1-في البدء كانت ثورة
خرجت الجماهير الرومانية في ديسمبر من سنة 1989 في كبريات المدن هاتفة ضد الديكتاتور المتداعي نيقولاي تشاوتشيسكو الذي كان قابضا على زمام الحكم منذ 1964. وبعد حوالي أسبوع من المواجهات في المدن بين قوات الأمن وعشرات الآلاف من المتظاهرين أضطر تشاوتشيسكو وزوجته إلينا للهرب حيث تم إلقاء القبض عليهما ومحاكمتهما بشكل صوري ثم ما لبثا أن تم إعدامهما ضربا بالرصاص. وتلى ذلك القبض على رؤوس الحزب الشيوعي الحاكم المقربين للديكتاتور المعدوم وتقديمهم للمحاكمة وسجنهم. بيد أن القضاء على تشاوتشيسكو وأعوانه المقربين لم يعن أن الطريق كان معبدا أمام الرومانيين للانتقال إلى نظام ديمقراطي على غرار ما وقع في كثير من دول شرق ووسط أوروبا في نفس الفترة بعد انهيار جدار برلين، ووصول المعارضة للحكم في بولندا، وسقوط النظم الشيوعية كأوراق الشجر في الخريف في المجر وتشيكوسلوفاكيا.
تمثل رومانيا مفارقة شديدة الغرابة والتعقيد بالنظر إلى حالات سقوط السلطوية والتحول الديمقراطي، فعلى الرغم من أن سقوط تشاوتشيسكو حدث على وقع ثورة شعبية عارمة، بل إن الثورة الرومانية كانت الأعنف بين كافة الهبات والانتفاضات في الكتلة الشرقية آنذاك حيث بلغ عدد ضحايا ما يناهز الألف، إلا أن النظام القديم الممثل في كوادر الحزب الشيوعي الروماني تمكن من إعادة إنتاج مصالحه ومركز قواه بشخوصه القديمة من الصف الثاني والثالث في ظل لعبة تبدو أكثر ديمقراطية من الناحية الإجرائية، وبعد مضي عقدين من سقوط الديكتاتورية تبدو رومانيا في تفاصيل نظامها السياسي أقرب إلى بلاد الكتلة الشرقية التي لم تشهد ثورة على الإطلاق في نهاية الثمانينيات كحال بلغاريا وألبانيا، والتي نجح فيها الصف الثاني أو الثالث من النخبة القديمة في الاحتفاظ بمواقعهم في الدولة في ظل نظام يقوم على الانتخابات الحرة والتعددية الحزبية.
يغلب وصف الديمقراطيات الضعيفة على بلدان كرومانيا وبلغاريا، وهي النظم السياسية التي تقيم انتخابات حرة نسبيا وفيها تعددية حزبية ولكنها تعاني من تركز الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية، وتفتقر فيها البرلمانات لسلطات حقيقية تمكنها من ممارسة الرقابة والإشراف على عمل الحكومة، ويفتقد القضاء فيها للاستقلال الفعلي على السلطة التنفيذية، ويضاف إلى ذلك عادة ضعف شديد في المشاركة السياسية سواء من حيث تدني معدلات الإقبال على الانتخابات والاستفتاءات، أو عدم قدرة المواطنين العاديين على ممارسة حقوقهم وحرياتهم السياسية المكفولة دستوريا للتنظيم جماعيا والضغط على الحكومة من أجل الاستجابة لمطالبهم اقتصادية كانت أو اجتماعية، ومن ثم فإن بلدانا كرومانيا وبلغاريا وألبانيا تقترب من حال روسيا وأوكرانيا من حيث افتقادها لمجتمع مدني نشط وقوي قادر على التنظيم والتعبئة والضغط على الحكومة بل غالبا ما ينحصر المجتمع المدني في شريحة دقيقة رقيقة من المنظمات غير الحكومية التي تعتمد في جل تمويلها على المانحين الغربيين، ولا تملك تواصلا فعليا أو كثيفا مع المواطنين الذين من المفترض أن تتبنى قضاياهم أو تتفاعل مع مصالحهم، وفي المقابل يكون المواطنون العاديون من عمال وفقراء مدن وسكان الريف والأطراف غير منظمين وغير مشاركين في العملية السياسية بشكلها الواسع.
فكيف انتهى الوضع في رومانيا إلى ذلك بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بالحكم الشيوعي في 1989؟
بدأت الانتفاضة الشعبية في رومانيا في ديسمبر من السنة المذكورة بتظاهرات محدودة اندلعت في مدينة تيمشوارا في أعقاب اعتقال السلطات الرومانية لأحد القساوسة البروتستنت المنتمين للأقلية المجرية. وسرعان ما انتقلت عدوى الاحتجاجات الجماهيرية إلى مدن أخرى على رأسها آراد ثم العاصمة بوخارست نفسها حيث نزل عشرات الآلاف للشوارع متظاهرين ضد نظام تشاوتشيسكو الشمولي. أتت الاحتجاجات الجماهيرية في خضم سقوط النظم الشيوعية في شرق ووسط أوروبا بدءا بفوز المعارضة البولندية الممثلة في حركة التضامن العمالية بأول انتخابات حرة جزئيا في بولندا ثم انهيار جدار برلين والذي أعقبه مباشرة خروج مئات الآلاف من الألمان الشرقيين إلى الشوارع متظاهرين ضد استمرار الحكم الشيوعي، وتزامن مع ذلك انهيار النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا إثر احتجاجات شعبية مماثلة ثم لم تلبث أن بدأت مفاوضات تسليم السلطة بين المعارضة المجرية والجناح الإصلاحي في حزب العمال المجري الحاكم آنذاك. وقد حاول تشاوتشيسكو ونظامه الأمني العتيد قمع المظاهرات في رومانيا باستخدام العنف، ولكن استمرار الاحتجاجات لعدة أيام أظهر ارتفاع تكلفة خيار القمع فتخلى الجيش والأمن عن تشاوتشيسكو وزوجته والمقربين منهما، وأضطر الديكتاتور وزوجته إيلينا إلى الهروب خارج العاصمة حيث تم احتجازهما في أحد المعسكرات التابعة للجيش، وعندئذ ظهر فصيل منشق من الحزب الشيوعي الروماني تحت اسم جبهة إنقاذ رومانيا يضم مسئولين بالحزب والبيروقراطية من الصفين الثاني والثالث أعلنوا انشقاقهم وانقلابهم على تشاوتشيسكو. وقام أعضاء جبهة الإنقاذ باعتقال الديكتاتور وزوجته كما تقدم ثم محاكمتهما على نحو استثنائي ومتعجل كما يظهر من الفيديو الذي تم تصويره وإذاعته وقتذاك، ومن ثم اتخذ القرار بإعدامهما معا، وهو ما تم تنفيذه على الفور، وتم تصوير مشهد الإعدام وإذاعته على المشاهدين.
قبضت جبهة إنقاذ رومانيا على زمام الأمور بشكل مؤقت، وأتخذت خطوات إزاء حل الحزب الشيوعي الذي احتكر السلطة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتحول إلى نظام تعددي ديمقراطي، وتولى إيون إليسكو-أحد رجال الصف الثاني في الحزب الشيوعي سابقا- الحكم بصورة مؤقتة لحين الإعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية تنقل البلاد لحكم ديمقراطي. كما اضطلعت جبهة الإنقاذ بمحاكمة وسجن بعض رموز النظام القديم من المقربين من تشاوتشيسكو. وقد أعلن إليسكو في البداية عدم وجود أي نية من جانب جبهة الإنقاذ لخوض الانتخابات البرلمانية التي كان مزمعا عقدها في 1990، وشدد على عدم اعتبار الجبهة نفسها حزبا سياسيا، ولكن ما حدث هو أنه فور اقتراب موعد عقد الانتخابات، وإصدار مراسيم لتنظيم أول انتخابات برلمانية ديمقراطية في تاريخ البلاد ألف أعضاء جبهة الإنقاذ حزبا سياسيا، وأعلنوا عن نيتهم خوض الانتخابات. ومع استخدام مكثف لوسائل الإعلام الحكومية التي كانت ما تزال هي الوحيدة المتاحة لجموع الرومانيين إضافة لتعبئة الناخبين من خلال شبكات الحزب الشيوعي القديمة في الريف والمدينة تمكنت الجبهة من حسم أغلبية مطلقة لصالحها في أول برلمان روماني ما بعد الاستقلال-كان هو البرلمان المنوط به كتابة أول دستور ديمقراطي للبلاد. وأتى الدستور ميالا لإطلاق صلاحيات السلطة التنفيذية وخاصة الرئيس. وفي 1992 عقدت أول انتخابات رئاسية خاضها إيون إليسكو رئيس جبهة الإنقاذ كما تقدم، وأسفرت عن فوزه بأغلبية مطلقة قاربت 70% من أصوات الرومانيين. وباتت رومانيا برلمانا ورئاسة في يد كوادر الحزب الشيوعي السابق التي تمكنت من إعادة إنتاج سلطتها بعد التخلص من تشاوتشيسكو.
وما إن تأكدت سيطرة رجال النخبة القديمة على الدولة في لحظة صياغة النظام السياسي الجديد في رومانيا حتى كان الهدف الرئيسي من وراء عملية الانتقال هو إعادة إنتاج مصالح كوادر الحزب الشيوعي السابق في النظام الجديد. وهو ما ظهر بوضوح في تركز السلطة في يد الجناح التنفيذي من الحكومة وخاصة الرئيس، وضعف صلاحيات البرلمان وعدم اتخاذ الخطوات الجادة لضمان استقلالية القضاء وفصل الثروة عن السلطة خاصة مع بدء عمليات الخصخصة، والتي نجح مديرو القطاع العام من عصر تشاوتشيسكو في ظل غياب الرقابة والشفافية في السطو على أصول الدولة ونقلها فعليا لملكيتهم. وعلى الرغم من أن رجالات الحزب الشيوعي السابق لم يبقوا في السلطة منفردين بعد انتصاف التسعينيات، إذ فاز مرشح المعارضة الديمقراطية كونستانتيسكو في الانتخابات الرئاسية في 1996، وانقسم حزب جبهة الإنقاذ على نفسه وتضاءلت سيطرته على البرلمان، إلا أن القدرة على تغيير قواعد اللعبة السياسية بعد أكثر من ست سنوات من سقوط تشاوتشسيكو كان صعبا للغاية حيث إن الترتيب الجديد الذي تلى سقوط النظام الشيوعي كان قد ولد مصالح سياسية واقتصادية معينة، وفي الوقت ذاته لم تفرز قواعد العمل السياسي التي وضعها أرباب النظام القديم نخبة سياسية حزبية متماسكة وقادرة على تمرير مزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية في سبيل نظام أكثر ديمقراطية. وهو ما يعني أن السنوات المباشرة التالية على سقوط الديكتاتورية هي الفترة المفصلية والحساسة التي يكون فيها وليس فيما سواها الطرق على الحديد وهو ساخن أي إعادة صياغة القواعد المحددة للممارسة السياسية أو بالأحرى إعادة توزيع الحقوق السياسية والاقتصادية، وهو ما غاب ببساطة عن البلاد التي تمكنت فيها النخب القديمة التي كانت تمثل طرفا في الحزب الشيوعي من البقاء في السلطة بعد 1989/1990 كما هو الحال في رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا وروسيا وملدوفا دون الحديث عن البلدان التي لم تشهد أي تحول عن السلطوية، وتم الاحتفاظ فيها ببنى ديكتاتورية ترجع في جذورها القريبة للحقبة السوفيتية كحال بيلاروسيا واذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان.
إن الترتيبات المؤسسية المبكرة والتالية على سقوط السلطوية مباشرة تدوم تاركة بصمات على فرص التحول الديمقراطي المستقبلية إيجابا وسلباً وهو ما يجعل الشهور والسنوات القليلة الماضية ذات خطر كبير باعتبار أن ما سيتم سبكه من ترتيبات مؤسسية ستفرز مراكز قوة ومصالح على مستوى النخبة والجمهور تحول دون تغييرها فيما بعد أو تجعل التغيير بتكلفة باهظة حتى لو ثبت فساد أو فشل الترتيبات المؤسسية. ولعل هذا هو ما اصطلح على تسميته في علم الاجتماع المؤسسي بلزوجة المؤسسات على اعتبار أنها لا تتغيير بسرعة التغيرات الطارئة عليها في البيئة، ولعل هذا هو ما يفسر الحالات التاريخية المتعددة لاستمرار مؤسسات اجتماعية سياسية كانت أو اقتصادية رغم فشلها أو عجزها عن أداء الأهداف التي أسست من أجلها.
2-أين مصر مما وقع في رومانيا؟
فما هي أوجه الشبه والاختلاف بين رومانيا ومصر؟ فلعل تشابها واضحا هو أن سقوط الديكتاتور لم يعن انتقال السلطة للثوار بل انتقلت الثورة بعد ما يشبه الانقلاب من داخل النظام. في حالة رومانيا استولى الصفان الثاني والثالث على الحكم في الفترة الانتقالية، وصمم هؤلاء ترتيبات المرحلة بما يضمن إعادة إنتاجهم مراكزهم من خلال نظام انتخابي فيه بعض التعددية، واستغلوا في سبيل ذلك شبكات الزبونية المنتشرة في الريف والمدن الموروثة عن الحزب الشيوعي المنحل، والإعلام الذي كان لا يزال حكوميا بامتياز. وفي مصر آلت الأمور للمجلس الأعلى للقوات المسلحة من بعد مبارك، وهو المجلس الذي يرأسه وزير دفاع مبارك نفسه لمدة عقدين من الزمن. ولكن يثور خلاف أساسي هنا في كون المجلس العسكري أو القوات المسلحة عامة مؤسسة من مؤسسات الدولة لا يمكن أن تملأ المجال السياسي لما بعد مبارك إلا عن طريق إنشاء حزب سياسي يكون في واقع الحال تكرارا أو امتدادا للحزب الوطني، ومعه جهاز أمني يقوم بتنظيم المجال السياسي بنفس قدر الإرهاب والقمع الذي كان قائما في عصر مبارك، ولكن يبدو بوضوح أن أعضاء المجلس-خلافا للأعضاء السابقين في الحزب الشيوعي الروماني على غرار إليسكو-يفتقدون للخبرة السياسية بحكم عقود من عدم تسييس الجيش في مصر، ويضاف إلى ذلك أن مشكلات إدارة البلاد حتى خلال المرحلة الانتقالية تفوق قدرتهم على تولي زمام جهاز الدولة أو احتواء الصراع الاجتماعي المتفجر سواء في شقه الخاص بالأجور الحقيقية أو في شقه الطائفي، وبالفعل ضمان مصالح النخبة العسكرية كما هي بدون تغيير كان حاضرا بجلاء على أجندة العسكريين في مصر، ولكن ليس من خلال مصادرة المجال السياسي الآخذ في الانفتاح بعد انهيار أمن الدولة، وإنما من خلال حمل القوى السياسية على إقرار وضعية خاصة للجيش تعزله بموازنته وهيكله عن المؤسسات الديمقراطية التي قد تنشأ وقد تمارس عليه رقابة مالية أو سياسية، ومن خلال وضع آلية للسياسة الخارجية كمجلس دفاع قومي يضمن للمجلس دورا إلى جانب رئيس أو برلمان منتخبين. والحق أن إعادة إنتاج نظام مبارك كما هو بحزب وطني يزور ويمارس البلطجة لنيل أغلبيات مصنوعة، أو بجهاز أمني مطلق اليد قد بات أمرا مستحيلا بحكم انتشار المقاومة له من جانب مختلف الفئات الاجتماعية حال محاولته الرجوع لممارسة مهامه كما هي، وينبغي أن نأخذ في الاعتبار كذلك أن انهيار نظام مبارك لم يأت إلا على خلفية تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في مصر على نحو لم تتمكن معه المؤسسات السياسية من التفاعل بالتمثيل أو تقديم حلول فمن الحكمة إذن وربما الذكاء أن يدرك العسكر أن مستقبلهم في أفضل صوره سيكون بمشاركة الدولة مع نخبة سياسية حزبية منتخبة رئاسيا وبرلمانيا.
ويضاف إلى ما سبق أن المجلس العسكري قد تلقف السلطة الواقعة من مبارك بعد عجزه عن الصمود في وجه ثورة يناير باعتباره آخر ما تبقى من أركان الدولة من ناحية، وقلب نظام يوليو المستبد من ناحية أخرى، ولكن لم يأت ذلك على خلفية انقلاب من داخل الجيش على مبارك بغرض التخلص منه ومن عائلته ومشروع التوريث والفساد الذي أحاط به كوسيلة لإعادة إنتاج النظام المتسلط ولكن بنخبة جديدة أقل فسادا، وأكبر دليل على ذلك أن المجلس العسكري لم يضح بمبارك مختارا رغم أن هذا يعد أساسيا لمن يرغب في تحويل الثورة إلى انقلاب ونيل رضاء الجماهير باعتبار أن الجيش يطهر الدولة، وإنما ما حدث كان تواصل الضغط الشعبي على المجلس لتصفية النظام القديم من خلال فتح المحاكمات لمبارك وعائلته وأركان نظامه، وهو ما تم بحكم الضرورة مع بقاء الكثير من الشك حول جدية هذه المحاكمات، ويثور الأمر نفسه في عدم مسارعة المجلس إلى إعادة هيكلة الداخلية: جهاز مبارك القمعي الأساسي، وعدم استبعاد فلول الحزب الوطني من المنافسة السياسية-رغم سقوطهم المروع فيما بعد-، وكان الدليل الأبلغ على موقف الجيش من مبارك هو شهادة المشير طنطاوي، والتي رفض فيها توريط مبارك في قتل المتظاهرين، وهذه كلها أدلة على أن المجلس العسكري لم يكن يخطط لتحويل الثورة إلى انقلاب، ويقف ذلك خلافا للحالة الرومانية التي أقدمت فيها أطراف في النظام على تصفية تشاوتشيسكو وزوجته جسديا، ونجحوا بالفعل في تحويل الثورة الشعبية إلى انقلاب عسكري تمخض عن قبضهم على زمام الأمور.
بيد أنه لا يجب إغفال أن المجلس العسكري في مصر قد أصبح هو مركز "الثورة المضادة" بتصديه لإعادة هيكلة الداخلية وتفويته الفرصة على عزل أعضاء الوطني الفاعلين، وفي ذلك إعادة إنتاج جزئية لنظام مبارك، من حيث السماح لمستقلي الوطني بتشغيل شبكات الزبونية والفساد والعصبية خاصة في الريف ومن خلال ثلث المقاعد المحجوزة للتنافس الفردي. ولكن ذلك لن يكون إعادة إنتاج للوطني الذي لم يكن حزبا في الأصل بعد تفككه في التسعينيات، وتكونه من أصحاب رؤوس أموال خاصة وزعماء عشائر وعائلات في الصعيد يتسابقون ويتنافسون حتى فيما بينهم على الوصول للحصانة البرلمانية وامتيازات القرب من السلطة في دولة لا تعرف تطبيق القانون بشكل متساو. وإنما دخول هؤلاء للحياة السياسية ما بعد الثورة يعني بقاء ثقافة غير سياسية تقوم على العصبية والرشوة الانتخابية والطائفية، وهذه الثقافة من المرجح أن توجد وتعيش في بلد فيه الفقر وعدم المساواة والأمية كمصر تماما كحال بلدان فقيرة تحظى بديمقراطية إجرائية كالهند وبنغلادش وإندونيسيا. وهذه الوضعية مختلفة تمام الاختلاف عن حال رومانيا عندما تمكن جزء من الحزب الشيوعي-مركز الثقل نسبيا في عهد تشاوتشيسكو- في إعادة إنتاج مراكزه وصلاحياته من خلال نظام شبه ديمقراطي فيه انتخابات تعددية.
3-من السلطوية إلى ديمقراطية ضعيفة
[ alnwaihi.maktoobblog المصدر]
وبعيدا عن الجوانب الإجرائية للديمقراطية من حيث الانتخابات فإن لب التحول الديمقراطي يظل وجود وممارسة حريات وحقوق مدنية وسياسية كالتعبير والتنظيم والنشر، وهو ما يميز ديمقراطية ضعيفة عن أخرى قوية ومتجذرة وحية. ورومانيا نموذج لديمقراطية ضعيفة كما سبق الذكر بحكم عدم تجذر الحريات والحقوق المدنية لدى القواعد الاجتماعية المختلفة، ومما لا شك فيه أن عدم التجذر هذا كان نتاجا لاستيلاء النخبة القديمة على "النظام الجديد"، والخلاصة أن الثورة في رومانيا كانت ظاهرة حضرية للغاية، ولم تمتد للريف حيث يسكن نحو نصف السكان، ومع معاناة رومانيا من معدلات تهميش اجتماعي واقتصادي مرتفعة لظروف عديدة في زمن الحكم الشيوعي مقارنة بدول أخرى كبولندا والمجر والتشيك، فإن القواعد العريضة من السكان ظلت بمعزل عن ممارسة حقوق وحريات من المفترض أن يكون الدستور قد كفلها، ومن ضمنها التنظيم النقابي والاحتجاج الجماعي وحتى المشاركة في الانتخابات، وكلها مؤشرات أخذت تنخفض منذ منتصف التسعينيات بشكل منتظم على نحو يدل بوضوح على عدم تجذر التحول الديمقراطي، وهو كل مكمل لبقاء النخبة القديمة التي كانت تحكم إبان السلطوية. والحال في رومانيا من هذه الزاوية كان راجعا إلى ضعف شديد للمجتمع المدني بمعناه الواسع، وهاهنا لا يقصد بالمجتمع المدنى المنظمات أو الجمعيات الأهلية أو نشطاء حقوق الإنسان والمرأة، بل كافة الأنشطة الجماعية التي تعكس قدرا من الوعي الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، وهذا هو مفهوم عالم الاجتماع الفرنسي الكبير أليكسي دو توكفيل، والمجتمع المدني هذا في صورة تنظيمات نقابية وتعاونيات ريفية وحركات احتجاج جماعية وروابط طلابية وجامعات مستقلة وحتى كنيسة قوية، كل هذه التنظيمات في رومانيا كانت ضعيفة للغاية نظرا لعمق التجربة الستالينية في زمن الحكم الشيوعي منذ الخمسينيات، وإمعان الدولة آنذاك في تفكيك المجتمع، ونزع القدرة على التنظيم الجماعي المستقل، وما يفصل رومانيا هنا عن بلدان ثبت نجاحها في التحول الديمقراطي كبولندا والتشيك والمجر أن هذه البلدان كانت قد فارقت الستالينية منذ الخمسينيات، وظهر بها تنظيمات جماعية عريضة حتى في ظل الحكم الشيوعي، وكيف لا وقد شهدت المجر ثورة على الحكم السوفيتي في 1956، وشهدت بولندا ما يشبه الثورة في 1953 وكان بها تنظيم عمالي ضخم ومستقل المعروف باسم "التضامن"-وإن ظل غير رسمي- قاد المعارضة ضد النظام الشيوعي منذ مطلع الثمانينيات حتى تولى هو السلطة في صدر التحول الديمقراطي، وينطبق الأمر نفسه على التشيك. أما في رومانيا فقد كان المجتمع مفككا ومجزءا أو بمعنى آخر منبطحا في مواجهة الدولة، وهو ما مكن فصيلا من النخبة القديمة بادئ ذي بدء من الاستيلاء على السلطة وإدارة المرحلة الانتقالية، وأسهم في ضعف الديمقراطية وعدم تجذرها.
ولعل قارئا يرى أوجها للشبه في ما سبقت روايته فمصر بها مجتمع مدني ضعيف بالمعنى الواسع نتيجة الحكم السلطوي منذ عهد عبد الناصر، والذي أدى لتدمير الحركة النقابية العمالية المستقلة بدمجها في البيروقراطية، وأخضع النقابات المهنية لسطوة الحزب والأمن، وصفى التنظيمات الطلابية بشكل منتظم بمقتضى لائحة 1979، وألحق الجامعات بالجهاز الإداري وضم الأساتذة وأعضاء هيئة التدريس لشبكات المستفيدين منه، ويضاف إلى ذلك إلحاق عبد الناصر للأزهر بالدولة طبقا لقانون 1960، والمنظمات والجمعيات الأهلية محدودة العدد نسبة للسكان، وتعتمد في عملها بالأساس على التمويل من الخارج، وليس لها قواعد اجتماعية واسعة بل هي محصورة في القاهرة، وناشطوها من المنتمين للطبقة الوسطى العليا الحضرية البعيدة عن الجذور. قد يكون هذا صحيحا، المجتمع المدني بصورته هذه ضعيف ومجزأ، ولكن مصر لم تمر بأي تجربة شمولية كالستالينية في الكتلة الشرقية أو الصين، ومن ثم فإن ثمة مساحة لنشاط جماعي مستقل عن الدولة بل إن نظام مبارك قد تعايش مدة عقود مع هامش قائم من الحركة الجماعية المستقلة لتنظيم كالإخوان المسلمين،ولتغلغل وانتشار شبكات الدعوة السلفية، وللعب الكنيسة القبطية دورا، ثم شهد المجتمع المصري خروج حركات احتجاجية-وإن ظلت محدودة عددا- منذ 2004 على غرار كفاية و6 إبريل و9 مارس، ولا ينبغي أن نتناسى وجود إعلام خاص مرئي ومقروء طيلة آخر عقد من حكم مبارك بالإضافة للإعلام الاجتماعي عبر الفضاء الافتراضي، وهذه كلها علامات على وجود قدرة للتنظيم الجماعي أو نواة لها يبدو تجليها الأكثر وضوحا في صورة استخدام الدين الإسلامي–والمسيحي لدى الأقباط- الذي يبدو من ثناياه حركة كالإخوان المسلمين تملأ الفراغ السياسي بعد زوال مبارك، وتحول بصورتها الحالية دون إعادة إنتاج النظام لنفسه دون ممارسة قمع واسع النطاق ربما الأوسع نطاقا في تاريخ البلاد الحديث.
4-وماذا عن الاقتصاد؟ القطاع الخاص والتحول الديمقراطي
[المصدر موقع الفجر]
ويبقى فارق أساسي بين تجربة التحول المحتمل في مصر وسائر حالات شرق ووسط أوروبا وهو مدى ارتباط التغير السياسي بذلك الاقتصادي. ففي حالات شرق ووسط أوروبا كان انهيار النظام الشيوعي حاملا على التحدي بتغيرات في المجال السياسي بإقامة نظم ديمقراطية ليبرالية وتحولات اقتصادية من نظام الاقتصاد الموجه إلى السوق الحر، ومن ثم كان تبني الحقوق السياسية والمدنية الأساسية مرتبطا بتبني حقوق الملكية الخاصة، وقد خلق هذا الوضع مشكلات عديدة لكافة هذه الدول، وحمل مخاطر جمة للتحول، فنجحت بلاد كبولندا والمجر والتشيك وسلوفينيا في تبني نوع ما من الديمقراطية الاجتماعية، وكان لعضوية الاتحاد الأوروبي أثر كبير على هذا بينما فشلت بلاد أخرى بالكامل كروسيا وأوكرانيا حيث استولت على الأصول العامة للدولة مجموعات محدودة من أعضاء النخبة القديمة في الحزب الشيوعي ومن مديري القطاع العام، وما لبث أن سيطر هؤلاء القلائل على جهاز الدولة نفسه بادئين تجربة من الفساد المنظم الذي اخترق المجالين الاقتصادي والسياسي، وأعاد توزيع السلطة والثروة معا من الحزب الشيوعي لمجموعة من الأوليجاركيين على حساب مجتمع مدني ضعيف وغير منظم تحمل التكلفة الباهظة سياسيا واقتصاديا لعدم قدرته على المطالبة بحقوقه. وقد تكرر الأمر جزئيا في الحالة الرومانية حيث تتميز النخبة السياسية لما بعد التحول بكثير من الفساد، وثمة تداخل بين الثروة والسلطة.
يختلف الأمر كثيرا في مصر عن دول شرق ووسط أوروبا من حيث أن انهيار نظام مبارك قد جاء بعد عقدين من التحولات الاقتصادية النيوليبرالية، وعلاوة على ذلك فإن مصر لم تشهد أبدا سيطرة كاملة للدولة على المجال الاقتصادي حتى في عز أيام الناصرية، ولا ريب فإن عدم الحاجة لإعادة هيكلة المجال الاقتصادي بشكل جذري يقلل من مقدار التغير الاجتماعي المنتظر من سقوط نظام مبارك، وإن كان علينا أن نلحظ بشكل جدي أن عشرين سنة من السياسات النيوليبرالية في عهد مبارك لم تؤسس لاقتصاد سوق حر بقدر ما خلقت هذه المساحات الرمادية التي تجمع بين السلطة والثروة وتقترب بالاقتصاد المصري كثيرا من حيز رأسمالية المحاسيب من عينة أحمد عز وهشام طلعت مصطفى ومحمد أبو العينين وزهير جرانة ومحمد إبراهيم سليمان وغيرهم، ومن ثم فإن المنتظر من الثورة حال تمكن شقها الاقتصادي-الاجتماعي الماس بمطالب العدالة أن تعيد صياغة دور الدولة في مسائل كإعادة التوزيع من خلال الضرائب وتقديم الخدمات العامة، وتنظيم السوق على نحو يكسر من الاحتكار وتعارض المصالح ومخاطر خصخصة الدولة لصالح فئة يسير من المستفيدين من رجال الأعمال والبيروقراطيين.
ومما لا شك فيه كذلك أن عشرين سنة من التحول الاقتصادي في مصر قد نقلت جزءا لا بأس به من الإنتاج والتشغيل والقيمة المضافة والاستثمار إلى القطاع الخاص، خاصة في قطاعات حيوية كالسياحة والصناعة والزراعة والاتصالات، وهو ما يقلل من قدرة أي نظام مستبد مستقبلا على استخدام موارد الدولة من أجل بناء تحالفات توزيعية-على غرار الناصرية-تضم طبقات وسطى أو شعبية تتنازل عن حقوقها السياسية مقابل الحصول على حقوق اقتصادية واجتماعية، فليس بخاف على أحدهم أن انهيار نظام مبارك نفسه كان نابعا من أزمات مالية الدولة التي أعقبت تبنيه للإصلاحات النيوليبرالية التي قللت بشكل جدي من سيطرته على الموارد الاقتصادية اللازمة لصيانة شبكات الزبونية التي طالما استند إليها الاستبداد السياسي في مصر منذ تأسيس الدولة الناصرية في الخمسينيات. ومن ثم فإنه من غير المنتظر أن ينجح أي نظام يخلف مبارك-سواء أكان بنصيب من العسكريين أو من الإسلاميين-في مصادرة الحقوق السياسية الأساسية كالننظيم والتعبير والرأي من فئات كالعمال والطبقات الوسطى مقابل رشى. فالاقتصاد السياسي للاستبداد قد تغير كثيرا في مصر، وتصوري أن تحولات هذا المجال في العقدين الماضيين قد قللت من دور الدولة في إدارة موارد الاقتصاد الكلي، وهو ما يعد عائقا بنيويا في سبيل إعادة بناء الاستبدادية الشعبوية.
بيد أن غلبة القطاع الخاص ليست كلها فوائد بالنسبة للتحول الديمقراطي ففي الحالة الرومانية كان القطاع العام في زمن انهيار نظام تشاوتشيسكو هو المسيطر بالكامل على موارد الاقتصاد من خلال صيغ الإدارة المركزية، وقد أسهم هذا في العقد الأول بعد سقوط الشيوعية في إعادة إنتاج ذات النخبة القديمة عن طريق استخدام موارد الدولة العامة لإرضاء قواعد الحزب الشيوعي المنحل كما سبق الذكر، ولكن القطاع العام في الوقت نفسه كان محلا لقوى عاملة كبيرة ومنظمة في شركات عامة ضخمة، وهو ما يفسر انطلاق الحركة العمالية بقوة وزخم في أعقاب تفكك اتحاد العمال العام الذي كان مسيطرا عليه من قبل الحزب الشيوعي والأمن في زمن تشاوتشيسكو. والحق أن الحركة العمالية الرومانية منذ التسعينيات لم تكن تعاني من نقص الحرية النقابية أو الاستقلالية أو السلبية وعدم الحركة بقدر ما عانت من الحركة الزائدة والتشظي الناتج عن إطلاق الحريات النقابية بحيث ظهرت على الأقل أربعة اتحادات عامة كبرى يضم كل منها عشرات بل مئات من النقابات على مستوى القطاعات والشركات والمصانع.
والناظر للحال في مصر يرى أن ضعف الحركة العمالية المستقلة نابع من عدة عوامل أولها بالطبع القمع الأمني وتفكيك الدولة المنظم لأي جهد عمالي مستقل منذ بداية الخمسينيات، واليوم وبعد سقوط نظام مبارك لا يزال العسكر متمسكين بالبناء الناصري السلطوي للحركة العمالية رافضين إصدار قانون الحريات النقابية الجديد رغم تبني مجلس الوزراء السابق له ولكن إلى جانب القيود السياسية والأمنية فإن الحركة العمالية في مصر تعاني من عشرين سنة من التحول نحو قطاع خاص تغلب عليه العمالة غير المنظمة وغير المنضمة لأي تنظيمات نقابية ذات بال في حين يقتصر البناء النقابي الرسمي على عمال القطاع العام الذين تراجع نصيبهم كثيرا في إجمالي العمالة نتيجة توقف القطاع العام عن التعيين الدائم منذ الثمانينيات، وهو ما نجم عنه تقدم العمر بمتوسط العمال في القطاع العام، ومن ثم غلبة المحافظة وضعف النشاط عليهم. ومن هنا خرج الحراك العمالي غير منظم منذ 2004 على هيئة إضرابات واعتصامات على مستوى المصنع أو على مستوى البلدة-في حال المحلة الكبرى على سبيل المثال-، ولكن لم يتطور هذا الحراك إلى الحين إلى تنظيم أو تنظيمات نقابية مستقلة قادرة على التأثير بفعالية على السياسات العامة وطبيعة الحقوق السياسية والاقتصادية في أيام ما بعد مبارك.
5-لماذا ظلت الثورة الرومانية غير مكتملة؟
[المصدر موقع مارا ميديا ]
ثمة عوامل عدة أدت إلى محاصرة الثورة الرومانية وإجهاضها وعدم السماح لها بالتجذر في تغيير أنماط العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة حتى بعد سقوط السلطوية، أولها هو غياب النخبة البديلة، وهذا أساسي في ديمقراطية تمثيلية تقوم على طبقة سياسية حزبية من المفترض أن تتواصل مع الجماهير وتحيل خياراتهم إلى سياسات عامة، وبالطبع في الواقع تتحول هذه الطبقة إلى فئة مغلقة نسبيا لها رأس مال ثقافي واجتماعي وربما اقتصادي يمكنها من إعادة إنتاج مراكزها بانفصال كبير عن خيارات الجماهير، والتي تصبح في هذه الحالة غير قادرة على التأثير حقيقة على السياسات العامة رغم تمتعها بالحق في التصويت كل أربع أو خمس سنوات، وفي الحالة الرومانية لم يكن هناك ساسة يحلون محل الانقلابيين من داخل الحزب الشيوعي، والذين كان لهم الخبرة الأكبر بالبيروقراطية، ففي رومانيا لم يتسن للجماهير بلورة مطالبها من خلال طبقة من المثقفين (كحال تشيكوسلوفاكيا على سبيل المثال مع فاتسلاف هافيل ومجموعة أساتذة الجامعات والكتاب الذين تزعموا الحركة الثقافية والاجتماعية المعادية للنظام الشيوعي)، ولا طبقة من الساسة والمنظمين (كحال ليخ فاونسا في بولندا الذي تزعم حركة التضامن العمالية أو ألفونسين في الأرجنتين في منتصف الثمانينيات)، ولا الكنيسة (خلافا لحال البرازيل والفلبين). وترك هذا المجال مفتوحا أمام النخب الأكثر تنظيما عند الانتقال من الشارع إلى الانتخابات والاستفتاءات، حيث تتجاوز المشاركة الكتل النشطة التي تشارك من خلال الاحتجاج والتظاهر إلى الجماهير بمعناها الواسع التي قد لا تكون مسيسة من حيث الوعي، ولعل هذا هو ما يفسر إعادة إنتخاب كوادر النظام الشيوعي في رومانيا وبلغاريا مباشرة بعد سقوط النظم الشيوعية، وعودة النخب القديمة للحكم بعد عدة سنوات في روسيا مع بوتين.
وثانيها انقسام الحركة الوطنية المبكر من حيث عودة التوتر العرقي بين الأقلية المجرية والأغلبية الرومانية في بداية التسعينيات بعد توحد غير مسبوق أثناء الانتفاضة الشعبية لإسقاط تشاوتشيسكو حيث تجدر الإشارة إلى أن الاحتجاج ضد النظام قد بدأ في منطقة ذات أغلبية مجرية جراء اعتقال قس بروتستنتي مجري-أي أقلية الأقلية-، ولكن الظروف العرقية في البلقان على خلفية الحرب في يوغوسلافيا وتفكك تشيوسلوفاكيا وظهور مطالبات انفصالية في إقليم ترانسلفانيا شمال رومانيا من جانب الأقلية المجرية أسهمت كلها في عودة التوتر العرقي مرة أخرى إلى البلاد، وينطبق الأمر نفسه على الرومانيين في جمهورية ملدوفا المجاورة، والتي شهدت صراعا عرقيا مسلحا في 1994-1995 بين المنحدرين من أصول روسية وأخرى رومانية. ويضاف إلى مشكلة المجريين وجود أقليات عرقية أخرى غير مندمجة بشكل أو بآخر في المجتمع الروماني وخاصة الغجر أو الروما الذين يمثلون نحو 5% من السكان، وقد عانى هؤلاء من مزيد من التهميش الاقتصادي والسياسي بعد سقوط الشيوعية وتراجع برامج التعليم والصحة الموجهة لهم. ومع ارتفاع وتيرة الانقسام والتوتر في سنوات التحول الأولى فتح المجال أمام أحزاب اليمين القومي، والتي أثرت بالسلب على الخطاب السياسي للطيف الحزبي برمته ملقية به نحو اليمين أكثر فأكثر من خلال المزايدة على مواقفه، وأفضى ذلك إلى احتلال أحزاب هوياتية وشوفينية لمساحة واسعة من المجال السياسي في سنوات ما بعد الشمولية.
والشيء بالشيء يذكر فالحالة في مصر في الشهور المباشرة التالية لسقوط مبارك شهدت عودة التوترات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين بشكل أشد مع غياب الأجهزة الأمنية القمعية، وهو ما تكرر في أحداث الاعتداء الجماعي على المسيحيين وهدم دور العبادة في القاهرة وعدد من محافظات الصعيد ثم الصدام بين الدولة ممثلة في القوات المسلحة والمتظاهرين الأقباط في ماسبيرو والتي أسفرت عن مصرع حوالي 27 شخصا جلهم من المتظاهرين الأقباط. وما من شك في أن صعود الإشكال الطائفي، وفرض نفسه من زاوية الحقوق الدينية وحريات العبادة على المجال السياسي الآخذ في الانفتاح يصب في خانة الأحزاب الإسلامية التي تخوض صراعا على أسلمة الدولة بما يتبعه ذلك من اختصام واضح لغير المسلمين وانتقاص من وضعيتهم-على الأقل فعليا إن لم يكن قانونيا- كمواطنين في عصر ما بعد مبارك، وقد أخذ الاستقطاب العلماني-الإسلامي أبعادا طائفية غير مرة عند الاستفتاء في مارس، وتكرر الأمر في أزمة الرسوم الكاريكاتورية الخاصة برجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس. ومما لا يدعو للشك فالصراع الطائفي في مراحل التحول الديمقراطي المبكرة يعد خصما من رصيد الحركة الوطنية، ومن المجتمع المدني بشكل أعم وأشمل، وليس من تأثيره سوى المساهمة في دفع المجال السياسي يمينا، وتمكين أحزاب اليمين الديني وربما القومي من تصعيد الضغط على أحزاب الوسط لتصبح أكثر يمينية في خطابها وسياساتها، وهو ما نشهده بالفعل في حالة السلفيين مع الإخوان المسلمين في ملفي الأقباط والمرأة.
بيد أن التصور القاضي بأن الهوية هي ما ستشكل المجال السياسي المصري في سنوات ما بعد مبارك غير دقيق بالمرة لعدة أسباب على رأسها أن التحديات الاجتماعية والاقتصادية كبيرة بمكان يحول دون استمرار الاستقطاب على خطوط الهوية الدينية أو السياسية وحدها لمدة طويلة، فعلى سبيل المثال أظهر استطلاع رأي مؤخرا أجراه مركز الأهرام للدراسات السياسية بالتعاون مع معهد دانمركي للإحصاء أن أكثر من 80% من الناخبين المحتملين في مصر يهتمون بقضايا ذات طابع يومي وعلى رأسها الأمن والبطالة والأسعار، ورغم ذلك فإن هذه الاهتمامات الاجتماعية-الاقتصادية لم تنعكس على المجال السياسي الذي شهد استقطابا على أساس هوياتي بين إسلاميين وعلمانيين (ومسلمين ومسيحيين). ولعل هذه الملاحظة تفيد بأن المجال السياسي الآخذ في التشكل ما بعد سقوط مبارك لا يعكس في غالبه اهتمامات الناخب المصري المتوسط فكيف يمكننا تفسير ذلك؟ أعتقد أن ثمة مفهومين مختلفين للسياسة يمكن التفريق بينهما أن يعلل هذا الانفصال بين الناخبين والأحزاب السياسية: فأما المفهوم الأول فوجودي يقوم على التفرقة بين "نحن" و"هم"، ويتم استدعاء الرمزيات الدينية باعتبارها العنصر الأكثر رسوخا في الثقافة المصرية فتخرج ممارسة السياسة في لحظة الانتخابات مكثفة قائمة على الاستقطاب والتعبئة والتحريك الجماعي باسم قضايا مجردة كعلاقة الدين بالسياسة أو هوية الدولة. وهنا مفهوم السياسة يكون قريبا من تعريف الفيلسوف الألماني كارل شميت الذي كان يرى السياسة صراعا وجوديا بين جماعتين على أساس الهوية. ولكن عقب لحظة الانتخابات تعود السياسة فتدور حول القضايا اليومية كالأمن والاقتصاد، ويصبح مفهوم السياسة أقرب لتعريف أرسطو للسياسة بأنها البحث عن الحكومة الصالحة التي تحقق أفضل إدارة ممكنة لتحقيق السعادة لأفراد الجماعة السياسية. ولن يكون بالإمكان دمج اللحظتين معا إلا بتحقق قدر كبير من الوعي الاجتماعي من الغالبية بمصالحهم اليومية وكيفية تحققها من خلال شكل النظام السياسي وتوزيع الحقوق السياسية والاقتصادية، وصياغتهم لمصالحهم الجماعية هذه في هوية سياسية كما هو الحال مع أحزاب العمال والفلاحين في الديمقراطيات الأوروبية الناضجة.
ومن سوء الحظ في الحالة الرومانية أن انفتاح الأسواق الأوروبية أمام عمالتها المدربة والرخيصة قد استوعب ما يقرب من ربع إجمالي القوة العاملة الرومانية وهي نسبة كبيرة للغاية، وهو ما أدى إلى تخفيف الضغط على الحكومات الرومانية المتعاقبة من خلال إيجاد مخرج من البطالة في أوروبا الغربية من ناحية، ومن خلال استقبال تحويلات العاملين الكبيرة من الخارج من ناحية أخرى، وفي كلتا الحالتين تخفف وطأة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، ويفسح المجال أكثر فأكثر للاستقطاب الهوياتي العرقي بالأساس، وهو أمر لا تملكه مصر إطلاقا في السنوات القليلة الماضية خاصة وأن ثورة يناير قد حملت الكثير من الاحباط الذي يلف فئات الشباب من الخريجين والمتعلمين، وسيظل عدم تمثيل هذه المطالب الاجتماعية في المجال السياسي عبئا يهدد بانفجارات متتالية من اعتصامات واضرابات وأعمال شغب خارج النطاق السياسي الرسمي، ومن ثم خلق ديمقراطية ضعيفة لا تؤمن من الحقوق السياسية إلا الانتخاب كل عدة سنوات، ويصبح الانتخاب مجرد مناسبة لتدوير نخبة سياسية لها تطلعات وأهداف ومصالح منفصلة عن قواعدها، وهذه هي الديمقراطية الضعيفة غير المتجذرة كالتي نجدها في العديد من دول العالم النامي، ومصر مرشحة للانضمام لهذه الفئة حال نجاحها في تبني الإجراءات الرسمية للديمقراطية من حيث حرية الانتخاب والترشح، وفي رومانيا عظة فالمجال السياسي الذي شكلته النخبة القديمة في ثوب ديمقراطي جديد كما سبقت الإشارة عجز عن التعبير عن عمق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في هذا البلد، ومن ثم لم يطور أطرا مؤسسية يمكن الاستناد إليها في تمثيل هذه المصالح المتضاربة وتبني سياسات عامة تعالج مشاكلها، فشهدت رومانيا إضرابات عمالية وأعمال شغب واسعة النطاق في 1990 و1994 و1999، وتكرارها مجرد علامة على ما فشل المجال السياسي "الديمقراطي" على استيعابه.
ولعل هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه التحول السياسي في مصر أن ينجح النظام القديم المتمثل اليوم في العسكر في إعادة إنتاج مصالحه في إطار أكثر تعددية من خلال إتاحة الفرصة لمشاركة القوى الإسلامية وبالأخص الإخوان على هيئة "الشركاء الصغار" junior partners في إدارة البلاد وذلك برعاية أمريكية للتحول بهذه الصيغة، فيترك مجال السياسة الخارجية وماليات الجيش للمجلس العسكري في مقابل إطلاق يد الإخوان في أسلمة الدولة من خلال إصدار التشريعات، وسيتطلب هذا إعادة بناء جزئية لجهاز أمني يدير المجال السياسي ليضمن عدم حدوث تطورات محلية قد تلقي بظلال على وضع مصر الجيو-سياسي في تحالفها مع الولايات المتحدة والتزامها بكامب ديفيد مع إسرائيل ودعمها لأمن الخليج في مواجهة إيران، وهذه تركيبة ضعيفة ومليئة بالتناقضات، ولا يمكن أن تؤدي إلا إلى صيغة ما من باكستان. والأدهى من ذلك وأمر أن المجال السياسي الذي بالفعل أخذ في التشكل وملأته قوى من عصر مبارك لامتلاكها الموارد الكافية لذلك بدءا من الوفد ومرورا بالإخوان والدعوة السلفية وانتهاءا بأوراسكوم، هي جميعا قوى يمينية محافظة سيكون تملكها للمجال السياسي من أجل حصار الجانب الثوري في شقه الاجتماعي. وقد ظهرت هذه الميول بالفعل في قصر إطلاق الحريات حتى الآن على الجانب الحزبي الذي يمس إنتاج هذه النخبة الشريكة للعسكر في مستقبل البلاد مع إرجاء وربما للأبد إطلاق الحريات على مستوى القاعدة، فتعطل إصدار قانون جديد للحريات النقابية العمالية، وأتت لائحة العمل الطلابي دون تعديل لصالح سيطرة الإدارة وربما الأمن، وكذا الحال مع الجمعيات الأهلية وجمعيات حقوق الإنسان، علاوة على سجن واعتقال الناشطين مع غياب مسائل ماسة بالحياة اليومية لملايين المصريين كإعادة هيكلة الجهاز الأمني وإعادة صياغة السياسات الاقتصادية العامة.
تفيج نتائج المرحلتين الأوليين من الانتخابات البرلمانية بأن البرلمان سيكون إسلاميا بامتياز بحيازة الإخوان لنحو 35-40% من الأصوات يليهم حزب النور السلفي ثم الكتلة والوفد. ولعل التكوين المذكور يعكس الاستقطاب الهوياتي الإسلامي-العلماني فيكون حزب النور الأكثر يمينية من ناحية دعوته لدولة دينية وعلى يساره الإخوان المسلمون الذين لا تزال علاقة الدولة بالدين ملتبسة في أدبياتهم وبرامجهم، وفي يسار الوسط يقف الوفد ويكون حزب المصريين الأحرار على أقصى اليسار باعتباره الأكثر علمانية! تخيلوا المصريين الأحرار-الحزب الممول من شركة أوراسكوم والمقرب من نجيب ساويرس رجل الأعمال الشهير- على اليسار! وهذا هو لب الإشكال إذ أن كافة الأحزاب الكبرى التي من المنتظر أن تفرزها انتخابات البرلمان القادم تقف على اليمين من الناحية الاقتصادية من حيث غياب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل عن برامجها، وعدم مراجعتها لعلاقة الدولة بالسوق في سبيل التنمية. فالمجد لليمين إذن طالما استمر المجال السياسي في تمييع المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي تغلب كما سبق الذكر على اهتمامات الناخبين المصريين. وبتطبيق مفهوم السياسة الأول الذي يدور حول الهوية يمكن لهذه الأحزاب أن تصل للحكم وتسيطر لفترة، ولكن ما بعد الانتخابات سرعان ما سيصل المصريون للمفهوم الثاني للسياسة الذي يدور حول الحكم الصالح والإدارة المثلى لموارد الجماعة الوطنية، وعندها سيعاني البرلمان القادم رغم كونه منتخبا بنزاهة وحرية من عدم الشرعية السياسية كونه لا يعبر عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية للأغلبية، وهو ما قد يفتح الباب واسعا أمام استمرار الاضطراب السياسي في صورة الاضرابات والاعتصامات والتظاهرات المسماة بالفئوية حتى في ظل برلمان منتخب في صيغة أقرب للثورة منخفضة الحدة low intensity revolution.
واندلاع تظاهرات التحرير الأخيرة في 19 نوفمبر واشتباكات شارع محمد محمود بوسط البلد، وما واكبها من اضطرابات مشابهة في طول البلاد وعرضها من الإسكندرية ومطروح إلى مدن القناة والمنصورة وطنطا بالدلتا وقنا والمنيا وأسيوط وأسوان والأقصر بالصعيد، وقدر الإحباط والغضب الذي عبر عنه مئات الآلاف مرة أخرى في مواجهة المجلس العسكري، والحشود الضخمة حتى في ظل غياب مشاركة فعالة من قبل الإخوان المسلمين، هذه كلها مع توقيت حدوثها السابق على الانتخابات بعدة أيام يظهر كيف تنظر الكتلة الحرجة النشطة سياسيا في الاحتجاج الجماعي إلى عملية نقل السلطة، وعدم العناية بها باعتبارها محلا للتوافق بين نخب منفصلة عن جماهير تسيست أثناء وبعد الثورة، ولا تجد من وما يعبر عنها في المجال السياسي التالي على سقوط السلطوية. إن هذه الجماهير المنطلقة من عقال العمل السياسي المنظم ما هي إلا نذير باستمرار الاضطراب مستقبلا حتى في ظل حكومات منتخبة ولكن للعجب فاقدة الشرعية!