تمر الساحة السياسية المصرية الآن بصدمة ما بعد الانتخابات، التي تتجلى في أشكال عدة وتفرض نفسها على كافة المستويات. فلأسباب لازلنا نجهلها شعر غالبية الناس بصدمة شديدة بسبب ما حدث من تزوير، وذلك على الرغم من ترقبهم مقدما لانتخابات مزورة بشكل غير مسبوق. فلم تزد نسبة الذين تطلعوا إلى انتخابات نزيهة عن ٥٪ في كافة استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات، لكننا رأينا كيف شاعت مقولات من نوع <<شفت اللي حصل>> في كل مكان لتعكس رد فعل مصدوم من تكرار نفس التزوير الذي ظل ينظم حياتنا السياسية على مدار ثلاثة عقود. وفرضت هذه الصدمة نفسها على المثقفين أيضا، فأنهكتهم في تحليل ما حدث من تزوير، وإذا بهم يتبارون في إعلان زوال شرعية النظام، ويختلفون حول تحديد سبل التعاطي مع الوضع الناتج عن هذا التزوير--على الرغم من أنهم كانوا يتجاهلون تماما مثل هذا التزوير في الماضي. فلم يحدث من قبل أن أفتى المثقفون بزوال شرعية النظام بسبب تزويره الانتخابات، على سبيل المثال. مصر إذن مصدومة الآن من عمليه تزوير هي من ناحية <<غير مسبوقة>> ومن ناحية أخرى متوقعة جدا أو <<عادية>>. وبهذه الطريقة أصبح <<أنا مذهول من حدوث ما لا أستغربه>> هو السلوك الناظم لردود الأفعال على الانتخابات. بمعنى آخر، الجديد في هذه الحالة ليس التزوير وإنما هو رد الفعل المصدوم تجاهه الذي يعكس أننا لم نعد نقبل ما كنا نقبله بالأمس القريب، وإن كنا على يقين من حدوثه مقدما. وهذا يكشف بدوره تغيرا سلوكيا مهما حدث في الأعوام الخمسة الماضية.
وعلى الرغم من أننا لازلنا نجهل أسباب هذا التغير، إلا أنه ما كان ليتجلى بهذه القوة لو لم تشارك المعارضة المستقلة بالانتخابات، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. فلم نكن لنجني واحدا على ألف من الثمار التي جنيناها لو كانت هذه القوى قاطعت الانتخابات كما طالبهم البعض في لحظة من لحظات التخبط التي تنتاب المعارضة أحيانا. كما لا يوجد أدنى شك في أن النظام عزز إحساسنا بالصدمة بغبائه الشديد وسوء تقديره لردود أفعال المعارضة. فبكل تأكيد فجعنا جميعا لرجوعنا إلى مرحلة الـ٩٩٪ بعد أن ظننا أنها ولت إلى غير رجعة. لكنها رجعت كما رأينا عندما قرر النظام لسبب أبله وغير معروف أن يزور برلمانا يكاد يخلو من من المعارضة بعد أن اعتدنا أن يترك ربعه تقريبا دون تزوير، وهو ما أثار حفيظة الجميع. بل يبدو أنه أثار حفيظة بعض مراكز القوى داخل النظام نفسه لدرجة أنها راحت تسارع بتزوير الانتخابات لحفنة من مرشحي المعارضة في جولة الإعادة للتغطية على الفضيحة التي خلقها النظام لنفسه ببلاهته. وأوصلهم ارتباكهم هذا إلى اختطاف أحد مرشحي الإخوان المنسحبين من الجولة الثانية وتهديده باعتقال زوجته ورفاقه ليقبل أن ينجحوه رغما عنه حتى لا يخلو البرلمان تماما من الإخوان، وكأن فوز الإخوان بمقعد يتيم يضفي شرعية على المسرحية الهزلية التي تابع العالم كله فصولها.
وبهذه الطريقة ساعد سوء تقديرنا لاحتقار النظام لكل من مصر والمصريين من جانب، وبلادته وفجوره الشديدين من جانب آخر، في تفاقم الشعور بالصدمة الذي نوهت إليه فيما تقدم. فحتى حدوث ما حدث لم يكن بيننا من يتوقع ما خرجت عليه الانتخابات من هزل. ويكفي احتفاء مانشيت الأهرام بفوز أحد أعضاء <<المحظورة>>، وتصويرها في صدر صفحتها الأولى لـ ٧٠ من أعضاء الحزب الحاكم على أنهم مستقلين للدلالة على فداحة هذا الهزل. كما يتجلى بشكل فاقع سوء تقديرنا لعبط النظام وقدرته على احتقارنا في متون نظريات المؤامرة التي سبقت الانتخابات، والتي دارت كلها، على اختلافها، حول تصوير نظام متآمر يبدع تقسيمة جديدة للبرلمان لكي يتمكن من خلق المعارضة التي تلبي احتياجاته في المرحلة القادمة، فإذا به يدير الانتخابات بأسلوب بائعي الفلايات في الأوتوبيسات العامة، مورطا بذلك نفسه في مقاعد أكثر بكثير مما أراد أو يتحمل. وهو ما أخرجه مهرولا من أقسام الشرطة ومكاتب <<أمن الدولة>> ليزور الانتخابات للمعارضة في مرحلة الإعادة، كما دفع منظريه العباقرة لإخفاء أعضائه تحت عباءة المستقلين حتى يتظاهر بوجود معارضة في برلمانه المزور. وبهذه الطريقة أصبح الحزب الحاكم يعارض نفسه بخلق معارضة <<كده وكده>> من نوع لم نره من قبل، حيث بدأ بالفعل في دراسة تشكيل حزب جديد من نوابه الذين خاضوا الانتخابات على أنهم مستقلين في سابقة هي الأولى من نوعها؛ أن يكلف الحزب الحاكم مجموعة من أعضائه بإنشاء حزب معارض له. المهم، خرجت تشكيلة البرلمان الجديد لتحبط كل التحليلات السابقة على الانتخابات، حتى نظريات المؤامرة التي ظلت تضفي على تزوير الانتخابات معان ذكية لأشهر عديدة--وهو ما عزز الشعور بالصدمة الذي ينتابنا الآن.
أعادت هذه الصدمة بدورها الروح لحديث المقاطعة بعد وفاته، وفتحت الباب أمام مجموعة من المحسوبين على معسكر المقاطعة ليزايدوا على كل من شارك في الانتخابات. فإذا بهؤلاء المزايدين يستقبلون أخبار التزوير والاعتقال بالشماتة في كل من شارك في الانتخابات، متمنين في ذلك أن يكون الله قد من عليهم بالبصيرة بعد أن <<تعلموا الدرس>> واتعظوا مما حدث--وهذا على أساس أن كل من وثق في هذه الانتخابات هو إما ساذج يتطلع ببلاهة لانتخابات نزيهة وشفافة، أو أفاق يشارك في <<تزوير إرادة الأمة>>، وفي كلتي الحالتين هو إنما يساهم في <<تطبيع انتخابات فاسدة>>. ولم يفت هؤلاء المزايدين أن يجمعوا في شماتتهم هذه بين كل من شارك في هذه الانتخابات، فأضحت جماعة الإخوان المسلمين التي خاضت معركة شرسة مع النظام--ومعها حزب الكرامة الذي حارب حتى النفس الأخير--شريكة للأحزاب التي دخلت الانتخابات رهانا منها على أن النظام سوف يزورها لها لكي يتخلص من الإخوان، مثل الوفد، والتجمع، ..إلخ. وكانت معظم التحليلات تؤكد أن الوفد سيحصل على ٣٠-٤٠ مقعدا، الأمر الذي كان سيجعل منه أكبر كتلة معارضة في البرلمان إذا ما تحقق، في حين تنبأت نفس هذه التحليلات بألا يتبقى للإخوان إلا فتات الفتات بعد أن تأكل أحزاب المعارضة الرسمية حصتها. وبغض النظر عن أن النظام لم يف بوعده لهذه الأحزاب المزورة، علينا أن نتذكر أنه لم يتبدى في أية لحظة سابقة على الانتخابات أن هذه الأحزاب تمانع اختلاس مقاعدها من حصة الإخوان. وعلى هذا الأساس تحمل المساواة بين من دخل الانتخابات ظنا منه أنها ستزور له ومن دخلها علما بأنها ستزور ضده قدرا كبيرا من الإغراض والمراهقة الفكرية التي كان يجب على أصحابها الترفع عنها.
ومن المهم أيضا أن نلاحظ أن هذا التعميم المغرض إنما يوظف نفس نوع التدليس الذي تعمد إليه الصحف الرسمية لتسويق الانتخابات بين قرائها، وإن كان يلبس لباس <<معارضة>>. ويرجع هذا التوافق بين المزايدين من معسكر المقاطعة وإعلام النظام الحاكم، على تعارض أهدافهما، إلى كون كلاهما من الظواهر السياسية غير المجذرة شعبيا. فالصحف القومية تخدم نظام معادي للشعب يعتمد بالأساس على البطش الأمني في حين ينتمي المزايدون لتيارات سياسية شديدة النخبوية تستمد وجودها من <<نضال الإنترنت>> و<<الفرقعات الإعلامية>> وتحركات جماهيرية محدودة في وسط القاهرة. في مقابل ذلك تمثل منظمات المعارضة المستقلة التي شاركت في الانتخابات المنظمات الأكثر تجذيرا في مصر.
وبهذه الطريقة بدأت الرطانات من نوعية <<مش قلنا من الأول>> و<<كان لازمته إيه كل ده>> تنتشر بسرعة في الساحة السياسية، يدفعها في ذلك تحالف لحظي غريب بين من يريدون تصفية حسابات محددة مع الإخوان، وآخرين يكرهون الإخوان أو الناصريين <<عمى>>، وغيرهم ممن جلسوا <<يمصمصون شفاههم>> بحسرة لتفرد التيارات المشاركة في الانتخابات بقيادة الساحة السياسية في الوقت الذي أفل فيه نجم المقاطعين، بالإضافة لمجموعة كبيرة من الشباب حسن النوايا. ودفعهم ظنهم بأن نتيجة العملية الانتخابية توفر لهم فرصة لإثبات نجاعة سياستهم (على تباين أهدافهم) لدمج كل معسكرات المعارضة المشاركة في سلة واحدة، المتواطئ منها والمناضل، على أساس أنهم كلهم شاركوا في الانتخابات.
وفي هذا الصدد، أحب أن أؤكد أنني لا أعارض الشماتة في معسكر المتواطئين من أحزاب المعارضة التي اشتركت في الانتخابات من أجل أن يزورها لها النظام (لكي يتخلص من الإخوان)، وأؤكد أيضا أنني شمت فيهم عندما خدعهم النظام. كما لن يفوتني أن أعلن احتقاري التام لحزب التجمع بشكل خاص لقبوله المشاركة في انتخابات الإعادة، وفي ذلك من السقوط ما يمحو كل ما كان للحزب من تاريخ نضالي في أوقات سابقة. لكنني أعترض بشدة على الشماتة في معسكر مناضل ومجذر دخل هذه الانتخابات ليشتبك بقوة مع النظام، وهو المعسكر الذي يتكون من الإخوان المسلمين وحزب الكرامة وعدد من المرشحين المستقلين من أمثال جمال زهران، وكلهم أسقطوا في الانتخابات. والدفع بأقوال من نوع <<ما قلنا من الأول>> ضدهم يفترض أنهم كانوا يراهنون على انتخابات نزيهة، وهو دفع ساذج في أفضل الأحوال يتجاهل مواقف هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية، ليس فقط المعلن منها بل القائم منها على الأرض أيضا. فالإخوان وأمثالهم من المستقلين دخلوا هذه الانتخابات وهم يعلمون علم اليقين أنها ستزور ضدهم، بمعنى آخر، هم يتفقون تماما مع كل تحليلات معسكر المقاطعة في هذا الشأن، لكنهم يختلفون معهم في أسلوب التعامل مع هذا التزوير--هل نواجهه بالجلوس في المنزل أم نعمل على فضحه على الملأ في أثناء حدوثه، وهو ما يتطلب الاشتراك فيه لإبطاله؟ ولا يمكن إلا لجاحد أو ساذج أن ينكر أن إصرارهم على المشاركة بدلا من جلوسهم في منازلهم (في مصر كان ذلك أم في البرازيل) هو الذي أجج شراسة المعركة وأدر فوائد كبيرة على المجتمع السياسي كله. ولدينا بالفعل عشرات المؤشرات على حجم وفوائد المعركة التي خاضوها لم تكن أبدا لتتأتى بالمقاطعة، منها ما اعتدناه في مثل هذه الأحوال ومنها ما لم نره من قبل.
بداية، تتجلى شراسة ومكاسب هذه المعركة في الفترة السابقة للانتخابات في توريط النظام في اعتقال ما يقرب من ٣٠٠٠ ناشط في أثناء الأسابيع القليلة السابقة للانتخابات، وانتشار أخبار اعتقالهم في الإعلام، وما عناه ذلك من تجريس واسع النطاق. وانطوت هذه الاعتقالات على رفع مستوى التكدير المعتاد في مثل هذه الحالات (أسبوع الاعتقال الذي عهدناه في الماضي) إلي حد تلفيق قضايا مخدرات والحكم على العشرات بالحبس لمدد تتراوح بين عامين أو ثلاثة لاستخدامهم شعارات دينية لم يستخدموها (كانت مباحث أمن الدولة هي التي تعلق اللافتات الدينية التي تحمل اسم الاخوان وكان شباب الإخوان يسارعون بتمزيقها لتفويت هذه الفرصة عليهم)، وهو ما يعكس خوف النظام من سياسات المشاركين في الانتخابات على الأرض. كما طالت هذه الاعتقالات كل التيارات السياسية، وإن دفعت جماعة الإخوان المسلمين الجزء الأكبر من فاتورتها، وهو ما يكشف اتساع رقعة النضال ضد النظام ورد فعله الهيستيري بسبب مشاركة المعارضة المستقلة والقادرة جماهيريا في هذه الانتخابات (المعتقلين على خلفية الانتخابات من الإسلاميين، والقوميين، واليسار، والليبراليين). تضاف إلى ذلك عشرات المظاهرات والمؤتمرات السياسية الحاشدة التي قامت بها هذه المعارضة في الأسابيع الثلاثة السابقة للانتخابات في كل أنحاء مصر، والتي أجبرت الأمن بشكل مستمر على منعها بالقوة على مرأى ومسمع من الجميع بما في ذلك الإعلام. مثل هذا المستوى من التدخل والاستنفار الأمني لم يحدث في مصر في الخمسة أعوام السابقة من حيث النوع والكم إلا في ملحمة القضاة وإضراب المحلة، ولم يكن ليحدث أبدا في حالة المقاطعة لأنها لا تضر النظام في شيء حقيقي، اللهم إلا سبه على <<التويتر>> وسلالم نقابة الصحافيين (وأنا لا أسخر من هذه الآليات، لكن التنظير لضرورة التضحية بتحركات واسعة في كل عموم مصر من أجلها هو ما أرفضه هنا).
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دفعت مشاركة هذه القوى في الانتخابات النظام لغلق ٢٥ قناة تليفزيونية في الشهر السابق للانتخابات، وطرد إبراهيم عيسى من أون تي في، وإيقاف قناة أوربيت لمنع عمرو أديب من الحديث في هذه الفترة (يعني حتى عمرو أديب لم يسلم من هذه الهيستيريا)، ثم خطف جريدة الدستور، ثم وقف الرسائل التليفونية المجمعة طوال فترة الدعاية الانتخابية، وغير ذلك من مظاهر تعزيز الاستبداد الإعلامي بشكل كاسح وطارئ. ونتج عن هذه البوتقة غير المسبوقة من التدخلات المستبدة في الإعلام والقمعية على الأرض تجريسا كبيرا تناقلته كافة وكالات الأنباء والصحف في مصر والخارج على مدار الأسابيع السابقة للانتخابات، كما أثار حفيظة كل المصريين تقريبا. وهو ما يعني أن النظام دخل الانتخابات وهو بالفعل مجرس بشدة ومنعدم الشرعية مقدما، حتى في حدود نطاق شرعيته المستندة للاستبداد. وينطبق على هذه التدخلات ما قلته فيما سبق من أن النظام لم يكن ليحتاج اللجوء لارتكاب أيا من هذه الفضائح في حالة المقاطعة. ففي النهاية كانت المشاركة هي التي دفعت النظام للقيام بهذه الأفعال الفاضحة في الأماكن العامة بشكل لم نره في مصر من قبل، وهذا بدوره جرسه بشكل شبه تام ورفع عن برلمانه الشرعية؛ بالضبط ما كان يهدف إليه معسكر المقاطعة من مقاطعة الانتخابات.
ولم يكتف النظام بذلك، بل أرسل وفدا رسميا إلى الولايات المتحدة منذ شهرين تقريبا للتفاوض مع شركة <<فيس بوك>> على حجب صفحات المعارضة المصرية من على موقعها. والغريب في ذلك أن تدخله هذا نجح بالفعل في إقناع الشركة بغلق عشرات الصفحات من بينها صفحة <<كلنا خالد سعيد>> (وبها ٣٠٠ ألف مشترك) وصفحة <<البرادعي>> (وبها ٢٩٠ ألف مشترك) وصفحة <<وحدة الرصد الميداني>> التي أنشئت خصيصا لمتابعة الانتخابات (وبها ٤٠ ألف مشترك). وأتى هذا الحجب بعد أسبوع من استضافة تلفزيون النظام لخبراء في أحد برامجه الإخبارية انتهوا جميعا إلى النداء بمنع <<فيس بوك>> حفاظا على الأمن القومي. وعليه لابد أن تكون الضغوطات التي مورست على الشركة والإغراءات التي قدمت لها كبيرة لدرجة أن تقنعها بإلغاء صفحة رجل حائز على جائزة نوبل للسلام من أجل استرضاء نظام ديكتاتوري شديد العفونة، وغلق صفحات يتجاوز عدد مشتركيها ثلاثة أرباع مليون مشترك على أقل تقدير (وهو ما يعني إغضاب ثلاثة أرباع مليون زبون وفضح الشركة في كل مكان في العالم). وكان لتلك المخاطر في أغلب الظن دورا أساسيا في إقناع الشركة في العدول عن قرار حجب هذه الصفحات في النهاية، على الأقل فيما يخص الصفحات الكبرى.
ووصلت هيستيريا النظام إلى أقصى حد عندما أقدم على إنتاج مسلسل تلفيزيوني يشهر بجماعة الإخوان المسلمين كلفه عشرات الملايين وساق للتمثيل فيه باقة كبيرة من الفنانين المعروفين. ثم أتبع ذلك بنشر مقالات لكتبة النظام تمس بشخص الشيخ <<حسن البنا>> مؤسس الجماعة يحاولون فيها تصوير الإخوان على أنهم انتهازيين وإرهابيين على مدار تاريخهم. وفي النهاية يلاحظ أن حجم هذه الحملة تساوى مع حجم الحملة التي خاضتها الدولة ضد إنفلونزا الخنازير والطيور من حيث عدد المقالات، وعدد الفنانين الذين وظفوا لهذه الحملة، وعدد وساعات البث التليفزيوني، ومستوى الحضور في الندوات الدينية (لأنهم بثوا المسلسل في رمضان)، والتمويل المباشر، وربما أيضا حجم التناول الإخباري. فهي بكل المقاييس حملة كبرى تتنافس من حيث الحجم والموارد مع حملات الكوليرا والمجاعات، وإن لم تبد كذلك بسبب شدة عبطها فمرت علينا مرور الكرام على كبرها، دون أن يتوقف أحد عند ما كشفته من ذعر النظام من المشاركة في الانتخابات (ملحوظة: استخدم الكثير من كتبة النظام هذا المسلسل في تبرير سقوط الإخوان مقدما على أساس أنه فضح الجماعة ولذلك لن ينتخبها أحد، ولمح أحمد عز لنفس الشيء عندما قال أن النظام نجح في حصر شعبية الجماعة داخل أعضائها فقط).
المهم في كل ذلك هو أن النظام ما كان ليعمد لأي مما سبق حال قاطعت المعارضة المستقلة الانتخابات. ولنا في ذلك أسوة بحالة <<فيس بوك>>، فكما تعلمون جميعا ظلت صفحة البرادعي ترفرف بحرية على مدار عام كامل على الرغم من أنها كانت رمز قوته الوحيد، ولم تحجب إلا عندما برز احتمال استخدامها في خدمة من شاركوا في الانتخابات (لأنها حجبت قبل الانتخابات بيومين، وهو ما يعني أنها لم تغلق بسب دعوة المقاطعة، كما حجبت معها كل صفحة يمكن استخدامها في نقل أخبار الانتخابات). وهنا يبرز سؤال مهم: ألا يفهم أصحاب الشماتة من معسكر المقاطعة أن صفحة بطل المقاطعة الأول لم تقلق النظام إلى أن برز احتمال استخدامها في خدمة من شاركوا في الانتخابات لفضح تزويرها؟ وهل يظن مزايدو المقاطعة هؤلاء أن النظام كان سيرسل وفدا رسميا مدججا بما يكفي من الحجج والإغراءات لإقناع شركة <<فيس بوك>> بحجب صفحات قد تسبب لها حرج شديد في حالة ما إذا قاطعت المعارضة الانتخابات؟
وما حدث في يوم الانتخابات نفسه كان الأكثر تأثيرا بكل تأكيد، فكما تعرفون دفعت مشاركة المعارضة النظام إلى الاعتماد على عنف واسع ومنهجي اعتمد بالأساس على إنزال آلاف البلطجية المسلحين في كل الشوارع ليمنعوا ناخبي المعارضة من الوصول للصناديق، ولم تسلم دائرة واحدة من هذا العنف الذي رصده الجميع وشاهده الناس في الشوارع. وأدى ذلك إلى استشهاد ما يقرب من ١٦ مواطنا وإصابة العشرات واعتقال المئات (بخلاف الآلاف الذين اعتقلوا في الشهر السابق للانتخابات)، وأجبرت المشاركة النظام على فعل كل ذلك في الشارع أمام كل الناس، وفي كافة أنحاء مصر. وللأسف الشديد كان رد فعل بعض شباب معسكر المقاطعة على ذلك هو العويل على الشباب الذي <<مات على الفاضي علشان يدي للإخوان كرسي في انتخابات مزورة سلفا>>. وفاتهم أن من استشهد في هذا اليوم لم يقتل على غرة، بل استشهد لأنه حارب من أجل الوصول للصناديق، لا لأن يكسب مقعدا، ولا ظنا منه بأن الانتخابات لن تزور، ولكن لأنه رفض أن <<يطأطئ>> أو أن يكتفي بالجلوس في بيته ليتابع الأحداث من على <<الفيس بوك>> و<<التويتر>>. ولو كان الهدف من ذهابهم ونضالهم هو فقط إعطاء كرسي للإخوان لرحلوا عندما هددهم البلطجية بالسنج وآثروا السلامة. لا يعاند أحد لحد الشهادة إلا لو كان يحارب من أجل كرامته هو شخصيا. هم استشهدوا لأنهم فاعلون، لأنهم أشجع من أي منا، لا لأنهم ضحايا مغلوبون على أمرهم ومضحوك عليهم من تنظيم ديني يستغلهم بالخزعبلات من أجل مقعد برلماني، والتقليل من ذلك من أجل تصفية حسابات مع الإخوان هو قمة الجبن والتدليس.
كذلك دفعت مشاركة فصائل المعارضة المستقلة النظام لنزول الانتخابات بأكثر من مرشح للدائرة الواحدة، وهو ما دفع على الساحة فضائح وخلافات من نوع جديد عندما رفع التنافس الشديد بين مرشحيه من وتيرة التزوير العلني والمفضوح. ونتج عن ذلك صدور شهادات عديدة بتزوير الانتخابات من قبل أعضاء الحزب الحاكم نفسه، منها شهادات عن تزويره مقاعد للحزب الحاكم وأخرى عن تزويرها لأحزاب المعارضة، خاصة التجمع والمنشقين من الوفد في جولة الإعادة. ولم يكتف النظام بذلك بل قام بحجب العشرات من المواقع الإلكترونية التي تنقل أخبار الانتخابات، واعتقل عددا من موظفي الانتخابات من بينهم رؤس لجان وضرب وسب بعضهم لرفضهم التزوير، وهذا تم توثيقه ونشره أيضا.
وأعود فأكرر أن السبب في ركون النظام إلى كل هذه الأفعال المفضوحة هو احتياجه لطرد معارضة شعبية من البرلمان، وهو ما لم يكن ليحدث دون مشاركة من احتاج لطردهم في المقام الأول. وكان الأفضل للنظام بمراحل أن تقاطع المعارضة الانتخابات فيقسم الكعكة على أحزاب مثل الجيل والجمهوري والسلام في سلام، دون الحاجة لتكبد أيا من هذه الخسائر والفضائح--إذا ما افترضنا أنه فاقد الشرعية في الحالتين. ويكفي ما خسره من مشاركة ١٠ مليون مواطن في هذه الانتخابات عادوا إلى بيوتهم وهم يلعنونه وينشرون الأخبار عن حقيقة شرعية انتخاباته في أوساطهم. ولنا أسوة في ذلك بما حدث في حزب التجمع الذي فاز في هذه الانتخابات، فلو كانت المشاركة تطبع الانتخابات لما ضرب الحزب بالجزمة كما رأينا ولما احتاج رئيسه لاستدعاء قوات الشرطة لحمايته من أعضاء الحزب الذين تجمهروا ضده في المقر الرئيسي للحزب، هذا بخلاف عشرات الاستقالات الجماعية.
ومن التطورات المهمة أيضا أن النظام فشل تماما في حجب أخبار التزوير على الرغم من كل الاحتياطات الإعلامية التي قام بها، فقد نجحت المعارضة بالفعل في ضبط وتوثيق الآلاف من حالات التزوير في حالة تلبس واضح، وهذا ساعدها في الحصول على المئات من الأحكام القضائية ببطلان الانتخابات في ما يقرب من نصف دوائر البرلمان، وهو ما ساعد بدوره في استصدار حكم قضائي تاريخي ببطلان الانتخابات بصفة عامة. وهذا يرفع بدوره الشرعية عن كل قانون يخرج من هذا البرلمان، حتى لو كان قانون تنظيم مرور. وهنا يبرز السؤال: هل كنا لنحصل على مثل هذه الأحكام دون أن نشارك ونورطه في فعل ما يستوجب هذه الأحكام؟ أم هل تعتبرون صدور كل هذه الأحكام أمرا غير مهم؟ من الواضح أن احتياج النظام لطرد قوى شعبية من البرلمان هو ما أجبره على التعامل مع الانتخابات بمثل هذه الطريقة المهترئة بشكل غير مسبوق، فخرجت اللعبة عن سيطرته تماما على كافة المستويات؛ الإعلامي، والجماهيري، والقانوني. ولو لم يكن هناك من يطردهم من الانتخابات لما كنا لنصل لأي من هذه المكاسب. ولذلك يصبح الدفع بأن المقاطعة كانت ستدر أيا من هذه المكاسب مجرد تسويق لوهم كبير.
بعد كل ذلك يصبح الدفع باعتبار المشاركة تطبيعا لانتخابات فاسدة من اللغو الساذج على أفضل تقدير. لقد نجحت المعارضة في فضح هذه الانتخابات بشكل غير مسبوق، ووثقت كل الصحف المحلية المستقلة والعالمية ووكلات الأنباء عملية التزوير بشكل دقيق وواسع جدا. كما تابع الملايين هذه الفعاليات على منابر الإعلام البديل، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدد الزيارات لموقع المرصد وحده فاق ٣.٥ مليون زيارة في يوم الانتخابات، شاهدوا كلهم التزوير بأنفسهم. وهذا يعني أن الهدف المرجو مسبقا من المقاطعة أو المشاركة على حد سواء، وهو فضح الانتخابات ورفع الشرعية عن البرلمان المقبل، قد تحقق بامتياز.
يفرض هذا سؤالا مهما على أصحاب الشماتة: كم مليون كانوا سيشاركون معكم؟ وكم مليون آخرون كانوا سيتابعون فعلكم السياسي؟ هل تستطيع المقاطعة تعبئة واحدا على ألف من هذه الأعداد (مشاركة مباشرة ومجاهدة ومتابعة لصيقة)؟ على أي أسس بالضبط تتصورون أن مقاطعتكم كانت ستدر مثل هذه المكاسب التجريسية (التجريس هو الهدف في الحالتين)؟ المشاركة في الانتخابات هي فعل سياسي تماما كما هي مقاطعتها، وتصبح المشاركة آثمة في حالات محددة لا يجوز تعميمها على ما يختلف عنها. أولها: أن تشارك المعارضة فيها ظنا منها أنها توفر أداة من أدوات التغيير الرئيسية. وهذه سذاجة واضحة لا داعي للخوض فيها. وثانيها: أن تخوض هذه المعارضة الانتخابات كما لو كانت أداة تغيير ليس من سذاجتهم ولكن مشاركة منهم في التدليس الجماعي الذي يريده النظام، وهذا يؤدي إلى تطبيعها على فسادها. وثالثها: أن تشارك المعارضة فيها دون أن تقاوم التزوير وتكشفه. هذه هي مشكلات <<المشاركة>> الرئيسية. لكن في الوقت ذاته توفر <<المشاركة>> فرصة جيدة لفضح النظام إذا ما أحسنت المعارضة استخدامها. فهي توفر أداة تجريس جيدة جدا كما رأينا، وكذلك فرصة لتجذير التحريض ضد هذا النظام المستبد. وهذا بالضبط ما فعله المشاركون المستقلون، فحملة الإخوان بنيت بالأساس على على فضح التزوير، لا التغيير، فهذا ما كانوا يقولونه لناخبيهم، وهذا ما فعله حمدين صباحي ومن ورائه حزب الكرامة أيضا، حيث كان يبدأ كل خطاباته بالتأكيد على تزوير الانتخابات. أين إذن شبهة تطبيع انتخابات فاسدة؟
وكما قلت، المقاطعة أيضا فعل سياسي كما المشاركة. ويمكن للمقاطعة أن تكون سلاحا قويا بالفعل إذا ما بنيت على استراتيجية إيجابية على الأرض. على سبيل المثال، تصبح المقاطعة فعالة إذا ما أخرجت في شكل أسبوع متواصل من المظاهرات والمؤتمرات السياسية الحاشدة في الشارع تتوج بفعاليات جماهيرية كبرى في يوم الانتخابات، وهذا كفيل بقتل شرعية البرلمان المزور أيضا. وهنا يبرز سؤال هام: هل يمكن للمعارضة القيام بملحمة مقاطعة كهذه الآن في مصر؟ هل تستطيع القوى السياسية تعبئة ١٠٠ ألف متظاهر، ولن أقول الملايين كما حدث في المشاركة، للتظاهر من أجل عدم الذهاب للانتخابات؟ هل يستطيع حمدين صباحي، على سبيل المثال، تعبئة الجماهير التي احتشدت أمام منزله بعد تزوير الانتخابات على أرضية <<والنبي احتشدوا علشان نناضل من أجل عدم الذهاب للصناديق>>؟ هذا الطرح غير جدي ولا يصدر إلا ممن ينظرون للسياسة من منظور <<فيس بوك>>. ويا ليتهم حتى طالبوا بذلك، بل طالبوا الجماهير بالعكس تماما. فالبرادعي، بطل المقاطعة الأول، ترك البلد وذهب للبرازيل، في حين أن حركة كفاية، بطلة المقاطعة الثانية، لم تقم بمظاهرة واحدة من أجل المقاطعة والتشهير بالانتخابات. بل أوصلها ارتباكها لأن طالبت الناس بعدم ترك بيوتهم في يوم الانتخابات حتى لا يطالهم بطش الأمن، وانتهاز فرصة وجودهم في البيت في هذا اليوم لقضاء وقت سعيد مع الأسرة، والسبب في ذلك هو علمهم بأن الناس غير مستعدة إطلاقا للسير خلف المقاطعة الإيجابية. المهم أن رسالة المقاطعة الرئيسية التي خرجت للناس هي <<اوعى تنزل ليضربوك وخليك في البيت أهو بالمرة تدلع مراتك>>. هل هذه هي السياسة البديلة التي كانت سترفع الشرعية عن البرلمان المزور وتجرس النظام؟ أحقا أنتم جادون؟
والآن يتابع معسكر المقاطعة في مجمله ما فعله بالإدلاء بأحاديث حنجورية كبيرة عن العصيان المدني في وقت لا يمتلكون فيه أبسط الأدوات الضرورية لإنجاح مثل هذا الفعل، فأضحت مطالبتهم به مجرد تسجيل موقف للتاريخ، لا أكثر. ولم يقل لنا أي منهم كيف يتصورون الوصول لهذه المرحلة وكيف سيعبئون لها في ظل المعطيات السياسية والتنظيمية الحالية. هل المشكلة مشكلة كلام كبير ودمتم؟
نعم، أحسنت المعارضة المستقلة عندما قررت المشاركة وعندما تجاهلت نداءات المقاطعة، ويكفي حجم الفعل السياسي الذي نتج عن المشاركة ونتائجه، ومقارنته بما كان يحدث في الماضي للدلالة على أن المشاركة كانت القرار الصواب، وأنها محطة هامة على طريق تراكمي طويل في مسار النضال ضد النظام. فلم يكن النظام بحاجة أبدا في الماضي للقيام بعشر ما قام به في الأسبوع الماضي، وهذا يدل على نجاعة هذه المعارك وقدرتها التراكمية على المدى البعيد، حتى وإن كنا لا نزال بعيدين عن المحطات الأكثر نجاعة في هذا المسار الطويل.
وأعلم تماما أن للمنظمات التي شاركت أهدافها الخاصة، وعلى الرغم من ذلك أقول أن أهدافها لا تهم. فحتى لو كان النظام ترك الانتخابات على عهدها القديم لخسر كثيرا. فترك الانتخابات على عهدها القديم يعني خروج الإخوان بمقاعد أكثر مما سبق، وهو ما يطبع وجودهم في الساحة السياسية، ويدفع الناس للرهان عليهم أكثر وأكثر. ويكفيني هنا الإشارة إلى أن عدد الأصوات التي ذهبت للإخوان في هذه الانتخابات زادت بنسبة ٣٥٪ عن الأصوات التي حصلوا عليها في الانتخابات الماضية، وهو ما يعني أنهم كانوا سيحصدون ١٠٠ مقعد على الأقل. أما تزوير الانتخابات للوفد (كما توقع الجميع) فلا يعني إلا إرسال رسالة قوية للولايات المتحدة والرأسمالية العالمية بوجود بديل للنظام يمكن الرهان عليه، وهو ما لا يقبله نظام العسكر حتى الآن على الأقل. وهذا يعني أن أيا من النتيجتين كانت ستضعف النظام، ولا سبيل لنا لتجاهل هذه الحقيقة إلا الدفع بأن زيادة قوة الإخوان في البرلمان الشرعي (أو حتى إبقاءها على ما هي عليه) تفيد النظام، وهذا الدفع هو من السخف بحيث لا أستطيع حتى التعاطي معه بجدية هنا. فلا يوجد أي شك لدي في أن وجود الإخوان بقوة في المؤسسات الشعبية الشرعية يفيدهم على المدى البعيد (كما تثبت حتى النتائج المزورة ضدهم)، وهو ما لن يسمح به النظام بالضبط كما يبدو أنه لن يسمح بخروج نظام ليبرالي مهادن للغرب بديلا عنه. المهم في ذلك هو أن الدوافع الانتهازية للفصائل المشاركة، أيا ما كانت، لا تهم إطلاقا في ظل الصورة السياسية الأكبر، لأن المشاركة كانت حتما ستضر النظام أيا كانت النتيجة.
ومن الخطأ أيضا عدم التعاطي مع وضع الإخوان والكرامة وما شابههم من تنظيمات مجذرة بشكل جدي. فكما ظهر من تحركاتهم الجماهيرية في فترة الانتخابات، هذه التنظيمات مجذرة بالفعل في مناطقها بشكل قوي. وعليه فهم أكثر العارفين بعدم قدرتهم على تعبئة جماهيرهم على أرضية <<اقعد في البيت ودلع مراتك>>. ولو كانوا فعلوا ذلك لخسروا خسارة فادحة، فلا يمكن لتنظيمات مجذرة أن تمكث لمدة ١٠ سنوات كاملة دون أن تشارك في معركة جماهيرية حقيقية (معنى تفويت هذه الانتخابات بدون معركة هو انتظار انتخابات ٢٠١٥ من بعد إنتخابات ٢٠٠٥، أو انتظار العصيان المدني، أو الثورة، أيهم أقرب). ولو فعلوا ذلك لتدهور حالهم بالفعل ليصبحوا ظاهرة <<فيس بوك>> كما هو حال من طالبهم بالمقاطعة. وهذا يعني أيضا أن الإخوان لم يكونوا ليتحملوا خطأ عدم الانسحاب من الجولة الثانية، ولهذا ضغط كوادرهم في المحافظات على مكتب الإرشاد لكي ينسحب، لأن لهم جماهير ستحاسبهم.
في النهاية أظن أن في الدفع بخطأ المشاركة الكثير من الجحود والإغراض. لقد نجحت هذه المشاركة بامتياز في رفع الشرعية عن البرلمان القادم على كافة المستويات وأربكت النظام تماما، وهو أفضل ما كان يمكن إنجازه في ظل المعطيات الحالية، كما أنه كان نفس الغرض من المقاطعة. وما كنا لننجز ما هو أكثر من ذلك بالمقاطعة بكل تأكيد، فالدفع بغير ذلك ناتج عن التهييس والتمني، لا التحليل. ووصل نجاح المشاركة في استنزاف شرعية النظام إلى حد شيوع الشعور <<بالصدمة من شيء لا نستغربه>> الذي بدأت حديثي به. ففي رد الفعل هذا صرخة قوية برفض الوضع الحالي، لا تأوهات من قبل بلهاء صدقوا الانتخابات كما يحلو للمزايدين أن يتخيلوا. وعليه فعلينا أن نكون أكثر حرصا في التعامل مع أقوال من نوعية <<ما قلنا لكم من الأول>>.
فإذا نظرنا إلي ما يحدث ويقال بعيون نقدية، سنرى حتما أن هناك مجموعة محددة من معسكر المقاطعة تروج لهذه الأقوال لكي تخطف إنجازات المشاركة. وفي هذا السياق أذكركم بأن بطل المقاطعة الأول عاد الآن من البرازيل بعد حدوث ما حدث لكي يقول لنا <<قلت لكم من الأول>>، وليس من الصدفة أبدا أن تعلن هذه المجموعة عن صدور لائحة برلمان مواز كتبها جورج إسحاق ورشح لرئاستها البرادعي. هؤلاء لم يفعلوا أي شيء لمقاطعة الانتخابات أكثر من السفر للخارج والجلوس في المنازل بالداخل، والآن يظنون أن إنجازات المشاركة في نسف شرعية البرلمان تفتح لهم الباب لخطف الجميع. كما أنه ليس من الصدفة إطلاقا أن يعلن البرادعي الآن أنه ينوي العمل مع الإخوان، ففي هذا أيضا توظيف مغرض من بطل المقاطعة المزيف لإنجازات بطل المشاركة الحقيقي. لاحظوا مثلا كيف عادت بياناته المصورة والمرسلة عبر <<التويتر>> للرواج، فنجح أول بيان مصور له بعد عودته في جذب عشرات الآلاف من المشاهدين بعد أن توقف الناس عن متابعة بياناته. وأحد أهم أسباب ذلك هو ترويج البيان عبر نفس القنوات التي نشرت أخبار تزوير الانتخابات، والمؤثر منها مقرب من الإخوان. وعليه <<عاد الإبن الضال>> من البرازيل ليتبوأ صفحات الجرائد الأولى من جديد. هذا في رأيي هو السبب الرئيسي لعودة الروح لحديث المقاطعة، فأنا لا أظن أنهم يقولون ذلك فقط من أجل الله والوطن. إن الغرض من عودة حديث المقاطعة بهذا الشكل هو إلقاء طوق النجاة لبطل المقاطعة الذي ترك كل شيء وذهب للبرازيل ثم عاد ليقولوا لنا <<قلنا لكم>> وإنقاذ من يقفون ورائه من ورطتهم.