قدم المشهد العاصف لمواجهات الأمن المركزي مع ألتراس أهلاوي في شوارع مدينة نصر عقب إحدى مباريات النادي الأهلي في مسابقة كأس مصر لكرة القدم في شهر سبتمبر الماضي وما تلاه من تجدد نفس المشهد (مع إنضمام ألتراس نادي الزمالك إلى الصورة) أثناء الإشتباكات الدموية بين الثوار (وقد صارت جماعات الألتراس أحد أهم فصائلهم وأكثرها نضالية) وقوات الأمن الشرطية والعسكرية في معارك شارع محمد محمود في نوفمبر الماضي، ثم في معارك فض الإعتصام أمام مقر مجلس الوزراء في ديسمبر الذي تلاه، قدم هذا المشهد المتجدد مادة جديدة للتحليلات السياسية حول أزمة وزارة الداخلية في أعقاب ثورة 25 يناير ولكن يبقي الأكثر اهمية في رأيي هو المسكوت عنه تحليليا في هذا المشهد. فما رأيته هو تطور بدا لي طبيعيا لصراع محتم بين طائفتين وجدتا نفسيهما في خطوط القتال الأولي بين نموذجي حياة: الضبط الإجتماعي وسياسات الكآبة والتحكم وتطبيع البلادة في مقابل بهجة الإيقاع وتحرير المزاج من أغلال السائد الإجتماعي والمؤسسي في فوضوية محببة تكسر المألوف وتكفر بالشاهد وتخترق آفاق الغائب وهو ما أسميه بسياسات الفنفنة أو Politics of fun.
هذا الصراع بين إيقاعي حياة احدهما بليد لدرجة غفلته عن هشاشته وجموده وإندثاره التدريجي والثاني شاب وصاخب لدرجة غفلته عن الآفاق الثورية الكاملة لمجمل حركته. هذا الصراع في رأيي يقع في قلب المسرح المصري المجتمعي العاصف عقب ثورة يناير ومن المفيد تجذيره وإطلاق العنان لجدلياته بدلا من القلق الخائب حول الخسائر المحتملة لمثل هذا الصراع ولعل الفوضوية الكامنة في الظاهرة الألتراسية تؤدي دورا إضافيا لصالح تنبيه الجمهور العريض من الطبقات الوسطى المصرية المتعلقة بخرافات الإستقرار بأن عصر هذا الإستقرار قد ولى ولن يعود شاءت الخرافات أم أبت.
ويحلو للبعض التذكير دوما أن الألتراس هي في التحليل الأخير مجموعة لا تمارس السياسة فمن ثم مردودها السياسي يبقي محدودا وبالتالي لا تستحق الظاهرة بأكملها النظر أو الإهتمام. ورداً على هذه الملحوظة المتذاكية من المفيد أن نسترجع النقاط التالية:
1- عندما إندلعت ثورة يناير إكتشف المراقبون أن الجماعة المنظمة الوحيدة في مصر التي تمتلك الخبرة القتالية في التعامل مع الأمن المركزي والتراث النضالي في التعاطي مع قوة وزارة الداخلية من مواقع عديدة تتراوح بين الدفاع والهجوم وبإستراتيجيات متباينة بين تقليل الخسائر والمقاومة النشطة والإشتباك الهجومي لم تكن الإخوان أو 6 أبريل أو الجمعية الوطنية للتغيير بل كانوا الألتراس مشجعي كرة القدم. لا تنبع أهمية هذه الحقيقة من كون الألتراس لعبوا بالفعل أدوارا بارزة في معارك كوبري قصر النيل وشارع رمسيس وموقعة الجمل أثناء الثورة فحسب. أدوار كان لها تأثير لوجستي وميداني حاسم، بل الأهمية الأكبر في تقديري تنبع من مركزية النضال ضد وزارة الداخلية (كجهاز قامع للحريات من جهة وضابط للتناقضات الإجتماعية في مجتمع متهالك من جهة أخرى) في سردية ثورة يناير، وهي سردية تبقي ذات نهايات مفتوحة بقدر بقاء مسار المواجهة مع الداخلية مفتوحا وهنا تصبح مواجهات الألتراس المستمرة مع الداخلية فعلا ثوريا بإمتياز حتي ولو كان غير واعيا.
2- ثورة يناير كانت في جوهرها إنقلاب إيقاع متحرك ومغامر على هيمنة إيقاع جامد وبليد. نعم، بالتأكيد فشل السياسات الإقتصادية للنظام وسخط الشعب على قمع الداخلية كانا السببين الأبرز وراء الإنفجار الشعبي على مستوى التحليل السياسي ولكن إستلزم الأمر روحاً جسورة مغامرة متحدية للمألوف ومتعدية للسائد لترجمة الإحساس بإنسداد آفاق المستقبل نتيجة لبلادة الحاضر إلى فعل جماعي شعبي إحتجاجي. كسر الإعتيادية في التعامل مع المكان والزمان والمجال العام كان ضروريا وحاسما وجاء بدوره نتيجة لحراك مجتمعي كانت ظاهرة الألتراس أحد تعبيراته المهمة والدرامية. كان قيام الثورة فعلا جسورا ضد الرتابة وإستمرار الثورة هو تجذير لإيقاع المغامرة والتحدي وهنا تبدو الدلالة الثقافية الأوسع للألتراس وأهمية وضعها موضع التحليل.
ومن الممكن تحليل ظاهرة الألتراس على مسارين: مسار تطور تقاليد التشجيع الرياضي والكروي في مصر ومسار ثقافة الشباب والتحولات المزاجية والنفسية والسلوكية التي صاحبت متغيراتها أثناء العقد الفائت.
كان التشجيع الكروي في مصر في الثمانينيات والتسعينيات يغلب عليه التنميط والبساطة والبدائية. فالمشجعون الذاهبون إلى الملاعب الكروية لتشجيع فرقهم كانوا، إما من المشجعين المحترفين الذي يتصف أدائهم بالتبعية للكيان الإداري للنادي أو الإرتباط بشخص النجوم البارزة في المجال الكروي ومن ثم خضوعهم للتوجيه المباشر والغير المباشر ناهيك عن التمويل المادي لمراكز السلطة داخل المنظومة الكروية، أو من النمط الآخر وهو نمط الموظفين الذين يتوجهون إلى الإستاذ ظهرا بعد الإنتهاء من أعمالهم أو في يوم الجمعة طمعا في ساعتين من النزهة ولعل الصورة الأيقونية الأبرز لهذه المرحلة كانت منظر الجماهير المصرية في مباراة مصر والجزائر الشهيرة سنة 1989 التي ما إنفك التلفزيون يذيعها و يطالعنا بمنظر الجماهير التي توزعت بين هذين النمطين الأساسين.
لكن الملمح الأهم للتشجيع الكروي في تلك المرحلة هو التعامل مع كرة القدم في مادتها الخام بشكل مجرد عن أي محمولات قيمية أو نفسية أخرى، وبشكل منفصل عن أي منظومة شعورية أو إجتماعية أو تنظيمية أو مزاجية أوسع فضلا عن أن تكون منظومة متحدية للسائد والمحافظ وكان هذا متناغما مع سيطرة إعلام الدولة التربوي الطابع والسكوني الأداء على الإعلام الرياضي وضيق حركة التعاملات المادية في سوق البيزنس الرياضي.
كانت عولمة كرة القدم في نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة إيذانا بولادة عصر جديد لكرة القدم كمجال جماهيري في مصر، عصر إتصف بتدويل النشاط الكروي وإنشاء كوزموبوليتانية كروية واسعة من أنماط وقيم التشجيع ومزاجات الإستهلاك الكروي، تدويل أنتجته ثورة الإتصالات والمعلومات التي وفرت مادة جديدة من الرموز والقيم والحركيات والشفرات الثقافية الكروية القابلة للإستعارة والإقتباس والتوليف. وصاحب هذا نمو سوقي واسع لبيزنس الكرة في مصر كمجال فوار يوفر ربحية عالية وفرصا لغسيل الأموال والدعاية وتداول الموارد المالية والإدارية في مجالات الإعلام والإدارة الرياضية وبحكم حقائق الأشياء كان محتما أن يعتمد هذا السوق البازغ على الشباب كجمهور مستهلكين وكعناصر عاملة تمتلك لغات وأدوات العصر الكروي العولمي الجديد وفي خضم هذه العملية برزت الألتراس إلى الوجود.
والألتراس هي الطبعة الثانية لمحاولات تطوير نشاط التشجيع في مصر والتي بدأت مع ظهور روابط مشجعي الأندية مع أوائل الألفية الجديدة وبرغم النجاح السريع لهذه الروابط إلا أنه لم يكتب لها الإستمرار لأسباب تبدو الآن مفهومة. فالهم الوحيد لهذه الروابط كان تطوير الشكل التنظيمي بعيدا عن أي إعتبارات أخرى فضلا عن عدم نجاة هذه الروابط من فخ التبعية لقيادات الأندية وبروز مصالح ضيقة مرتبطة بأنشطة ما ربحية وغير ربحية لهذه الروابط خارج نطاق ملاعب كرة القدم.
وكان ظهور الألتراس، على أنقاض هذه الروابط، مع إنتصاف عقد الألفية في 2005 هو التطور الطبيعي لعملية تثوير التشجيع الكروي في مصر التي كانت تتجذر جنبا إلى جنب مع عمليات حراك مقاربة كانت تحدث في المجالين السياسي والإجتماعي.
والألتراس ببساطة هي نموذج للتشجيع الكروي ظهر بالأساس في أمريكا اللاتينية ودول حوض البحر المتوسط الأوروبية: إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال ودول البلقان. وكانت بداية إستنباته في العالم العربي في تونس، بحكم الجوار الجغرافي والثقافي، ثم تمت ولادته في مصر سريعا بعد ذلك وكانت البداية مع الأندية المصرية الكبرى. ألتراس أهلاوي وألتراس وايت نايتس لمشجعي الزمالك وألتراس البلو دراجونز لمشجعي الإسماعيلي وإمتدت الحركة لاحقا، لتظهر روابط ألتراس بين مشجعي أندية إقليمية أصغر مثل المصري البورسعيدي والإتحاد السكندري وغيرهما.
وعمل الألتراس من البداية على التميز في نشاطهم التشجيعي بالحماس الدافق في إيقاع التشجيع والإنتماء المجرد لكيان النادي والعداء الشديد لكل الكيانات المنافسة. ولعل الملمحين الأبرز في أداء الألتراس التشجيعي والقادرين على لفت إنتباه المتابع، وخصوصا في مراحلهم الأولى، هي التجديد في بانرات ولافتات التشجيع وهو مايعرف بالدخلة بشكل فيه جماليات ملفتة و إبهار على المستوى البصري بالإضافة إلى الأداء الزاعق للتشجيع والذي يغرق في السباب والعنف اللفظي والرمزي، لكن الدلالات الثورية الأبعد للظاهرة الألتراسية، لم تبدأ في التبلور إلا مع سنة 2007 عندما بدأ مسلسل المواجهات مع أجهزة الأمن في الملاعب والشوارع وإزدياد حدة العنف الرمزي والمادي في التعامل بين ألتراسات الأندية المختلفة. بالإضافة إلى إزدياد حجم الألتراس وتضخمه و تنوعه على المستوى الطبقي والجيلي والإجتماعي.
ومفتاح فهم الألتراسية هو: تصور الألتراس عنها بأنها أسلوب حياة ونمط تذوق وإيقاع مزاجي معين يمارسه هؤلاء الشباب عبر نشاطهم التشجيعي، ومن ثم فكرة القدم أو بالأحرى تشجيع كرة القدم تصبح عملية رمزية تحيل إلى أنساق أكبر متعلقة بالبهجة والتحقيق الذاتي كغايات متجددة والتعبير الذاتي كوسائل وأدوات تهدف إلى تحقيق هذه الغاية.
وبالتالي فهي، أي الألتراسية، ليست منفذا لتنفيس كبت سيكولوجي معين ولا هي مخرجا للهروب من إحباطات الواقع ولا إنتمائاته، كما تتصور التحليلات الكليشيهاتية. بل إنها ببساطة مجال تواصلي وتعبيري يخلقه هؤلاء الشباب كنوع من أنواع الفنفنة. لكن ممارسة النشاط داخل هذا المجال تجعله في موقع تضاد مع السياقات الإجتماعية والنفسية والثقافية الأوسع التي لا تقدر على التكيف مع هذه النشاطات بحكم تمردها وتحديها للسائد وإعلائها مفهوم للبهجة. هذا المفهوم للبهجة من الضروري أن يكون صداميا وإحتجاجيا. ويغلب على الألتراسية:
1- الديناميكية
فتشجيع الفريق هو عملية دائبة من الحركة المستمرة لتحفيز الفريق في الملعب وتمجيد إنجازاته والدفاع عنه ضد خصومه. المحرك الدائم لها هو شفرة عاطفية شديدة الغموض تربط الألتراسي بحب فريقه كفكرة مجردة لا تتحقق عبر أشكال مادية واضحة أو غايات ثابتة، يرتاح ببلوغها النشاط أو تقل حمولته. فالفوز بالبطولات أو خسارتها لا يعني أي شئ بالنسبة للنشاط الألتراسي. فتشبع الأهلي مثلا بالبطولات لم يقلل من وتيرة ديناميكية ألتراس أهلاوي والتي تبدو وكانها لا تشبع أبدا. بينما مخاصمة الزمالك للبطولات عبر فترة طويلة نسبيا لم تقلل من وتيرة ديناميكية ألتراس وايت نايتس والتي تبدو وكانها لا تحبط أبدا.
2- الحركية
التنظيم هنا هو مفصل الظاهرة الألتراسية والتنظيم في التحليل الأخير هو ضرورة عملية من أجل زيادة كفاءة عمليات التشجيع وتحرك المشجعين وراء الفريق عبر المدن والملاعب المختلفة ومايستلزمه هذا من موارد مالية وأدوات ووسائل. لكن، وعلى المستوى المعنوي، فالتنظيم هو جوهر الفكرة الألتراسية عبر خلق الجماعة البديلة والتي إنطلقت من الجماعات الإفتراضية للمنتديات الكروية على الإنترنت (وهي المدخل الكلاسيكي لأغلب عناصر الألتراس الجديدة لولوج هذا العالم) إلى الكيانات التنظيمية المتعينة في عالم الواقع والتي تتمدد لتشكل وطنا بديلا، وطنا بديلا ليس بمعنى إنتماء وطني مغاير ولكن بمعنى إيجاد مجال خاص/عام جديد تنطلق فيه وعبره الطاقات التعبيرية الوثابة لهؤلاء الشباب المستوعبين، في غير لحظات النشاط الألتراسي، داخل الأطر البليدة للمؤسسات التعليمية والإقتصادية والأسرية والإدارية بكل رتابتها وقباحاتها. والتنظيم الألتراسي يعتز جدا بهويته المميزة لكنه يعطي حرية الحركة على المستوي القاعدي لأعضائه فيما لا يتعارض مع هوية الألتراس. ويشمل هذا النشاط السياسي بطبيعة الحال ففي يوم 25 يناير لم تنزل الألتراس بصفتها التنظيمية إلى الشوارع لكنها تركت الحرية لأفرادها أن ينزلوا بصفتهم الفردية وعندما بدا واضحا أنها ثورة ستشهد مواجهات واسعة مع قوات الأمن كان قرار الألتراس بالنزول بشكل جماعي وبشماريخهم وأدواتهم يوم جمعة الغضب.
3- الإيجابية
يأخذ النشاط الألتراسي المبادرة دائما وهو يبتغي الإنجاز الذي يمكن ترجمته في حالة النشاط التشجيعي إلى فكرة التفوق على ألتراس الأندية الأخرى أولا وإستعراض هذا التفوق ثانيا ومن هنا مفهوم الكورتيج وهو تعبير مقتبس من مصطلحات حروب الشوارع بين عصابات الشوارع في مدن كولومبيا والبرازيل والأرجنتين. ويعني الخروج في مظاهرات لإستعراض القوة في مناطق نفوذ الخصم بعيدا عن الملاعب وهي مثلا منطقة الجزيرة بالنسبة للأهلي وشارع جامعة الدول العربية بالنسبة للزمالك والعنف هنا محتمل ووارد بطبيعة الحال. ولعل البعض يتذكر يوم تبادل الكورتيجات الأهلاوية والزملكاوية العام الماضي بين الجزيرة والمهندسين والمفارقة التاريخية أن نفس اليوم قد تزامن مع وقفة إحتجاجية فاشلة للنشطاء السياسيين في ميدان عابدين على الطريقة العرابية. بينما كانت قوات الأمن المركزي تحاصر الوقفة الإحتجاجية السياسية الهزيلة وتجهضها كانت الألتراس تمارس إستعراض تبادل العنف وإمتلاك الشوارع في غيبة رجال الشرطة ولم تمر عدة شهور قبل أن ينضم فرقاء الألتراس بثقافتهم القتالية والنضالية في إمتلاك الشوارع إلى النشطاء ليوجهوا ضربة قاصمة لقوات الأمن المركزي في جمعة الغضب الشهيرة يوم 28 يناير.
4-رفض الوصاية الأبوية والتقليدية
الألتراسية هي نمذجة لنفسية رافضة ترفض وصاية قيادات الأندية في تحديد ما يتبع ومالا يتبع. فشباب الألتراس ليسوا فقط عاشقين للنادي بل هم أيضا أحد بصيرة وأكثر وعيا وتجردا فيما يتعلق بمصلحة الفريق ولعل قيام الألتراس بالإنتقاد المستمر للخلل في سياسات مجالس إدارات أنديتهم، فيما يتعلق بالتعاقدات مع اللاعبين والمدربين وإدارة شؤون الفريق، هو تطور تاريخي لافت في حالة الأهلي تحديدا. والأهلي مؤسسة قائمة بالكامل على مبدأ الأبوية والنخبوية في صناعة القرار. والذات الأتراسية المتمردة ترفض أيضا المعايير الأخلاقية الطهرانية حول "الشتائم البذيئة" وظهور البنات في المدرجات وانماط الملبس والسلوك التي خالفت المألوف. ولعله من المهم التذكر أن الإنتقادات الإعلامية الموجهة ضد الألتراس لا تركز فقط حول ميلهم للعنف ولكن أيضا حول إتهامهم بالإنحراف الأخلاقي والسلوكي وهو إتهام بلغ أقصى درجاته إنحطاطا عند الإعلامي الرياضي الأبرز أحمد شوبير عندما إتهمهم بالإلحاد والشيوعية وتشجيع الإباحية الجنسية والأخلاقية.
5- الجماعية
بالرغم من شهرة الألتراس وأدوارهم الهامة أثناء الثورة إلا أنه ليس هناك أي تواجد إعلامي لأي من قيادات الألتراس. وتبدو هذه القيادات شخصيات مجهولة لمن هو خارج الألتراس أو ليس على مباشرة بالتشجيع الكروي. وهذه، على الأرجح، سياسة معتمدة للألتراس ويمكن تفسيرها بالرغبة في إعلاء فكرة جماعية الكيان (ضد ميل الإعلام الجماهيري التقليدي لصناعة النجوم وإستهلاكها والتعامل دائما مع تمثيلات للظواهر) والتحسب مما تحمله الشهرة من حسابات وإعتبارات والرفض الحاسم للتواجد الإعلامي وخصوصا في ضوء التحيزات المسبقة لهذا الإعلام. والسرية هنا ليست سرية المحافل الماسونية كما تتصورها بعض التغطيات الإعلامية الإثارية الرخيصة بل هي أقرب إلى الخصوصية التحررية التي تضع حدودا حول ذواتها تسيجها ضد محاولات الإبتذال الإعلامي.
6- المفاصلة والتمرد
الألتراسية تعرف نفسها أيضا بالتضاد. التضاد مع المنافسين الرياضيين كفرق وكإدارات وكألتراس بطبيعة الحال هو المجال الأبرز للمفاصلة هنا لكنه ليس المجال الوحيد فهناك المفاصلة مع الإعلام الرياضي المغرق في الإنحطاط و التقادم والأبوية لدرجة التحيز الدائم ضدهم بشكل عدائي. ناهيك عن عدم توفر أي نية أو رغبة عنده في الفهم أو الإستيعاب فضلا عن حساسيته المفرطة ضد من يخرج عن أرثوذكسية سوق القيم والمنتجات والأفكار. وهناك أيضا المفاصلة مع وزارة الداخلية وهي في التحليل الأخير -بعيدا عن الكلام في أدائها السياسي والذي لا يغيب عن أذهان الكثير من الألتراس بطبيعة الحال- هي كيان منظم يبذل أقصى ما يستطيع بمنتهي الفجاجة والقسوة التي تجمع بين الوحشية القمعية والوصاية الأبوية لمنع الألتراس من لحظات بهجتهم بدون سبب مقنع. وقصة الداخلية مع مشجعي كرة القدم قديمة وفحواها يتلخص في الشكوى الدائمة للجمهور من المعاملة اللاآدمية التي تعاملهم بها أجهزة الأمن المكلفة بتأمين المباريات والإستادات.
لكن ومع بزوغ فجر الألتراس أصبحت المواجهة صراعية ويركز البعض على تعنت بعض قيادات الداخلية و بالأخص إسماعيل الشاعر مدير أمن القاهرة الأسبق وصاحب المقولة الشهيرة: "اللي حيرمي شمروخ حشمرخه" مما أضفى بعدا شخصيا على خصومة الداخلية مع الألتراس. لكن أعتقد أن هذا إختزال مخل فالداخلية بطبيعة تكوينها وعقليتها وعقيدتها الأمنية العسكرية لم تتقبل فكرة وجود تنظيم يضم عدة آلاف قادر على تعبئة وحشد الشباب بشكل مستقل عن أي سلطة أو توجيه. ومما زاد الطين بلة عند قيادات لاظوغلي هو ميل الألتراس نحو العنف والحدة الرمزية والمادية داخل وخارج الملعب.
وكان إصرار الألتراس على الإستمرار في أساليبهم برغم القمع المتزايد الذي وصل لدرجة السجن والإعتقال من المنازل والتضييق المفرط في التفتيش الذاتي أثناء دخول الإستادات- (بتحريض مباشر من الإعلام ) كان هذا الإصرار يبدو مستفزا للداخلية وسلطاتها المطلقة. وهنا إكتسبت الأفعال رمزية مغايرة فصارت البانر الحادة الألفاظ أشبه بالمنشور السياسي. وصار الشمروخ أشبه بالقنبلة أو الرصاصة في قلب هيبة الداخلية ولهذا صار الصراع محتما و قد راكم الصراع درجات عالية من العنف لم تعد مرتبطة بظرفية معينة، فنجد أن الإشتباكات تندلع في مباريات ودية ليست لها قيمة داخل إستاد التيتش مثلا. وبلغ الكريشندو أقصاه أثناء معارك ثورة يناير.
وفي أعقاب إنهيار الداخلية بعد التنحي كان الألتراس، وهذا يبدو مفهوما، هم أقل الفئات إستجابة للمطلب الإعلامي بفتح صفحة جديدة مع الداخلية، بل على النقيض قامت ألتراس أهلاوي وألتراس وايت نايتس بتأليف الأغاني والأهازيج التي تحمل سخرية واضحة من الداخلية وتركز على معنيين:
1- هزيمة الألتراس للداخلية ميدانيا بشكل ساحق ومذل.
2- السخرية من مؤسسة الداخلية نفسها عبر التشهير بمستويات الضباط التعليمية والعلمية الضحلة وفساد الإدارة داخل المؤسسة وضيق الأفق وإنحطاط الفكر.
التركيز المتواصل على التغني المستمر بهذه الأغاني والهتافات في كل مباراة على مسمع و مرأى من قيادات الداخلية والأمن المركزي لهو أعلى درجات التحدي الساخر والإهانة الرمزية التي تلقتها الداخلية المصرية عبر تاريخ الجمهورية المصرية.
وفي هذا السياق فإنفجار الأمن المركزي في وجه ألتراس أهلاوي عقب مباراة الأهلي وكيما أسوان يبدو مفهوما تماما والمجال مرشح لمزيد من التصعيد على الجانبين. فالداخلية، وفي خضم أزمتها بعد ثورة يناير، لا تستطيع ان تتجنب النزعات الثأرية. أما الألتراس فلا بديل أمامهم إلا الإستمرار. فهي معركة وجودية وخصوصا في ظل عدم إكتراث إدارة النادي بهم وتحيز المنابر الإعلامية ضدهم. وسوف يزداد الوضع سخونة إذا ما صحت التسريبات عن نية الحكومة التحكم في عدد ونوعية جمهور مباريات الكرة القادمة، وهو مايعني عمليا منع الألتراس من دخول الملاعب.
لكن السؤال المستقبلي الأهم للألتراس، في تصوري، هو عن إمكانية تطور إستراتيجياتها وآلياتها النضالية لتلعب أدوارا سياسية وإجتماعية مباشرة في المجال السياسي الجديد، الذي يتم تأسيسه عقب ثورة يناير ويستدعي هذا العديد من المقارنات مع أوضاع الألتراس في دول عديدة مثل الأرجنتين وصربيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، حيث تمت أدلجة بعض تشكيلات الألتراس وتسييسها بشكل مباشر في معارك السياسات الطبقية والهوياتية بين الجماعات القومية والعرقية والقوى السياسية الطبقية المختلفة داخل هذه المجتمعات. ومن اللافت للنظر ان هذا التسييس كان متعدد المشارب والإتجاهات، ففي بعض الحالات قام إستغلال منطق التعريف بالتضاد والحشد على أساس مفهوم القبيلة لدعم سياسات فاشية وعرقية وقومية الطابع إلى أقصى اليمين. بينما في حالات تسييسية أخرى كان الطابع الشعبي للألتراس يجعلهم أقرب إلى التنظيمات الجماهيرية المعبرة عن وعي ومصالح الطبقة العاملة ومن ثم فكان تسييسها يمثل رافعة إضافية لصالح قوى اليسار.
ولعل هذا التباين في التوظيف السياسي يرجع إلي الطبيعة المركبة للألتراس كحركة ثقافية وإجتماعية لها خصائص سلوكية ونفسية مميزة ومتعددة. وبالنسبة للحالة المصرية فإن سؤال التسييس مرتبط بالضرورة بشكل وبنية المجال السياسي الديمقراطي الجديد بعد ثورة يناير وخريطة تجاذباته الإجتماعية وتدافعاته السياسية. ومن ثم فأحد الأسئلة المستقبلية المهمة هو عن موقع الألتراس داخل هذه الخريطة السياسية ومدى إستعدادهم وقدرتهم على الموائمة بين إيقاعاتهم ومزاجاتهم النفسية المميزة مع إنحيازات إجتماعية وسياسية معينة.
كما ذكرنا فهذا سؤال للمستقبل لكن تبقي الدلالة الأهم للألتراس في اللحظة المجتمعية والسياسية الراهنة هي وجود ظهير شعبي لممارسة مجتمعية وسياسية متباينة المجالات (تمتد من الألتراس الكروي لتشمل الجرافيتي وفنون وثقافة الشارع وغيرها) تقوم على البهجة كهدف والتعبير الذاتي كغاية وكسر الرتابة وتحدي القيود كأسلوب.
ويبقى منظر الألتراسي المبتهج الصغير وهو يشعل شمروخه و يردد نشيد ”يا غراب معشش ومش ناسيين التحرير“ أحد مصادر الإلهام في مجتمع يصبح ويمسي على رتابة اللابهجة وإكسسوارات الأمان في حضن صاحب الجلالة المحترم المألوف.