" مستعدات لقبول أي حل للهروب من البؤس أو مثل اسطاسيا أيقونات لمقاومة الظلم، تبقى النساء ذوات دور مركزي في روايات الغضب تلك.
جميع هذه الأعمال تعكس نقص العدالة الاجتماعية (إحدى مطالب الثورة الثلاثة)، لكن أعمال صنع الله إبراهيم من الأعمال النادرة التي تبنّت خطابا نقديا يؤكد مسؤولية اقتصاد السوق عن تعمّق الفوارق الطبقية وإفقار السواد الأعظم من الشعب المصري. وبفضل بناء روائي محكم، شذرات الواقع فيه هي قلبُ السرد، تنتقد "ذات" نتائج سياسات نيو-ليبرالية نجم عن تطبيقها في مصر انتشار الفساد وتوسّع الفجوة -العميقة أصلا- بين الفقراء والأغنياء. في نقده لهذا النظام كان صنع الله من روّاد الاحتجاجات التي يقودها حاليا عاملون في مختلف القطاعات أسّسوا نقابات مستقلة في الشهور القليلة الأخيرة. تؤكد دقّة حكمه على الأحداث أنّ الكتّاب ساهموا، من خلال أعمال قرأت الواقع بشكل نقدي، في المعركة ضد نظام مبارك وفي كل المعارك التي لا زالت قائمة كي لا تتحوّل مصر المستقبل إلى تلك التي يصفها أحمد خالد توفيق في "يوتوبيا" حيث يشترك سكّان إحدى المدن المغلقة الجديدة gated communities في رحلات صيد "للأغيار" في مدينة ضخمة تحوّلت إلى عشوائية لا نهاية لها. رؤية كابوسية لمصر سنة 2023 أفضل سلاح ضدها "حياة الميدان".